ـ 1 ـ
في شأن تأصيل ثقافة أمة من الأمم ، عادة ما نبحث عن مستنبت خاص و خصب لتشكلات الظواهر الفكرية والأدبية القديمة منها و الحديثة و أحيانا المعاصرة ؛ وذلك عن طريق إعادة النظر في فكر الأصول و التطلع به نحو المستقبل . إن الهدف ، من وراء ذلك ، لا يذب عن إعطاء نفس جديد للهوية الثقافية ، التي تعتبر مطمحا كبيرا نحو تجديد البـُنى و الانعتاق من أصفاد تبعية مقيتة ، ظلت تعمل في خفاء لطمس تلك الخصوصية الفكرية والأدبية . فبفضل ذلك ، أصبح التفكير المنطقي يغزو ساحة الأدب ، بل ظلت العقلانية والتبصُّر منطقا يُحتذى به في مقاربة شاملة لمختلف الظواهر الأدبية والفكرية . فأيّا كانت التضحيات الجسام ، في سبيل إعلاء كلمة الخصوصية الثقافية ، فإن الانفتاح على علوم مساعدة كان و لا يزال ضرورة ملحة بمنزلة الماء و الهواء ؛ بغية اكتمال فسيفساء الهوية المنشودة في أفق يسوده غيمٌ .
إن إعادة ترتيب مواد التاريخ واكتناهه ، على سبيل المثال ، يعدُّ عملا نعيد من خلاله إنتاج الذات ، و اندغامها الكلي واللامشروط في الحداثة ، خصوصا إذا كنا غير زاهدين فيه عن طريق تقليب مخطوطاته ومحفوظاته . فلا سبيل إلى تأكيد الوجود الفعلي و الفاعل ، في التاريخ و دفع عجلاته للدوران في سيرورة تقدمية ، من دون الوقوف على ما أنجزه الأولون في مختلف مشارب المعرفة من علم و فلسفة ورياضيات وفلك و جغرافيا ورحلات و طب وغيرها ...
فالعلامة عبد الله كنون كان له قصْب السَّبق في إرساء معالم هذا التوجه الفذ في تاريخ الأدب المغربي . وغير خاف أن منطلقه الشهير ، الذي دفعه إلى البحث عن التميز والخصوصية الفردية ، هو حادث الصاحب بن عباد المشهور في تاريخ الأدب العربي ، عندما أراد استطلاع كتاب " العـِقد الفريد " لابن عبد ربه الأندلسي ، فقال كلمته التي أطبقت شهرتها كل الآفاق " هذه بضاعتنا ردت إلينا ، كنت أظن أنه يشتمل على شيء من أخبار بلادهم ، فإذا هو لا يعدو أخبار بلادنا ، ردوه إلى صاحبه ، لا حاجة لنا به " .
إن هذا النقد اللاذع الذي وُجِّه لابن عبد ربه ، يمثل زراية أفـَلت معها سُعودَه الشعرية والنقدية ، بما هي جناية في حق شاعر طموح و نزق ؛ لأن الصاحب بن عباد لم يكن على دراية بحقيقة أحاديث الأدب الأندلسي على عهد أمراء قرطبة من بني أمية . فهذا الحادث ، عند عبد الله كنون ، كان بمثابة شرارة لم تنطفئ جـُذوتها ، حيث جعلت ، هذه الأخيرة من الأدب المغربي ، وقودا يضئُ الصَّريم . ففضلا عن المكانة الأدبية و السياسية المرموقة ، التي كان يحتلها العلامة في الأوساط الثقافية المعاصرة ، فإن اهتماماته كانت منصبة على الأدب المغربي في العصر الوسيط . ومنه يؤوب هذا التفاعل إلى أن ثمة بؤرا مضيئة في كل من أدب المرابطين والموحدين والمرينيين و من أتى بعدهم ، في تعاقبهم على السلطة في بلاد المغرب .
وإلى جانب ذلك ، نجد الفلاسفة الذين سطعت نجومهم القطبية في سماء الأندلس على عهد المرابطين وفي مقدمتهم ابن رشد و ابن طفيل و ابن باجة و ابن زهر ، حيث يعتبرهم عبد الله كنون خزانا لا ينضب معينهم المعرفي و الطبي ، إلى درجة أنهم استطاعوا أن يؤثروا تأثيرا مباشرا على الأوروبيين إبان عصر نهضتهم ، فصارت الحضارة العربية معلقة بين حضارتين ؛ يونانية قديمة و غربية معاصرة . و بالموازاة مع ذلك ، كان عبد الله كنون يقظ الحس و البصيرة ، حيث عقد مقارنة إلى حد المماثلة و التطابق بين يوسف بن عبد المؤمن الموحدي والمأمون العباسي من زاوية نهمهم الثقافي و المعرفي و الفلسفي ، سيما و أنهما كانا يقيمان مآدبَ في بلاطاتهم على شرف الفلاسفة و البلاغيين و النحويين والشعراء .
بالمقابل ، لم يكن الطريق مفروشا بالورود و الياسمين ، أمام العلامة عبد الله كنون ، كي يُبْرز هذه الخصوصية المتمنعة ، ويتغنى بهوية مغربية أصيلة . هادفا بذلك ، إلى أن يقارع بها في محاضراته و جلساته العلمية و حواراته داخل المغرب و خارجه . غير أن بحثه الدأوب ، وتنقيبه المستفيض في المخطوطات و المحفوظات الموروثة على عهد الأدب المغربي القديم ، مكـَّنه من أن يتعرف على أعلام مغاربة مغمورين ، تجاذبوا حبل المعرفة و الثقافة مع نظرائهم في المشرق العربي ، ودراسة إنتاجاتهم ، واسْتبانة مذاهبهم الفكرية واللغوية . فما كان لابن أجروم النابغة النحوي إلاَّ أن يضاهي ، من خلال أجروميته ، ألفية ابن مالك و سيبويه الفارسي ، وقد نافسهم في تخليص إبريز اللغة العربيَّة من اللــَّحَن ، الذي زَوِرَ الكلام العربي . ومن المنظور الشامل ، الذي كان يسعى إليه عبد الله كنون في إثبات الدور ، الذي لعبه علم الجغرافيا في توطين الإنسان في قلب الكرة الأرضية ، نجد تحجّجه بمجهودات الجغرافي الشريف الإدريسي ، عندما صنع خريطة العالم مُقانيا فيها بين اليابسة و الماء ، وقد أقرَّ أنها أصحُّ صناعة شهدها التاريخ بعد خريطة بطليموس اليوناني .
وخلاصة القول ، يظهر أن مشروع عبد الله كنون لم يكن نابعا من صدفة و بداهة ؛ وإنما عمله كان ضد البداهة ؛ مشروع متفرع إلى علوم متعددة ، استثمرها من أجل الخروج ، بخصوصية الفكر المغربي و عراقته ، إلى وجه التاريخ .
ـ 2 ـ
فسياقيا ، نشرت مجلة الكرمل في يناير/ كانون الثاني من سنة 1984 ، والتي كان يديرها آنذاك الشاعر الفلسطينى محمود درويش ، عندما كان لائذا في تونس ، حوارا مطوَّلا مع العلامة عبد الله كنون ، وقد أجراه المحمدان ؛ بنيس و البكري . ضمن ملف كبير حول الأدب المغربي وفنونِه ، التي بدأ تتفتق براعمها في ظل نشاط الترجمة ، وانتشار العمل الصحفي . شمل ـ أي الملف ـ دهاقنة المغرب في الفكر و السياسة و العلوم والفنون . من أمثال : عبد الله إبراهيم في موضوع “ الحركة الوطنية والعمل الثقافي “ وعبد الله كنون عن “ التقليد والتجديد “ ومحمد عابد الجابري بخصوص “ مسار كاتب“ وعبد الله العروي في “ الأفق الروائي “ . فضلا عن تطرق الملف إلى الفكر الحداثي المغربي من خلال أهم رموزه وأقطابه ؛ عبد الكبير الخطيبي ، ومحمد عياد ، و عبد اللطيف اللعبي ، وأحمد الرضاوني ، ومحمد شبعة ، ومحمد القاسمي ، وأخيرا الشاعر محمد بنيس .
إن حوار " التقليد و التجديد " كشف بالملموس عن المسار التاريخي ، الذي تبلورت من خلاله شخصية عبد الله كنون ؛ كأديب و مفكر و فقيه . يقول فيه : " يجب أن نفهم مصطلح فقيه فهما تاريخيا في المغرب . كلمة " الفقيه " تعني ما تعنيه اليوم كلمة " مثقف " وليس الفقيه معناه أن عمله منحصر في الفقه فقط . "
فبالرغم من تشبع عبد الله كنون بالتعليم الديني العتيق ، في جامعة القرويين بفاس ، إلا أنه ظل مشدودا بأواصرَ متينة إلى الثقافة الحديثة في الفكر و الأدب و السياسة . سيما وأنه تعرف منذ حداثة سنه على أعلام كبار في الأدب العالمي ، من أمثال : ليو تولستوي ودوستويفسكي ، وما يثيرانه في إبداعهم من قضايا إنسانيَّة ؛ " السيد و الخادم " و " الإخوة كرامزوف " . ومن هذا العشق الكبير للقراءة و البحث ، سافر به ولهه و هيامه إلى المعاقل الحصينة للفكر الأوروبي الحديث ؛ فقرأ لكل من فيكتور هيكو و راسين و غوته الفيلسوف الألماني الشهير . إن النظرة الحداثية ، التي كان يرمق بها عبد الله كنون إلى العالم ، تستلزم أن يكون وفير المعرفة والحضور ، من خلال تواجده الدائم في قلب عواصفَ تقتلع الشجر و ترمي بالحجر ، وفي ظل حصار وجيع ، يقطع بلاد المغرب طولا و عرضا . يقول كنون في هذا المضمار : " ضربوا فاسَ و أطاحوا صمعة باب الكيسة ، كنت صغيرا آنذاك ، أخرجني أبي ، وذهبنا لنرى سقاية " سيدي بوغالب " وهي مهدمة ، فيما بعد عرفت أن الفرنسيين هم سبب ذلك ، وقعت الهدنة ، وبعد اليوم الدامي فرض الفرنسيون على أهل فاس ضريبة قيمتها مئتا ألف ريال ..." .
هذا التنكيل الاستعماري الغاشم كان سببا مباشر في خروج عائلة كنون الكبيرة من فاس ، و هجرتها إلى طنجة . وقد أزمعت ، في ظل القهر والعبودية ، التي يعيشها المغاربة ، على تجاوز حدود البلاد نحو أوروبا . ومن تحت براثن هذا الفقر و القمع الممنهج للحريات العامة ، الذي تتفنن السلطات الاستعمارية الفرنسية في إخراجه ، جاءت بداياته الأولى مع الكتابة عن طريق التقليد و المحاكاة لفعل الآباء و الأجداد . غير أن شرارة التحديث الفعلي ، حسب عبد الله كنون ، انطلقت في البدء مع تلاميذ ثانوية مولاي إدريس بفاس ، ونظرائهم في ثانوية مولاي يوسف بالرباط ، علاوة على ذلك فقد شمل التحديث ، أيضا ، البعثاث الطلابيَّة إلى الخارج على حساب نفقات الحركة الوطنيَّة . سيما وأن ، هذه الأخيرة ، تعمل جاهدة على إخراج أبناء المغاربة من سرداب الجهل و الأمية ، بإنشاء مدارسَ عصرية ، وبالمقابل تسعى الحركة إلى تقويض مدارس البعثات الأوروبيَّة في المغرب وتضييق الخناق عليهم.
ـ 3 ـ
كان كتاب " النبوغ المغربي في الأدب العربي " لعبد الله كنون مثالا حيّا في الخصوصية المغربية ، وذلك عن طريق إسهام علماء أجلاء مغاربة في جميع فروع المعرفة و سائر ضروب التفكير. الشيء الذي سمح لهم بأن يصبح لهم موطئ قدم في بناء صرح الأدب العالمي والإنساني . يقول عنه صاحبه " هذا نبأ الحركة الأدبيّة في المغرب عبر التاريخ ، وإذا أريد استيفاء الخبر عن ذلك ، فليرجع إلى كتاب النبوغ ، الذي أرخ للحياة الفكرية والحضارة المغربية ، من لدن الفتح العربي ، إلى بداية القرن الحالي " .
سار العلامة عبد الله كنون على طريق جمع فيه بين التقليد و التجديد ، وأرسى فكرا متحصنا و منيعا لأجيال من بعده . وفي ذات المسعى هدمَ الهوة بين العصرية و المعاصرة ، فضلا عن تفكيك مركزية النموذج الغربي والشرقي المهيمن ثقافيا و حضاريا . فأيّا كان حجم الصدمة ، التي أحدثها كتاب " النُّبوغ المغربي في الأدب العربي " في الساحة الثقافية العربية و غير العربية ، يظل كتابه الآخر " أحاديث عن الأدب المغربي الحديث " وشما لا يمحي من على جبين طلبة قسم الدراسات الأدبية و اللغوية في معهد الدراسات العربية العالية لجامعة الدول العربية ، وفي ذلك كله استطاع العلامة عبد الله كنون أن يخلق الحدث الاستثنائي في الأدب المغربي ، الذي هو قسيم الأدب العربي .
في شأن تأصيل ثقافة أمة من الأمم ، عادة ما نبحث عن مستنبت خاص و خصب لتشكلات الظواهر الفكرية والأدبية القديمة منها و الحديثة و أحيانا المعاصرة ؛ وذلك عن طريق إعادة النظر في فكر الأصول و التطلع به نحو المستقبل . إن الهدف ، من وراء ذلك ، لا يذب عن إعطاء نفس جديد للهوية الثقافية ، التي تعتبر مطمحا كبيرا نحو تجديد البـُنى و الانعتاق من أصفاد تبعية مقيتة ، ظلت تعمل في خفاء لطمس تلك الخصوصية الفكرية والأدبية . فبفضل ذلك ، أصبح التفكير المنطقي يغزو ساحة الأدب ، بل ظلت العقلانية والتبصُّر منطقا يُحتذى به في مقاربة شاملة لمختلف الظواهر الأدبية والفكرية . فأيّا كانت التضحيات الجسام ، في سبيل إعلاء كلمة الخصوصية الثقافية ، فإن الانفتاح على علوم مساعدة كان و لا يزال ضرورة ملحة بمنزلة الماء و الهواء ؛ بغية اكتمال فسيفساء الهوية المنشودة في أفق يسوده غيمٌ .
إن إعادة ترتيب مواد التاريخ واكتناهه ، على سبيل المثال ، يعدُّ عملا نعيد من خلاله إنتاج الذات ، و اندغامها الكلي واللامشروط في الحداثة ، خصوصا إذا كنا غير زاهدين فيه عن طريق تقليب مخطوطاته ومحفوظاته . فلا سبيل إلى تأكيد الوجود الفعلي و الفاعل ، في التاريخ و دفع عجلاته للدوران في سيرورة تقدمية ، من دون الوقوف على ما أنجزه الأولون في مختلف مشارب المعرفة من علم و فلسفة ورياضيات وفلك و جغرافيا ورحلات و طب وغيرها ...
فالعلامة عبد الله كنون كان له قصْب السَّبق في إرساء معالم هذا التوجه الفذ في تاريخ الأدب المغربي . وغير خاف أن منطلقه الشهير ، الذي دفعه إلى البحث عن التميز والخصوصية الفردية ، هو حادث الصاحب بن عباد المشهور في تاريخ الأدب العربي ، عندما أراد استطلاع كتاب " العـِقد الفريد " لابن عبد ربه الأندلسي ، فقال كلمته التي أطبقت شهرتها كل الآفاق " هذه بضاعتنا ردت إلينا ، كنت أظن أنه يشتمل على شيء من أخبار بلادهم ، فإذا هو لا يعدو أخبار بلادنا ، ردوه إلى صاحبه ، لا حاجة لنا به " .
إن هذا النقد اللاذع الذي وُجِّه لابن عبد ربه ، يمثل زراية أفـَلت معها سُعودَه الشعرية والنقدية ، بما هي جناية في حق شاعر طموح و نزق ؛ لأن الصاحب بن عباد لم يكن على دراية بحقيقة أحاديث الأدب الأندلسي على عهد أمراء قرطبة من بني أمية . فهذا الحادث ، عند عبد الله كنون ، كان بمثابة شرارة لم تنطفئ جـُذوتها ، حيث جعلت ، هذه الأخيرة من الأدب المغربي ، وقودا يضئُ الصَّريم . ففضلا عن المكانة الأدبية و السياسية المرموقة ، التي كان يحتلها العلامة في الأوساط الثقافية المعاصرة ، فإن اهتماماته كانت منصبة على الأدب المغربي في العصر الوسيط . ومنه يؤوب هذا التفاعل إلى أن ثمة بؤرا مضيئة في كل من أدب المرابطين والموحدين والمرينيين و من أتى بعدهم ، في تعاقبهم على السلطة في بلاد المغرب .
وإلى جانب ذلك ، نجد الفلاسفة الذين سطعت نجومهم القطبية في سماء الأندلس على عهد المرابطين وفي مقدمتهم ابن رشد و ابن طفيل و ابن باجة و ابن زهر ، حيث يعتبرهم عبد الله كنون خزانا لا ينضب معينهم المعرفي و الطبي ، إلى درجة أنهم استطاعوا أن يؤثروا تأثيرا مباشرا على الأوروبيين إبان عصر نهضتهم ، فصارت الحضارة العربية معلقة بين حضارتين ؛ يونانية قديمة و غربية معاصرة . و بالموازاة مع ذلك ، كان عبد الله كنون يقظ الحس و البصيرة ، حيث عقد مقارنة إلى حد المماثلة و التطابق بين يوسف بن عبد المؤمن الموحدي والمأمون العباسي من زاوية نهمهم الثقافي و المعرفي و الفلسفي ، سيما و أنهما كانا يقيمان مآدبَ في بلاطاتهم على شرف الفلاسفة و البلاغيين و النحويين والشعراء .
بالمقابل ، لم يكن الطريق مفروشا بالورود و الياسمين ، أمام العلامة عبد الله كنون ، كي يُبْرز هذه الخصوصية المتمنعة ، ويتغنى بهوية مغربية أصيلة . هادفا بذلك ، إلى أن يقارع بها في محاضراته و جلساته العلمية و حواراته داخل المغرب و خارجه . غير أن بحثه الدأوب ، وتنقيبه المستفيض في المخطوطات و المحفوظات الموروثة على عهد الأدب المغربي القديم ، مكـَّنه من أن يتعرف على أعلام مغاربة مغمورين ، تجاذبوا حبل المعرفة و الثقافة مع نظرائهم في المشرق العربي ، ودراسة إنتاجاتهم ، واسْتبانة مذاهبهم الفكرية واللغوية . فما كان لابن أجروم النابغة النحوي إلاَّ أن يضاهي ، من خلال أجروميته ، ألفية ابن مالك و سيبويه الفارسي ، وقد نافسهم في تخليص إبريز اللغة العربيَّة من اللــَّحَن ، الذي زَوِرَ الكلام العربي . ومن المنظور الشامل ، الذي كان يسعى إليه عبد الله كنون في إثبات الدور ، الذي لعبه علم الجغرافيا في توطين الإنسان في قلب الكرة الأرضية ، نجد تحجّجه بمجهودات الجغرافي الشريف الإدريسي ، عندما صنع خريطة العالم مُقانيا فيها بين اليابسة و الماء ، وقد أقرَّ أنها أصحُّ صناعة شهدها التاريخ بعد خريطة بطليموس اليوناني .
وخلاصة القول ، يظهر أن مشروع عبد الله كنون لم يكن نابعا من صدفة و بداهة ؛ وإنما عمله كان ضد البداهة ؛ مشروع متفرع إلى علوم متعددة ، استثمرها من أجل الخروج ، بخصوصية الفكر المغربي و عراقته ، إلى وجه التاريخ .
ـ 2 ـ
فسياقيا ، نشرت مجلة الكرمل في يناير/ كانون الثاني من سنة 1984 ، والتي كان يديرها آنذاك الشاعر الفلسطينى محمود درويش ، عندما كان لائذا في تونس ، حوارا مطوَّلا مع العلامة عبد الله كنون ، وقد أجراه المحمدان ؛ بنيس و البكري . ضمن ملف كبير حول الأدب المغربي وفنونِه ، التي بدأ تتفتق براعمها في ظل نشاط الترجمة ، وانتشار العمل الصحفي . شمل ـ أي الملف ـ دهاقنة المغرب في الفكر و السياسة و العلوم والفنون . من أمثال : عبد الله إبراهيم في موضوع “ الحركة الوطنية والعمل الثقافي “ وعبد الله كنون عن “ التقليد والتجديد “ ومحمد عابد الجابري بخصوص “ مسار كاتب“ وعبد الله العروي في “ الأفق الروائي “ . فضلا عن تطرق الملف إلى الفكر الحداثي المغربي من خلال أهم رموزه وأقطابه ؛ عبد الكبير الخطيبي ، ومحمد عياد ، و عبد اللطيف اللعبي ، وأحمد الرضاوني ، ومحمد شبعة ، ومحمد القاسمي ، وأخيرا الشاعر محمد بنيس .
إن حوار " التقليد و التجديد " كشف بالملموس عن المسار التاريخي ، الذي تبلورت من خلاله شخصية عبد الله كنون ؛ كأديب و مفكر و فقيه . يقول فيه : " يجب أن نفهم مصطلح فقيه فهما تاريخيا في المغرب . كلمة " الفقيه " تعني ما تعنيه اليوم كلمة " مثقف " وليس الفقيه معناه أن عمله منحصر في الفقه فقط . "
فبالرغم من تشبع عبد الله كنون بالتعليم الديني العتيق ، في جامعة القرويين بفاس ، إلا أنه ظل مشدودا بأواصرَ متينة إلى الثقافة الحديثة في الفكر و الأدب و السياسة . سيما وأنه تعرف منذ حداثة سنه على أعلام كبار في الأدب العالمي ، من أمثال : ليو تولستوي ودوستويفسكي ، وما يثيرانه في إبداعهم من قضايا إنسانيَّة ؛ " السيد و الخادم " و " الإخوة كرامزوف " . ومن هذا العشق الكبير للقراءة و البحث ، سافر به ولهه و هيامه إلى المعاقل الحصينة للفكر الأوروبي الحديث ؛ فقرأ لكل من فيكتور هيكو و راسين و غوته الفيلسوف الألماني الشهير . إن النظرة الحداثية ، التي كان يرمق بها عبد الله كنون إلى العالم ، تستلزم أن يكون وفير المعرفة والحضور ، من خلال تواجده الدائم في قلب عواصفَ تقتلع الشجر و ترمي بالحجر ، وفي ظل حصار وجيع ، يقطع بلاد المغرب طولا و عرضا . يقول كنون في هذا المضمار : " ضربوا فاسَ و أطاحوا صمعة باب الكيسة ، كنت صغيرا آنذاك ، أخرجني أبي ، وذهبنا لنرى سقاية " سيدي بوغالب " وهي مهدمة ، فيما بعد عرفت أن الفرنسيين هم سبب ذلك ، وقعت الهدنة ، وبعد اليوم الدامي فرض الفرنسيون على أهل فاس ضريبة قيمتها مئتا ألف ريال ..." .
هذا التنكيل الاستعماري الغاشم كان سببا مباشر في خروج عائلة كنون الكبيرة من فاس ، و هجرتها إلى طنجة . وقد أزمعت ، في ظل القهر والعبودية ، التي يعيشها المغاربة ، على تجاوز حدود البلاد نحو أوروبا . ومن تحت براثن هذا الفقر و القمع الممنهج للحريات العامة ، الذي تتفنن السلطات الاستعمارية الفرنسية في إخراجه ، جاءت بداياته الأولى مع الكتابة عن طريق التقليد و المحاكاة لفعل الآباء و الأجداد . غير أن شرارة التحديث الفعلي ، حسب عبد الله كنون ، انطلقت في البدء مع تلاميذ ثانوية مولاي إدريس بفاس ، ونظرائهم في ثانوية مولاي يوسف بالرباط ، علاوة على ذلك فقد شمل التحديث ، أيضا ، البعثاث الطلابيَّة إلى الخارج على حساب نفقات الحركة الوطنيَّة . سيما وأن ، هذه الأخيرة ، تعمل جاهدة على إخراج أبناء المغاربة من سرداب الجهل و الأمية ، بإنشاء مدارسَ عصرية ، وبالمقابل تسعى الحركة إلى تقويض مدارس البعثات الأوروبيَّة في المغرب وتضييق الخناق عليهم.
ـ 3 ـ
كان كتاب " النبوغ المغربي في الأدب العربي " لعبد الله كنون مثالا حيّا في الخصوصية المغربية ، وذلك عن طريق إسهام علماء أجلاء مغاربة في جميع فروع المعرفة و سائر ضروب التفكير. الشيء الذي سمح لهم بأن يصبح لهم موطئ قدم في بناء صرح الأدب العالمي والإنساني . يقول عنه صاحبه " هذا نبأ الحركة الأدبيّة في المغرب عبر التاريخ ، وإذا أريد استيفاء الخبر عن ذلك ، فليرجع إلى كتاب النبوغ ، الذي أرخ للحياة الفكرية والحضارة المغربية ، من لدن الفتح العربي ، إلى بداية القرن الحالي " .
سار العلامة عبد الله كنون على طريق جمع فيه بين التقليد و التجديد ، وأرسى فكرا متحصنا و منيعا لأجيال من بعده . وفي ذات المسعى هدمَ الهوة بين العصرية و المعاصرة ، فضلا عن تفكيك مركزية النموذج الغربي والشرقي المهيمن ثقافيا و حضاريا . فأيّا كان حجم الصدمة ، التي أحدثها كتاب " النُّبوغ المغربي في الأدب العربي " في الساحة الثقافية العربية و غير العربية ، يظل كتابه الآخر " أحاديث عن الأدب المغربي الحديث " وشما لا يمحي من على جبين طلبة قسم الدراسات الأدبية و اللغوية في معهد الدراسات العربية العالية لجامعة الدول العربية ، وفي ذلك كله استطاع العلامة عبد الله كنون أن يخلق الحدث الاستثنائي في الأدب المغربي ، الذي هو قسيم الأدب العربي .