ربما يكون من المناسب - قبل أن استطرد في حدثي عن القيم المسرحية - أن أناقش ما أثاره الأستاذ (رمزي خليل) من خلاف حول قولي (بالعدد 759): إن البانتوميم والميم فنان رومانيان إذ قال (بالعدد 760) ما نصه: (. . . إن اليونان عرفوا هذين النوعين بل إن أهر ممثليها هو بيلادس الممثل اليوناني المعروف وإذن يكون هذا الفنانان يونانيين وليسا رومانيين).
وقد كان من الممكن أن أحسم هذا الخلاف بنقل عبارة تكاد تكون مشتركة في شتى المعاجم الأدبية بصددهما وهي: أي ابتداع روماني بحت) ولكني أوثر أن أنساق مع حجة الأستاذ المعترض إلى أقصى ما تحمله من فروض. وقبل كل شيء أبادر فأوافقه على أن بيلادس ممثل يوناني. . ولكن ما العلاقة الحتمية بين جنسية الممثل وبين الفن الذي يمثله؟ ألا يجوز أن تمثل (الفرقة المصرية) رواية فرنسية ثم يظل الممثلون مصريين وتظل الرواية فرنسية؟ لو أن بيلادس هو الذي ابتدع البانتوميم والميم ابتداعاً لجاز أن نجد مبرراً، وأن كان بمفرده ضعيفاً، لعزوهما إلى جنسه. أما وهو مجرد ممثل من جهة وهناك من هو أشهر منه - كما سنوضح بعد - من جهة ثانية ومقر تمثيلياته روما من جهة ثالثة وشهرته قاصرة على البانتوميم وحده دون الميم من جهة رابعة. فكيف يتأتى لنا إذن أن ننسبهما معاً إليه؟! وحتى لو فرضنا إن هذا الممثل بالذات ابتدع فناً ما - أي فن - لما صح أن نعزوه إلى (اليونانية) إلا بتحامل شديد؛ لأن المصطلح عليه في الآداب والفنون القديمة أن العصر اليوناني أو الهليني ينتهي بانتهاء الكلاسيكية اليونانية في أواخر القرن الرابع ق. م ثم يبدأ العصر الهلينستي مزدهراً في المدرسة الإسكندرية التي حملت لراء النهضة العلمية والأدبية بعد أثينا. ثم تزدهر روما بانتقال النفوذ السياسي إليها ويمتد عصرها الأدبي من منتصف القرن الثاني ق. م إلى القرن الخامس ب. م تقريباً. فإذا عرفنا بعد ذلك أن بيلادس بلغ أقصى شهرته في فن البانتوميم حوالي عام 20 ق. م. أدركنا بسهولة أن عصر بيلادس كله واقع في العصر الروماني الأدبي.
ومع هذا فلعل من المستحسن أن نتحدث بإيجاز عن كل من البانتوميم والميم زيادة في التعريف بهما وشرحاً لما قد يكتنفهما من غموض وغرابة.
(البانوميم) لون من ألوان التمثيليات ابتدعته روما لمجرد (التسلية) وتستمد موضوعاته من الأساطير غالباً. وبينما تنشد الجوقة أناشيدها يؤدي الممثل دوره برقص معبر يعتمد على الحركة لا أكثر. وقد زاد الممثل اليوناني بيلادس الذي أسلفنا ذكره عدد أفراد الأوركسترا زيادة كبيرة؛ وهذا هو مصدر شهرته. وكان للروايات مناظر مناسبة، ولكن لم يزد عدد الممثلين عن ممثل واحد فقط يكون بمختلف الأدوار مستعيناً على أداء كل منها بالتقنع بقناع خاص به. ويعتبر باثيلس أشهر ممثلي البانتوميم وقد بلغت شهرته إلى حد أن اسمه صار يطلق على كل من يمثل هذا اللون.
أما (الميم) فقد عرفه الدوريون والسيراكوزيون في حالة ساذجة. ويعد هيروداس (300 - 250 ق. م.) من أبرع واضعيه. والى هنا لا يمكن اعتباره فناً بالمعنى الصحيح بل لا يعدو أن يكون تصويراً تهكمياً لبعض حوادث الحياة اليومية العادية في المدن مقصوداً به (تسلية) الجمهور بين فصول الروايات التمثيلية، وقوامه الحركة المعبرة بمصاحبة الآلات الموسيقية وأهمها (الفلوت) وبغير كلام إطلاقاً. ثم ظل يتطور إلى أن صار فناً في القرن الأول ق. م. منذ استطلاع لابريس أن يتخذاه وسيلة هامة من وسائل النقد اجتماعياً وسياسياً. ومما يجدر ذكره أن البانتوميم أدى إلى انحطاط التراجيديا، وكذلك أدى الميم إلى انزواء الكوميديا.
ويعزى شيوع هذين الفنين وبين الرومان إلى أن مجتمعهم كلن مكوناً من طبقتين: قلة ضئيلة مثقفة مؤمنة بعظمة التراث الإغريقي وتحاول تقليده. . . وكثرة عابثة تنشد التسلية ولا تحس بصلة بينها وبين ذاك التراث الغريب عنها. فاتجاه الفئة الأولى نحو الإغريق باعد بين الجماهير والأدب فأصبحوا يكرهون التراجيديا ويفضلون عليها الملاهي بصفة عامة. وانتهى الأمر بأن هجروا المسارح التي تقدم مسرحيات يونانية مترجمة أو مقتبسة إلى دور تعرض البانتوميم والميم.
وأظن في هذا الكفاية ولا بأس من العودة لى حديثنا المعتاد.
المسرح وقيمته الاجتماعية
الفن المسرحي فن اجتماعي الغاية والوسيلة معاً. فهو بواسطة مجتمع مصغر فوق المسرح يصور للمجتمع الكبير في الحياة: نزواته ونزعاته وميوله تصويراً يبرز له عيوبها ويحضه على إصلاحها. وقد تكون لبعض الفنون الأخرى علاقة مباشرة بالمجتمع ولكنها على الأرجح لا تستطيع أن تجاري المسرح في معالجة مشكلاته؛ لأنها إما أن تتناولها من بعيد بالإيماء والرمز فلا تفيد الجماهير أو بالشرح والتفصيل فتبعث الملل فضلاً عن أنه بهذا وذاك تتعارض غالباً مع أصول الفن فيها. أما المسرح فإنه بطبيعته الفنية يقوم على تمثيل (الفعل ورد الفعل) في صورة تتفق مع مجتمع إنساني، بمعنى أن أشخاص الرواية يجسمون المشكلات بشتى نواحيها تجسيماً لا يلزم ما قد لا يتاح له في سائر الفنون. وإنه لمن المعجز أن نجد بالاستقراء بين شتى الفنون في شتى العصور فناً أوثق صلة بالمجتمع من المسرح. بل أكثر من ذلك أننا نجد أن المسرحيات تبلغ أوجها كلما حافظت على هذه الصلة وتهوى إلى الحضيض إذا أغفلتها مهما كانت الظروف والاعتبارات. فبالرغم من أن مسرحيات أرستوفانيس مثلاً كانت أرستقراطية النزعة إلا أنها نجحت في المجتمع اليوناني الديمقراطي لأنها كانت مستوحاة من ذلك المجتمع ذاته. وعلى النقيض أخفقت الروايات الرومانية التي يطلق عليها أو أخفق معظمها. ولو أنها كانت مستمدة من التراث اليوناني العظيم وذلك لأن هذا التراث على عظمته التي لا شك فيها لم يكن معبراً عن العواطف الجياشة في المجتمع الروماني وتكاد تكون الصلة الوثيقة بين المجتمع والمسرح أهم الالتزامات الواجب مراعاتها في التأليف المسرحي لضمان نجاحه. وصحيح أن نجاح أو إخفاق المسرحيات يرجع - إلى حد كبير - إلى براعة المؤلف؟ لأن الصور المسرحية النهائية لها تطور داخلي خاص خاضع له. ولكن الشيء الذي لا جدال فيه أن هذا التطور ذاته يتأثر وينفعل مع التغيرات العامة التي تطرأ على المجتمع. من هنا يرى بل يشترط بعض النقاد على المؤلفين ضرورة استيحاء المجتمع الذي فيه حتى في الروايات التاريخية التي تدور حوادثها في الماضي السحيق ولا تمت إلى حاضرهم بصلة مباشرة. وأغلب الظن أن هذا هو ما حدا بمؤلف مسرحي عظيم مثل برناردشو إلى استهلال روايته التاريخية (قيصر وكليوباترة) ببداية تدور حول المجتمع الإنجليزي الحالي! إذ يخرج الإله حورس من الظلام ويحدث الجمهور عن الإنجليز وعقائدهم وخصالهم مندداً متهكماً عليهم مقارناً في ذلك جميعاً بين الإنسان الحالي والإنسان في العصور القديمة مستنتجاً من ذلك جميعاً أن الإنسانية لم تتقدم منذ عصر قيصر إلى الآن إلا تقدماً آلياً لا ينبغي أن يؤبه له مادام لا يصاحبه التقدم المنشود في المشاعر والاحساسات.
وقد يقال أن ارتباط المسرح بالمجتمع هكذا يجعله (تابعاً) خاضعاً له وبذلك يفقده قوته الإصلاحية المزعومة! ولا جدال في أن هذه التبعية حقيقة ملحوظة بل إنها غير مقصورة على النواحي الفنية والأدبية. فالناحية الأقتصادية أيضاً لا يمكن تجاهلها؛ إذ المسرح يخضع إلى أبعد الحدود لقانون العرض والطلب؛ ولذا يحاول - ما وسعه - أرضاء الجماهير ولو على حساب الفن أحياناً، حتى لقد جاز لناقد كبير مثل وليم آرتشر أن يطالب المؤلفين (بأن لا يضعوا شيئاً جوهرياً في المنظر الأول من الفصل الأول من مسرحياتهم) لغير ما سبب سوى أن الجماهير من طبعها التلكؤ. وقلما تصل إلى مكان العرض في موعده المحدد أي لسبب لا علاقة له بصميم الفن.
فكيف يتسنى للمسرح أن تكون له قوة إصلاحية وهو خاضع على هذا النحو للجماهير التي كثيراً ما تثور على كل إصلاح؟ الواقع إنه على الرغم من كل هذه الاعتبارات وعلى الرغم من أن كل فن مقيد بقيود مختلفة بالمجتمع إلى حد ما فليس هناك فن يمكن أن يخلص من أكبر عدد ممكن من هذه القيود مثل المسرح لسبب صغير جداً هو أن في أوضاعه من المرونة والجاذبية ما يهيئ للمؤلف المسرحي البارع الفرصة لبث آرائه بسهولة. ومهما تكن مخالفة لعقائد المجتمع، فكثيراً جداً ما يستطيع بالإفصاح والإيضاح والإلحاح أن يتغلب في النهاية. إذن فحرية المسرحي ليست منعدمة كما أنها ليست مطلقة ولا مفر له من أن يعمل في حدود ممكنات الفن ومزاج المجتمع ولكن البراعة في الملاءمة بينهما. ومهمته هذه في غاية الدقة والمشقة. فليس أغنى للمجتمع من المسرحيات ذات الآراء الإصلاحية ولكن بشرط أن تتصل به اتصالاً ناعماً ليناً رفيقاً وتفتح له الطريق سهلاً ممهداً وتنيره له إلى حيث تهدف في رضى وطمأنينة.
والمجتمع في مراحل تقدمه لا يكاد يذكر فضل فن عليه كما يذكر فضل المسرح؛ فمسرحيات موباسان وأمثالها في فرنسا، ومسرحيات جوزيف أديسون وأمثالها في إنجلترا، ومسرحيات تولستوي وأمثالها في روسيا، هي من أهم العوامل التي انتشلت المجتمع الأوروبي من نزعات المجون التي كانت مستولية عليه فعلاً. وقل مثل ذلك عن شتى المسرحيات قديماً وحديثاً في أغلب النهضات الاجتماعية.
على أن المجتمع الإنساني في العالم كله لم يكن في حاجة إلى المسرح في وقت من الأوقات كما هو الآن. فقد سبب له الحرب الأخيرة ومشكلاتها ونتائجها كثيراً من الاضطرابات التي غيرت القيم وحجرت العواطف وألقت في روعه حب المال واقتناص الفرص. ومثل هذه الانحرافات لا يكفل علاجها غير المسرح لأنه أقمن الفنون بتحليل أسبابها الدفينة وإظهار المجتمع عليها وبذلك يمهد له إعادة بناء مقوماته الصحيحة ويساعده - كما يقول هيكل - على استرداد قوة التنسيق بين العقل والشهوات وبين الفطرة والشذوذ.
للبحث بقية
عبد الفتاح البارودي
مجلة الرسالة - العدد 767
بتاريخ: 15 - 03 - 1948
وقد كان من الممكن أن أحسم هذا الخلاف بنقل عبارة تكاد تكون مشتركة في شتى المعاجم الأدبية بصددهما وهي: أي ابتداع روماني بحت) ولكني أوثر أن أنساق مع حجة الأستاذ المعترض إلى أقصى ما تحمله من فروض. وقبل كل شيء أبادر فأوافقه على أن بيلادس ممثل يوناني. . ولكن ما العلاقة الحتمية بين جنسية الممثل وبين الفن الذي يمثله؟ ألا يجوز أن تمثل (الفرقة المصرية) رواية فرنسية ثم يظل الممثلون مصريين وتظل الرواية فرنسية؟ لو أن بيلادس هو الذي ابتدع البانتوميم والميم ابتداعاً لجاز أن نجد مبرراً، وأن كان بمفرده ضعيفاً، لعزوهما إلى جنسه. أما وهو مجرد ممثل من جهة وهناك من هو أشهر منه - كما سنوضح بعد - من جهة ثانية ومقر تمثيلياته روما من جهة ثالثة وشهرته قاصرة على البانتوميم وحده دون الميم من جهة رابعة. فكيف يتأتى لنا إذن أن ننسبهما معاً إليه؟! وحتى لو فرضنا إن هذا الممثل بالذات ابتدع فناً ما - أي فن - لما صح أن نعزوه إلى (اليونانية) إلا بتحامل شديد؛ لأن المصطلح عليه في الآداب والفنون القديمة أن العصر اليوناني أو الهليني ينتهي بانتهاء الكلاسيكية اليونانية في أواخر القرن الرابع ق. م ثم يبدأ العصر الهلينستي مزدهراً في المدرسة الإسكندرية التي حملت لراء النهضة العلمية والأدبية بعد أثينا. ثم تزدهر روما بانتقال النفوذ السياسي إليها ويمتد عصرها الأدبي من منتصف القرن الثاني ق. م إلى القرن الخامس ب. م تقريباً. فإذا عرفنا بعد ذلك أن بيلادس بلغ أقصى شهرته في فن البانتوميم حوالي عام 20 ق. م. أدركنا بسهولة أن عصر بيلادس كله واقع في العصر الروماني الأدبي.
ومع هذا فلعل من المستحسن أن نتحدث بإيجاز عن كل من البانتوميم والميم زيادة في التعريف بهما وشرحاً لما قد يكتنفهما من غموض وغرابة.
(البانوميم) لون من ألوان التمثيليات ابتدعته روما لمجرد (التسلية) وتستمد موضوعاته من الأساطير غالباً. وبينما تنشد الجوقة أناشيدها يؤدي الممثل دوره برقص معبر يعتمد على الحركة لا أكثر. وقد زاد الممثل اليوناني بيلادس الذي أسلفنا ذكره عدد أفراد الأوركسترا زيادة كبيرة؛ وهذا هو مصدر شهرته. وكان للروايات مناظر مناسبة، ولكن لم يزد عدد الممثلين عن ممثل واحد فقط يكون بمختلف الأدوار مستعيناً على أداء كل منها بالتقنع بقناع خاص به. ويعتبر باثيلس أشهر ممثلي البانتوميم وقد بلغت شهرته إلى حد أن اسمه صار يطلق على كل من يمثل هذا اللون.
أما (الميم) فقد عرفه الدوريون والسيراكوزيون في حالة ساذجة. ويعد هيروداس (300 - 250 ق. م.) من أبرع واضعيه. والى هنا لا يمكن اعتباره فناً بالمعنى الصحيح بل لا يعدو أن يكون تصويراً تهكمياً لبعض حوادث الحياة اليومية العادية في المدن مقصوداً به (تسلية) الجمهور بين فصول الروايات التمثيلية، وقوامه الحركة المعبرة بمصاحبة الآلات الموسيقية وأهمها (الفلوت) وبغير كلام إطلاقاً. ثم ظل يتطور إلى أن صار فناً في القرن الأول ق. م. منذ استطلاع لابريس أن يتخذاه وسيلة هامة من وسائل النقد اجتماعياً وسياسياً. ومما يجدر ذكره أن البانتوميم أدى إلى انحطاط التراجيديا، وكذلك أدى الميم إلى انزواء الكوميديا.
ويعزى شيوع هذين الفنين وبين الرومان إلى أن مجتمعهم كلن مكوناً من طبقتين: قلة ضئيلة مثقفة مؤمنة بعظمة التراث الإغريقي وتحاول تقليده. . . وكثرة عابثة تنشد التسلية ولا تحس بصلة بينها وبين ذاك التراث الغريب عنها. فاتجاه الفئة الأولى نحو الإغريق باعد بين الجماهير والأدب فأصبحوا يكرهون التراجيديا ويفضلون عليها الملاهي بصفة عامة. وانتهى الأمر بأن هجروا المسارح التي تقدم مسرحيات يونانية مترجمة أو مقتبسة إلى دور تعرض البانتوميم والميم.
وأظن في هذا الكفاية ولا بأس من العودة لى حديثنا المعتاد.
المسرح وقيمته الاجتماعية
الفن المسرحي فن اجتماعي الغاية والوسيلة معاً. فهو بواسطة مجتمع مصغر فوق المسرح يصور للمجتمع الكبير في الحياة: نزواته ونزعاته وميوله تصويراً يبرز له عيوبها ويحضه على إصلاحها. وقد تكون لبعض الفنون الأخرى علاقة مباشرة بالمجتمع ولكنها على الأرجح لا تستطيع أن تجاري المسرح في معالجة مشكلاته؛ لأنها إما أن تتناولها من بعيد بالإيماء والرمز فلا تفيد الجماهير أو بالشرح والتفصيل فتبعث الملل فضلاً عن أنه بهذا وذاك تتعارض غالباً مع أصول الفن فيها. أما المسرح فإنه بطبيعته الفنية يقوم على تمثيل (الفعل ورد الفعل) في صورة تتفق مع مجتمع إنساني، بمعنى أن أشخاص الرواية يجسمون المشكلات بشتى نواحيها تجسيماً لا يلزم ما قد لا يتاح له في سائر الفنون. وإنه لمن المعجز أن نجد بالاستقراء بين شتى الفنون في شتى العصور فناً أوثق صلة بالمجتمع من المسرح. بل أكثر من ذلك أننا نجد أن المسرحيات تبلغ أوجها كلما حافظت على هذه الصلة وتهوى إلى الحضيض إذا أغفلتها مهما كانت الظروف والاعتبارات. فبالرغم من أن مسرحيات أرستوفانيس مثلاً كانت أرستقراطية النزعة إلا أنها نجحت في المجتمع اليوناني الديمقراطي لأنها كانت مستوحاة من ذلك المجتمع ذاته. وعلى النقيض أخفقت الروايات الرومانية التي يطلق عليها أو أخفق معظمها. ولو أنها كانت مستمدة من التراث اليوناني العظيم وذلك لأن هذا التراث على عظمته التي لا شك فيها لم يكن معبراً عن العواطف الجياشة في المجتمع الروماني وتكاد تكون الصلة الوثيقة بين المجتمع والمسرح أهم الالتزامات الواجب مراعاتها في التأليف المسرحي لضمان نجاحه. وصحيح أن نجاح أو إخفاق المسرحيات يرجع - إلى حد كبير - إلى براعة المؤلف؟ لأن الصور المسرحية النهائية لها تطور داخلي خاص خاضع له. ولكن الشيء الذي لا جدال فيه أن هذا التطور ذاته يتأثر وينفعل مع التغيرات العامة التي تطرأ على المجتمع. من هنا يرى بل يشترط بعض النقاد على المؤلفين ضرورة استيحاء المجتمع الذي فيه حتى في الروايات التاريخية التي تدور حوادثها في الماضي السحيق ولا تمت إلى حاضرهم بصلة مباشرة. وأغلب الظن أن هذا هو ما حدا بمؤلف مسرحي عظيم مثل برناردشو إلى استهلال روايته التاريخية (قيصر وكليوباترة) ببداية تدور حول المجتمع الإنجليزي الحالي! إذ يخرج الإله حورس من الظلام ويحدث الجمهور عن الإنجليز وعقائدهم وخصالهم مندداً متهكماً عليهم مقارناً في ذلك جميعاً بين الإنسان الحالي والإنسان في العصور القديمة مستنتجاً من ذلك جميعاً أن الإنسانية لم تتقدم منذ عصر قيصر إلى الآن إلا تقدماً آلياً لا ينبغي أن يؤبه له مادام لا يصاحبه التقدم المنشود في المشاعر والاحساسات.
وقد يقال أن ارتباط المسرح بالمجتمع هكذا يجعله (تابعاً) خاضعاً له وبذلك يفقده قوته الإصلاحية المزعومة! ولا جدال في أن هذه التبعية حقيقة ملحوظة بل إنها غير مقصورة على النواحي الفنية والأدبية. فالناحية الأقتصادية أيضاً لا يمكن تجاهلها؛ إذ المسرح يخضع إلى أبعد الحدود لقانون العرض والطلب؛ ولذا يحاول - ما وسعه - أرضاء الجماهير ولو على حساب الفن أحياناً، حتى لقد جاز لناقد كبير مثل وليم آرتشر أن يطالب المؤلفين (بأن لا يضعوا شيئاً جوهرياً في المنظر الأول من الفصل الأول من مسرحياتهم) لغير ما سبب سوى أن الجماهير من طبعها التلكؤ. وقلما تصل إلى مكان العرض في موعده المحدد أي لسبب لا علاقة له بصميم الفن.
فكيف يتسنى للمسرح أن تكون له قوة إصلاحية وهو خاضع على هذا النحو للجماهير التي كثيراً ما تثور على كل إصلاح؟ الواقع إنه على الرغم من كل هذه الاعتبارات وعلى الرغم من أن كل فن مقيد بقيود مختلفة بالمجتمع إلى حد ما فليس هناك فن يمكن أن يخلص من أكبر عدد ممكن من هذه القيود مثل المسرح لسبب صغير جداً هو أن في أوضاعه من المرونة والجاذبية ما يهيئ للمؤلف المسرحي البارع الفرصة لبث آرائه بسهولة. ومهما تكن مخالفة لعقائد المجتمع، فكثيراً جداً ما يستطيع بالإفصاح والإيضاح والإلحاح أن يتغلب في النهاية. إذن فحرية المسرحي ليست منعدمة كما أنها ليست مطلقة ولا مفر له من أن يعمل في حدود ممكنات الفن ومزاج المجتمع ولكن البراعة في الملاءمة بينهما. ومهمته هذه في غاية الدقة والمشقة. فليس أغنى للمجتمع من المسرحيات ذات الآراء الإصلاحية ولكن بشرط أن تتصل به اتصالاً ناعماً ليناً رفيقاً وتفتح له الطريق سهلاً ممهداً وتنيره له إلى حيث تهدف في رضى وطمأنينة.
والمجتمع في مراحل تقدمه لا يكاد يذكر فضل فن عليه كما يذكر فضل المسرح؛ فمسرحيات موباسان وأمثالها في فرنسا، ومسرحيات جوزيف أديسون وأمثالها في إنجلترا، ومسرحيات تولستوي وأمثالها في روسيا، هي من أهم العوامل التي انتشلت المجتمع الأوروبي من نزعات المجون التي كانت مستولية عليه فعلاً. وقل مثل ذلك عن شتى المسرحيات قديماً وحديثاً في أغلب النهضات الاجتماعية.
على أن المجتمع الإنساني في العالم كله لم يكن في حاجة إلى المسرح في وقت من الأوقات كما هو الآن. فقد سبب له الحرب الأخيرة ومشكلاتها ونتائجها كثيراً من الاضطرابات التي غيرت القيم وحجرت العواطف وألقت في روعه حب المال واقتناص الفرص. ومثل هذه الانحرافات لا يكفل علاجها غير المسرح لأنه أقمن الفنون بتحليل أسبابها الدفينة وإظهار المجتمع عليها وبذلك يمهد له إعادة بناء مقوماته الصحيحة ويساعده - كما يقول هيكل - على استرداد قوة التنسيق بين العقل والشهوات وبين الفطرة والشذوذ.
للبحث بقية
عبد الفتاح البارودي
مجلة الرسالة - العدد 767
بتاريخ: 15 - 03 - 1948