جعفر الديري - كتاب: الحالة العربية والإسلامية دون كيشوتية بامتياز

كتب ميجيل سرفانتس روايته الخالدة "دون كيشوت" منذ أكثر من أربعمئة عام، فلم تقبع يوما على أرفف الجدران. فهي إما على الأيدي تتناولها بالقراءة والدراسة وإما تتلقفها المسارح ودور العرض السينمائي ويجد فيها الفنانون التشكيليون معينا لا ينضب من الابداع والتفرد. فلماذا حظيت هذه الرواية بكل هذا الحضور ولماذا تحولت طوال هذه الأعوام الى بوتقة تنتج الجميل والرائع؟ ما الذي تلامسه من مشاعر وأحاسيس الناس؟ وما الذي - وهو الأهم - يمكن أن نسقطه من أحداثها وشخصياتها على واقعنا العربي ونتاجنا الفكري؟ ألا يشبه سرفانتس وهو يحارب طواحين الهواء مثقفينا؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها من خلال هذه الرواية، ويمكن أن تضيء لنا جوانب شتى تهم ساحتنا الثقافية والانسانية.
يقول الفنان والكاتب المسرحي عبدالله يوسف: "أعتقد أن دون كيشوت في رواية سرفانتس هو شخصية متفق عليها عالميا بعيدا عن الصياغة الأدبية ومستوى العمل فهي شخصية قائمة مستمرة بيننا سواء في مصارعتها لطواحين هواء حقيقية أم غير حقيقية فهناك عناصر في عالمنا تبحث عن المرفأ المستقر والآمن الأفضل والأمثل، والرواية تجسيد لهذا البحث. فهي شخصية متوافرة في كل فترة من الزمن ولكن الهدف واحد وهو البحث عن تحقيق شكل أفضل للانسان. ولأن إسبانيا كانت دولة عربية كانت هذه الرواية متشابهة ومقاربة ومهمة بالنسبة إلى وضعنا العربي ويكفي هنا أن نتذكر لوحة بيكاسو "جارنيكا" لنتعرف على المعنى العام لهذه الرواية، فنحن قد ورثنا عن اسبانيا قضاياها ومشكلاتها مثل الحرية وحقوق الانسان بعد أن ضاعت من أيدينا".
ويقول الكاتب والمترجم أمين صالح: "ان الرواية تعتبر لا شك من أهم الروايات العالمية وتأثيرها كان ولا يزال كبيرا ليس على الأدب وحده بل حتى على الفنون الأخرى كالمسرح والفن التشكيلي. وأتذكر بهذه المناسبة أني شاهدت على احدى القنوات التلفزيونية الغربية برنامجا يتناول كتاب دون كيشوت وأثار اندهاشي تأثير هذه الرواية على الفنون التشكيلية فكان هناك فنان تشكيلي قد تخصص في رسم هذه الرواية ورسم شخوصها وأحداثها. فهناك شيء خاص في الرواية يصنع لها جمالها الخاص وهو مسألة الحروب الوهمية التي يمر بها الانسان والتي أصبحت رمزا للحياة نفسها فالرواية تمجيد للمخيلة حين يتصور دون كيشوت كل هذه التصورات إذ إن المخيلة صنعت علاقات غنية جدا. وهناك معلومة بهذا الخصوص ذكرها المخرج الروسي دايكوفسكي حين تحدث عن هذه الرواية فذكر أن سرفانتس عندما كان في السجن وبعدما انتشرت روايته وخوفا من أن تمتد لها أيدي الزيادات والتزوير قام بكتابة رواية ثانية جعل دون كيشوت يموت فيها، ولكن يبدو أن هذه الرواية أو الجزء الثاني منها لم يصل الينا. ولقد كان مؤلف الرواية سيرفانتس رجلا مختلفا فهناك من الروائيين من يكتبون القليل ولكن كتاباتهم القليلة تخلدهم وهناك من الكتاب من تكون حياته كتابة فقط، فتولتسوي مثلا لم تكن حياته سوى الكتابة، بينما سرفانتس كان في مغامرة ومع ذلك لا يوجد انسجام بين شخصية الكاتب وبين ما يكتبه فهو بطل فيما يكتب ولكنه في حياته العامة انسان كالآخرين".
وتؤكد المسرحية كلثوم أمين الكلام السابق بقولها: "أتصور أن شخصية دون كيشوت يمكن اسقاطها في أي وقت وفي أي زمان فموضوعاتها ومشاعرها موجودة وانما الاختلاف يكون في تكوين المجتمع الذي تنشأ فيه. وكل ذلك ساعد في بروز هذه الرواية ليس في اسبانيا فقط وانما في كل انحاء العالم، فكانت في فرنسا، ألمانيا، البرازيل والوطن العربي ولكن بمعالجات مختلفة، فكانت في شكلها الكلاسيكي، التجريبي وفي الرقصات والأوبريتات والسبب في ذلك راجع الى غنى الرواية، فغنى نصها قاد الى قوة أدائها على خشبة المسرح".
فيما يعلق الناقد محمد البنكي على وضع المثقف اليوم وكيف أنه يمكن ان يكون نسخة من دون كيشوت بقوله: "ان أول ما يعلق بذهني هنا التساؤل عن سر أدب خالد وآخر متلاش، وأتصور أن الاجابة هنا تكمن في قدرة الكاتب على طرح نموذج انساني يمثل خميرة انسانية متوافرة في كل وقت وسرفانتس نجح في اظهار هذا النموذج. فالمثقف - أل التعريف- تفتت اليوم، ذلك أن المثقف اليوم ليس موقفا واحدا كأن ينحصر في مثقف سلطة أو يبتعد بمسافات عن السلطة فهناك تنظيرات لهذا المثقف كأن تكون هناك جسور بين المثقف والسلطة جسور ذهبية وخشبية وقد نظر لذلك سعد الدين ابراهيم. وأنا أعتقد أن المسألة ليست رهنا بدور وحيد للمثقف، فمن الممكن للمثقف أن يتخلى عن أشياء كثيرة ولكن ليس عن رؤيته النقدية، فنحن الآن في مرحلة عولمة والطبقة الوسطى التي كان يخرج منها المثقف ما عادت اليوم تمتلك الأرضية فهي متضعضعة فقد كانت فكرة الالتزام فكرة ماركسية ولكنها اليوم لم تعد تمتلك ذلك الوهج. فهناك من المثقفين اليوم من يتلاعب مع طواحين الهواء ويمر بمرحلة انزلاقات تفرز هذه النوعية من المثقفين ولكن ليس كل المثقفين كذلك إذ إن تعميم ذلك فيه ظلم كبير على المثقفين العرب. اذ توجد على الطرف الآخر اضافات فكرية كبيرة قامت بعمل مراجعات في الموروث الحضاري وهي اضافات يمكن أن يبنى عليها، كإسهامات نصر حامد أبو زيد، محمد أركون وآخرون".
الناقد ومدير تحرير مجلة "أوان" نادر كاظم يقول مؤكدا على أن المشهد دون كيشوتي بامتياز: "ان الحالة العربية/الإسلامية حالة دون كيشوتية بامتياز، فإذا كان دون كيشوت يمثل علامة على انتفاء الإحساس بمرور الزمن وتقلب الأحوال وتبدل موازين القوى وتغير العادات والتقاليد وتحول مراكز العالم وهوامشه، فإن العربي المسلم الذي يعيش في زمن فارغ "ليس ممتلئا بالأحداث والتحولات" كما لو أن العالم لا يزال كما كان في القرون الوسطى، اذ الخليفة متربعا على عرش خلافة مترامية الأطراف، ويمتلك جيشا جرارا قادرا على مراكمة الانتصارات، وأمة مشحونة بمعاني التفوق الحضاري على الآخرين، هذا الإنسان دون كيشوتي بامتياز حقا، والمؤسف في دون كيشوتيتنا أنها ذات طابع مأسوي مدمر على المستوى الجمعي على خلاف مغامرات "دون كيشوت" سرفانتس الساخرة، فالذي يتوهم أن الزمن اليوم زمنه يعيش حالة دون كيشوتية، والذي يتوهم أن العالم مازال محافظا على قسمته الأولى بين "دار الحرب" و"دار السلم" يعيش كذلك حالة دون كيشوتية، بيد أن الجانب الساخر في ذلك الفارس المغامر الذي يخرج من قريته بحثا عن مغامرات على غرار ما أدمن على قراءته في "الروايات الفروسية"، هذا الجانب يختفي لدينا ليحل محله الجانب المأسوي والمدمر لذلك المجاهد الغازي الذي يخرج من قرية نائية في "افغانستان" المعزولة عن كل متغيرات العالم الجديد بحثا عن غزوة ينضم إلى ركابها في "مانهاتن" أو "مدريد". ولا يتصور أحد أن حالنا الدون كيشوتية مقتصرة على هذا النموذج "أقصد الإسلاموي المتطرف"، فلدينا قوميون دون كيشوتيون، وماركسيون دون كيشوتيون، وكذلك حكوميون دون كيشوتيون، ومعارضون دون كيشوتيون، وتجار دون كيشوتيون، وعمال دون كيشوتيون، ومعلمون دون كيشوتيون...إلخ، إلا أن هؤلاء جميعا هم أقرب إلى "دون كيشوت" سرفانتس الذي يثير السخرية التي تستدر - أحيانا - شيئا من الشفقة"
دون كيشوت... قوة مخيلة وبحث عن شكل أفضل للإنسان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى