لم تمطر أمس
ولا أول أمس ..
بل لم تمطر منذ أسابيع وشهور !
جف الزرع والضرع، واكتست الأرض لونا داكنا بعد أن جفاها الاخضرار، ولعلعت الشمس مهيمنة بحرارتها اللافحة بعد أن طردت كل غيمة حاجبة.
تهامس الناس في البداية في رعب مرددين لفظة الجفاف غير مصدقين، ثم ارتفع الهمس ليصبح جهرا يطرق كل الآذان كأنه احتجاج صارخ ضد المجهول.
…
اجتمع الفلاحون بمسجد القرية، وتحلقوا بعد انتهاء الصلاة حول الإمام يستفتون ويتداولون.
بادر الحاج ” صالح ” بصوت يغمره الشجن:
- جف ماء البئر يا سيدنا،… وانعدم الكلأ والعشب … وكادت بهائمنا تموت عطشا وجوعا !
وحك ” السي سليمان ” لحيته وتابع مستطردا:
- عز الماء .. ولم يعد كافيا لنا ولبهائمنا ولحقولنا
وأضاف ” الحاج العربي ” بلهجة الواثق العارف:
- وحتى الفرشة المائية المتبقية، جرفتها محركات صاحب الضيعة ..
وسرت غمغمة بين الحاضرين اختلطت فيها مشاعر اليأس والرجاء، والتحمت فيها عبارات التمرد والاستسلام، وارتفع صوت يخترق الهمس صائحا:
- هو عقاب من السماء !
ترددت العبارة بين أرجاء المسجد كالإنذار الحاد .. فعقب صوت آخر مدعما:
- عم الفحش وانتشر المسخ فكانت البلوى !
وسرى التذمر بين الصفوف يلقي بسواده على الوجوه الكالحة. ثم أعقبه صمت ثقيل ضاعف الهم والغم، فاتجهت العيون الزائغة يائسة نحو الإمام تستجديه خلاصا. وقطع الصمت صوت في آخر الصفوف ينذر بالويل والثبور إن لم يعجل القوم بما يرضي السماء،
وكأن الأصوات الأخرى قد ارتاحت للاقتراح، فأجمعت مرددة وكأنها بدأت تتلمس خيط النجاة:
- فلنرض السماء ! .. فلنرض السماء !
لم ينبس الإمام ببنت شفة .. وأدرك بخبرته أن أصحاب الأصوات يرومون القيام بصلاة تستسقي السماء وتستجدي المطر .. خصوصا وقد تعودوها وألفوها طمأنينة وخلاصا بعد توالي سنوات الجفاف. وعليه أن يعطي الانطلاقة.
وصدح صوت الحاج العربي مؤكدا خواطره:
- عجل سيدنا الإمام بتحديد موعد للاستسقاء.
وصاحت أصوات مساندة:
- لنعجل بالأمر .. بركتك يا سيدنا الإمام .. عجل سيدنا الإمام !
رفع يده بوقار، فعم السكون وجحظت العيون دون أن تغادرها سمة الإلحاح .. ونبس بصوت هامس لايخلو من خشوع واثق:
- كل شيء في ميعاده .. كل شيء في حينه.
جالت في الخواطر تساؤلات مبهمة عن الميعاد والحين .. لكنها ظلت حبيسة النفوس المترددة في الكشف والبوح عن دواخلها للإمام .. واكتفى هذا الأخير بنظرة واعدة لا تخلو من مهابة.
انفض الجمع وتفرق الناس يخالطهم هاجس ترقب لحظة صدوع الأمر.
ولم يصدع الإمام بالأمر .. وغاب مدة حسبها الناس أعواما .. وطال الانتظار بعد أن اختفى عن الأنظار.. وتهامس الناس واختلفوا حول أسباب غيابه واختفائه .. وتضاربت الأقوال والتفسيرات..
ذكر البعض أنه لم يغادر بيته البتة .. وأوضح آخرون أنه يتخشع استعدادا للموعد الحاسم .. وأكد أحدهم أنه رآه خلسة يحدق في السماء ثم ينزوي بالداخل .. واتفق الجميع مطمئنين إلى أن الإمام يعد العدة .. لمواجهة هذه الشدة.
…
ولم تكد تنتهي بضعة أيام حتى ظهر الإمام معلنا الإشارة .. منهيا ما خالط النفوس من مرارة .. وأذن بانطلاق السير من ساحة السوق إلى ساحة المسجد.
هلل القوم وكبروا .. وساروا في اليوم الموعود يثيرون الرمل وقد حسروا عن رؤوسهم وتدثروا بجلابيبهم مقلوبة يتقدمهم الإمام منظما للصفوف محافظا على الإيقاع الرتيب للسير والأصوات..
تمت الصلاة في المكان المحدد .. وختمت بالأدعية الطويلة..ولم ينس الإمام أن يبارك الجمع بكلمة طيبة تؤكد سداد رأيه وفيض بركته.
وفي المساء، لاحت في الأفق غيوم خجولة، فاستبشر الناس خيرا، واطمأنوا لقدسية الإمام .. ثم استسلموا لسبات عميق يحلمون بالغد اليسير والرزق الوفير..
وعند الفجر جادت السماء برذاذ رطب خفيف انقلب إلى وابل من المطر الغزير يبشر بملء الآبار وجريان السيول والأنهار..
أنهى القوم الصلاة بالمسجد المعتاد، ولم ينسوا أن يحمدوا الله على وافر الزاد ..ويرفعوا الأكف داعين للإمام بدوام التوفيق والسداد، وبأن تعم بركته القوم والعباد..
وكالمعتاد، تفرق الناس راضين مرضيين، وتوجهوا إلى حال سبلهم حامدين شاكرين..
وانزوى الإمام ببيته مزهوا .. واتكأ قرب المذياع .. يلامس الأزرار .. ويتسقط
الأحوال والأخبار !!
ولا أول أمس ..
بل لم تمطر منذ أسابيع وشهور !
جف الزرع والضرع، واكتست الأرض لونا داكنا بعد أن جفاها الاخضرار، ولعلعت الشمس مهيمنة بحرارتها اللافحة بعد أن طردت كل غيمة حاجبة.
تهامس الناس في البداية في رعب مرددين لفظة الجفاف غير مصدقين، ثم ارتفع الهمس ليصبح جهرا يطرق كل الآذان كأنه احتجاج صارخ ضد المجهول.
…
اجتمع الفلاحون بمسجد القرية، وتحلقوا بعد انتهاء الصلاة حول الإمام يستفتون ويتداولون.
بادر الحاج ” صالح ” بصوت يغمره الشجن:
- جف ماء البئر يا سيدنا،… وانعدم الكلأ والعشب … وكادت بهائمنا تموت عطشا وجوعا !
وحك ” السي سليمان ” لحيته وتابع مستطردا:
- عز الماء .. ولم يعد كافيا لنا ولبهائمنا ولحقولنا
وأضاف ” الحاج العربي ” بلهجة الواثق العارف:
- وحتى الفرشة المائية المتبقية، جرفتها محركات صاحب الضيعة ..
وسرت غمغمة بين الحاضرين اختلطت فيها مشاعر اليأس والرجاء، والتحمت فيها عبارات التمرد والاستسلام، وارتفع صوت يخترق الهمس صائحا:
- هو عقاب من السماء !
ترددت العبارة بين أرجاء المسجد كالإنذار الحاد .. فعقب صوت آخر مدعما:
- عم الفحش وانتشر المسخ فكانت البلوى !
وسرى التذمر بين الصفوف يلقي بسواده على الوجوه الكالحة. ثم أعقبه صمت ثقيل ضاعف الهم والغم، فاتجهت العيون الزائغة يائسة نحو الإمام تستجديه خلاصا. وقطع الصمت صوت في آخر الصفوف ينذر بالويل والثبور إن لم يعجل القوم بما يرضي السماء،
وكأن الأصوات الأخرى قد ارتاحت للاقتراح، فأجمعت مرددة وكأنها بدأت تتلمس خيط النجاة:
- فلنرض السماء ! .. فلنرض السماء !
لم ينبس الإمام ببنت شفة .. وأدرك بخبرته أن أصحاب الأصوات يرومون القيام بصلاة تستسقي السماء وتستجدي المطر .. خصوصا وقد تعودوها وألفوها طمأنينة وخلاصا بعد توالي سنوات الجفاف. وعليه أن يعطي الانطلاقة.
وصدح صوت الحاج العربي مؤكدا خواطره:
- عجل سيدنا الإمام بتحديد موعد للاستسقاء.
وصاحت أصوات مساندة:
- لنعجل بالأمر .. بركتك يا سيدنا الإمام .. عجل سيدنا الإمام !
رفع يده بوقار، فعم السكون وجحظت العيون دون أن تغادرها سمة الإلحاح .. ونبس بصوت هامس لايخلو من خشوع واثق:
- كل شيء في ميعاده .. كل شيء في حينه.
جالت في الخواطر تساؤلات مبهمة عن الميعاد والحين .. لكنها ظلت حبيسة النفوس المترددة في الكشف والبوح عن دواخلها للإمام .. واكتفى هذا الأخير بنظرة واعدة لا تخلو من مهابة.
انفض الجمع وتفرق الناس يخالطهم هاجس ترقب لحظة صدوع الأمر.
ولم يصدع الإمام بالأمر .. وغاب مدة حسبها الناس أعواما .. وطال الانتظار بعد أن اختفى عن الأنظار.. وتهامس الناس واختلفوا حول أسباب غيابه واختفائه .. وتضاربت الأقوال والتفسيرات..
ذكر البعض أنه لم يغادر بيته البتة .. وأوضح آخرون أنه يتخشع استعدادا للموعد الحاسم .. وأكد أحدهم أنه رآه خلسة يحدق في السماء ثم ينزوي بالداخل .. واتفق الجميع مطمئنين إلى أن الإمام يعد العدة .. لمواجهة هذه الشدة.
…
ولم تكد تنتهي بضعة أيام حتى ظهر الإمام معلنا الإشارة .. منهيا ما خالط النفوس من مرارة .. وأذن بانطلاق السير من ساحة السوق إلى ساحة المسجد.
هلل القوم وكبروا .. وساروا في اليوم الموعود يثيرون الرمل وقد حسروا عن رؤوسهم وتدثروا بجلابيبهم مقلوبة يتقدمهم الإمام منظما للصفوف محافظا على الإيقاع الرتيب للسير والأصوات..
تمت الصلاة في المكان المحدد .. وختمت بالأدعية الطويلة..ولم ينس الإمام أن يبارك الجمع بكلمة طيبة تؤكد سداد رأيه وفيض بركته.
وفي المساء، لاحت في الأفق غيوم خجولة، فاستبشر الناس خيرا، واطمأنوا لقدسية الإمام .. ثم استسلموا لسبات عميق يحلمون بالغد اليسير والرزق الوفير..
وعند الفجر جادت السماء برذاذ رطب خفيف انقلب إلى وابل من المطر الغزير يبشر بملء الآبار وجريان السيول والأنهار..
أنهى القوم الصلاة بالمسجد المعتاد، ولم ينسوا أن يحمدوا الله على وافر الزاد ..ويرفعوا الأكف داعين للإمام بدوام التوفيق والسداد، وبأن تعم بركته القوم والعباد..
وكالمعتاد، تفرق الناس راضين مرضيين، وتوجهوا إلى حال سبلهم حامدين شاكرين..
وانزوى الإمام ببيته مزهوا .. واتكأ قرب المذياع .. يلامس الأزرار .. ويتسقط
الأحوال والأخبار !!