- الغول والسعلاة .
- تزاوج الجن والإنس ويقولون.
- تزيد الأعراب وأصحاب التأويل في أخبار الجن
- مذاهب الأعراب وشعرائهم في الجن
- أخبار وطرف تتعلق بالجن
- رؤية الغيلان وسماع عزيف الجان
- لطيم الشيطان
- التشبيه بالجن
- جبل الجن
- من المثل والتشبيه بالجن
ما يزعمون أنه من عمل الجن
- مواضع الجن
- مراتب الجن والملائكة
- مراتب الشجعان
- استطراد لغوي
- زواج الأعراب للجن
- رؤية الجن
- إيمان الأعراب بالهواتف
- ظهور الشق للمسافرين
- طعام الجن
- رؤوس الشياطين
سكنى الجن أرض وبارِ
أثر عشق الجن في الصرع
- الطاعون طعن من الشيطان
- أحاديث في إثبات الشيطان
- شياطين الشعراء
- كلاب الجن
- أرض الجن
- استراق السمع
- شياطين الشام والهند
- مناكحة الجنِّ ومحالفتهم
- مراكب الجن
- شعر فيه ذكر الغول جنون الجن وصرعهم
- تعليل ما يتخيله الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان
- رد على المحتجّين لإنكار استراق السمع بالقرآن
الغول والسعلاة
وأما قوله:
وتزوّجْتُ في الشَّبيبةِ غُولاً ... بغزال وصَدْقَتي زقُّ خَمْرِ
فالغُول اسمُ لكلِّ شيءٍ من الجن يعرضُ للسُّفّار، ويتلوّنُ في ضُروب الصُّور والثِّياب، ذكراً كان أو أنثى، إلاّ أنّ أكثر كلامهم على أنّه أنثى.
وقد قال أبو المطْراب عُبيدُ بن أيُّوبَ العنبريّ:
وحالَفْتَ الوحوشَ وحالَفْتني ... بقرب عُهودهنّ وبالبعادِ
وأمْسَى الذِّئبُ يرصُدُني مِخشّاً ... لخفّةِ ضربتي ولضعف آدي
وغُولاَ قفرةٍ ذكرٌ وأنثى ... كأنّ عَلَيْهمَا قِطعَ البجادِ
فجعل في الغِيلان الذَّكرَ والأُنثى، وقد قال الشَّاعر في تلوُّنها:
فما تدوم على حالٍ تكون بها ... كما تَلَوَّنُ في أثوابِها الغُولُ
فالغول ما كان كذلك، والسِّعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغوَّل لتفتِنَ السُّفّار.
قالو: وإنما هذا منها على العَبث، أو لعلّها أن تفزّع إنساناً جميلاً فتغيِّرَ عقله، فتداخِلَه عند ذلك، لأنّهم لم يُسلَّطوا على الصَّحيح العقل، ولو كان ذلك إليهم لبدؤوا بعليّ بن أبي طالب، وحمزَة بن عبد المطلب وبأبي بكر وعُمر في زَمانهم وبغيلان والحسن في دهرهما وبواصل وعمرو في أيامهما.
وقد فرَق بين الغُول والسِّعلاة عُبيدُ بن أيُّوبَ، حيث يقول:
وساخرة منِّي ولو أنّ عَينَها ... رأتْ ما أُلاقيهِ من الهوْلِ جُنّتِ
أزلُّ وسِعلاةٌ وغولٌ بقَفْرةٍ ... إذا اللّيل وارَى الجنَّ فيه أرنّتِ
وهم إذا رأوا المرأة حديدة الطّرف والذِّهن، سريعة الحركة، ممشوقة مُمَحَّصة قالوا: سعلاة وقال الأعشى:
ورجال قَتْلى بجنْبَيْ أريكٍ ... ونساءٍ كأنهنَّ السَّعالي
تزاوج الجن والإنس
ويقولون: تزَّوج عمرو بن يربوعٍ السّعلاة، وقال الرَّاجز:
يا قاتلَ اللّهُ بني السّعلاةِ ... عمرو بن يَربوعٍ شِرارَ النَّاتِ
وفي تلوُّن الغُول يقول عَبَّاسُ بنُ مرداسٍ السُّلَميُّ:
أصابَت العام رِعلاً غولُ قومهم ... وَسْطَ البُيوتِ ولوْنُ الغُولِ ألوانُ
وهم يتأوَّلون قوله عز ذكره: " وَشَارِكْهُمْ في الأََمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ " .
وقوله عز وجل: " لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ " ، قالوا: فلو كان الجانّ لم يُصِب منهنَّ قَطّ، ولم يأتهنّ، ولا كان ذلك مما يجوز بين الجن وبين النساء الآدميات - لم يقل ذلك.
وتأوَّلوا قوله عزّ وجل: " وَأنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ " فجعل منهنَّ النِّساء، إذ قد جعل منهم الرِّجال، وقوله تبارك وتعالى: " أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي " .
وزعم ابنُ الأعرابيّ قال: دعا أعرابيٌّ ربهُ فقال: اللّهم إني أعوذُ بك منْ عفاريت الجن اللهمَّ لا تُشْرِكهمْ في ولدي، ولا جسدي، ولا دمي، ولا مالي، ولا تُدخلهم في بيتي، ولا تجعَلُهمْ لي شركاء في شيءٍ من أمر الدنيا والآخرة.
وقالوا: ودعا زُهير بن هُنيدة فقال: اللهمَّ لا تُسلطهم على نطفتي ولا جَسَدي.
قال أبو عبيدة: فقيل له: لمَ تدعو بهذا الدُّعاء قال: وكيف لا أدعو به وأنا أسمعُ أيُّوب النبي واللّه تعالى يخبر عنه ويقول: " واذكُرْ عَبْدَنا أيُّوب إذْ نادى رَبّهُ أَنِّي مَسَّنيَ الشَّيطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ " حتى قيل له: " اركُضْ بِرجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ باردٌ وَشرابٌ " ، وكيف لا أستعيذ باللَّه منه وأنا أسمع اللّه يقول: " الَّذين يأْكُلونَ الرِّبا لا يَقومُون إلاّ كما يقُومُ الَّذي يَتَخبَّطُهُ الشَّيْطانُ من المَسِّ " ، وأسمعه يقول: " وإذْ زَيَّن لَهُمُ الشَّيْطانُ أعمالَهُمْ وقالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وإنِّي جارٌ لَكُمْ " ، فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه، كما قال اللّه عزّ ذكره: " فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكصَ على عَقِبيْهِ وقَالَ إنّي بَريءٌ مِنكمْ إنّي أرى مَا لا تَرَوْنَ " ، وقد جاءهم في صورة الشَّيخ النّجدي، وكيف لا أستعيذ بالله منه، وأنا أسمع الله عز ذكره يقول: " ولقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيّنَّاهَا لِلنَّاظِرينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شيْطانٍ رَجِيمٍ، إلاَّ منِ اسْتَرقَ السَّمْعَ فأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبينٌ " ، وكيف لا أستعيذ باللّه منه وأنا أسمع اللّه تعالى يقول: " ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ وأسلْنا لَهُ عيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَديْهِ بإذْنِ ربِّهِ " ثم قال: " يَعْمَلَونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحاريبَ وتماثيلَ وجفانٍ كالجوابِ وقُدُورٍ راسِياتٍ " ، وكيف لا أدعو بذلك وأنا أسمع اللّه تعالى يقول: " قال عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ أنا آتِيكَ بهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ، وإنّي عَلَيْه لقويٌّ أمِينٌ " . وكيف لا أقول ذلك وأنا أسمع اللّه عزّ وجلَّ يقول: " ربِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبغي لأحدٍ مِنْ بَعْدي إنَّكَ أنْتَ الْوهّابُ، فسخَّرْنا لهُ الرِّيحَ تَجْري بِأمْرهِ رُخاءً حَيْثُ أصابَ، والشَّياطينَ كُلَّ بَنّاءٍ وغَوَّاصٍ، وآخرِينَ مُقرَّنينَ في الأصفادِ " .
تزيد الأعراب وأصحاب التأويل في أخبار الجن
والأعراب يتزيّدون في هذا الباب، وأشباهُ الأعراب يغلطون فيه، وبعضُ أصحابِ التأويل يجوّز في هذا الباب ما لا يجوز فيه، وقد قلنا في ذلك في كتاب النُّبُوّات بما هو كافٍ إن شاء اللّه تعالى.
مذاهب الأعراب وشعرائهم في الجن
وسيقع هذا الباب والجواب فيه تامّاً إذا صرنا إلى القول في الملائكة، وفي فرق ما بين الجن والإنس، وأما هذا الموضع فإنما مَغْزانا فيه الإخبارُ عن مذاهب الأعراب، وشعراءِ العرب، ولولا العلم بالكلام، وبما يجوز مما لا يجوز، لكان في دون إطباقهم على هذه الأحاديث ما يغلط فيه العاقل.
قال عُبيدُ بن أيُّوب، وقد كان جَوَّالاً في مجهول الأرض، لمَّا اشتد خوفه وطال تردُّدُه، وأبعد في الهرب:
لقد خِفْتُ حتَّى لو تمُرُّ حَمامَةٌ ... لقُلْتُ عَدُوٌّ أو طلِيعَة مَعْشَرِ
فإن قيل أمْنٌ قلتُ هذِي خديعةٌ ... وإن قيل خوفٌ قلتُ حَقّاً فشَمِّرِ
وخِفت خليلي ذا الصَّفاء وَرَابَني ... وقيل فلان أو فلانة فاحذرِ
فلله دَرُّ الغُول أيُّ رفيقةٍ ... لصاحِبِ قفْر خائِفٍ متقتِّر
أرنَّتْ بلحْن بعد لحن وأوقدَتْ ... حواليَّ نيراناً تلوح وتزهرُ
وأصبحت كالوحْشيِّ يتبَعُ ما خلا ... ويترك مَأبُوسَ البلادِ المدَعْثَرِ
وقال في هذا الباب في كلمة له، وهذا أولها:
أذِقني طَعْمَ الأمن أو سَلْ حقيقةًً ... عليَّ فإن قامتْ ففصِّل بنانيا
خلعتَ فؤادي فاستُطيرَ فأصبَحَتْ ... ترامى بي البيدُ القِفارُ تراميا
كأني وآجال الظِّباء بقفرةًٍ ... لنا نسبٌ نرعاه أصبح دانيا
رأين ضئيلَ الشَّخْصِ يظهَرُ مَرَّةًً ... ويخْفَى مراراً ضامِرَ الجسم عاريا
فأجْفَلنَ نفْراً ثمَّ قُلنَ ابنُ بلدةًٍ ... قليلُ الأذى أمْسى لكُنَّ مُصَافيا
ألا يا ظِباءَ الوَحْشِ لا تُشْهِرُنَّنيً ... وأخفِينني إذ كنتُ فِيكن خافيَا
أكلت عُرُوق الشَّرْي مَعْكُنَّ والْتَوىً ... بحَلقي نَوْرُ القَفْرِ حتَّى وَرانيا
وقد لقيتْ مني السِّباعُ بليّةًً ... وقد لاقت الغيلانُ مِنِّي الدّواهيا
ومنهنّ قد لاقيت ذاك فلم أكُنْ ... دجباناً إذا هَوْلُ الجبان اعترَانيا
أذقت المنايا بَعْضَهُنَّ بأسهميً ... وقدّدْن لحمي وامتَشَقْنَ ردائيا
أبِيتُ ضجيع الأسْوَدِ الجَون في الهُوَى ... كثيراً وأثناءُ الحشاش وسادِيَا
إذا هِجْن بي في جُحْرِهنَّ اكتنفننيً ... فليت سُلَيمانَ بن وَبْرٍ يرانيا
فما زِلت مُذ كْنتُ ابن عشرين حِجةً ... أخا الحرب مَجْنيّاً عليَّ وجانيا
ومما ذكر فيه الغيلان قولُه:
نقول وقد ألممتُ بالإنس لَمَّةً ... مُخضَّبةُ الأطرافِ خُرْسُ الخلاخِلِ
أهذا خليلُ الغُول والذِّئب والذي ... يهيمُ بِرَبّاتِ الحِجال الكوَاهلِ
رَأتْ خَلقَ الأدراس أشْعَثَ شاحباً ... على الجدْب بَسَّاماً كريمَ الشَّمائلِ
تعوَّدَ من آبائه فَتكاتِهم ... وإطعامَهُمْ في كلِّ غبْراء شامِلِ
إذا صاد صيداً لفَّه بضرامِهِ ... وشيكاً ولم ينْظر لنَصْب المراجلِ
ونهْساً كنَهْس الصقر ثم مِراسهُ ... بكفّيه رأسَ الشَّيخة المتمايل
فلم يسحب المِنديلَ بين جماعةٍ ... ولا فارداً مذ صاحَ بيْن القوابلِ
ومما قال في هذا المعنى:
علام تُرَى ليلى تعذِّب بالمُنى ... أخا قفَراتٍ كان بالذئب يأنسُ
وصار خليل الغُول بَعْد عداوةٍ صَفيّاً وربّتهُ القفارُ البسابسُ
وقال في هذا المعنى:
فلولا رجالٌ يا مَنيعُ رأيتَهم ... لهم خُلقٌ عند الجوار حَمِيدُ
لنالكُمُ مِني نكالٌ وغارةٌ ... لها ذنبٌ لم تدركُوه بعيدُ
أقلَّ بنو الإنسان حتَّى أغرتمُ ... على من يثير الجنّ وهي هجودُ
أخبار وطرف تتعلق بالجن
وقال ابن الأعرابي: وَعدت أعرابيَّةٌ أعرابيّاً أن يأتيها، فكمن في عُشَرةٍ كانت بقربهم، فنظر الزّوجُ فرأى شَبَحاً في العُشرَةَ، فقال لامرأته: يا هَنَتاهُ إنّ إنساناً لَيُطالعنا من العُشَرة قالت: مَهْ يا شيخُ، ذاك جانُّ العُشَرة إليك عنّي وعن ولَدِي قال الشيخ: وعنِّي يرحَمُك اللّه قالت: وعن أبيهم إن هو غطَّى رأسه ورقد، قال: ونام الشَّيخ، وجاء الأعرابي فسَفَع برجليها ثمّ أعطاها حتى رضيت.
وروى عن محمّد بن الحسن، عن مُجالِد أو عن غيره وقال: كنّا عند الشّعبي جُلوساً، فمرَّ حمّالٌ على ظهره دَنّ خَلٍّ، فلما رأى الشّعبيَّ وضع الدّنّ وقال للشعبي: ما كان اسمُ امرأة إبليس؟ قال: ذاك نكاحٌ ما شهدناه .
وأبو الحسن عن أبي إسحاق المالِكي قال: قال الحجاج ليحيى بن سعيد بن العاص: أخبرني عبدُ اللّه بن هلال صديق إبليس، أنّك تشبه إبليس قال: وما ينكر أنْ يكون سيد الإنس يُشبه سيد الجنِّ وروى الهيثم عن داود بن أبي هند، قال: سئل الشّعبي عن لحم الفيل، فتلا قولَه عزّ ذكره: " قُلْ لا أَجِدُ فيما أُوحِي إليّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يطْعَمُهُ إلاَّ أنْ يكُونَ مَيْتَةً أوْ دمَاً مَسْفُوحاً أوْ لَحْمَ خِنْزيرٍ " إلى آخر الآية، وسُئل عن لحم الشَّيطان فقال: نحن نرضى منه بالكَفَاف، فقال له قائل: ما تقولُ في الذِّبّان؟ قال: إن اشتهيته فكُلْهُ.
وأنشدوا قول أعرابي لامرأته:
ألا تمُوتين إنا نبتغي بدلاإن اللواتي يموِّتن الميامين
أم أنت لازلتِ في الدنيا معَمَّرَةً ... كما يُعَمَّر إبليسُ الشَّياطِين
وقال أبو الحسن وغيرُه: كان سعيدُ بن خالد بن عبد اللّه بن أسيد تصيبهُ مُوتة نصف سنة، ونصفَ سنةٍ يصح، فيحبو ويُعطي، ويكسُو ويَحمِل، فأراد أهلُه أنْ يعالِجُوه، فتكلّمت امرأةٌ على لسانه فقالت، أنا رُقيَّة بنت ملْحان سيِّد الجنِّ، واللّه أنْ لو علِمتُ مكانَ رجل أشرَف منه لعلِقْتُه واللّه لئن عالجتموه لأقتُلنّه فتركوا علاجه.
وتقول العرب: شيطان الحمَاطة، وغول القَفْرَة، وجانُّ العُشرَة، وأنشد:
فانصَلتَتْ لي مِثْلَ سعلاةِ العُشَرْ ... تروح بالوَيْل وتَغْدُو بالغِيَرْ
وأنشد:
يا أيُّها الضاغب بالغُمْلولْ ... إنّك غُولٌ ولدَتْكَ غولْ
الغُملول: الخمرَ من الأرض اختبأ فيه هذا الرجل، وضغب ضغبة الأرنب، ليفزعه ويوهمه أنّه عامر لذلك الخمر.
رؤية الغيلان وسماع عزيف الجان
من ادعى من الأَعراب والشعراء أنهم يرون الغيلان ويسمعون عزيف الجان
وما يشبهون بالجن والشياطين، وبأعضائهم وبأخلاقهم وأعمالهم.
وأنشد:
كأنّه لَمَّا تدانى مَقْربُه ... وانقطعت أوْذامُه وكُرَبُهْ
وجاءت الخيلُ جميعاً تَذنِبُهْ ... شيطان جنّ في هواء يرقُبهْ
أذنب فانقضَّ عليه كوكبُهْ
وأنشد:
إنّ العُقَيليَّ لا تلقى له شَبهاً ... ولو صَبرْتَ لتلقاه على العِيسِ
بَيْنا تَراهُ عليه الخزُّ متَّكِئاً ... إذ مَرَّ يهدج في خَيش الكرابيس
وقد تكنَّفَهُ غُرَّامُه زَمَناً ... أشباهُ جِنٍّ عكوفٍ حَوْل إبليسِ
إذا المفاليسُ يوماً حاربُوا مَلِكاً ... ترى العُقيليّ منهمْ في كرادِيسِ
وهو الذي يقول:
أصبحتَ مَا لَكَ غيرُ جِلْدِكَ تَلبَسُ ... قَطرَ السَّماء وأنْتَ عارٍ مُفْلِسُ
وقال الخطفى:
يَرْفَعْنَ بالليل إذا ما أسْدفَا ... أعْناقَ جِنَّانٍ وهاماً رُجَّفا
وَعَنَقاً بعد الرسيم خيطفا
وأنشد ابنُ الأعرابي:
غناءً كليبياً تَرَى الجنَّ تبتغي ... صَدَاهُ إذا ما آب للجشنِّ آيبُ
وقال الحارث بن حلزة:
ربُّنا وابننا وأَفضل منْ يَمْ ... شي ومَنْ دونَ ما لَديْه الثَّناءُ
إرَميٌّ بمثْلهِ جالَتِ الج ... نُّ فآبتْ لخصْمها الأجْلاءُ
وقال الأعشى:
فإنِّي وما كَلَّفتُموني ورَبِّكم ... ليعلم من أمْسى أعَقَّ وأحْوَبا
لكالثَّور والجْنيُّ يضربُ ظهْرَهُ ... وما ذنْبُه أنْ عافَتِ الماء مَشْربا
وقال الزَّفيان العُوافيُّ واسمه عطاء بن أسِيد أحد بني عُوافةَ بن سعد:
بَيْن اللّها منه إذا ما مدّا ... مثلُ عزِيف الجن هَدّتْ هَدّا
وقال ذو الرُّمَّة:
قد أعسِفُ النَّازحَ المجهُولَ مَعْسِفُه ... في ظلِّ أغْضَف يَدْعو هامَهُ البُومُ
للجِنِّ باللّيل في حافاتها زَجَلٌ ... كما تناوَحَ يوم الريح عيشومُ
داويّةٍ ودُجَى ليل كأنَّهما ... يَمٌّ تراطَنُ في حافاته الرُّومُ
وقال:
وكمْ عَرَّستْ بعد السُّرى من مُعَرَّس ... به من كلام الجن أصواتُ سامِرِ
وقال:
كمْ جُبْتُ دُونَكَ من يَهْماء مُظْلمةٍ ... تِيهٍ إذا ما مُغَنِّي جِنَّةٍ سَمَرا
وقال:
ورَمل عزيف الجنِّ في عَقِداتِه ... هزيزٌ كتضْرابِ المغنِّين بالطّبْلِ
وقال:
وتِيهٍ خَبَطْنا غَوْلها وارتمى بنا ... أبو البعد من أرجائها المتطاوحُ
فلاةٌ لِصوت الجنِّ في مُنْكَراتها ... هزيزٌ وللأبوام فيها نوائحُ
وطولُ اغتماسي في الدُّجى كلما دعت ... من اللَّيل أصداءُ المِتَانِ الصوائحُ
وقال ذو الرّمة:
بلاداً يبيتُ البومُ يدعُو بناتِه ... بها ومن الأصداءِ والجنِّ سامرُ
وقال ذو الرمة:
وللوحشِ والجِنّانِ كُلَّ عشِيةٍ ... بها خِلْفةٌ من عازفٍ وبُغامِ
وقال الراعي:
ودَاوِيّةٍ غبراءَ أكثرُ أهْلِها ... عزِيفٌ وبُومٌ آخِرَ الليل صائحُ
أقرّ بها جأشِي تأوُّل آيةٍ ... وماضي الحسام غمِدُه متصايحُ
لطيم الشيطان
ويقال لمن به لقوة أو شتَر، إذا سُبَّ: يا لطيم الشيطان.
وكذلك قال عبيد اللّه بن زياد، لعمرو بن سعيد، حين أهوى بسيفه ليطعنَ في خاصرة عبد اللّه بن معاوية، وكان مستضعفاً، وكان مع الضّحّاك فأسِرَ، فلمّا أهوى له السيفَ وقد استردفه عبيدُ اللّه، واستغاث بعبيد اللّه، قال عبيد اللّه لعمرو: يدك يا لطيمَ الشيطان.
قولهم: ظل النعامة، وظل الشيطان ويقال للرَّجُل المفرط الطّول: يا ظلَّ النّعامة وللمتكبِّر الضخم: يا ظلَّ الشيطان كما قال الحجّاج لمحمد بن سَعْد بن أبي وقاص: بينا أنت، يا ظلَّ الشّيطان، أشدُّ النَّاس كِبْراً إذْ صِرتَ مؤذِّناً لفلان.
وقال جريرٌ في هجائه شَبّةَ بن عِقال، وكان مُفْرط الطّول:
فَضَح المنابرُ يَوْمَ يَسْلَحُ قائماً ... ظِلُّ النّعامةِ شَبّةُ بنُ عِقالِ
قولهم: ظل الرمح فأما قولهم: مُنينا بيوم كظلِّ الرمح فإنّهم ليس يريدون به الطول فقط، ولكنّهم يريدون أنّه مع الطول ضيق غيرُ واسع.
وقال ابن الطّثرية:
ويَوْمٍ كظِلِّ الرُّمح قَصَّر طُوله ... دَمُ الزِّقِّ عنّا واصطِفاقُ المَزَاهِرِ
قال: وليس يوجد لظلِّ الشخص نهاية مع طلوع الشّمس.
التشبيه بالجن
قال: وكان عمر بن عبد العزيز أوّلَ من نهى النّاسَ عن حمل الصِّبيان على ظهور الخيل يوم الحَلبة، وقال: تحمِلون الصِّبيان على الجِنَّان؟.
وأنشد في تشبيه الإنس بالجن لأبي الجُوَيرِية العَبْدي:
إنسٌ إذا أمنوا جِنٌّ إذا فزعوا ... مُرزَّؤُونَ بهاليلٌ إذا حَشدوا
وأنشدوا:
وقلتُ واللّه لنَرحَلنّا ... قلائصاً تحسِبهنَّ جنا
وقال ابن ذي الزوائد:
وَحَوْلي الشَّوْلُ رُزَّحاً شُسُباً ... بَكِية الدَّرِّ حينَ تُمْتَصَرُ
ولاذَ بي الكلبُ لا نُباحَ له ... يهِرُّ مُحْرنْجماً وينجَحِرُ
بُحُورُ خَفْضٍ لمنْ ألمَّ بهِمْ ... جِنٌّ بأرماحِهمْ إذا خطروا
وأنشدوا:
إنِّي امرؤٌ تابعَني شيطانِيَه ... آخيتهُ عُمْرِي وقد آخانِيه
يشْرَبُ في قَعْبي وقد سقانِيَه ... فالحمدُ للّه الذي أعطانِيَه
قرْماً وخُرْقاً في خُدودٍ واضيه ... تربَّعَتْ في عُقدٍ فالماويه
َبقلاً نَضِيداً في تِلاعٍ حاليه ... حتّى إذا ما الشّمْسُ مَرَّتْ ماضيه
قام إليها فتيةٌ ثمانيه ... فثوَّروا كلَّ مَرِيٍّ ساجيَه
أخلافها لِذي الأكف مالِيَه
جبل الجن
وقال ابنُ الأعرابي: قال لي أعرابي مَرّة مِن غنيٍّ وقد نزلت به، قال: وهو أخفُّ ما نزلتُ به و أطيَبُه، فقلت: ما أطيب ماءكم هذا، وأعْذى منزلكم قال: نعم وهو بعيدٌ من الخَير كله، بعيد من العراق واليمامة والحجاز، كثير الحيات، كثير الجنان فقلت: أتَروَنَ الجن؟ قال: نعم مكانُهم في هذا الجبل - وأشار بيدهِ إلى جبل يقال له سُواج قال: ثمَّ حدَّثني بأشياء.
شعر فيه ذكر الجن
وقال عبيد بن أوس الطائي في أخت عَدي بن أوس:
هلْ جاءَ أوساً ليلتي ونعيمها ... ومقامُ أوْسٍ في الخِباء الْمُشْرَجِ
ما زِلتُ أطوي الجِنّ أسمع حِسَّهُمْ ... حَتّى دَفَعْتُ إلى ربيبة هودجِ
فوضعت كفِّي عند مقطع خَصْرِها ... فَتَنَفّستْ بُهْراً ولمَّا تنهجِ
فتناولتْ رأْسي لِتعرفَ مَسّهُ ... بمخضّبِ الأطرافِ غيرِ مُشنّجِ
قالتْ بعَيْشِ أخي وحُرمة والدي ... لأُنَبِّهَنَّ الحيّ إنْ لم تخرجِ
فخرجتُ خيفةَ قومها فتبسَّمَتْ ... فعلمْتُ أنّ يمينها لم تلججِ
فلثمْت فاهاً قَابضاً بقُرونِها ... شُرْبَ النَّزيفِ ببرْدِ ماء الحشْرَج
وأنشدني آخر:
ذَهَبْتُمْ فعُذْتمُ بالأمير وقُلْتُمُ ... تركْنا أحاديثاً ولحماً مُوضعاً
فما زَادَني إلاّ سناءً ورِفعة ... ولا زادكُمْ في القوم إلاّ تخشّعا
فما نفرتْ جِنِّي ولا فُلَّ مِبردِي ... وما أصبحت طيري من الخوفِ وُقَّعَا
وقال حسّانُ بنُ ثابت، في معنى قولِه: وللّه لأضربنَّه حتَّى أنزع من رأسِه شيطانه، فقال:
وداوِيةٍ سَبسَبٍ سَمْلَقٍ ... مِنَ البيِد تَعْزِفُ جنّانُها
قطَعْتُ بِعَيْرانةٍ كالفَنِي ... قِ يَمْرَحُ في الآل شَيْطانُها
فجمع في هذا البيت تثبيت عزيف الجن، وأنَّ المراح والنشاط والْخُيلاء والغرب هو شيطانُها
وأبينُ منْ ذلك قولُ منظور بن رواحة:
أتاني وأهْلي بالدِّماخ فغمرةٍ ... مَسبُّ عويفِ اللؤم حيَّ بني بدرِ
فلمّا أتاني ما يقولُ ترقّصت ... شياطينُ رأسي وانْتشْينَ من الخَمْرِ
من المثل والتشبيه بالجن
ومن المثَل والتّشبيه قولُ أبي النّجم:
وقام جِنِّيُّ السَّنام الأميَلِ ... وامْتَهَدَ الغاربَ فِعْلَ الدُّمَّلِ
وقال ابن أحمر:
بهَجْلٍ من قساً ذفِر الخُزامَى ... تداعى الجربياءُ به الحنينا
تكسَّر فوقه القَلَعُ السَّوارِي ... وجُنَّ الخازِبازِ به جُنونا
وقال الأعشى:
وإذا الغيثُ صَوْبُه وضع القِدْ ... حَ وجُنَّ التِّلاعُ والآفاقُ
لم يزدهم سفاهَةً شُرُبُ الْخمْ ... رِ ولا اللهوُ بينهُم والسِّباق
وقال النابغة:
وخَيِّس الجِنَّ إنِّي قد أذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ
ما يزعمون أنه من عمل الجن
وأهلُ تدمُر يزعمون أنّ ذلك البناء بُنيَ قبل زمن سليمان، عليه السلام، بأكثرَ مما بيننا اليوم وبين سليمان بن داود عليهما السلام قالوا: ولكنّكم إذا رأيتمْ بنياناً عجيباً، وجهلتم موضع الحِيلة فيه، أضفْتُموه إلى الجنِّ، ولم تعانوه بالفكر.
وقال العَرْجيُّ:
سدّتْ مسامِعها بفرْجِ مراجِل ... مِنْ نَسْج جِنٍّ مثله لا يُنسَجُ
وقال الأصمعيُّ: السيوف المأثورة هي التي يقال إنها من عمل الجن والشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام، فأمّا القوارير والحمامات، فذلك ما لا شك فيه، وقال البعيث:
بَنَى زِيادٌ لذِكْرِ الله مَصْنَعَةً ... من الْحِجارة لم تُعملْ من الطِّينِ
كأنَّها غير أنّ الإنسَ ترفَعُها ... مما بنتْ لسليمانَ الشياطينُ
وقال المقنَّع الكِنْديُّ:
وفي الظّعائِنِ والأحْداجِ أمْلَحُ منْ ... حَلَّ العِراقَ وَحَلَّ الشامَ واليَمنَا
جِنِّيّةٌ مِنْ نِسَاءِ الإنسِ أحسَنُ مِنْ ... شَمْسِ النّهارِ وبَدْرِ اللّيلِ لو قُرِنَا
مَكتومةُ الذكرِ عندي ما حيِيتُ له ... قَدْ لَعَمْري مَلِلتُ الصَّرمَ والحَزَنَا
وقال أبو النَّجم:
أدرك عقلاً والرهان عمله ... كأنّ تُرْبَ القاع حينَ تَسحَلُه
صيقُ شياطينَ زَفَتْهُ شَمْألهْ
وقال الأعشى في المعنى الأوّل، من بناء الشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام:
أرى عَادِيا لمْ يمنع الموْتَ رَبُّه ... ووَرْدٌ بتيماءِ اليهوديِّ أبلقُ
بناهُ سُليمانُ بنُ داودَ حِقْبةً ... له جَنْدَلٌ صُمٌّ وطيٌّ موثَّقُ
مواضع الجن
وكما يقولون: قنفذ بُرْقة، وضبُّ سحاً، وأرنب الخلَّة، وذئب خَمر فيفرقون بينها وبينَ ما ليست كذلك إمَّا في السِّمن، وإمّا في الخُبث، وإمَّا في القوة - فكذلك أيضاً يفرقون بين مواضع الجن، فإذا نَسبُوا الشّكل منها إلى موضعٍ معروف، فقد خَصُّوه من الخُبث و القُوة والعَرامة بما ليس لجملتهم وجمهورهم، قال لبيد:
غُلْب تَشَذّرُ بالذُّحولِ كأنّها ... جنُّ البَدِيِّ رواسِياً أقدامُها
وقال النّابغة:
سهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهُمْ ... تحتَ السَّنَوَّرِ جِنَّةُ البقّارِ
وقال زهير:
عَلَيْهِنَّ فِتْيانٌ كَجِنّةِ عَبقرٍ ... جديرون يوماً أن يُنيفوا فيَسْتعلوا
وقال حاتم:
عليهنّ فِتْيانٌ كَجِنّة عبقر ... يهزُّون بالأيدي الوشِيجَ المقوّما
ولذلك قيل لكلِّ شيء فائق، أو شديدٍ: عبقري.
وفي الحديث، في صفة عمر رضي اللّه عنه فلم أر عبقريّاً يفري فَرِيّه، قال أعرابي: ظلمني واللّه ظُلماً عبقريّاً.
مراتب الجن والملائكة
ثمَّ ينزلون الجن في مراتب، فإذا ذكروا الْجِنِّيَّ سالماً قالوا: جني، فإذا أرادوا أنّه ممن سكن مع النَّاس قالوا: عامر، والجميع عُمّار، وإنْ كان ممن يعرض للصبيان فهُمْ أرواح، فإن خبُث أحدُهم وتعرَّم فهو شيطان، فإذا زاد على ذلك فهو مارد، قال اللّه عز ذكره: " وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ ماردٍ " فإن زاد على ذلك في القوَّة فهو عفريت، والجميع عفاريت، قال اللّه تعالى: " قال عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أنَا آتيكَ بِهِ قبْلَ أنْ تَقْومَ منْ مقامِك " .
وهم في الجملة جنٌّ وخوافي، قال الشاعر:
ولا يُحَسُّ سِوى الخافي بها أثرُ
فإن طهَرَ الجني ونَظُف ونَقِيَ وصار خيراً كلُّه فهو مَلَك، في قول من تأول قوله عز ذكره: " كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ " على أنّ الجنَّ في هذا الموضع الملائكة.
وقال آخرون: كان منهم على الإضافة إلى الدّار والدّيانة، لا على أنّه كان من جنْسهم، وإنّما ذلك على قولهم سليمان بن يزيد العدوي، وسليمان بن طرْخان التّيمي، وأبو علي الحرمازي، وعَمْرو بن فائد الأسواري، أضافوهم إلى المحالّ، وتركوا أنسابهم في الحقيقة.
استطراد لغوي وقال آخرون: كلُّ مُستْجِنٍّ فهو جِنّيٌّ، وجانّ، وجنين، وكذلك الولدُ قيل له جنينٌ لكونه في البطْن واستجنانه، وقالوا للمّيت الذي في القبر جنين، وقال عمْرو بن كلثوم:
ولا شمْطاءُ لم تَدعِ المنايا ... لها منْ تِسْعَةٍ إلاّ جنينا
يُخبر أنّها قد دَفَنَتْهُم كلُّهم.
قالوا: وكذلك الملائكة، من الحَفَظة، والحمَلة، والكَرُوبيِّينَ، فلا بدّ من طبقات، وربُّما فُرِّق بينهم بالأعمال، واشتُقَّ لهم الاسمُ من السّبب كما قالُوا لواحدٍ من الأنبياء: خليل اللّه، وقالوا لآخر: كليم اللّه، وقالوا لآخر: روح اللّه.
مراتب الشجعان
والعرب تُنزل الشُّجعاء في المراتب، والاسم العامُّ شجاع، ثمَّ بطلَ، ثم بُهْمة، ثم أليَس، هذا قول أبي عبيدة.
فأمّا قولهم: شيطان الحماطة، فإنّهم يعنون الحيّة، وأنشد الأصمعي:
تُلاعِبُ مَثْنى حَضْرَميٍّ كأنّهُ ... تَعمُّجُ شيطان بذي خِرْوَع قَفْرِ
وقد يُسَمُّون الكِبر والطغيان، والخُنْزُوانة، والغضبَ الشّديدَ شيطاناً، على التّشبيه، قال عمر بن الخطاب، رضي اللّه تعالى عنه: والله لأنزِعَنّ نُعْرتَه، ولأضربنَّه حتى أنزع شيطانه من نخرته.
مراتب الجن والأعراب تجعل الخوافِي والمستجِنّات، من قبل أن ترتِّب المراتب، جنسين، يقولون جِنّ وحنّ، بالجيم والحاء، وأنشدوا:
أبيتُ أهْوي في شياطينَ تُرِنّ ... مختلفٍ نجواهمُ حِنٌّ وجنّ
ويجعلون الجِنّ فوق الحنّ، وقال أعشى سليم:
فما أنا منْ جِنٍّ إذا كنتُ خافياً ... ولستُ من النَّسْناسِ في عنصُرِ البَشَرْ
ذهب إلى قول من قال: البشر ناسُ ونسناس، والخوافي حنّ وجنّ، يقول: أنا من أكرم الجِنسين حيثما كنت.
شيطان ضعفة النُّسّاك والعباد وضَعَفة النسّاك وأغبياءُ العُبّاد، يزعمون أنّ لهم خاصّة شيطاناً قد وُكِّل بهم، ويقال له المذهِب يُسْرِج لهم النِّيران، ويُضيء لهم الظُّلْمة ليفتنهم وليريهم العجب إذا ظنُّوا أنّ ذلك من قِبَل اللّه تعالى.
شيطان حفظة القرآن وفي الحديث أنّ الشّيطانَ الذي قد تفرّد بحفظة القرآن يُنْسِيهم القرآن، يسمى خَنْزَب، وهو صاحب عثمان بن أبي العاص.
الخابل والخبل قال: وأما الخابل والخَبَل، فإنما ذلك اسمٌ للجنّ الذين يخبلون النّاسَ بأعيانهم، دون غيرهم، وقال
تناوح جِنّان بهنَّ وخُبَّلُ
كأنّه أخْرج الذين يخبلون ويتعرَّضون، ممّن ليس عنده إلاّ العزيف والنّوح، وفصل أيضاً لبيدٌ بينهم فقال:
أعاذلُ لو كان النِّداد لقُوتلوا ... ولكنْ أتانا كُلُّ جنّ وخابلِ
وقد زعم ناسٌ أنَّ الخبلَ والخابل ناس، قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، فكيف يقول أوس بن حجر:
تناوح جِنّان بهن وخُبّلُ
استطراد لغوي
قالوا: وإذا تعرّضَت الجنّيّة وتلوَّنتْ وعَبِثت فهي شيطانة، ثم غُول، والغُول في كلام العرب الدَّاهية، ويقال: لقد غالَتْهُ غول، وقال الشاعر:
تقول بيتي في عِزّْ وفي سعَةٍ ... فقدْ صدقْتَ ولكنْ أنت مدخولُ
لا بأسَ بالبَيْتِ إلاّ ما صنعت به ... تَبْني وتَهْدِمُه هدّاً له غولُ
وقال الرَّاجز:
والحربُ غولٌ أو كشبه الغُولِ ... تُزَفُّْ بالرّاياتِ والطُّبول
تَقْلِبُ للأوتارِ والذُّحُولِ ... حِملاقَ عَيْنٍ ليس بالمكْحُولِ
زواج الأعراب للجن
ومن قول الأعراب أنهم يظهرون لهم، ويكلِّمونهم، ويناكحونهم، ولذلك قال شمر بن الحارث الضّبي:
ونارٍ قد حضأتُ بُعَيْدَ هَدْءٍ ... بدارٍ لا أُريدُ بها مُقامَا
سِوى تَحْليلِ راحلةٍ وعينٍ ... أُكالئُها مخافَة أنّ تناما
أتَوْا نَارِي فقلتُ منونَ قالوا ... سراةُ الجنِّ قلتُ عِموا ظلاما
فقُلْتُ إلى الطَّعامِ فقالَ مِنْهُمْ ... زعيمٌ نحسد الإنسَ الطَّعاما
وذكر أبو زيدٍ عنهم أن رجلاً منهم تزوج السِّعلاة، وأنها كانت عنده زماناً، وولدت مِنْه، حتَّى رأت ذات ليلةٍ بَرْقاً على بلاد السَّعالي، فطارَتْ إليهنّ، فقال:
رأى بَرْقاً فأوْضعَ فوقَ بَكْرٍ ... فلا بكِ ما أسال وما أَغامَا
فمن هذا النِّتاج المشترك، وهذا الخلْقِ المركَّب عندهم، بنو السِّعلاة، من بين عمرو بن يربوع، وبلقيسُ ملكة سبأ، وتأوَّلوا قول الشاعر:
لاهُمّ إنَّ جُرْهُماً عبادُكا ... النّاس طِرْفٌ وهُمُ تِلادُكا
فزَعموا أن أبا جُرهمٍ من الملائكة الذين كانوا إذا عصوا في السَّماء أُنزلوا إلى الأرض، كما قيل في هاروت وماروت، فجعلوا سُهيلاً عشّاراً مُسِخ نجماً، وجعلوا الزُّهرة امرأة بغيّاً مُسِخت نجماً، وكان اسمها أناهيد.
وتقول الهند في الكوكب الذي يسمّى عُطارِدَ شبيهاً بهذا.
المخدومون ويقول الناس: فلانٌ مخدوم يذهبون إلى أنّه إذا عَزَم على الشَّياطين والأرواح والعُمَّار أجابوه وأطاعوه، منهم عبد اللّه بن هلال الحميريّ، الذي كان يقال له صديق إبليس، ومنهم كرباش الهنديّ، وصالح المديبري.
شروط إجابة العامر للعزيمة وقد كان عبيد مُجّ يقول: إن العامِر حريصٌ على إجابة العزيمة، ولكنّ البدنَ إذا لم يصلُحْ أن يكون له هيكلاً لم يستطعْ دخوله، والحيلةُ في ذلك أن يتبخَّرَ باللبان الذّكر، ويراعي سَيْرَ المشتري، ويغتسلَ بالماء القراح، ويدعَ الجماعَ وأكلَ الزُّهُومات، ويتوحّش في الفيافي، ويُكثر دخول الخراباتِ، حتى يرقَّ ويلطف ويصفو ويصير فيه مشابِهُ من الجنّ، فإن عزم عند ذلك فلم يُجب فلا يعودنّ لمثلها فإنه ممَّن لا يصلح أن يكون بدنه هيكلاً لها، ومتى عاد خُبط فربما جُنّ، وربما مات.
قال: فلو كنت ممَّن يصلح أن يكون لهم هيكلاً لكنت فوق عبد اللّه بن هلال.
رؤية الجن
قال الأعراب: وربما نزلنا بجمعٍ كثير، ورأينا خياماً وقباباً،وناساً، ثم فقدناهم من ساعتنا.
والعوامّ ترى أنّ ابن مسعود، رضي اللّه عنه، رأى رجالاً من الزُّطِّ فقال: هؤلاء أشبه من رأيت بالجنّ ليلة الجنّ.
قال: وقد رُوي عنه خلاف ذلك.
وتأوّلوا قوله تعالى: " وأنَّه كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرجالٍ مِنَ الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهَقاً " ، ولم يُهلك الناس كالتأويل.
ومما يدلُّ على ما قُلنا قولُ أبي النّجم، حيث يقول:
بحيثُ تُستنُّ مع الجنّ الغُولُ
فأخرج الغول من الجِنّ، للذِي بانَتْ به من الجنّ.
وهكذا عادتهم: أن يُخرجوا الشيء من الجملة بعد أنْ دخَلَ ذلك الشيء في الجملة، فيظهر لأمر خاصّ.
وفي بعض الرِّواية أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من أجواف الأوثان همهمةٍ، وأن خالد بن الوليد حين هدم العُزَّى رمته بالشّرَر حتى احترق عامّةُ فخذه، حتى عادهُ النبيَ صلى الله عليه وسلم.
وهذه فتنةٌ لم يكن اللّه تعالى ليمتحنَ بها الأعراب وأشباه الأعراب من العوامّ، وما أشك أنه قد كانتْ للسَّدنة حِيَلٌ وألطاف لمكان التكسُّب.
ولو سمعت أو رأيت بعض ما قد أعدّ الهِنْدُ من هذه المخاريق في بيوت عباداتهم، لعلمت أنّ اللّه تعالى قد مَنَّ على جملة الناس بالمتكلِّمين، الذين قد نشؤوا فيهم.
افتتان بعض النصارى بمصابيح كنيسة قمامة
وقد تَعْرِف ما في عجايز النصارى وأغمارهم، من الافتنان بمصابيح كنيسة قمامة، فأما علماؤُهم وعقلاؤُهم فليسوا بمتحاشِين من الكذب الصِّرف، والجراءةِ على البُهتان البَحْت، وقد تعوَّدُوا المكابرة حتى درِبوا بها الدَّرب الذي لا يفطن له إلا ذو الفِراسة الثّابتة، والمعرفة الثّاقبة.
إيمان الأعراب بالهواتف
والأعرابُ وأشباهُ الأعراب لا يتحاشَون من الإيمان بالهاتف، بل يتعجَّبون ممن ردَّ ذلك، فمن ذلك حديث الأعشى بن نبّاش بن زرارة الأسدي، أنه سمع هاتفاً يقول:
لقد هَلَك الفيَّاضُ غيثُ بني فِهْرِ ... وذُو الباعِ والمجْدِ الرَّفيعِ وذو الفخرِ
قال: فقلتُ مجيباً له:
ألا أيُّها الناعي أخا الجود والنّدَى ... مَن المرْءُ تَنْعاهُ لنا من بين فِهْرِ
فقال:
نَعيْت ابن جدْعان بن عمروٍ أخا النَّدى ... وذا الحسب القُدْمُوس والحسب القهرِ
وهذا الباب كثير.
قالوا: ولنَقل الجنّ الأخبارَ علمَ الناس بوفاةِ الملوك، والأمور المهمة، كما تسامعُوا بموت المنصور بالبصرة في اليوم الذي تُوفي فيه بقرب مكة، وهذا الباب أيضاً كثير.
من له رَئيٌّ من الجن
وكانوا يقولون: إذا ألف الجنّي إنساناً وتعطَّف عليه، وخبّره ببعض الأخبار، وجد حِسّه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئَيٌّ من الجن، وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لُحيّ بن قَمَعة، والمأمور الحارثي، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، في ناسٍ معروفين من ذوي الأقدار، من بين فارس رئيس، وسيِّد مُطاع.
فأما الكهّان: فمثل حارثة جهينة، وكاهنة باهلة، وعُزّى سلمة، ومثل شِقّ، وسَطيح، وأشباههم، وأما العرّاف، وهو دون الكاهن، فمثل الأبلق الأسدي، والأجلح الزهري، وعروة ابن زيد الأسدي، وعرّاف اليمامة رباح بن كَحْلة، وهو صاحب بنت المستنير البلتعي، وقد قال الشاعر:
فقلت لعراف اليمامة داوِني ... فإنَّك إنّ أبْرَأتني لَطبِيبُ
وقال جُبَيهاء الأشجعيّ:
أقامَ هَوى صفيَّة في فؤادي ... وقد سيَّرتُ كلَّ هوى حبيبِ
لكِ الخيراتُ كَيْفَ مُنِحتِ وُدِّي ... وما أنا مِنْ هَواكِ بذي نَصيبِ
أقول وعروةُ الأسديُّ يرقي ... أتاك برُقْيةِ المَلِق الكذوبِ
لَعَمْرُك ما التّثاؤبُ يا ابن زيدٍ ... بشافٍ من رُقاك ولا مُجيبِ
لَسَيْرُ النّاعجات أظنُّ أشفى ... لما بي منْ طبيب بني الذَّهوبِ
وليس البابُ الذي يدّعيه هؤلاء من جنس العيافة والزّجر، والخطوط، والنّظر في أسرار الكفّ، وفي مواضع قرض الفار، وفي الخيلان في الجسد، وفي النظر في الأكتاف، والقضاء بالنجوم، والعلاج بالفكر.
وقد كان مُسيلمة يدّعي أن معه رئيّاً في أوّل زمانه، ولذلك قال الشّاعر، حين وَصَفَ مخاريقه وخُدَعه:
بِبَيْضةِ قارورٍ ورايةِ شادنٍ ... وخُلةِ جِنّيّ وتوصيلِ طائرِ
ألا تراه ذكر خُلّة الجني.
ظهور الشق للمسافرين
ويقولون: ومن الجنِّ جنسٌ صورةُ الواحدِ منهم على نصف صورة الإنسان، واسمه شٍقّ، وإنّه كثيراً ما يعرض للرّجُل المسافر إذا كان وحْدَه، فرَّبما أهلَكه فزعاً، وربما أهلَكه ضرباً وقتلاً.
قالوا: فمن ذلك حديثُ علقمة بن صفْوان بن أميَّة بن محرِّث الكناني، جدّ مروان بن الحكم، خرج في الجاهلية، وهو يريد مالاً له بمكة، وهو على حمار، وعليه إزارٌ ورداء، ومعه مِقْرعة، في ليلةٍ إضْحِيانة، حتى انتهى إلى موضعٍ يقال له حائط حزمان، فإذا هو بشقّ له يدٌ ورجل، وعينٌ، ومعه سيف، وهو يقول:
عَلْقمُ إني مقتولْ ... وإن لحمي مأكولْ
أضْربُهُمْ بالهذْلولْ ... ضربَ غلامٍ شُملولْ
رحبِ الذَّراع بُهلولْ
فقال علقمة:
يا شِقَّها مالي ولك ... اغمِدَ عنِّي مُنْصُلك
تَقْتُل مَنْ لا يقتلك
فقال شِقّ:
عَبيت لك عَبيتُ لك ... كيما أُتِيحَ مَقْتلك
فاصبر لما قَدْ حُمَّ لَكْ
قال: فضرب كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، فخرَّا ميِّتين، فممَّن قتلت الجنّ علقمةُ ابن صفوان هذا، وحَرْب بن أميّة.
قالوا: وقالت الجنّ:
وقَبْرُ حَرْبٍ بمكانٍ قفر ... وليس قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُِ
قالوا: ومن الدَّليل على ذلك، وعلى أنَّ هذين البيتين من أشعار الجن أن أحداً لا يستطيع أن ينشدَهما ثلاث مراتٍ متصلة، لا يَتتَعْتع فيها، وهو يستطيع أن يُنشد أثْقل شعر في الأرض وأشقَّه عشْر مرّات ولا يَتَعْتَعُ.
ذكر من قتلته الجنّ أو استهوته
قال: وقتلت مِرْداسَ بن أبي عامر، أبا عبّاس بن مرداسٍ، وقتلت الغريضَ خنْقاً بعد أن غنَّى بالغناء الذي كانوا نهَوه عنه، وقتلت الجنُّ سعد بن عُبادة بن دُلَيم، وسمعوا الهاتف يقول:
نحن قتَلْنا سيِّد الخزْز ... ج سَعْد بن عُباده
رَمَيْناه بِسَهمين ... فَلَمْ نُخْطِ فُؤادَهُ
واستهوَوا سِنانَ بن أبي حارثة ليستفحلوه، فمات فيهم، واستهووا طالب بن أبي طالب، فلم يوجد له أثرٌ إلى يومنا هذا.
واستهووا عَمرو بن عَدِيٍّ اللَّخميّ الملك، الذي يقال فيه: شَبّ عَمْرٌو عن الطّوق، ثمَّ ردُّوه على خاله جذيمة الأبرش، بعد سنين وسنين.
واستهوَوا عمارة بن الوليد بن المغيرة، ونفخوا في إحليله فصار مع الوحش.
ويروون عن عبد اللّه بن فائد بإسنادٍ له يرفعه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: خرافة رَجُل من عُذْرةَ استهوتْه الشّياطين، وأنّه تحدَّث يوماً بحديثٍ فقالت امرأةٌ من نسائه: هذا من حديث خُرافة قال: لا، وخُرافةُ حقٌّ.
طعام الجن
ورووا عن عُمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، أنّه سأل المفقود الذي استهوته الجن: ما كان طعامهم؟ قال: الفول، قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف.
ورووا أن طعامهم الرِّمة وما لم يذكر اسمُ اللّه عليه.
ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم - والحديث صحيح - أنه قال: خَمِّروا آنيتكم، وأوكئوا أسقيتكم وأجيفُوا الأبواب، وأطفئوا المصابيح، واكفُفُوا صِبيانكم، فإن للشّياطين انتشاراً وخَطْفة.
رؤوس الشياطين
وقد قال الناس في قوله تعالى: " إنّها شَجَرةٌ تَخْرُجُ في أصْلِ الجحيمِ، طلْعُها كأَنَّهُ رُؤُوس الشَّياطِين " ، فزعم ناس أنّ رؤوس الشياطين ثمر شجرةٍ تكون ببلاد اليمن، لها منظر كرِيه.
والمتكلّمون لا يعرفون هذا التَّفسير، وقالوا: ما عنى إلاّ رؤُوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم، من فَسَقة الجن ومَرَدتهم، فقال أهل الطَّعن والخلاف: كيف يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نرَه فنتوهَّمه، ولا وُصِفت لنا صورته في كتابٍ ناطق، أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدلُّ على التخويف بتلك الصُّورة، والتفزيع منها، وعلى أنّه لو كان شيءٌ أبلغَ في الزَّجر من ذلك لذكَرَه، فكيف يكون الشَّأن كذلك، والناس لا يفزعون إلاّ من شيء هائل شنيعٍ، قد عاينوه، أو صوّره لهم واصفٌ صدوقُ اللسان، بليغٌ في الوصف، ونحن لم نعاينها، ولا صوَّرها لنا صادق، وعلى أنَّ أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايشْ أهل الكتابين وحَمَلَة القرآن من المسلمين، ولم تسمع الاختلاف لا يتوهَّمون ذلك، ولا يقفون عليه، ولا يفزعون منه، فكيف يكون ذلك وعيداً عاماً؟.
قلنا: وإن كنّا نحن لم نر شيطاناً قطّ ولا صوّر رؤوسها لنا صادقٌ بيده، ففي إجماعهم على ضرْب المثل بقُبح الشيطان، حتَّى صاروا يضعُون ذلك في مكانين: أحدهما أن يقولوا: لهو أقبح من الشيطان، والوجه الآخر أن يسمَّى الجميلُ شيطاناً، على جهة التطيُّر له، كما تُسمَّى الفرسُ الكريمةُ شَوهاء، والمرأة الجميلة صَمّاء، وقرناء، وخَنْساء، وجرباء وأشباه ذلك، على جهة التطيُّر له، ففي إجماع المسلمين والعرب وكلِّ من لقيناهُ على ضرْب المثل بقُبْح الشيطان، دليلُ على أنه في الحقيقة أقبحُ من كل قبيح.
والكتابُ إنَّما نزل على هؤلاء الذين قد ثبّت في طبائعهم بغاية التثبيت.
وكما يقولون: لهو أقبحُ من السحر، فكذلك يقولون، كما قال عمر بن عبد العزيز لبعض من أحسنَ الكلام في طلب حاجته - هذا واللّه السِّحر الحلال.
وكذلك أيضاً ربّما قالوا: ما فلانٌ إلا شيطان على معنى الشَّهامة والنَّفاذ وأشباه ذلك.
صفة الغول والشيطان والعامّة تزعم أنَّ الغول تتصوَّر في أحسن صورة إلا أنه لا بدَّ أن تكون رِجْلُها رجلَ حمارٍ.
وخبَّروا عن الخليل بن أحمد، أنّ أعرابيّاً أنشده:
وحافر العَير في ساقٍ خَدَلَّجةٍ ... وجفنِ عينٍ خلاف الإنسِ في الطولِ
وذكروا أنّ العامَّة تزعم أنّ شقَّ عين الشيطان بالطول، وما أظنُّهم أخذوا هذين المعنين إلاّ عن الأعراب.
ردّ على أهل الطعن في الكتاب وأما إخبارهم عن هذه الأمم، وعن جهلها بهذا الإجماع والاتِّفاق والإطباق، فما القول في ذلك إلاّ كالقول في الزَّبانِية وخزنةِ جهنَّم، وصُورِ الملائكة الذين يتصوّرون في أقبح الصُّور إذا حضروا لقبْض أرواحِ الكفار، وكذلك في صور مُنكر ونكير، تكون للمؤمن على مثال، وللكافر على مثال.
ونحن نعلم أنّ الكفار يزعمون أنهم لا يتوهّمون الكلامَ والمحاجَّةَ من إنسان ألقي في جاحِم أتُّون فكيف بأن يُلَقى في نار جهنّم؟ فالحجّة على جميع هؤلاء، في جميع هذه الأبواب، من جهةٍ واحدة، وهذا الجوابُ قريبٌ، والحمد للّه.
وشقُّ فم العنكبوت بالطول، وله ثماني أرجل.
سكنى الجن أرض وبارِ
وتزعم الأعرابُ أن اللّه عزّ ذكره حين أهلك الأُمة التي كانت تسمَّى وبارِ، كما أهلك طسْماً، وجَدِيساً، وأميماً، وجاسماً، وعملاقاً، وثموداً وعاداً - أنَّ الجنّ سكنت في منازلها وحمتها من كلِّ مَنْ أرادها، وأنّها أخصبُ بلاد اللّه، وأكثرها شجراً، وأطيبُها ثمراً، وأكثرها حبّاً وعنباً، وأكثرها نخلاً وموزاً، فإن دنا اليومَ إنسانٌ من تلك البلاد، متعمِّداً، أو غالطاً، حَثوا في وجهه التراب، فإن أبى الرُّجوعَ خبلوه، وربّما قَتلوه.
والموضع نفسه باطل، فإذا قيل لهم: دُلُّونا على جهته، ووقِّفونا على حدِّه وخلاكُم ذمٌّ - زعموا أنّ من أراد أُلقي على قلبه الصَّرْفة، حتَّى كأنهم أصحابُ موسى في التِّيه، وقال الشاعر:
وداعٍ دعا واللَّيلُ مرخٍ سُدوله ... رجاءَ القِرى يا مُسْلِمَ بن حمارِ
دعا جُعَلاً لا يهتدِي لمقيله ... من اللؤم حتّى يهْتدي لوَبَارِ
فهذا الشاعرُ الأعرابيُّ جعل أرض وبارِ مثلاً في الضلال، والأعراب يتحدّثون عنها كما يتحدّثون عمّا يجدونه بالدَّوِّ والصَّمّان، والدهناء، ورمل يبرين، وما أكثر ما يذكرون أرض وبارِ في الشِّعر، على معنى هذا الشاعر.
قالوا: فليس اليومَ في تلك البلاد إلاَّ الجنُّ، والإبلُ الحُوشيَّة.
الحوشية من الإبل والحوشُ من الإبل عندهم هي التي ضربتْ فيها فحولُ إبل الجن، فالحوشِيَّة من نَسْل إبل الجن، والعِيديَّة، والمَهْرية، والعَسْجديّة، والعُمانية، قد ضربت فيها الحوش، وقال رُؤبة:
جَرَّت رَحانا من بلاد الحوشِ
وقال ابن هريم:
كأنّي على حُوشيَّةٍ أو نَعامةٍ ... لها نَسبٌ في الطَّيرِ وهو ظليمُ
وإنما سمَّوا صاحبة يزيد بن الطَّثرية حُوشيّة على هذا المعنى.
التحصُّن من الجنّ
وقال بعضُ أصحاب التفسير في قوله تعالى: " وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ من الإنسِ يَعُوذونَ بِرِجالٍ من الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهقاً " : إنَّ جماعة من العرب كانوا إذا صاروا في تيه من الأرض، وتوسَّطوا بلاد الحُوش، خافوا عبث الجنَّانِ والسَّعالي والغيلان والشياطين، فيقوم أحدهم فيرفع صوته: إنا عائذرن بسيِّد هذا الوادي فلا يؤذيهم أحدٌ، وتصير لهم بذلك خفارة.
أثر عشق الجن في الصرع
وهم يزعمون أن المجنون إذا صرعَتْه الجنّيّةُ، وأنّ المجنونةَ إذا صرعها الجنيّ - أنّ ذلك إنما هو على طريق العشْق والهوى، وشهوة النِّكاح، وأن الشيطان يعشق المرأة منّا، وأنَّ نظْرته إليها من طريق العُجب بها أشدُّ عليها من حُمّى أيام، وأنّ عين الجانّ أشدُّ من عين الإنسان.
قال: وسمع عمرو بن عُبيد، رضي اللّه عنه، ناساً من المتكلّمين يُنْكِرون صَرْع الإنسان للإنسان، واستهواء الجنّ للإنس، فقال وما ينكرون من ذلك وقد سمعوا قول اللّه عزّ ذكره في أكَلة الرِّبا، وما يصيبهم يوم القيامة، حيث قال: " الَّذينَ يأْكُلُونَ الرِّبا لا يقومُون إلاّ كما يَقُومُ الَّذي يَتَخبَّطهُ الشَّيْطانُ منَ المَسِّ " ، ولو كان الشَّيطانُ لم يَخْبِطْ أحداً لما ذكر اللّه تعالى به أكلة الرّبا، فقيل له: ولعلّ ذلك كان مرّةً فذهب، قال: ولعله قد كثر فازداد أضعافاً، قال: وما يُنكرون من الاستهواء بعد قوله تعالى: " كالَّذي استهْوَتْهُ الشّياطينُ في الأرض حَيْرانَ " .
الطاعون طعن من الشيطان
زعم العرب أن الطاعون طعن من الشيطان قال: والعرب تزعم أن الطاعون طعنٌ من الشيطان، ويسمُّون الطَّاعون رماح الجنّ، قال الأسديُّ للحارث الملك الغسّاني:
لَعَمْركَ ما خَشيتُ على أُبيٍّ ... رِماحَ بني مُقيِّدة الحمارِ
ولكني خَشيت على أُبيٍّ ... رِماحِ الجنِّ أو إياكَ حارِ
يقول: لم أكن أخاف على أُبيّ مع منعته وصرامته، أن يقتله الأنذال، ومن يرتبط العير دونَ الفَرس، ولكني إنما كنت أخافك عليه، فتكونُ أنت الذي تطعَنه أو يطعَنه طاعونُ الشّام.
وقال العُمانيّ يذكر دولة بني العبّاس:
قد دَفع اللّه رِماح الجن ... وأذهب العذابَ والتَّجنِّي
وقال زيد بن جُندب الإياديّ:
ولولا رِماحُ الجنِّ ما كان هزهم ... رِماح الأعادي من فصيح وأعجم
ذهب إلى قول أبي دؤاد:
سُلِّط الموتُ والمنونُ عليهم ... فلهم في صَدى المقابر هامُ
يعني الطاعون الذي كان أصاب إياداً.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه ذكر الطَّاعون فقال: " هو وَخْزٌ من عَدُوِّكم " : وأنَّ عَمْرو بن العاص قام في النّاس في طاعون عَمَواس فقال: إنّ هذا الطاعون قد ظهر، وإنما هو وخْزٌ من الشَّيطان، ففِرُّوا منه في هذه الشِّعاب.
وبلغ مُعاذ بن جبَلٍ، فأنكر ذلك القول عليه.
تصور الجنّ والغيلان والملائكة والناس
وتزعم العامَّة أنّ اللّه تعالى قد مَلّك الجن والشياطين والعُمَّار والغيلانَ أنْ يتحوّلوا في أيِّ صورة شاؤوا، إلاّ الغول، فإنّها تتحوَّل في جميع صُورة المرأة ولباسها، إلاّ رجليها، فلا بُدَّ من أن تكون رجليْ حمار.
وإنما قاسُوا تصوُّر الجن على تصوُّر جبريل عليه السلام في صورة دَحْية بن خليفة الكلبي، وعلى تصوُّر الملائكة الذين أتوا مريم، وإبراهيم، ولوطاً، وداود عليهم السلام في صورة الآدميِّين، وعلى ما جاء في الأثر من تصوُّر إبليس في صورة سُراقة بن مالك بن جعْشم، وعلى تصوّره في صورة الشيخ النجدي، وقاسوه على تصوُّر مَلَكَ الموت إذا حضر لقبض أرواح بني آدم، فإنه عند ذلك يتصوّر على قدر الأعمال الصالحة والطالحة.
قالوا: وقد جاء في الخبر أنّ من الملائكة من هو في صورة الرِّجال، ومنهم من هو في صورة الثِّيران، ومنهم من هو في صورة النسور، ويدلُّ على ذلك تصديقُ النبي صلى الله عليه وسلم لأميّة بن أبي الصّلت، حين أُنشِد:
رَجُلٌ وثَوْرٌ تحت رِجْلِ يمينه ... والنَّسْر للأُخرى ولَيْثٌ مُرْصدُ
قالوا: فإذ قد استقام أن تختلف صُورهم وأخلاط أبدانهم، وتتفق عقولهم وبيانهم واستطاعتهم، جاز أيضاً أن يكون إبليس والشّيطان والغول أن يتبدلوا في الصُّور من غير أنْ يتبدلوا في العقل والبيان والاستطاعة.
قالو: وقد حوَّل اللّه تعالى جعفر بن أبي طالب طائراً، حتى سماه المسلمون الطّيّار، ولم يخرجْه ذلك من أن نراه غداً في الجنة، وله مثلُ عقل أخيه علي رضي اللّه عنهما، ومثل عقل عمه حمزة رضي اللّه تعالى عنه، مع المساواة بالبيان والخلق.
أحاديث في إثبات الشيطان
قالوا: وقد جاء في الأثر النهي عن الصّلاة في أعطان الإبل، لأنّها خلقت من أعنان الشياطين.
وجاء أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهى عن الصَّلاة عند طلوع الشَّمس حتى طلوعها، فإنّها بين قرني شيطان.
وجاء أنَّ الشياطين تُغلّ في رمضان.
فكيف تنكر ذلك مع قوله تعالى في القرآن: " والشَّياطينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاص، وآخَرينَ مُقَرَّنينَ في الأصفادِ " .
ولشهرة ذلك في العرب، في بقايا ما ثبتوا عليه من دين إبراهيم عليه السّلام، قال النابغة الذبياني:
إلا سُلَيمانَ إذْ قال الإلهُ لَهُ ... قُم في البَرِيَّةِ فاحْددْها عن الفَنَد
وخيِّس الجِنَّ إنِّي قدْ أذِنتُ لَهُمْ ... يَبْنُون تَدْمُر بالصُّفَّاح والعمدِ
فمنْ عصاك فعاقِبْهُ مُعاقبةً ... تنهى الظّلوم ولا تقْعد على ضمدِ
وجاء في قتل الأسود البهيم من الكلاب، وفي ذي النُّكْتتين، وفي الحية ذات الطُّفْيتين، وفي الجانّ.
وجاء: لا تشربوا من ثُلمة الإناء، فإنَّه كِفْل الشَّيطان، وفي العاقد شَعره في الصلاة: إنَّه كِفْل الشيطان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تراصُّوا بينكم في الصلاة، لا تتخللكم الشّياطين كأنّها بنات حذف، وأنَّه نهى عن ذبائح الجن.
ورووا: أن امرأة أتتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ ابني هذا، به جنونٌ يصيبه عند الغداء والعَشَاء قال: فمسح النبيُّ صلى الله عليه وسلم صدْرَه، فثعَّ ثعة فخرج من جوفه جروٌ أسود يسعى.
قالوا: وقد قضى ابن عُلاثة القاضي بين الجنّ، في دم كان بينهم بحكمٍ أقنعهم.
رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهّراني: أما قوله:
وتزوّجْتُ في الشبيبة غولاً ... بغزال وصَدْقتي زِقُّ خمرِ
فزعم أنه جعل صداقها غزالاً وزِقَّ خمر، فالخمر لطيب الرائحة، والغزالُ لتجعله مَرْكباً، فإنّ الظَّباء من مراكب الجن.
وأما قوله:
ثيِّبٌ إن هَوِيتُ ذلك منها ... ومتى شئتُ لم أجِدْ غير بِكرِ
كأنه قال: هي تتصوَّر في أيِّ صورةٍ شاءتْ.
شياطين الشعراء
وأما قوله:
بنت عَمْرٍو وخالها مِسحل الخي ... ر وخالي هُميمُ صاحب عَمْرِو
فإنهم يزعمون أنّ مع كلِّ فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحلُ على لسانه الشعر، فزعم البهراني أنّ هذه الجنّية بنت عمرو صاحب المخبَّل، وأن خالها مِسْحل شيطان الأعشى، وذكر أن خاله هُمَيم، وهو همّام، وهمّام هو الفرزدق، وكان غالبُ بن صعصعة إذا دعا الفرزدق قال: يا هميم.
وأما قوله: صاحب عمرو فكذلك أيضاً يقال إن اسم شيطان الفرزدق عمرو، وقد ذكر الأعشى مِسْحلاً حين هجاه جُهُنَّام فقال:
دَعَوْتُ خليلي مِسْحلاً ودعَوا له ... جُهُنّامَ جَدْعاً للهجين المذَمَّمِ
وذكره الأعشى فقال:
حباني أخي الجنِّيُّ نفسي فداؤُه ... بأفْيَحَ جَيَّاشِ العَشيّات مِرْجمِ
وقال أعشى سُليم:
وما كان جِنّيُّ الفرزدقِ قدوةً ... وما كان فيهم مِثْلُ فَحْلِ المخبَّلِ
وما في الخوافي مثل عَمْرو وشيخِهِ ... ولا بعدَ عمرو شاعرٌ مثلٌ مِسْحلِ
وقال الفرزدق، في مديح أسد بن عبد اللّه:
ليُبلغَنّ أبا الأشبال مِدْحتنا ... مَنْ كان بالغُورِ أو مَرْوَيْ خُراسانا
كأنّها الذَّهب العقْيانُ حبّرها ... لسانُ أشْعر خلْقِ اللّه شيطانا
وقال:
فلو كنْتَ عنْدي يوم قوٍّ عذرْتني ... بيوم دهتْني جِنُّهُ وأخابلُه
فمن أجل هذا البيت، ومن أجل قول الآخر:
إذا ما راعَ جارَتهُ فلاقى ... خبالَ اللّه منْ إنس وجِنِّ
زعموا أنّ الخابل النّاس.
ولما قال بشّار الأعمى:
دعاني شِنِقْناقٌ إلى خَلْفِ بكرةٍ ... فقلتُ: اتركنِّي فالتفرُّدُ أحمدُ
يقول: أحمدُ في الشعر أن لا يكون لي عليه معين - فقال أعشى سُليم يردُّ عليه:
إذا ألِفَ الجنّيُّ قِرداً مُشَنّفاً ... فقل لخنازير الجزيرةِ أبْشري
فجزِع بشّارٌ من ذلك جزعاً شديداً، لأنّه كان يعلم مع تغزُّله أنَّ وجهه وجْهُ قردٍ، وكان أوّل ما عُرف من جزعه من ذكر القِرد، الذي رأوا منه حين أنشدوه بيت حمّاد:
ويا أقبحَ مِن قِرْدٍ ... إذا ما عَمِيَ القِرْدُ
وأما قوله:
ولها خِطَّةٌ بأرض وبار ... مسَحُوها فكان لي نصْفُ شطرِ
فإنما ادّعى الرُّبع من ميراثها، لأنه قال:
تركتْ عَبْدلاً ثمالَ اليتامى ... وأخوه مزاحم كان بكر
وَضَعَتْ تِسْعةً وكانتْ نَزوراً ... من نِساءٍ في أهْلِها غير نُزْرِ
وفي أنَّ مع كلِّ شاعر شيطاناً يقول معه، قول أبي النجم:
إني وكلّ شاعر من البَشرْ ... شيطانه أنْثى وشَيطاني ذكر
وقال آخر:
إني وإن كنتُ صغير السِّنّ ... وكان في العين نُبُوٌّ عنِّي
فإنّ شيطاني كبير الجنِّ
كلاب الجن
وأما قول عمرو بن كلثوم:
وقد هَرَّتْ كلابُ الجِنِّ منا ... وشَذَّبْنَا قتادةَ من يلينا
فإنهم يزعمون أنّ كلاب الجنِّ هم الشعراء.
أرض الجن
وأما قوله:
أرض حُوشٍ وجاملٍ عَكَنَانٍ ... وعُروجٍ من المؤبّلِ دَثْر
فأرض الحوش هي أرضُ وَبارِ، وقد فسَّرنا تأويل الحوش، والعَكَنَان: الكثير الذي لايكون فوقه عدد، قوله: عروج جمع عَرْج، والعَرْج: ألف من الإبل نقص شَيئاً أوْ زاد شيئاً، والمؤبّل من الإبل، يقال إبل مؤبَّلة، ودراهم مُدَرهمة، وبدَر مبدَّرة، مثل قوله تعالى: " وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَة " وأما قوله: " دثر " فإنهم يقولون: مال دَثر، ومالٌ دَبْر، ومال حَوْم: إذا كان كثيراً.
استراق السمع
وأما قوله:
ونَفَوْا عَنْ حريمها كلَّ عِفْر ... يسرقُ السَّمعَ كلَّ ليلةِ بَدْرِ
فالعِفْر هو العفريت، وجعله لا يسرق السمع إلا جهاراً في أضوإ ما يكون البدر، من شدَّة معاندته، وفرط قوته.
الشنقناق والشيصبان وأما قوله:
في فُتُوٍّ من الشَّنقناق غُرٍّ ... ونِساء من الزَّوابعِ زُهْرِ
الزوابع: بنو زَوْبعة الجنِّيّ، وهم أصحاب الرَّهج والقَتَام والتَّثوير وَقال راجزهم:
إنّ الشياطين أَتوْني أربعهْ ... في غَبَش الليل وفيهم زَوبعه
فأما شِنِقناق وشَيْصَبان، فقد ذكرهما أبو النجم:
لابن شنقْناق وشَيْصَبَانِ
فهذان رئيسان ومن آباء القبائل، وقد قال شاعرهم:
إذا ما ترَعْرَعَ فينا الغلامُ ... فليس يقال له من هُوَهْ
إذا لم يَسُدْ قبل شدِّ الإزار ... فذلك فينا الذي لا هُوَهْ
ولي صاحبٌ من بني الشَّيصبا ... ن فطوراً أقولُ وطوراً هُوَهْ
وهذا البيت أيضاً يصلح أن يلحق في الدَّليل على أنهم يقولون: إن مع كلِّ شاعر شيطاناً، ومن ذلك قولُ بشَّار الأعمى:
دَعاني شِنِقْناقٌ إلى خَلْف بَكرَةٍ ... فقلت: اترُكَنِّي فالتَّفَرُّدُ أحَمدُ
شياطين الشام والهند
قال: وأصحاب الرُّقى والأُخذ والعزائم، والسِّحر، والشَّعبذة، يزعمون أنّ العدد والقوّة في الجنِّ والشياطين لنازلة الشام والهند، وأنَّ عظيم شياطين الهند يقال له: تنكوير، وعظيم شياطين الشام يقال له: دركاذاب.
وقد ذكرهما أبو إسحاق في هجائه محمد بن يَسِير، حين ادّعى هذه الصناعة فقال:
قد لعمْرى جمعت مِلْ آصفيّا ... تِ ومن سفْر آدم والجرابِ
وتفردتَ بالطوالق والهي ... كل والرهنباتِ من كلِّ بابِ
وعلمتَ الأسماء كيما تُلاقى ... زُحلاً والمريخَ فوق السحابِ
واستثرتَ الأرواح بالبحْر يأت ... ينَ لصرعِ الصحيح بعدَ المصابِ
جامعاً من لطائف الدنهشيَّا ... تِ كبوسا نمقتها في كتابِ
ثمَّ أحكمت متقن الكرويا ... ت وفعل الناريس والنجابِ
ثمَّ لم تعْيك الشعابيذ والخد ... مةُ والاحتفاء بالطلابِ
بالخواتيم والمناديل والسع ... يِ بتنكوير ودركاذابِ
قتل الغول بضربة واحدة وأما قوله:
ضربَتْ فَردةً فصارت هَباءً ... في مُحاقِ القُمير آخر شَهْرِ
فإنّ الأعرابَ والعامّة تزعُم أن الغول إذا ضربت ضَربةً ماتت، إلاّ أن يُعيد عليها الضّارب قبل أن تقْضي ضربة أخرى، فإنّه إن فعل ذلك لم تمُتْ، وقال شاعرهم:
فَثنّيتُ والمِقدارُ يحرُسُ أهلَهُ ... فَلَيْتَ يميني قبل ذلك شلّتِ
وأنشد لأبي البلاد الطُّهَويّ:
لهَانَ علَى جهينةً ما أُلاقي ... من الروعاتِ يومَ رحَى بطانِ
لقيتُ الغول تسرِى في ظلامٍ ... بسهبٍ كالعباية صحصحانِ
فقلتُ لها كلانا نقض أرضٍ ... أخُو سفَر فصدِّى عن مَكانى
فصدتْ وانتحيتُ لها بعضبٍ ... حسامٍ غيرِ مؤتشبٍ يمانى
فقدّ سَراتها والبرك منها ... فخرتْ لليدين وللجران
فقالت زدْ فقلتُ رويدَ إنِّى ... على أمثالها ثبتُ الجنانِ
شددتُ عقالها وحططت عنها ... لأنظرَ غدوةً ماذا دهانى
إذا عينان في وجهٍ قبيحٍ ... كوجْه الهرِّ مشقوق اللسانِ
ورجلا مخدجٍ ولسانُ كلبٍ ... وجلدٌمن فراءِ أو سنانِ
وأبو البلاد هذا الطهوي كان من شياطين الأعراب، وهو كما ترى يكذِب وهو يَعلَم، ويُطيل الكذِب ويُحَبِّرُه، وقد قال كما ترى:
فقالت زِدْ فقلتُ رُوَيْد إنّي ... على أمثالها ثَبْتُ الجَنانِ
لأنّهم هكذا يقولون، يزعمون أنّ الغول تستزيد بعد الضَّرْبة الأولى لأنّها تموت من ضربةٍ، وتعيشُ من ألْف ضرْبة.
مناكحة الجنِّ ومحالفتهم
وأمّا قوله:
غلبتني على النَّجابة عرسي ... بعد أنْ طالَ في النجابة ذكري
وأرى فِيهِمُ شمائِل إنسٍ ... غيرَ أنّ النّجارَ صُورةُ عِفرِ
فإنَّه يقول: لما تركّب الولدُ منّي ومنها كان شبهُها فيه أكثر.
وقال عبيد بن أيُّوب:
أخو قَفراتٍ حَالَفَ الجِنَّ وانتفى ... مِنَ الإنْس حتّى قد تَقَضّتْ وسائلُهْ
له نَسَبُ الإنسيّ يُعرَفُ نَجْلُه ... وللجِنِّ منه خَلْقه وشمائلُه
وقال:
وصارَ خليلَ الغُول بَعدَ عداوةٍ ... صَفِيّاً وربَّتْه القِفَارُ البسابسُ
فَليس بِجِنّيٍّ فيُعْرَفَ نَجْله ... ولا أَنَسِيٍّ تحتويه المجالِسُ
يظلُّ ولا يبدوُ لشيءٍ نهارَه ... ولكنّه ينْباعُ واللّيْلُ دامِس
قال: وقال القَعقاع بنُ مَعْبَد بن زُرارة، في ابنه عوف بن القعقاع: واللّه لما أرى من شمائل الجنّ في عوف أكثر ممّا أرَى فيه من شمائل الإنس.
وقال مَسلمة بن محارب: حدّثني رجلٌ من أصحابنا قال: خرجنا في سَفرٍ ومعنا رجُلٌ، فانتهينا إلى واد، فدعَوْنا بالغَدَاء، فمدّ رجلٌ يدَه إلى الطعام، فلم يقدر عليه - وهو قبْلَ ذلك يأكلُ معَنا في كلِّ منزل - فاشتدّ اغتمامنا لذلك، فخرجنا نسأل عن حاله، فتلقَّانَا أعرابيٌّ فقال: ما لكم؟ فأخبرناه خبَر الرَّجُل، فقال: ما اسم صاحبكم؟ قلنا: أسد قال: هذا وادٍ قد أخِذَتْ سباعه فارحلوا، فلو قد جاوزتم الواديَ استمرَى الرَّجُل وأكَل.
مراكب الجن
وأمَّا قوله:
وبها كنتُ راكباً حشراتٍ ... مُلجِماً قُنفُذاً ومُسْرجَ وَبْر
وأجوبُ البلادَ تحتيَ ظبيٌ ... ضاحكٌ سنُّه كثيرُ التمرِّي
مُولجٌ دُبْرَهُ خَوَايَة مَكْوٍ ... وهو باللّيل في العفاريت يَسري
فقد أخبرْنا في صدر هذا الكتاب بقول الأعراب في مطايا الجن من الحشرات والوحش.
وأنشد ابنُ الأعرابي لبعض الأعراب:
كلَّ المطايا قد ركبنا فلم نجد ... ألَذَّ وأشهى مِنْ مذاكي الثَّعالبِ
وَمِنْ عنظوان صعبةٍ شمّرية ... تَخُبُّ برجْليها أمام الرَّكائبِ
ومنْ جُرَذٍ سُرْح اليدين مفرَّج ... يعوم برَحْلي بين أيدِي المراكب
ومنْ فارةٍ تزداد عِتْقاً وحدّةً ... تبرِّح بالخوصِ العِتاقِ النَّجَائبِ
ومنْ كلِّ فتْلاء الذِّراعَينِ حُرَّة ... مدَرَّبة من عافيات الأرانبِ
ومنْ وَرَل يغتالُ فضْلَ زِمامِهِ ... أضَرَّ به طول السُّرى في السَّباسِبِ
قال ابنُ الأعرابي: فقلت له: أترى الجن كانت تركبُها، فقال: أحلِفُ باللّه لقد كنتُ أجد بالظِّباء التَّوقيعَ في ظهورها؟ والسِّمة في الآذان، وأنشد:
كلّ المطايا قد ركبنا فلم نجدْ ... ألذَّ وأشْهَى من رُكوب الجَنادِبِ
ومنْ عَضْرفوط حطَّ بي فأقمتهُ ... يبادِرُ وِرداً من عظاءٍ قواربِ
وشرُّ مطايا الجنِّ أرْنبُ خُلّةٍ ... وذئبُ الغضا أوقٌ على كلِّ صاحبِ
ولم أر فيها مِثْلَ قُنفُذ بُرْقةٍ ... يَقُودَ قطاراً منْ عظام العناكبِ
وقد فسَّرنا قولهم في الأرانب، لم لا تركب، وفي أرنب الخَلّة، وقنفذ البُرْقة.
وحدثني أبو نُواس قال: بكرتُ إلى المِربَد، ومعي ألواحي أطلبُ أعرابيّاً فصيحاً، فإذا في ظلِّ دار جعفر أعرابيٌّ لم أسمع بشيطان أقبَحَ منه وجهاً، ولا بإنسان أحسنَ منه عقلاً، وذلك في يومٍ لم أر كبرده برداً، فقلتُ له: هلاَّ قعدت في الشمس فقال: الخَلْوة أحبُّ إليّ فقلت له مازحاً: أرأيت القنفذَ إذا امتطاه الْجِنيُّ وعلا به في الهواء، هل القنفذ يحمل الجنِّيّ أم الجنّيّ يحمل القنفذ؟ قال: هذا من أكاذيب الأعراب، وقد قلت في ذلك شعراً، قلت فأنشِدْنيه، فأنشَدَني بعد أن كان قال لي: قلت هذا الشعر وقد رأيت ليلة قنفذاً ويربوعاً يلتمسان بعض الرِّزق:
فما يُعجبُ الجنَّانَ منك عَدِمتَهم ... وفي الأُسْد أفراسٌ لهم ونجائبُ
أتُسرِج يربوعً وتُلجِم قُنفذاً ... لقَدْ أعوزَتهُمْ ما علمْتَ المراكِبُ
فإن كانت الجنّانُ جُنّت فبالحَرى ... ولا ذَنْبَ للأقدار واللّه غالبُ
وما الناس إلا خادعٌ ومخدَّعٌ ... وصاحبُ إسْهَابٍ وآخر كاذب
قال: فقلت له: قد كان ينبغي أن يكون البيت الثالث والرابع بيت آخر، قال: كانت واللّه أربعين بيتاً، ولكنَّ الحطمة واللّه حَطمتها، قال: فقلت: فَهلْ قلت في هذا الباب غير هذا؟ قال: نعم، شيءٌُ قلتُهُ لزوجتي، وهو واللّه عندها أصدقُ شيءٍ قلتُه لها:
أراه سَميعاً للسِّرارِ كقنفذٍ ... لقد ضاع سِرُّ اللّه يا أمَّ مَعْبدِ
قال: فلم أصبر أن ضحِكْتُ، فغضب وذهب.
شعر فيه ذكر الغول
ويكتب مع شعر أبي البلاد الطُّهوي:
فمن لامَني فيها فَوَاجَه مِثلَها ... على غِرَّةٍ ألقَت عطافاً ومئزرا
لها ساعِدَا غُولٍ ورجلا نعامةٍ ... ورأسٌ كمسْحاة اليهُوديِّ أزعَرَا
وبَطْنٌ كأثناء المزادةِ رَفّعتْ ... جوانبُه أعكانَه وتَكَسَّرا
وثدْيان كالخُرْجين نيطت عُرَاهُما ... إلى جُؤجُؤٍ جاني الترائب أزْوَرَا
قال: كان أبو شيطان، واسمه إسحاق بن رَزِين، أحد بني السِّمط سِمْط جعدة ابن كعب، فأتاهم أميرٌ فجعل ينْكُب عليهم جَوراً، وجعل آخر من أهل بلده ينقب عليهم: أي يكون عليهم نقيباً. فجعل يقول:
يا ذا الذي نَكَبَنَا ونَقَبَا ... زَوّجَهُ الرَّحمن غُولاً عقْرَبا
جمّع فيها ماله ولبْلَبا ... لبالب التّيس إذا تَهَبْهبَا
حتَّى إذا ما استطربَتْ واستطرَبَا ... عاينَ أشنا خَلقِ ربّيزرْنبَا
ذات نواتين وسَلعٍ أُسْقِبَا
يعني فرجها ونوَاتها، يقول، لم تُخْتَن.
جنون الجن وصرعهم
وأما قوله:
فإنْ كانت الجِنّان جُنّتْ فبالَحرى
فإنهم قد يقولون في مثل هذا، وقد قال دَعْلجُ بن الحكم:
وكيف يفِيق الدهرَ كعبُ بنُ ناشبٍ ... وشيطانه عِندَ الأهلَّة يُصْرَعُ
شعر فيه ذكر الجنون وأنشدني عبد الرحمن بن منصور الأُسَيْديِّ قبل أن يُجَنَّ:
جُنونكَ مجنونٌْ ولستَ بواجِدٍ ... طَبيباً يُداوِي منْ جُنونِ جُنونِ
وأنشدني يومئذ:
أتَوني بمجْنون يَسِيلُ لُعابُهُ ... وما صاحبي إلا الصَّحيحُ المسَلَّمُ
وفيما يشبه الأولَ يقولُ ابن ميَّادة:
فلما أتاني ما تقُولُ محاربٌ ... تَغَنَّتْ شياطيني وجُنَّ جُنونُها
وحاكتْ لها ممّا أقول قصائداً ... ترامَتْ بها صُهْبُ المَهارِي وجُونُها
وقال في التَّمثيل:
إنّ شَرخَ الشّبابِ والشّعرَ الأَس ... ودَ ما لم يُعاصَ كان جُنونا
وقال الآخر:
قالت عَهِدْتُك مجنوناً فقلتُ لها ... إنّ الشّبابَ جُنُونٌ بُرؤُه الكِبَرُ
وما أحسنَ ما قال الشّاعر حيث يقول:
فدقّت وجلّت واسبكرّت وأكمِلت ... فلو جُنَّ إنسانٌ من الحُسْنِ جُنَّتِ
وما أحسن ما قال الآخر:
حمراء تامِكةُ السَّنام كأنّها ... جَملٌ بهودج أهلِهِ مظعونُ
جادَتْ بها عند الغداةِ يمين ... كلتا يَدَي عَمْرِو الغَداة يمينُ
ما إن يجودُ بمثلها في مثلها ... إلاّ كريمُ الخِيمِ أو مَجنونُ
وقال الجميح:
لو أنّني لم أنَلْ مِنكم مُعاقبةً ... إلاّ السِّنَانَ لذاقَ الموتَ مظعونُ
أُوْ لاختطبتُ فإني قد هَمْمتُ به ... بالسَّيفِ إنّ خطِيبَ السَّيف مجنونُ
وأنشد:
هُمُ أَحْمَوا حِمى الوَقَبى بضرْبٍ ... يؤلّفُ بَيْنَ أشتاتِ المنُون
فنَكَّبَ عنهم دَرءَ الأعادي ... ودَاوَوْا بالجُنون من الجُنونِ
وأنشدني جعفر بن سعيد:
إنَّ الجنونَ سِهامٌ بين أربعةٍ ... الرِّيحُ والبحْرُ والإنسانِ والجَملُِ
وأنشدني أيضاً:
احْذَر مغايظَ أقوامٍ ذوي حَسَبٍ ... إنّ المغيظ جَهُولُ السَّيفِ مجنونُ
وأنشدني أبو تمام الطائي:
منْ كلِّ أصلَعَ قد مالَت عمامتُه ... كأَنّه من حِذار الضَّيمِ مجنونُ
وقال القطاميّ:
يَتْبَعْنَ سَامِيةَ العَينين تَحْسَبُها ... مجنُونةً أو تُرَى ما لا تُرَى الإبلُ
وقال في المعني الأوَّل الزَّفَيانُ العُوافيّ:
أنا العُوافيُّ فمنْ عاداني ... أذقتُه بوادِرَ الهوان
حتّى تَرَاهُ مُطرِقَ الشّيطانِ
وقال مروانُ بن محمد:
وإذا تجنّنَ شاعرٌ أو مُفْحَمٌ ... أسعطْتُه بمرارة الشيطانِ
وقال ابن مُقبِل:
وعِنْدي الدُّهَيم لو أحُلُّ عِقالهَا ... فتُصْعدُ لم تَعْدَم من الْجِنِّ حادِيا
وقد صغَر الدُّهيَم ليس على التحقير، ولكن هذا مثل قولهم: دبَّت إليهم دويهيَة الدهر.
أحاديث الفلاة وَقال أبو إسحاق: وأما قول ذي الرُّمَّة:
إذا حَثَّهُنََّ الرَّكبُ في مُدْلهِمَّة ... أحاديثُها مثلُ اصطخاب الضّرائر
قال أبو إسحاق: يكون في النَّهار ساعاتٌ ترى الشّخص الصَّغيرَ في تلك المهامهِ عظيماً، ويُوجَد الصَّوت الخافضُ رفيعاً، ويُسمع الصَّوتُ الذي ليس بالرَّفيع مع انبساط الشّمس غدوة من المكان البعيد؛ ويُوجَد لأوساط الفَيافي والقِفار والرِّمال والحرار، في أنصاف النّهار، مثلُ الدَّويّ من طبع ذلك الوقت وذلك المكان، عند ما يعرض له، ولذلك قال ذو الرُّمَّة:
إذا قال حادينا لتَشْبيهِ نَبأةٍ ... صَهٍ لم يكنْ إلا دويُّ المسامع
قالوا: وبالدَّويّ سمِّيت دوِّيّة وداوية، وبه سمِّي الدوّ دَوّاً.
تعليل ما يتخيله الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان
وكان أبو إسحاق يقول في الذي تذكر الأعرابُ من عزيف الجنان، وتغوُّل الغيلان: أصلُ هذا الأمر وابتداؤه، أنّ القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملتْ فيهم الوَحْشة، ومن انفردَ وطال مُقامُه في البلاد والخلاء، والبعد من الإنس - استوحَش، ولا سيَّما مع قلة الأشغال والمذاكرين.
والوَحدةُ لاتقطع أيامهم إلا بالمُنى أو بالتفكير، والفكرُ ربما كان من أسباب الوَسوَسة، وقد ابتلى بذلك غيرُ حاسب، كأبي يس ومُثَنًّّى ولد القُنافر.
وخبَّرني الأعمش أنه فكّر في مسألة، فأنكر أهله عقله، حتّى حَمَوه وداووه.
وقد عرض ذلك لكثير من الهند.
وإذا استوحشَ الإنسانُ تمثّل له الشّيء الصغيرُ في صورة الكبير، وارتاب، وتفرَّق ذهُنه، وانتقضت أخلاطُه، فرأى ما لا يُرى، وسمع ما لا يُسمع، وتوهم على الشيء اليسير الحقير، أنه عظيمٌ جليل.
ثمَّ جعلوا ما تصوَّر لهم من ذلك شعرا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً، ونشأ عليه الناشئ، ورُبّي به الطِّفل، فصار أحدهم حين يتوسَّط الفيافيَ، وتشتملُ عليه الغيظان في اللَّيالي الحنادس - فعند أوَّل وحْشةٍ وفزْعة، وعند صياح بُوم ومجاوبة صدًى، وقد رأى كلَّ باطل، وتوهَّم كلَّ زُور، وربما كان في أصل الخلْق والطبيعة كذّاباً نفّاجاً، وصاحبَ تشنيعٍ وتهويل، فيقولُ في ذلك من الشِّعر على حسب هذه الصِّفة، فعند ذلك يقول: رأيتُ الغيلان وكلّمت السِّعلاة ثمَّ يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول قتلتها، ثم يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول: رافَقتها ثمَّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوَّجتها.
قال عُبيد بن أيُّوب:
فللّه دَرُّ الغُولِ أيُّ رَفيقةٍ ... لصاحبِ قفْرٍ خائفٍ متقتّرِ
وقال:
أهذا خَليلُ الغولِ والذئبِ والذي ... يهيمُ بَرَبَّاتِ الحِجالِ الهَرَاكِلِ
وقال:
أَخُو قَفَرَاتٍ حالَفَ الجِنّ وانتَفَى ... من الإنْسِ حتَّى قد تقضّت وسائله
له نسَبُ الإنْسيِّ يُعْرَفُ نجله ... وللجنِّ منهُ خَلْقُه وشمائله
وممّا زادهم في هذا الباب، وأغراهم به، ومدَّ لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابيّاً مثلهم، وإلا عَامِّيّاً لم يأخُذْ نفسه قط بتمييز ما يستوجب التّكذيب والتّصديق، أو الشّكّ، ولم يسلُك سبيلَ التوقف والتثبّت في هذه الأجناس قطّ، وإمَّا أن يَلقَوْا رَاوِيَة شعر، أو صاحب خبَر، فالرّاوية كلّما كان الأعرابيُّ أكذبَ في شعره كان أطْرَف عِنْده، وصارت روايتُه أغلبَ، ومضاحيكُ حديثه أكثر فلذلك صار بعضهم يدّعي رؤية الغُول، أو قتلها، أو مرافقتها، أو تزويجها؛ وآخر يزعم أنّه رافقَ في مفازةٍ نمراً، فكان يطاعمه ويؤاكله، فمن هؤلاء خاصّة القَتّال الكِلابي؛ فإنّه الذي يقول:
أيرسِلُ مَرْوانُ الأميرُ رسالة ... لآتيه إني إذاً لَمَصلَّلُ
وما بي عِصْيانٌ ولا بُعدُ منزل ... ولكنّني من خوْف مَرْوانَ أوجلُ
وفي باحة العَنْقاء أو في عَمايةٍ ... أو الأُدَمِى من رَهْبةِ الموتِ مَوْئلُ
ولي صاحبٌ في الغارِ هَدَّكَ صاحباً ... هو الجَون إلاّ أنه لا يعلّل
إذا ما التقَينا كان جُلّ حديثنا ... صُماتٌ وطرْفٌ كالمعَابلِ أطْحَلُ
تَضَمَّنَتِ الأرْوَى لنا بطعامِنا ... كِلانا له منها نَصيبُ ومأكلُ
فأغلِبُه في صَنْعة الزّادِ إنّني ... أُميطُ الأذى عنه ولا يتأمَّلُ
وكانتْ لنا قَلتٌ بأرض مَضَلَّةٍ ... شريعتُنا لأيّنا جاءَ أوَّلُ
كلانا عدُوٌّ لو يرى في عدُوِّه ... مَحزّاً وكلٌّ في العداوة مُجْمِلُ
وأنشد الأصمعيّ:
ظللْنَا معاً جارَينْ نحترسُ الثَّأى ... يُسائرُني من نُطفةٍ وأسائرُهْ
ذكر سبعاً ورجُلاً، قد ترافقا، فصار كلُّ واحدٍ منهما يدَعُ فضْلاً من سُؤره ليشرَبَ صاحبه، الثَّأى: الفساد، وخبّر أنّ كلّ واحد منهما يحترس من صاحبه.
وقد يستقيمُ أن يكونَ شعر النابغة في الحية، وفي القتيلِ صاحب القَبْر، وفي أخيه المصالح للحيةِ أن يكون إنما جعل ذلك مثلاً، وقد أثبتناهُ في باب الحيات، فلذلك كرهنا إعادَته في هذا الموضع، فأما جميع ما ذكرناه عنهم فإنما يخبرون عنه من جهة المعاينَة والتّحقيق، وإنما المثل في هذا مثل قوله:
قد كان شيطانك منْ خطّابها ... وكان شيطاني منْ طُلاَّبِها
حيناً فلمّا اعتَركا ألْوى بها
الاشتباه في الأصوات والإنسان يجوع فيسمع في أذنه مثل الدويّ، وقال الشاعر:
دويُّ الفَيَافي رَابه فكأنّه ... أَميمٌ وسارِي اللَّيلِ للضُّرِّ مُعْوِرُ
مُعْوِر: أي مُصْحِر.
وربما قال الغلام لمولاه: أدعوتني؟ فيقول له: لا، وإنما اعترى مسامعه ذلك لعرضٍ، لا أنَّه سمعَ صوتاً.
ومن هذا الباب قول تأبَّط شراً، أو قول قائل فيه في كلمة له:
يَظَلُّ بمَوّْماةٍ ويُمسي بقَفرَةٍ ... جَحِيشاً ويَعرَوْرِي ظهورَ المهالِكِ
ويَسْبِقُ وقدَ الرِّيح من حَيث ينْتحي ... بمنخَرِقٍ من شَدِّهِ المتدارِكِ
إذا خاطَ عَينَيه كَرى النَّوم لم يزَلْ ... له كالئٌ من قَلبِ شَيْحانَ فاتكِ
ويجعلُ عينيه رَبيئةَ قلبهِ ... إلى سلَّةٍ من حَدِّ أخْضَر باتكِ
إذا هزَّه في عَظم قِرْنٍ تهلَّلتْ ... نواجذُ أفواهِ المنايا الضّواحكِ
يَرى الإنس وحْشيَّ الفَلاة ويهتدي ... بحيث اهتدتْ أمُّ النجومِ الشّوابكِ
نزول العرب بلاد الوحش والحشرات والسباع ويدلُّ على ما قال أبو إسحاق، من نزولهم في بلاد الوحْش وبينَ الحشَراتِ والسِّباع، ما رواه لنا أبو مُسْهرٍ، عن أعرابيٍّ من بني تميم نزل ناحية الشَّام، فكان لا يَعْدِمُهُ في كلِّ ليلة أن يعضَّه أو يَعضَّ ولدَه أو بعضَ حاشيته سبعٌ من السباع، أو دابّة من دوابّ الأرض فقال:
تعاوَرَني دَينٌ وذُلٌّ وغُربةٌ ... ومَزّقَ جلدي نابُ سبْع ومِخْلبُ
وفي الأرض أحناشٌ وسَبْع وحاربٌ ... ونحن أُسارَى وَسْطَهَا نتقلبُ
رُتَيْلا وطَبُّوعٌ وشِبْثَان ظُلْمةٍ ... وأرقطُ حُرْقُوصٌ وضَمْجٌ وعَقْربُ
ونمل كأشخاصِ الخنافس قُطَّبٌ ... وأرْسالُ جعلانٍ وهَزْلى تَسَرَّبُ
وعُثٌّ وحُفّاثٌ وضَبٌّ وعِربِدٌ ... وذرٌّ ودَحّاس وفَارٌ وعقربُ
وهرٌّ وظِرْبانٌ وسِمْعٌ ودَوْبَلٌ ... وثُرْمُلةٌ تجرِي وسِيدٌ وثعلبُ
ونمر وفَهْدٌ ثم ضبعٌ وجَيألٌ ... وليثٌ يجُوس الألف لا يتهيّبُ
ولم أرَ آوى حيث أسمعُ ذِكرَه ... ولا الدُّبَّ إنّ الدُّبَّ لا يتنسَّبُ
فأما الرُّتَيلا والطَّبُّوع، والشَّبَث، والحُرقوص، والضّمجُ والعنكبوت، والخنفُساء، والجُعَل، والعُثّ، والحُفَّاث، والدّحّاس والظّرِبان، والذِّئب، والثَّعلب، والنمر، والفَهْد، والضّبع، والأسد - فسنقول في ذلك إذا صرنا إلى ذكر هذه الأبواب، وقبل ذلك عند ذِكر الحشرات، فأما الضّبُّ والورَل، والعقرب، والجُعل، والخنفساء، والسِّمْع فقد ذكرنا ذلك في أوّل الكتاب، وأما قوله: وهَزْلى تسرب فالهزْلى هي الحيات، كما قال جَرير:
مَزَاحف هزْلَى بينها متباعدُ
وكما قال الآخر:
كأنَّ مَزَاحِفَ الهَزْلى عليها ... خدودُ رصائعٍ جُدِلَتْ تُؤَامَا
وأما قوله:
ولم أر آوَى حيثُ أسمع ذِكرَه
فإنّ ابنَ آوى لا ينزِلُ القفار، وإنّما يكونُ حيث يكونُ الريف.
وينبغي أن يكونَ حيث قال هذا الشّعر توهَّم أنّه ببياض نجد.
وأمَّا قوله:
ولا الدبَّ إنَّ الدبَّ لا يتنسَّبُ
فإنّ الدبَّ عندهم عجميٌّ، والعجميُّ لا يقيم نسبَه.
باب الجِدِّ من أمْر الجِنّ
ليس هذا، حفظك اللّه تعالى، من الباب الذي كُنَّا فيه، ولكنّه كان مُستراحاً وجماماً، وسنقول في باب من ذكر الجنّ، لتنتفع في دِينك أشد الانتفاع، وهو جِدٌّ كلُّه.
والكلام الأوّل وما يتلوه من ذكر الحشرات، ليس فيه جِدٌّ إلاّ وفيه خَلْطٌ من هزْل، وليس فيه كلامٌ صحيح إلا وإلى جنبه خرافة، لأن هذا الباب هكذا يقع.
وقد طعن قومٌ في استراق الشَّياطينِ السمعَ بوجوهٍ من الطَّعن، فإذْ قد جرى لها من الذّكر في باب الهزْل ما قد جرى، فالواجبُ علينا أن نقول في باب الجدِّ، وفيما يرد على أهل الدِّين بجملة، وإن كان هذا الكتابُ لم يُقصد به إلى هذا الباب حيثُ ابتدئ، وإن نحنُ استقصيناه كنَّا قد خرجْنا من حدِّ القول في الحيوان، ولكنا نقول بجملةٍ كافية، واللّه تعالى المعين على ذلك.
رد على المحتجّين لإنكار استراق السمع بالقرآن
قال قوم: قد علمنا أن الشياطينَ ألطف لطافةً، وأقلُّ آفَةً، وأحدُّ أذهاناً، وأقلُّ فضُولاً، وأخفُّ أبداناً، وأكثرُ معرفةً وأدقُّ فِطنةً منّا، والدّليلُ على ذلك إجماعهم على أنّه ليس في الأرض بدعةٌ بديعةٌ، دقيقةٌ ولا جليلة، ولا في الأرض مَعصِيةٌ من طريق الهوى والشّهوة، خفيّةً كانت أو ظاهرة، إلاّ والشَّيطانُ هو الدَّاعي لها، والمزيِّنُ لها، والذي يفتحُ بابَ كلِّ بلاء، ويَنصِب كلَّ حبالةٍ وخدعة، ولم تَكن لتَعرِف أصناف جميع الشرور والمعاصي حتى تَعرف جميعَ أصناف الخير والطّاعات.
ونحن قد نجدُ الرّجلَ إذا كان معه عقْل، ثمّ عِلم أنّه إذا نقب حائطاً قُطِعت يدهُ، أو أسمع إنساناً كلاماً قطع لسانه، أويكونُ متى رام ذلك حِيلَ دونَه ودونَ ما رام منْهُ - أنّه لايتكلّف ذلك ولا يرُومه، ولا يحاولُ أمراً قد أيقَنَ أنّه لا يبلغهُ.
وأنتم تزعمون أنّ الشّياطين الذين هم على هذه الصِّفة كلّما صعِد منهم شيطانٌ ليسترقَ السّمعَ قُذِف بشهاب نار، وليس له خواطئ، فإمَّا أن يكون يصيبه، وإمَّا أنْ يكون نذيراً صادقاً أو وعيداً إنْ يقدمْ عليه رمى به، وهذه الرُّجوم لا تكون إلا لهذه الأمور، ومتى كانت فقد ظهر للشَّيطان إحراق المستمع والمسترِق، والموانع دون الوصول ثمَّ لا نرى الأوَّلَ ينهي الثّاني، ولا الثّاني ينهي الثّالث، ولا الثّالث ينهي الرّابع عَجَب، وإن كان الذي يعود غيرَه فكيف خفي عليه شأنهم، وهو ظاهر مكشوف؟.
وعلى أنّهم لم يكونوا أعلَمَ منّا حتّى ميّزوا جميع المعاصي من جميع الطاعات، ولولا ذلك لدعوا إلى الطّاعة بحساب المعصية، وزينّوا لها الصَّلاح وهم يريدون الفساد، فإذا كانوا ليسوا كذلك فأدنى حالاتهم أن يكونوا قد عرفوا أخبار القرآن وصدقوها، وأنّ اللّه تعالى محقّق ما أوعَدَ كما يُنجِز ما وعد، وقد قال اللّه عزّ وجل: " وَلقَدْ زَيَّنّا السَّماء الدُّنيا بِمَصابيح وجَعَلْنَاها رُجُوماً للشَّياطينِ " ، وقال تعالى: " وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّماءٍ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها للنَّاظِرينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كلِّ شَيْطان رَجيمٍ " وقال تعالى: " إنّا زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينةٍ الْكَوَاكِبِ وحفْظاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ " وقال تعالى: " هَلْ أُنَبِّئكمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشّياطينُ تنَزَّلُ على كلِّ أفّاكٍ أثيمٍ، يُلْقون السَّمعَ وأكثَرُهم كاذِبُون " مع قولِ الجنّ: " أنَّا لا نَدْري أشَرٌّ أُرِيدَ بمَنْ في الأرْضِ أمْ أرَاد بهمْ رَبُّهم رَشَداً " وقولهم: " أَنَّا لَمسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلئَتْ حَرساً شديداً وَشُهُباً، وأنّا كنَّا نقعُدُ منْهَا مقَاعِد للسَّمع فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهَاباً رصَداً " .
فكيف يسترق السَّمع الذين شاهدوا الحالَتين جميعاً، وأظهروا اليقين بصحَّة الخير بأنَّ للمستمع بعد ذلك القذْفَ بالشُّهب، والإحراقَ بالنار، وقوله تعالى: " إنَّهُمْ عَنِ السَّمعِ لَمعْزولُونَ " وقوله تعالى: " وَحفْظاً مِنْ كلِّ شيْطاَنٍ مَاردٍ، لا يَسَّمَّعُون إلى الْملإ الأعْلى وَيُقْذَفُون مِن كُلِّ جانبٍ دُحوراً وَلَهُمْ عذَابٌ وَاصِبُ " في آيٍ غيرِ هذا كثير، فكيف يعُودُون إلى استراق السَّمع، مع تيقنهم بأنَّه قد حُصِّن بالشهب، ولو لم يكونوا مُوقِنين من جهة حقائق الكِتاب، ولا من جهة أنّهم بَعْدَ قعودِهم مقاعدَ السَّمْع لمَسُوا السَّماء فوَجَدوا الأمرَ قد تغيَّر - لكانَ في طول التَّجْربة والعِيان الظّاهِر، وفي إخبار بعضِهم لبعض، ما يكونُ حائلاً دُونَ الطّمع وقاطعاً دون التماس الصُّعود وبعد فأيُّ عاقل يُسرُّ بأنْ يسمع خبراً وتُقطعَ يدهُ فضْلاً عن أن تحرقه النَّار؟ وبعد فأيُّ خبر في ذلك اليوم؟ وهل يصِلون إلى النَّاس حتَّى يجعلوا ذلك الخبَر سبباً إلى صرْف الدّعوَى؟ قيل لهم: فإنّا نقول بالصّرْفة في عامَّة هذه الأصول، وفي هذه الأبواب، كنحو ما أُلقي على قلوب بني إسرائيل وهم يجُولون في التِّيهِ، وهم في العدد وفي كثرة الأدِلاَّء والتجّار وأصحاب الأسفار، والحمّارين والمُكارينَ، من الكثْرَة على ما قد سمعتم به وعرَفْتموه؛ وهم مع هذا يمشُون حتّى يُصبِحوا، مع شدّة الاجتهاد في الدَّهر الطويل، ومع قُرْب ما بينَ طرفي التِّيه، وقد كان طريقاً مسلوكاً، وإنّما سمَّوه التّيه حين تاهوا فيه، لأنَّ اللّه تعالى حين أرادَ أن يمتحِنَهم ويبتلِيهم صرَف أوهامَهم.
ومثل ذلك صنيعُه في أوهام الأُمة التي كان سُليمان مَلِكَها ونبيّها، مع تسخير الريح والأعاجيبِ التي أُعطِيَها، وليس بينهم وبين ملِكهم ومملكتهم وبين مُلك سَبأ ومملكةِ بِلقيس ملِكتهم بحارٌ لا تُركب، وجبالٌ لا تُرام، ولم يتسامَعْ أهل المملكتين ولا كان في ذكرهم مكانُ هذه الملِكة.
وقد قلنا في باب القول في الهُدهُد ما قلنا، حين ذكرنا الصَّرفة، وذكرنا حالَ يعقوب ويوسف وحالَ سليمان وهو معتمدٌ على عصاه، وهو مَيِّتٌ والجنُّ مُطيفة به وهم لا يشعُرون بموته، وذكرنا من صَرْف أوهام العرَب عن محُاولة معارضة القرآن، ولم يأتوا به مضطرِباً ولا مُلَفَّقاً ولا مُستكرَهاً؛ إذا كان في ذلك لأهل الشَّغبِ متعلّق، مع غير ذلك، ممّا يُخالَف فيه طريقُ الدُّهريّة، لأنّ الدّهريّ لا يُقر إلاّ بالمحسوسات والعادات على خلاف هذا المذهب.
ولعمري ما يستطيعُ الدّهريّ أن يقولَ بهذا القول ويحتجَّ بهذه الحجّة، ما دام لا يقول بالتّوحيد، وما دام لا يعرف إلا الفَلك وعمَلَه، ومادام يرى أن إرسال الرسُل يستحيل، وأن الأمر والنَّهي، والثوابَ والعقاب على غير ما نقول، وأنّ اللّه تعالى لا يجوز أن يأمر من جهة الاختبار إلا من جهة الحزْم.
وكذلك نقول ونزعم أن أوهَام هذه العفاريت تُصرف عن الذكر لتقع المحنة، وكذلك نقول في النبي صلى اللّه عليه وسلم أنْ لو كانَ في جميع تلك الهزاهز مَنْ يذكر قوله تعالى: " واللّه يَعصِمُك من النّاسِ " لسَقَطَ عنه من المحنة أغلظها، وإذا سقطَت المحنة لم تكن الطاعة والمعصية، وكذلك عظيم الطاعة مقرونٌ بعظيم الثّواب.
وما يصنع الدهري وغير الدّهري بهذه المسألة وبهذا التسطير؟ ونحن نقول: لو كان إبليس يذكر في كلِّ حال قوله تعالى: " وَإنَّ عَليْكَ اللّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ " وعلم في كلِّ حالٍ أنّه لا يُسْلِمُ لوَجَبَ أن المحنة كانت تسقط عنه، لأن من علِم يقيناً أنّه لا يمضي غداً إلى السوق ولايقبض دراهمَه من فلان، لم يطمع فيه، ومن لم يطَمعْ في الشيء انقطعت عنه أسباب الدواعي إليه، ومن كان كذلك فمُحالٌ أن يأتيَ السّوق.
فنقول في إبليس: إنه يَنْسى ليكون مُختَبراً ممتَحناً فليعلموا أن قولنا في مسترقي السمع كقولنا في إبليس، وفي جميع هذه الأمور التي أوْجَبَ علينا الدِّين أن نقولَ فيها بهذا القول. وليس له أن يدفَع هذا القولَ على أصل ديننا، فإن أحبَّ أن يسأل عن الدين الذي أوجب هذا القول علينا فيلفعَلْ، واللّه تعالى المعين والموفِّق.
وأما قولهم: منْ يُخاطر بذَهابِ نفْسِه لخبرٍ يستفيده فقد علِمْنا أن أصحاب الرِّياساتِ وإن كان متبيَّناً كيف كان اعتراضهم على أنّ أيسر ما يحتملون في جَنْب تلك الرِّياسات القتل.
ولعلّ بعض الشّياطين أن يكون معه من النّفْخ وحب الرِّياسة ما يهوِّن عليه أن يبلغ دُوَين المواضع التي إن دنا منها أصابه الرَّجْم، والرَّجمُ إنما ضمن أنه مانع من الوصول، ويعلم أنه إذا كان شهاباً أنه يُحرقه ولم يضمن أنه يتلف عنه، فما أكثر من تخترقه الرِّماح في الحرب ثم يعاودُ ذلك المكان ورزقُه ثمانون دِيناراً ولا يأخذ إلا نصفه، ولا يأخذه إلا قمحاً، فلولا أن مع قَدَم هذا الجنديِّ ضروباً مما يهزُّه وينجِّده ويدعو إليه ويُغْريه - ما كان يعود إلى موضعٍ قد قطعت فيه إحدى يديه، أو فقئت إحدى عينَيه.
ولِمَ وقع عليه إذاً اسمُ شيطان، وماردٍ، وعفريتٍ، وأشباه ذلك؟ ولِمَ صار الإنسانُ يُسمَّى بهذه الأسماء، ويوصَف بهذه الصفات إذا كان فيه الجزء الواحد من كلِّ ما همْ عليه؟.
وقالوا في باب آخر من الطّعن غير هذا، قالوا في قوله تعالى: " وَأنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقَاعِدَ للِسّمْعِ فَمَنْ يسْتَمعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهاباً رصداً " فقالوا: قد دلَّ هذا الكلام على أن الأخبار هناك كانت مُضَيَّعةً حتّى حُصِّنت بعد، فقد وصفْتُم اللّه تعالى بالتَّضييع والاستِدْراك.
قلنا: ليس في هذا الكلام دليلٌ على أنهم سمعوا سِرّاً قط أوْ هجموا على خبر إن أشاعوه فسد به شيءٌ من الدين، وللملائكةِ في السَّماء تسبيحٌ وتهليلٌ، وتكبيرٌ وتلاوة، فكان لا يبلغُ الموضعَ الذي يُسمَعُ ذلك منه إلا عفاريتُهم.
وقد يستقيم أن يكون العفريتُ يكذب ويقولُ: سمعت ما لم يَسْمع ومتى لم يكن على قوله برهانٌ يدلُّ على صدقه فإنما هو في كذبه من جنس كلِّ متنبئٍ وكاهن، فإن صدقه مصدقٌ بلا حُجَّة فليس ذلك بحجّةٍ على اللّه وعلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم.
المحتجون بالشعر لرجم الشياطين قبل الإسلام وذهب بعضهم في الطّعن إلي غير هذه الحُجّة، قالوا: زعمتم أن اللّه تعالى جعل هذه الرَّجومَ للخوافي حُجّة للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فكيف يكون ذلك رَجْماً، وقد كان قبل الإسلام ظاهراً مرْئيّاً، وذلك موجودٌ في الأشعار، وقد قال بشر بن أبي خازم في ذلك:
فجأجأها من أول الرِّيِّ غُدوة ... وَلَمَّا يسَكّنْهُ من الأرْضِ مَرْتعُ
بأكْلبةٍ زُرْقٍ ضوارٍ كأنّها ... خطاطيفُ من طول الطريدة تلمعُ
فجال على نَفْر تعرُّضَ كوكبٍ ... وقد حالَ دُون النّقْعِ والنّقْعُ يسْطَعُ
فوصف شَوْط الثّور هارباً من الكلابِ بانقضاض الكَوكب في سُرعته، وحُسْنه، وبريق جلده، ولذلك قال الطّرِمّاح:
يَبْدُو وتُضْمِرُه البلاد كأنّهُ ... سيفٌ علَى شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ
وأنشد أيضاً قولَ بِشْر بن أبي خازم:
وتشُجُّ بالعير الفلاة كأنّهَا ... فتْخاءُ كاسِرةٌ هَوَتْ من مرْقبِ
والعير يُرْهِقُها الخبَار وجَحشُها ... ينقضُّ خلْفهُما انْقِضاض الكوكبِ
قالوا: وقال الضّبّي:
يَنَالها مهتك أشْجارها ... بذي غُروب فيه تحريبُ
كأنّه حيِنَ نَحَا كوكبٌ ... أو قبَسٌ بالكفِّ مشبوبُ
وقال أوس بن حَجَر:
فانقضَّ كالدّريءِ يَتْبَعُهُ ... نَقْع يثُورُ تخالُه طُنُبَا
يَخفى وأحياناً يلوح كما ... رفع المشيرُ بكفِّهِ لهبَا
ورووا قوله:
فانقضَّ كالدّرّي من مُتَحدِّر ... لَمْعَ العقيقةِ جُنْحَ لَيل مُظْلِمِ
وقال عَوْف بن الخرِع:
يردُّ علينا العَيْرَ من دون أَنْفه ... أو الثَّوْر كالدُّرّي يتْبَعُهُ الدَّمُ
وقال الأفوه الأودي:
كشِهاب القَذفِ يَرمِيكُمْ به ... فارسٌ في كفِّه للحَرْبِ نارُ
وقال أُميَّةُ بن أبي الصّلْت:
وترى شياطيناً تَرُوغُ مُضافةً ... ورَواغُها شتّى إذا ما تُطْرَدُ
يُلْقى عليها في السَّماء مذلَّة ... وكواكبٌ تُرمى بها فتعرِّدُ
قلنا لهؤلاء القوم: إن قَدَرتم على شعرٍ جاهليٍّ لم يُدرِكْ مَبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا مَولِده فهو بعضُ ما يتعلَّق به مثلُكم، وإن كان الجوابُ في ذلك سيأتيكم إن شاء اللّه تعالى، فأما أشعار المخضْرمين والإسلاميّين فليس لكم في ذلك حُجَّة، والجاهليُّ ما لم يكن أدرك المولد، فإنَّ ذلك ممَّا ليس ينبغي لكم أن تتعلَّقوا به، وبِشرُ بنُ أبي خازم فقد أدرك الفِجار، والنبي صلى الله عليه وسلم شهِد الفِجار، وقال: شهدتُ الفجار فكنْتُ أنبل على عمومتي وأنا غلام.
والأعلام ضروب، فمنها ما يكون كالبشارات في الكتب، لكون الصِّفة إذا واقفت الصِّفة التي لا يقع مثلها اتفاقاً وعرضاً لزمتْ فيه الحجة، وضروبٌ أُخَرُ كالإرهاص للأمر، والتأسيس له، وكالتعبيد والترشيح، فإنَّه قلَّ نبيٌّ إلاّ وقد حدثت عند مولده، أو قُبيلَ مولِده، أو بعد مولده أشياءُ لم يكنْ يحدُث مثلُها، وعند ذلك يقول الناس: إنّ هذا لأَمرٍ، وإنّ هذا ليراد به أمرٌ وقع، أو سيكون لهذا نبأ، كما تراهم يقولون عند الذوائب التي تحدث لبعض الكواكب في بعض الزمان، فمن التّرشيح والتَّأسيس والتَّفخيم شأنُ عبد المطلب عند القُرعة، وحين خروج الماء من تحت رُكْبة جملة، وما كان من شأن الفيل والطيرِ الأبابيل وغير ذلك، مما إذا تقدم للرّجل زاد في نُبله وفي فَخامة أمره، والمتوقَّع أبداً معظّم.
فإن كانت هذه الشهب في هذه الأيام أبداً مرئيّة فإنما كانت من التأسيس والإرهاص، إلا أن يُنْشِدونا مثل شعر الشعراء الذين لم يدركوا المولد ولا بعد ذلك، فإنّ عددهم كثير، وشعرهم معروف.
وقد قيل الشِّعر قبل الإسلام في مقدار من االدهر أطولَ ممّا بيننا اليوم وبين أوّل الإسلام، وأولئكم عندكم أشعرُ ممن كان بعدهم.
وكان أحدهم لا يدع عظماً منبوذاً بالياً، ولا حجراً مطروحاً، ولا خنفساء، ولا جُعلاً، ولا دودة، ولا حيةً، إلا قال فيها، فكيف لم يتهيأ من واحدٍ منهم أن يذكر الكواكب المنقضّة مع حُسْنها وسُرعتها والأعجوبة فيها، وكيف أمسكُوا بأجمعهم عن ذكرها إلى الزَّمان الذي يحْتَجُّ فيه خصومُكم.
وقد علمْنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين ذُكر له يوم ذي قار قال: هذا أوَّلُ يومٍ انتصفَتْ فيه العربُ من العجم، وبي نُصروا.
ولم يكن قال لهم قبْل ذلك إنّ وقْعةً ستكون، من صِفَتها كذا، ومن شأنها كذا، وتُنصرون على العجَم، وبي تنصرون.
فإن كان بشرُ بن أبي خازمٍ وهؤلاء الذين ذكرتُم قد عايَنُوا انقضاض الكواكب فليس بمستنكرٍ أنْ تكون كانت إرهاصاً لمن لم يُخبر عنها ويحتجُّ بها لنفسه، فكيف وبشر بن أبي خازم حيّ في أيّام الفِجار، التي شهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه، وأنّ كنانة وقُريشاً به نُصروا.
وسنقول في هذه الأشعار التي أنشدتموها، ونُخبِر عن مقاديرها وطبقاتها، فأما قوله:
فانقضَّ كالدُّرِّي من متحدِّرٍ ... لمْعَ العقيقةِ جُنْحَ ليل مُظلمِ
فخبّرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبياتٍ أخر كان أسامة صاحب رَوْح بن أبي هَمَّام، هو الذي كان ولَّدها، فإن اتَّهمت خبر أبي إسحاق فسمِّ الشّاعرَ، وهات القصيدة، فإنَّه لا يُقبل في مثل هذا إلاّ بيتٌ صحيح صحيح الجوهَرِ، من قصيدةٍ، صحيحة لشاعر معروف، وإلاّ فإن كلَّ من يقول الشِّعر يستطيعُ أن يقول خمسين بيتاً كل بيتٍ منها أجودُ من هذا البيت.
وأسامة هذا هو الذي قال له رَوْحٌ:
اسقِني يا أُسامَهْ ... مِنْ رحيق مُدامَهْ
اسْقنيها فإنِّي ... كافرٌ بالقيامَهْ
وهذا الشعر هو الذي قتله، وأمَّا ما أنشدتم من قول أوس بن حجر:
فانقضَّ كالدريء يتبعه ... نَقْعٌ يثُور تخالُه طُنبا
وهذا الشّعر ليس يرويه لأوسٍ إلاّ من لا يفصِل بين شعر أوس بن حجر، وشُريح ابن أوس، وقد طعنت الرُّواة في هذا الشِّعر الذي أضفْتموه إلى بشر بن أبي خازم، من قوله:
والعير يرهقها الخبارُ وجَحْشها ... ينقضُّ خلفهما انقضاض الكوكبِ
فزعموا أنه ليس من عادتهم أن يصِفوا عََدْو الحمار بانقضاض الكوكب، ولا بَدَن الحمار ببدن الكوكب، وقالوا: في شعر بشر مصنوعٌ كثير، مما قد احتملتْه كثيرٌ من الرُّواة على أنَّه من صحيح شعره، فمن ذلك قصيدته التي يقول فيها:
فرجِّي الخيرَ وانتظِري إيابي ... إذا ما القارِظُ العَنَزِيُّ آبا
وأما ما ذكرتم من شعر هذا الضَّبِّي، فإنَّ الضّبيَّ مخضرم.
وزعمتم أنَّكم وجدتُم ذِكْر الشُّهب في كتب القُدماء من الفلاسفة، وأنّه في الآثار العُلْوية لأرسطاطاليس، حين ذكر القول في الشُّهب، مع القول في الكواكب ذوات الذوائب، ومع القول في القَوس، والطَّوق الذي يكون حول القَمَر بالليل، فإن كنتم بمثل هذا تَستعِينونَ، وإليه تفزعون، فإنّا نوجدكم من كذب التَّراجمة وزيادتهم، ومن فساد الكِتاب، من جهة تأويل الكلام، ومن جهة جهْل المترجِمِ بنقل لغةٍ إلى لغة، ومن جهة فَسادِ النَّسخ، ومن أنه قد تقادمَ فاعترضَتْ دونه الدُّهورُ والأحقاب، فصار لا يؤمن عليه ضروبُ التّبديل والفساد، وهذا الكلام معروفٌ صحيح.
وأما ما رويتم من شعر الأفوه الأوديّ فلعمري إنّه لجاهليّ، وما وجدْنا أحداً من الرُّواة يشكُّ في أن القصيدة مصنوعةٌ، وبعد فمِنْ أين علم الأفْوهُ أنّ الشهب التي يراها إنما هي قذْفٌ ورجْم، وهو جاهليٌّ، ولم يدَّعِ هذا أحدٌ قطُّ إلا المسلمون؟ فهذا دليلٌ آخر على أن القصيدة مصنوعة رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهرانيّ: وأما قوله:
جائباً للبحار أُهدي لِعِرْسي ... فُلفلاً مجتنًى وهَضْمة عِطْر
وأحلّي هُرَيْرَ مِنْ صدف البَحْ ... ر وأسْقي العِيال من نيل مِصرِ
فإن الناس يقولون: إن السَّاحر لا يكون ماهراً حتَّى يأتى بالفلْفُل الرّطب من سرنديب، وهُريرة: اسم امرأته الجنِّيّة.
وذكر الظِّبي الذي جعله مَرْكبه إلى بلاد الهند، فقال:
وأجوبُ البلاد تحتيَ ظبيٌ ... ضاحكٌ سِنُّه كثيرُ التَّمرِّي
مُولج دَبْرَهُ خَوَايَة مَكْوٍ ... وهو باللَّيل في العفاريت يَسْري
يقول: هذا الظَّبي الذي من جُبْنِهِ وحذره، من بين جميع الوَحْش، لا يدخل حَراه إلا مستدبِراً، لتكون عيناه تلقاء ما يخاف أن يغشاه هو الذي يسري مع العفاريت باللَّيل ضاحِكاً بي هازئاً إذا كان تحتي.
وأما قوله:
يحسَبُ النَّاظِرُون أني ابنُ ماءٍ ... ذاكرٌ عُشَّهُ بضَفّةِ نَهْرِ
فإن الجنّيَّ إذا طار به في جوِّ السماء ظنَّ كلُّ من رآه أنّه طائر ماء.
مصدر الكتاب : موقع الوراق
تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
- تزاوج الجن والإنس ويقولون.
- تزيد الأعراب وأصحاب التأويل في أخبار الجن
- مذاهب الأعراب وشعرائهم في الجن
- أخبار وطرف تتعلق بالجن
- رؤية الغيلان وسماع عزيف الجان
- لطيم الشيطان
- التشبيه بالجن
- جبل الجن
- من المثل والتشبيه بالجن
ما يزعمون أنه من عمل الجن
- مواضع الجن
- مراتب الجن والملائكة
- مراتب الشجعان
- استطراد لغوي
- زواج الأعراب للجن
- رؤية الجن
- إيمان الأعراب بالهواتف
- ظهور الشق للمسافرين
- طعام الجن
- رؤوس الشياطين
سكنى الجن أرض وبارِ
أثر عشق الجن في الصرع
- الطاعون طعن من الشيطان
- أحاديث في إثبات الشيطان
- شياطين الشعراء
- كلاب الجن
- أرض الجن
- استراق السمع
- شياطين الشام والهند
- مناكحة الجنِّ ومحالفتهم
- مراكب الجن
- شعر فيه ذكر الغول جنون الجن وصرعهم
- تعليل ما يتخيله الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان
- رد على المحتجّين لإنكار استراق السمع بالقرآن
الغول والسعلاة
وأما قوله:
وتزوّجْتُ في الشَّبيبةِ غُولاً ... بغزال وصَدْقَتي زقُّ خَمْرِ
فالغُول اسمُ لكلِّ شيءٍ من الجن يعرضُ للسُّفّار، ويتلوّنُ في ضُروب الصُّور والثِّياب، ذكراً كان أو أنثى، إلاّ أنّ أكثر كلامهم على أنّه أنثى.
وقد قال أبو المطْراب عُبيدُ بن أيُّوبَ العنبريّ:
وحالَفْتَ الوحوشَ وحالَفْتني ... بقرب عُهودهنّ وبالبعادِ
وأمْسَى الذِّئبُ يرصُدُني مِخشّاً ... لخفّةِ ضربتي ولضعف آدي
وغُولاَ قفرةٍ ذكرٌ وأنثى ... كأنّ عَلَيْهمَا قِطعَ البجادِ
فجعل في الغِيلان الذَّكرَ والأُنثى، وقد قال الشَّاعر في تلوُّنها:
فما تدوم على حالٍ تكون بها ... كما تَلَوَّنُ في أثوابِها الغُولُ
فالغول ما كان كذلك، والسِّعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغوَّل لتفتِنَ السُّفّار.
قالو: وإنما هذا منها على العَبث، أو لعلّها أن تفزّع إنساناً جميلاً فتغيِّرَ عقله، فتداخِلَه عند ذلك، لأنّهم لم يُسلَّطوا على الصَّحيح العقل، ولو كان ذلك إليهم لبدؤوا بعليّ بن أبي طالب، وحمزَة بن عبد المطلب وبأبي بكر وعُمر في زَمانهم وبغيلان والحسن في دهرهما وبواصل وعمرو في أيامهما.
وقد فرَق بين الغُول والسِّعلاة عُبيدُ بن أيُّوبَ، حيث يقول:
وساخرة منِّي ولو أنّ عَينَها ... رأتْ ما أُلاقيهِ من الهوْلِ جُنّتِ
أزلُّ وسِعلاةٌ وغولٌ بقَفْرةٍ ... إذا اللّيل وارَى الجنَّ فيه أرنّتِ
وهم إذا رأوا المرأة حديدة الطّرف والذِّهن، سريعة الحركة، ممشوقة مُمَحَّصة قالوا: سعلاة وقال الأعشى:
ورجال قَتْلى بجنْبَيْ أريكٍ ... ونساءٍ كأنهنَّ السَّعالي
تزاوج الجن والإنس
ويقولون: تزَّوج عمرو بن يربوعٍ السّعلاة، وقال الرَّاجز:
يا قاتلَ اللّهُ بني السّعلاةِ ... عمرو بن يَربوعٍ شِرارَ النَّاتِ
وفي تلوُّن الغُول يقول عَبَّاسُ بنُ مرداسٍ السُّلَميُّ:
أصابَت العام رِعلاً غولُ قومهم ... وَسْطَ البُيوتِ ولوْنُ الغُولِ ألوانُ
وهم يتأوَّلون قوله عز ذكره: " وَشَارِكْهُمْ في الأََمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ " .
وقوله عز وجل: " لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ " ، قالوا: فلو كان الجانّ لم يُصِب منهنَّ قَطّ، ولم يأتهنّ، ولا كان ذلك مما يجوز بين الجن وبين النساء الآدميات - لم يقل ذلك.
وتأوَّلوا قوله عزّ وجل: " وَأنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ " فجعل منهنَّ النِّساء، إذ قد جعل منهم الرِّجال، وقوله تبارك وتعالى: " أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي " .
وزعم ابنُ الأعرابيّ قال: دعا أعرابيٌّ ربهُ فقال: اللّهم إني أعوذُ بك منْ عفاريت الجن اللهمَّ لا تُشْرِكهمْ في ولدي، ولا جسدي، ولا دمي، ولا مالي، ولا تُدخلهم في بيتي، ولا تجعَلُهمْ لي شركاء في شيءٍ من أمر الدنيا والآخرة.
وقالوا: ودعا زُهير بن هُنيدة فقال: اللهمَّ لا تُسلطهم على نطفتي ولا جَسَدي.
قال أبو عبيدة: فقيل له: لمَ تدعو بهذا الدُّعاء قال: وكيف لا أدعو به وأنا أسمعُ أيُّوب النبي واللّه تعالى يخبر عنه ويقول: " واذكُرْ عَبْدَنا أيُّوب إذْ نادى رَبّهُ أَنِّي مَسَّنيَ الشَّيطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ " حتى قيل له: " اركُضْ بِرجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ باردٌ وَشرابٌ " ، وكيف لا أستعيذ باللَّه منه وأنا أسمع اللّه يقول: " الَّذين يأْكُلونَ الرِّبا لا يَقومُون إلاّ كما يقُومُ الَّذي يَتَخبَّطُهُ الشَّيْطانُ من المَسِّ " ، وأسمعه يقول: " وإذْ زَيَّن لَهُمُ الشَّيْطانُ أعمالَهُمْ وقالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وإنِّي جارٌ لَكُمْ " ، فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه، كما قال اللّه عزّ ذكره: " فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكصَ على عَقِبيْهِ وقَالَ إنّي بَريءٌ مِنكمْ إنّي أرى مَا لا تَرَوْنَ " ، وقد جاءهم في صورة الشَّيخ النّجدي، وكيف لا أستعيذ بالله منه، وأنا أسمع الله عز ذكره يقول: " ولقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيّنَّاهَا لِلنَّاظِرينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شيْطانٍ رَجِيمٍ، إلاَّ منِ اسْتَرقَ السَّمْعَ فأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبينٌ " ، وكيف لا أستعيذ باللّه منه وأنا أسمع اللّه تعالى يقول: " ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ وأسلْنا لَهُ عيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَديْهِ بإذْنِ ربِّهِ " ثم قال: " يَعْمَلَونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحاريبَ وتماثيلَ وجفانٍ كالجوابِ وقُدُورٍ راسِياتٍ " ، وكيف لا أدعو بذلك وأنا أسمع اللّه تعالى يقول: " قال عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ أنا آتِيكَ بهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ، وإنّي عَلَيْه لقويٌّ أمِينٌ " . وكيف لا أقول ذلك وأنا أسمع اللّه عزّ وجلَّ يقول: " ربِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبغي لأحدٍ مِنْ بَعْدي إنَّكَ أنْتَ الْوهّابُ، فسخَّرْنا لهُ الرِّيحَ تَجْري بِأمْرهِ رُخاءً حَيْثُ أصابَ، والشَّياطينَ كُلَّ بَنّاءٍ وغَوَّاصٍ، وآخرِينَ مُقرَّنينَ في الأصفادِ " .
تزيد الأعراب وأصحاب التأويل في أخبار الجن
والأعراب يتزيّدون في هذا الباب، وأشباهُ الأعراب يغلطون فيه، وبعضُ أصحابِ التأويل يجوّز في هذا الباب ما لا يجوز فيه، وقد قلنا في ذلك في كتاب النُّبُوّات بما هو كافٍ إن شاء اللّه تعالى.
مذاهب الأعراب وشعرائهم في الجن
وسيقع هذا الباب والجواب فيه تامّاً إذا صرنا إلى القول في الملائكة، وفي فرق ما بين الجن والإنس، وأما هذا الموضع فإنما مَغْزانا فيه الإخبارُ عن مذاهب الأعراب، وشعراءِ العرب، ولولا العلم بالكلام، وبما يجوز مما لا يجوز، لكان في دون إطباقهم على هذه الأحاديث ما يغلط فيه العاقل.
قال عُبيدُ بن أيُّوب، وقد كان جَوَّالاً في مجهول الأرض، لمَّا اشتد خوفه وطال تردُّدُه، وأبعد في الهرب:
لقد خِفْتُ حتَّى لو تمُرُّ حَمامَةٌ ... لقُلْتُ عَدُوٌّ أو طلِيعَة مَعْشَرِ
فإن قيل أمْنٌ قلتُ هذِي خديعةٌ ... وإن قيل خوفٌ قلتُ حَقّاً فشَمِّرِ
وخِفت خليلي ذا الصَّفاء وَرَابَني ... وقيل فلان أو فلانة فاحذرِ
فلله دَرُّ الغُول أيُّ رفيقةٍ ... لصاحِبِ قفْر خائِفٍ متقتِّر
أرنَّتْ بلحْن بعد لحن وأوقدَتْ ... حواليَّ نيراناً تلوح وتزهرُ
وأصبحت كالوحْشيِّ يتبَعُ ما خلا ... ويترك مَأبُوسَ البلادِ المدَعْثَرِ
وقال في هذا الباب في كلمة له، وهذا أولها:
أذِقني طَعْمَ الأمن أو سَلْ حقيقةًً ... عليَّ فإن قامتْ ففصِّل بنانيا
خلعتَ فؤادي فاستُطيرَ فأصبَحَتْ ... ترامى بي البيدُ القِفارُ تراميا
كأني وآجال الظِّباء بقفرةًٍ ... لنا نسبٌ نرعاه أصبح دانيا
رأين ضئيلَ الشَّخْصِ يظهَرُ مَرَّةًً ... ويخْفَى مراراً ضامِرَ الجسم عاريا
فأجْفَلنَ نفْراً ثمَّ قُلنَ ابنُ بلدةًٍ ... قليلُ الأذى أمْسى لكُنَّ مُصَافيا
ألا يا ظِباءَ الوَحْشِ لا تُشْهِرُنَّنيً ... وأخفِينني إذ كنتُ فِيكن خافيَا
أكلت عُرُوق الشَّرْي مَعْكُنَّ والْتَوىً ... بحَلقي نَوْرُ القَفْرِ حتَّى وَرانيا
وقد لقيتْ مني السِّباعُ بليّةًً ... وقد لاقت الغيلانُ مِنِّي الدّواهيا
ومنهنّ قد لاقيت ذاك فلم أكُنْ ... دجباناً إذا هَوْلُ الجبان اعترَانيا
أذقت المنايا بَعْضَهُنَّ بأسهميً ... وقدّدْن لحمي وامتَشَقْنَ ردائيا
أبِيتُ ضجيع الأسْوَدِ الجَون في الهُوَى ... كثيراً وأثناءُ الحشاش وسادِيَا
إذا هِجْن بي في جُحْرِهنَّ اكتنفننيً ... فليت سُلَيمانَ بن وَبْرٍ يرانيا
فما زِلت مُذ كْنتُ ابن عشرين حِجةً ... أخا الحرب مَجْنيّاً عليَّ وجانيا
ومما ذكر فيه الغيلان قولُه:
نقول وقد ألممتُ بالإنس لَمَّةً ... مُخضَّبةُ الأطرافِ خُرْسُ الخلاخِلِ
أهذا خليلُ الغُول والذِّئب والذي ... يهيمُ بِرَبّاتِ الحِجال الكوَاهلِ
رَأتْ خَلقَ الأدراس أشْعَثَ شاحباً ... على الجدْب بَسَّاماً كريمَ الشَّمائلِ
تعوَّدَ من آبائه فَتكاتِهم ... وإطعامَهُمْ في كلِّ غبْراء شامِلِ
إذا صاد صيداً لفَّه بضرامِهِ ... وشيكاً ولم ينْظر لنَصْب المراجلِ
ونهْساً كنَهْس الصقر ثم مِراسهُ ... بكفّيه رأسَ الشَّيخة المتمايل
فلم يسحب المِنديلَ بين جماعةٍ ... ولا فارداً مذ صاحَ بيْن القوابلِ
ومما قال في هذا المعنى:
علام تُرَى ليلى تعذِّب بالمُنى ... أخا قفَراتٍ كان بالذئب يأنسُ
وصار خليل الغُول بَعْد عداوةٍ صَفيّاً وربّتهُ القفارُ البسابسُ
وقال في هذا المعنى:
فلولا رجالٌ يا مَنيعُ رأيتَهم ... لهم خُلقٌ عند الجوار حَمِيدُ
لنالكُمُ مِني نكالٌ وغارةٌ ... لها ذنبٌ لم تدركُوه بعيدُ
أقلَّ بنو الإنسان حتَّى أغرتمُ ... على من يثير الجنّ وهي هجودُ
أخبار وطرف تتعلق بالجن
وقال ابن الأعرابي: وَعدت أعرابيَّةٌ أعرابيّاً أن يأتيها، فكمن في عُشَرةٍ كانت بقربهم، فنظر الزّوجُ فرأى شَبَحاً في العُشرَةَ، فقال لامرأته: يا هَنَتاهُ إنّ إنساناً لَيُطالعنا من العُشَرة قالت: مَهْ يا شيخُ، ذاك جانُّ العُشَرة إليك عنّي وعن ولَدِي قال الشيخ: وعنِّي يرحَمُك اللّه قالت: وعن أبيهم إن هو غطَّى رأسه ورقد، قال: ونام الشَّيخ، وجاء الأعرابي فسَفَع برجليها ثمّ أعطاها حتى رضيت.
وروى عن محمّد بن الحسن، عن مُجالِد أو عن غيره وقال: كنّا عند الشّعبي جُلوساً، فمرَّ حمّالٌ على ظهره دَنّ خَلٍّ، فلما رأى الشّعبيَّ وضع الدّنّ وقال للشعبي: ما كان اسمُ امرأة إبليس؟ قال: ذاك نكاحٌ ما شهدناه .
وأبو الحسن عن أبي إسحاق المالِكي قال: قال الحجاج ليحيى بن سعيد بن العاص: أخبرني عبدُ اللّه بن هلال صديق إبليس، أنّك تشبه إبليس قال: وما ينكر أنْ يكون سيد الإنس يُشبه سيد الجنِّ وروى الهيثم عن داود بن أبي هند، قال: سئل الشّعبي عن لحم الفيل، فتلا قولَه عزّ ذكره: " قُلْ لا أَجِدُ فيما أُوحِي إليّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يطْعَمُهُ إلاَّ أنْ يكُونَ مَيْتَةً أوْ دمَاً مَسْفُوحاً أوْ لَحْمَ خِنْزيرٍ " إلى آخر الآية، وسُئل عن لحم الشَّيطان فقال: نحن نرضى منه بالكَفَاف، فقال له قائل: ما تقولُ في الذِّبّان؟ قال: إن اشتهيته فكُلْهُ.
وأنشدوا قول أعرابي لامرأته:
ألا تمُوتين إنا نبتغي بدلاإن اللواتي يموِّتن الميامين
أم أنت لازلتِ في الدنيا معَمَّرَةً ... كما يُعَمَّر إبليسُ الشَّياطِين
وقال أبو الحسن وغيرُه: كان سعيدُ بن خالد بن عبد اللّه بن أسيد تصيبهُ مُوتة نصف سنة، ونصفَ سنةٍ يصح، فيحبو ويُعطي، ويكسُو ويَحمِل، فأراد أهلُه أنْ يعالِجُوه، فتكلّمت امرأةٌ على لسانه فقالت، أنا رُقيَّة بنت ملْحان سيِّد الجنِّ، واللّه أنْ لو علِمتُ مكانَ رجل أشرَف منه لعلِقْتُه واللّه لئن عالجتموه لأقتُلنّه فتركوا علاجه.
وتقول العرب: شيطان الحمَاطة، وغول القَفْرَة، وجانُّ العُشرَة، وأنشد:
فانصَلتَتْ لي مِثْلَ سعلاةِ العُشَرْ ... تروح بالوَيْل وتَغْدُو بالغِيَرْ
وأنشد:
يا أيُّها الضاغب بالغُمْلولْ ... إنّك غُولٌ ولدَتْكَ غولْ
الغُملول: الخمرَ من الأرض اختبأ فيه هذا الرجل، وضغب ضغبة الأرنب، ليفزعه ويوهمه أنّه عامر لذلك الخمر.
رؤية الغيلان وسماع عزيف الجان
من ادعى من الأَعراب والشعراء أنهم يرون الغيلان ويسمعون عزيف الجان
وما يشبهون بالجن والشياطين، وبأعضائهم وبأخلاقهم وأعمالهم.
وأنشد:
كأنّه لَمَّا تدانى مَقْربُه ... وانقطعت أوْذامُه وكُرَبُهْ
وجاءت الخيلُ جميعاً تَذنِبُهْ ... شيطان جنّ في هواء يرقُبهْ
أذنب فانقضَّ عليه كوكبُهْ
وأنشد:
إنّ العُقَيليَّ لا تلقى له شَبهاً ... ولو صَبرْتَ لتلقاه على العِيسِ
بَيْنا تَراهُ عليه الخزُّ متَّكِئاً ... إذ مَرَّ يهدج في خَيش الكرابيس
وقد تكنَّفَهُ غُرَّامُه زَمَناً ... أشباهُ جِنٍّ عكوفٍ حَوْل إبليسِ
إذا المفاليسُ يوماً حاربُوا مَلِكاً ... ترى العُقيليّ منهمْ في كرادِيسِ
وهو الذي يقول:
أصبحتَ مَا لَكَ غيرُ جِلْدِكَ تَلبَسُ ... قَطرَ السَّماء وأنْتَ عارٍ مُفْلِسُ
وقال الخطفى:
يَرْفَعْنَ بالليل إذا ما أسْدفَا ... أعْناقَ جِنَّانٍ وهاماً رُجَّفا
وَعَنَقاً بعد الرسيم خيطفا
وأنشد ابنُ الأعرابي:
غناءً كليبياً تَرَى الجنَّ تبتغي ... صَدَاهُ إذا ما آب للجشنِّ آيبُ
وقال الحارث بن حلزة:
ربُّنا وابننا وأَفضل منْ يَمْ ... شي ومَنْ دونَ ما لَديْه الثَّناءُ
إرَميٌّ بمثْلهِ جالَتِ الج ... نُّ فآبتْ لخصْمها الأجْلاءُ
وقال الأعشى:
فإنِّي وما كَلَّفتُموني ورَبِّكم ... ليعلم من أمْسى أعَقَّ وأحْوَبا
لكالثَّور والجْنيُّ يضربُ ظهْرَهُ ... وما ذنْبُه أنْ عافَتِ الماء مَشْربا
وقال الزَّفيان العُوافيُّ واسمه عطاء بن أسِيد أحد بني عُوافةَ بن سعد:
بَيْن اللّها منه إذا ما مدّا ... مثلُ عزِيف الجن هَدّتْ هَدّا
وقال ذو الرُّمَّة:
قد أعسِفُ النَّازحَ المجهُولَ مَعْسِفُه ... في ظلِّ أغْضَف يَدْعو هامَهُ البُومُ
للجِنِّ باللّيل في حافاتها زَجَلٌ ... كما تناوَحَ يوم الريح عيشومُ
داويّةٍ ودُجَى ليل كأنَّهما ... يَمٌّ تراطَنُ في حافاته الرُّومُ
وقال:
وكمْ عَرَّستْ بعد السُّرى من مُعَرَّس ... به من كلام الجن أصواتُ سامِرِ
وقال:
كمْ جُبْتُ دُونَكَ من يَهْماء مُظْلمةٍ ... تِيهٍ إذا ما مُغَنِّي جِنَّةٍ سَمَرا
وقال:
ورَمل عزيف الجنِّ في عَقِداتِه ... هزيزٌ كتضْرابِ المغنِّين بالطّبْلِ
وقال:
وتِيهٍ خَبَطْنا غَوْلها وارتمى بنا ... أبو البعد من أرجائها المتطاوحُ
فلاةٌ لِصوت الجنِّ في مُنْكَراتها ... هزيزٌ وللأبوام فيها نوائحُ
وطولُ اغتماسي في الدُّجى كلما دعت ... من اللَّيل أصداءُ المِتَانِ الصوائحُ
وقال ذو الرّمة:
بلاداً يبيتُ البومُ يدعُو بناتِه ... بها ومن الأصداءِ والجنِّ سامرُ
وقال ذو الرمة:
وللوحشِ والجِنّانِ كُلَّ عشِيةٍ ... بها خِلْفةٌ من عازفٍ وبُغامِ
وقال الراعي:
ودَاوِيّةٍ غبراءَ أكثرُ أهْلِها ... عزِيفٌ وبُومٌ آخِرَ الليل صائحُ
أقرّ بها جأشِي تأوُّل آيةٍ ... وماضي الحسام غمِدُه متصايحُ
لطيم الشيطان
ويقال لمن به لقوة أو شتَر، إذا سُبَّ: يا لطيم الشيطان.
وكذلك قال عبيد اللّه بن زياد، لعمرو بن سعيد، حين أهوى بسيفه ليطعنَ في خاصرة عبد اللّه بن معاوية، وكان مستضعفاً، وكان مع الضّحّاك فأسِرَ، فلمّا أهوى له السيفَ وقد استردفه عبيدُ اللّه، واستغاث بعبيد اللّه، قال عبيد اللّه لعمرو: يدك يا لطيمَ الشيطان.
قولهم: ظل النعامة، وظل الشيطان ويقال للرَّجُل المفرط الطّول: يا ظلَّ النّعامة وللمتكبِّر الضخم: يا ظلَّ الشيطان كما قال الحجّاج لمحمد بن سَعْد بن أبي وقاص: بينا أنت، يا ظلَّ الشّيطان، أشدُّ النَّاس كِبْراً إذْ صِرتَ مؤذِّناً لفلان.
وقال جريرٌ في هجائه شَبّةَ بن عِقال، وكان مُفْرط الطّول:
فَضَح المنابرُ يَوْمَ يَسْلَحُ قائماً ... ظِلُّ النّعامةِ شَبّةُ بنُ عِقالِ
قولهم: ظل الرمح فأما قولهم: مُنينا بيوم كظلِّ الرمح فإنّهم ليس يريدون به الطول فقط، ولكنّهم يريدون أنّه مع الطول ضيق غيرُ واسع.
وقال ابن الطّثرية:
ويَوْمٍ كظِلِّ الرُّمح قَصَّر طُوله ... دَمُ الزِّقِّ عنّا واصطِفاقُ المَزَاهِرِ
قال: وليس يوجد لظلِّ الشخص نهاية مع طلوع الشّمس.
التشبيه بالجن
قال: وكان عمر بن عبد العزيز أوّلَ من نهى النّاسَ عن حمل الصِّبيان على ظهور الخيل يوم الحَلبة، وقال: تحمِلون الصِّبيان على الجِنَّان؟.
وأنشد في تشبيه الإنس بالجن لأبي الجُوَيرِية العَبْدي:
إنسٌ إذا أمنوا جِنٌّ إذا فزعوا ... مُرزَّؤُونَ بهاليلٌ إذا حَشدوا
وأنشدوا:
وقلتُ واللّه لنَرحَلنّا ... قلائصاً تحسِبهنَّ جنا
وقال ابن ذي الزوائد:
وَحَوْلي الشَّوْلُ رُزَّحاً شُسُباً ... بَكِية الدَّرِّ حينَ تُمْتَصَرُ
ولاذَ بي الكلبُ لا نُباحَ له ... يهِرُّ مُحْرنْجماً وينجَحِرُ
بُحُورُ خَفْضٍ لمنْ ألمَّ بهِمْ ... جِنٌّ بأرماحِهمْ إذا خطروا
وأنشدوا:
إنِّي امرؤٌ تابعَني شيطانِيَه ... آخيتهُ عُمْرِي وقد آخانِيه
يشْرَبُ في قَعْبي وقد سقانِيَه ... فالحمدُ للّه الذي أعطانِيَه
قرْماً وخُرْقاً في خُدودٍ واضيه ... تربَّعَتْ في عُقدٍ فالماويه
َبقلاً نَضِيداً في تِلاعٍ حاليه ... حتّى إذا ما الشّمْسُ مَرَّتْ ماضيه
قام إليها فتيةٌ ثمانيه ... فثوَّروا كلَّ مَرِيٍّ ساجيَه
أخلافها لِذي الأكف مالِيَه
جبل الجن
وقال ابنُ الأعرابي: قال لي أعرابي مَرّة مِن غنيٍّ وقد نزلت به، قال: وهو أخفُّ ما نزلتُ به و أطيَبُه، فقلت: ما أطيب ماءكم هذا، وأعْذى منزلكم قال: نعم وهو بعيدٌ من الخَير كله، بعيد من العراق واليمامة والحجاز، كثير الحيات، كثير الجنان فقلت: أتَروَنَ الجن؟ قال: نعم مكانُهم في هذا الجبل - وأشار بيدهِ إلى جبل يقال له سُواج قال: ثمَّ حدَّثني بأشياء.
شعر فيه ذكر الجن
وقال عبيد بن أوس الطائي في أخت عَدي بن أوس:
هلْ جاءَ أوساً ليلتي ونعيمها ... ومقامُ أوْسٍ في الخِباء الْمُشْرَجِ
ما زِلتُ أطوي الجِنّ أسمع حِسَّهُمْ ... حَتّى دَفَعْتُ إلى ربيبة هودجِ
فوضعت كفِّي عند مقطع خَصْرِها ... فَتَنَفّستْ بُهْراً ولمَّا تنهجِ
فتناولتْ رأْسي لِتعرفَ مَسّهُ ... بمخضّبِ الأطرافِ غيرِ مُشنّجِ
قالتْ بعَيْشِ أخي وحُرمة والدي ... لأُنَبِّهَنَّ الحيّ إنْ لم تخرجِ
فخرجتُ خيفةَ قومها فتبسَّمَتْ ... فعلمْتُ أنّ يمينها لم تلججِ
فلثمْت فاهاً قَابضاً بقُرونِها ... شُرْبَ النَّزيفِ ببرْدِ ماء الحشْرَج
وأنشدني آخر:
ذَهَبْتُمْ فعُذْتمُ بالأمير وقُلْتُمُ ... تركْنا أحاديثاً ولحماً مُوضعاً
فما زَادَني إلاّ سناءً ورِفعة ... ولا زادكُمْ في القوم إلاّ تخشّعا
فما نفرتْ جِنِّي ولا فُلَّ مِبردِي ... وما أصبحت طيري من الخوفِ وُقَّعَا
وقال حسّانُ بنُ ثابت، في معنى قولِه: وللّه لأضربنَّه حتَّى أنزع من رأسِه شيطانه، فقال:
وداوِيةٍ سَبسَبٍ سَمْلَقٍ ... مِنَ البيِد تَعْزِفُ جنّانُها
قطَعْتُ بِعَيْرانةٍ كالفَنِي ... قِ يَمْرَحُ في الآل شَيْطانُها
فجمع في هذا البيت تثبيت عزيف الجن، وأنَّ المراح والنشاط والْخُيلاء والغرب هو شيطانُها
وأبينُ منْ ذلك قولُ منظور بن رواحة:
أتاني وأهْلي بالدِّماخ فغمرةٍ ... مَسبُّ عويفِ اللؤم حيَّ بني بدرِ
فلمّا أتاني ما يقولُ ترقّصت ... شياطينُ رأسي وانْتشْينَ من الخَمْرِ
من المثل والتشبيه بالجن
ومن المثَل والتّشبيه قولُ أبي النّجم:
وقام جِنِّيُّ السَّنام الأميَلِ ... وامْتَهَدَ الغاربَ فِعْلَ الدُّمَّلِ
وقال ابن أحمر:
بهَجْلٍ من قساً ذفِر الخُزامَى ... تداعى الجربياءُ به الحنينا
تكسَّر فوقه القَلَعُ السَّوارِي ... وجُنَّ الخازِبازِ به جُنونا
وقال الأعشى:
وإذا الغيثُ صَوْبُه وضع القِدْ ... حَ وجُنَّ التِّلاعُ والآفاقُ
لم يزدهم سفاهَةً شُرُبُ الْخمْ ... رِ ولا اللهوُ بينهُم والسِّباق
وقال النابغة:
وخَيِّس الجِنَّ إنِّي قد أذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ
ما يزعمون أنه من عمل الجن
وأهلُ تدمُر يزعمون أنّ ذلك البناء بُنيَ قبل زمن سليمان، عليه السلام، بأكثرَ مما بيننا اليوم وبين سليمان بن داود عليهما السلام قالوا: ولكنّكم إذا رأيتمْ بنياناً عجيباً، وجهلتم موضع الحِيلة فيه، أضفْتُموه إلى الجنِّ، ولم تعانوه بالفكر.
وقال العَرْجيُّ:
سدّتْ مسامِعها بفرْجِ مراجِل ... مِنْ نَسْج جِنٍّ مثله لا يُنسَجُ
وقال الأصمعيُّ: السيوف المأثورة هي التي يقال إنها من عمل الجن والشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام، فأمّا القوارير والحمامات، فذلك ما لا شك فيه، وقال البعيث:
بَنَى زِيادٌ لذِكْرِ الله مَصْنَعَةً ... من الْحِجارة لم تُعملْ من الطِّينِ
كأنَّها غير أنّ الإنسَ ترفَعُها ... مما بنتْ لسليمانَ الشياطينُ
وقال المقنَّع الكِنْديُّ:
وفي الظّعائِنِ والأحْداجِ أمْلَحُ منْ ... حَلَّ العِراقَ وَحَلَّ الشامَ واليَمنَا
جِنِّيّةٌ مِنْ نِسَاءِ الإنسِ أحسَنُ مِنْ ... شَمْسِ النّهارِ وبَدْرِ اللّيلِ لو قُرِنَا
مَكتومةُ الذكرِ عندي ما حيِيتُ له ... قَدْ لَعَمْري مَلِلتُ الصَّرمَ والحَزَنَا
وقال أبو النَّجم:
أدرك عقلاً والرهان عمله ... كأنّ تُرْبَ القاع حينَ تَسحَلُه
صيقُ شياطينَ زَفَتْهُ شَمْألهْ
وقال الأعشى في المعنى الأوّل، من بناء الشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام:
أرى عَادِيا لمْ يمنع الموْتَ رَبُّه ... ووَرْدٌ بتيماءِ اليهوديِّ أبلقُ
بناهُ سُليمانُ بنُ داودَ حِقْبةً ... له جَنْدَلٌ صُمٌّ وطيٌّ موثَّقُ
مواضع الجن
وكما يقولون: قنفذ بُرْقة، وضبُّ سحاً، وأرنب الخلَّة، وذئب خَمر فيفرقون بينها وبينَ ما ليست كذلك إمَّا في السِّمن، وإمّا في الخُبث، وإمَّا في القوة - فكذلك أيضاً يفرقون بين مواضع الجن، فإذا نَسبُوا الشّكل منها إلى موضعٍ معروف، فقد خَصُّوه من الخُبث و القُوة والعَرامة بما ليس لجملتهم وجمهورهم، قال لبيد:
غُلْب تَشَذّرُ بالذُّحولِ كأنّها ... جنُّ البَدِيِّ رواسِياً أقدامُها
وقال النّابغة:
سهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهُمْ ... تحتَ السَّنَوَّرِ جِنَّةُ البقّارِ
وقال زهير:
عَلَيْهِنَّ فِتْيانٌ كَجِنّةِ عَبقرٍ ... جديرون يوماً أن يُنيفوا فيَسْتعلوا
وقال حاتم:
عليهنّ فِتْيانٌ كَجِنّة عبقر ... يهزُّون بالأيدي الوشِيجَ المقوّما
ولذلك قيل لكلِّ شيء فائق، أو شديدٍ: عبقري.
وفي الحديث، في صفة عمر رضي اللّه عنه فلم أر عبقريّاً يفري فَرِيّه، قال أعرابي: ظلمني واللّه ظُلماً عبقريّاً.
مراتب الجن والملائكة
ثمَّ ينزلون الجن في مراتب، فإذا ذكروا الْجِنِّيَّ سالماً قالوا: جني، فإذا أرادوا أنّه ممن سكن مع النَّاس قالوا: عامر، والجميع عُمّار، وإنْ كان ممن يعرض للصبيان فهُمْ أرواح، فإن خبُث أحدُهم وتعرَّم فهو شيطان، فإذا زاد على ذلك فهو مارد، قال اللّه عز ذكره: " وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ ماردٍ " فإن زاد على ذلك في القوَّة فهو عفريت، والجميع عفاريت، قال اللّه تعالى: " قال عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أنَا آتيكَ بِهِ قبْلَ أنْ تَقْومَ منْ مقامِك " .
وهم في الجملة جنٌّ وخوافي، قال الشاعر:
ولا يُحَسُّ سِوى الخافي بها أثرُ
فإن طهَرَ الجني ونَظُف ونَقِيَ وصار خيراً كلُّه فهو مَلَك، في قول من تأول قوله عز ذكره: " كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ " على أنّ الجنَّ في هذا الموضع الملائكة.
وقال آخرون: كان منهم على الإضافة إلى الدّار والدّيانة، لا على أنّه كان من جنْسهم، وإنّما ذلك على قولهم سليمان بن يزيد العدوي، وسليمان بن طرْخان التّيمي، وأبو علي الحرمازي، وعَمْرو بن فائد الأسواري، أضافوهم إلى المحالّ، وتركوا أنسابهم في الحقيقة.
استطراد لغوي وقال آخرون: كلُّ مُستْجِنٍّ فهو جِنّيٌّ، وجانّ، وجنين، وكذلك الولدُ قيل له جنينٌ لكونه في البطْن واستجنانه، وقالوا للمّيت الذي في القبر جنين، وقال عمْرو بن كلثوم:
ولا شمْطاءُ لم تَدعِ المنايا ... لها منْ تِسْعَةٍ إلاّ جنينا
يُخبر أنّها قد دَفَنَتْهُم كلُّهم.
قالوا: وكذلك الملائكة، من الحَفَظة، والحمَلة، والكَرُوبيِّينَ، فلا بدّ من طبقات، وربُّما فُرِّق بينهم بالأعمال، واشتُقَّ لهم الاسمُ من السّبب كما قالُوا لواحدٍ من الأنبياء: خليل اللّه، وقالوا لآخر: كليم اللّه، وقالوا لآخر: روح اللّه.
مراتب الشجعان
والعرب تُنزل الشُّجعاء في المراتب، والاسم العامُّ شجاع، ثمَّ بطلَ، ثم بُهْمة، ثم أليَس، هذا قول أبي عبيدة.
فأمّا قولهم: شيطان الحماطة، فإنّهم يعنون الحيّة، وأنشد الأصمعي:
تُلاعِبُ مَثْنى حَضْرَميٍّ كأنّهُ ... تَعمُّجُ شيطان بذي خِرْوَع قَفْرِ
وقد يُسَمُّون الكِبر والطغيان، والخُنْزُوانة، والغضبَ الشّديدَ شيطاناً، على التّشبيه، قال عمر بن الخطاب، رضي اللّه تعالى عنه: والله لأنزِعَنّ نُعْرتَه، ولأضربنَّه حتى أنزع شيطانه من نخرته.
مراتب الجن والأعراب تجعل الخوافِي والمستجِنّات، من قبل أن ترتِّب المراتب، جنسين، يقولون جِنّ وحنّ، بالجيم والحاء، وأنشدوا:
أبيتُ أهْوي في شياطينَ تُرِنّ ... مختلفٍ نجواهمُ حِنٌّ وجنّ
ويجعلون الجِنّ فوق الحنّ، وقال أعشى سليم:
فما أنا منْ جِنٍّ إذا كنتُ خافياً ... ولستُ من النَّسْناسِ في عنصُرِ البَشَرْ
ذهب إلى قول من قال: البشر ناسُ ونسناس، والخوافي حنّ وجنّ، يقول: أنا من أكرم الجِنسين حيثما كنت.
شيطان ضعفة النُّسّاك والعباد وضَعَفة النسّاك وأغبياءُ العُبّاد، يزعمون أنّ لهم خاصّة شيطاناً قد وُكِّل بهم، ويقال له المذهِب يُسْرِج لهم النِّيران، ويُضيء لهم الظُّلْمة ليفتنهم وليريهم العجب إذا ظنُّوا أنّ ذلك من قِبَل اللّه تعالى.
شيطان حفظة القرآن وفي الحديث أنّ الشّيطانَ الذي قد تفرّد بحفظة القرآن يُنْسِيهم القرآن، يسمى خَنْزَب، وهو صاحب عثمان بن أبي العاص.
الخابل والخبل قال: وأما الخابل والخَبَل، فإنما ذلك اسمٌ للجنّ الذين يخبلون النّاسَ بأعيانهم، دون غيرهم، وقال
تناوح جِنّان بهنَّ وخُبَّلُ
كأنّه أخْرج الذين يخبلون ويتعرَّضون، ممّن ليس عنده إلاّ العزيف والنّوح، وفصل أيضاً لبيدٌ بينهم فقال:
أعاذلُ لو كان النِّداد لقُوتلوا ... ولكنْ أتانا كُلُّ جنّ وخابلِ
وقد زعم ناسٌ أنَّ الخبلَ والخابل ناس، قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، فكيف يقول أوس بن حجر:
تناوح جِنّان بهن وخُبّلُ
استطراد لغوي
قالوا: وإذا تعرّضَت الجنّيّة وتلوَّنتْ وعَبِثت فهي شيطانة، ثم غُول، والغُول في كلام العرب الدَّاهية، ويقال: لقد غالَتْهُ غول، وقال الشاعر:
تقول بيتي في عِزّْ وفي سعَةٍ ... فقدْ صدقْتَ ولكنْ أنت مدخولُ
لا بأسَ بالبَيْتِ إلاّ ما صنعت به ... تَبْني وتَهْدِمُه هدّاً له غولُ
وقال الرَّاجز:
والحربُ غولٌ أو كشبه الغُولِ ... تُزَفُّْ بالرّاياتِ والطُّبول
تَقْلِبُ للأوتارِ والذُّحُولِ ... حِملاقَ عَيْنٍ ليس بالمكْحُولِ
زواج الأعراب للجن
ومن قول الأعراب أنهم يظهرون لهم، ويكلِّمونهم، ويناكحونهم، ولذلك قال شمر بن الحارث الضّبي:
ونارٍ قد حضأتُ بُعَيْدَ هَدْءٍ ... بدارٍ لا أُريدُ بها مُقامَا
سِوى تَحْليلِ راحلةٍ وعينٍ ... أُكالئُها مخافَة أنّ تناما
أتَوْا نَارِي فقلتُ منونَ قالوا ... سراةُ الجنِّ قلتُ عِموا ظلاما
فقُلْتُ إلى الطَّعامِ فقالَ مِنْهُمْ ... زعيمٌ نحسد الإنسَ الطَّعاما
وذكر أبو زيدٍ عنهم أن رجلاً منهم تزوج السِّعلاة، وأنها كانت عنده زماناً، وولدت مِنْه، حتَّى رأت ذات ليلةٍ بَرْقاً على بلاد السَّعالي، فطارَتْ إليهنّ، فقال:
رأى بَرْقاً فأوْضعَ فوقَ بَكْرٍ ... فلا بكِ ما أسال وما أَغامَا
فمن هذا النِّتاج المشترك، وهذا الخلْقِ المركَّب عندهم، بنو السِّعلاة، من بين عمرو بن يربوع، وبلقيسُ ملكة سبأ، وتأوَّلوا قول الشاعر:
لاهُمّ إنَّ جُرْهُماً عبادُكا ... النّاس طِرْفٌ وهُمُ تِلادُكا
فزَعموا أن أبا جُرهمٍ من الملائكة الذين كانوا إذا عصوا في السَّماء أُنزلوا إلى الأرض، كما قيل في هاروت وماروت، فجعلوا سُهيلاً عشّاراً مُسِخ نجماً، وجعلوا الزُّهرة امرأة بغيّاً مُسِخت نجماً، وكان اسمها أناهيد.
وتقول الهند في الكوكب الذي يسمّى عُطارِدَ شبيهاً بهذا.
المخدومون ويقول الناس: فلانٌ مخدوم يذهبون إلى أنّه إذا عَزَم على الشَّياطين والأرواح والعُمَّار أجابوه وأطاعوه، منهم عبد اللّه بن هلال الحميريّ، الذي كان يقال له صديق إبليس، ومنهم كرباش الهنديّ، وصالح المديبري.
شروط إجابة العامر للعزيمة وقد كان عبيد مُجّ يقول: إن العامِر حريصٌ على إجابة العزيمة، ولكنّ البدنَ إذا لم يصلُحْ أن يكون له هيكلاً لم يستطعْ دخوله، والحيلةُ في ذلك أن يتبخَّرَ باللبان الذّكر، ويراعي سَيْرَ المشتري، ويغتسلَ بالماء القراح، ويدعَ الجماعَ وأكلَ الزُّهُومات، ويتوحّش في الفيافي، ويُكثر دخول الخراباتِ، حتى يرقَّ ويلطف ويصفو ويصير فيه مشابِهُ من الجنّ، فإن عزم عند ذلك فلم يُجب فلا يعودنّ لمثلها فإنه ممَّن لا يصلح أن يكون بدنه هيكلاً لها، ومتى عاد خُبط فربما جُنّ، وربما مات.
قال: فلو كنت ممَّن يصلح أن يكون لهم هيكلاً لكنت فوق عبد اللّه بن هلال.
رؤية الجن
قال الأعراب: وربما نزلنا بجمعٍ كثير، ورأينا خياماً وقباباً،وناساً، ثم فقدناهم من ساعتنا.
والعوامّ ترى أنّ ابن مسعود، رضي اللّه عنه، رأى رجالاً من الزُّطِّ فقال: هؤلاء أشبه من رأيت بالجنّ ليلة الجنّ.
قال: وقد رُوي عنه خلاف ذلك.
وتأوّلوا قوله تعالى: " وأنَّه كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرجالٍ مِنَ الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهَقاً " ، ولم يُهلك الناس كالتأويل.
ومما يدلُّ على ما قُلنا قولُ أبي النّجم، حيث يقول:
بحيثُ تُستنُّ مع الجنّ الغُولُ
فأخرج الغول من الجِنّ، للذِي بانَتْ به من الجنّ.
وهكذا عادتهم: أن يُخرجوا الشيء من الجملة بعد أنْ دخَلَ ذلك الشيء في الجملة، فيظهر لأمر خاصّ.
وفي بعض الرِّواية أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من أجواف الأوثان همهمةٍ، وأن خالد بن الوليد حين هدم العُزَّى رمته بالشّرَر حتى احترق عامّةُ فخذه، حتى عادهُ النبيَ صلى الله عليه وسلم.
وهذه فتنةٌ لم يكن اللّه تعالى ليمتحنَ بها الأعراب وأشباه الأعراب من العوامّ، وما أشك أنه قد كانتْ للسَّدنة حِيَلٌ وألطاف لمكان التكسُّب.
ولو سمعت أو رأيت بعض ما قد أعدّ الهِنْدُ من هذه المخاريق في بيوت عباداتهم، لعلمت أنّ اللّه تعالى قد مَنَّ على جملة الناس بالمتكلِّمين، الذين قد نشؤوا فيهم.
افتتان بعض النصارى بمصابيح كنيسة قمامة
وقد تَعْرِف ما في عجايز النصارى وأغمارهم، من الافتنان بمصابيح كنيسة قمامة، فأما علماؤُهم وعقلاؤُهم فليسوا بمتحاشِين من الكذب الصِّرف، والجراءةِ على البُهتان البَحْت، وقد تعوَّدُوا المكابرة حتى درِبوا بها الدَّرب الذي لا يفطن له إلا ذو الفِراسة الثّابتة، والمعرفة الثّاقبة.
إيمان الأعراب بالهواتف
والأعرابُ وأشباهُ الأعراب لا يتحاشَون من الإيمان بالهاتف، بل يتعجَّبون ممن ردَّ ذلك، فمن ذلك حديث الأعشى بن نبّاش بن زرارة الأسدي، أنه سمع هاتفاً يقول:
لقد هَلَك الفيَّاضُ غيثُ بني فِهْرِ ... وذُو الباعِ والمجْدِ الرَّفيعِ وذو الفخرِ
قال: فقلتُ مجيباً له:
ألا أيُّها الناعي أخا الجود والنّدَى ... مَن المرْءُ تَنْعاهُ لنا من بين فِهْرِ
فقال:
نَعيْت ابن جدْعان بن عمروٍ أخا النَّدى ... وذا الحسب القُدْمُوس والحسب القهرِ
وهذا الباب كثير.
قالوا: ولنَقل الجنّ الأخبارَ علمَ الناس بوفاةِ الملوك، والأمور المهمة، كما تسامعُوا بموت المنصور بالبصرة في اليوم الذي تُوفي فيه بقرب مكة، وهذا الباب أيضاً كثير.
من له رَئيٌّ من الجن
وكانوا يقولون: إذا ألف الجنّي إنساناً وتعطَّف عليه، وخبّره ببعض الأخبار، وجد حِسّه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئَيٌّ من الجن، وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لُحيّ بن قَمَعة، والمأمور الحارثي، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، في ناسٍ معروفين من ذوي الأقدار، من بين فارس رئيس، وسيِّد مُطاع.
فأما الكهّان: فمثل حارثة جهينة، وكاهنة باهلة، وعُزّى سلمة، ومثل شِقّ، وسَطيح، وأشباههم، وأما العرّاف، وهو دون الكاهن، فمثل الأبلق الأسدي، والأجلح الزهري، وعروة ابن زيد الأسدي، وعرّاف اليمامة رباح بن كَحْلة، وهو صاحب بنت المستنير البلتعي، وقد قال الشاعر:
فقلت لعراف اليمامة داوِني ... فإنَّك إنّ أبْرَأتني لَطبِيبُ
وقال جُبَيهاء الأشجعيّ:
أقامَ هَوى صفيَّة في فؤادي ... وقد سيَّرتُ كلَّ هوى حبيبِ
لكِ الخيراتُ كَيْفَ مُنِحتِ وُدِّي ... وما أنا مِنْ هَواكِ بذي نَصيبِ
أقول وعروةُ الأسديُّ يرقي ... أتاك برُقْيةِ المَلِق الكذوبِ
لَعَمْرُك ما التّثاؤبُ يا ابن زيدٍ ... بشافٍ من رُقاك ولا مُجيبِ
لَسَيْرُ النّاعجات أظنُّ أشفى ... لما بي منْ طبيب بني الذَّهوبِ
وليس البابُ الذي يدّعيه هؤلاء من جنس العيافة والزّجر، والخطوط، والنّظر في أسرار الكفّ، وفي مواضع قرض الفار، وفي الخيلان في الجسد، وفي النظر في الأكتاف، والقضاء بالنجوم، والعلاج بالفكر.
وقد كان مُسيلمة يدّعي أن معه رئيّاً في أوّل زمانه، ولذلك قال الشّاعر، حين وَصَفَ مخاريقه وخُدَعه:
بِبَيْضةِ قارورٍ ورايةِ شادنٍ ... وخُلةِ جِنّيّ وتوصيلِ طائرِ
ألا تراه ذكر خُلّة الجني.
ظهور الشق للمسافرين
ويقولون: ومن الجنِّ جنسٌ صورةُ الواحدِ منهم على نصف صورة الإنسان، واسمه شٍقّ، وإنّه كثيراً ما يعرض للرّجُل المسافر إذا كان وحْدَه، فرَّبما أهلَكه فزعاً، وربما أهلَكه ضرباً وقتلاً.
قالوا: فمن ذلك حديثُ علقمة بن صفْوان بن أميَّة بن محرِّث الكناني، جدّ مروان بن الحكم، خرج في الجاهلية، وهو يريد مالاً له بمكة، وهو على حمار، وعليه إزارٌ ورداء، ومعه مِقْرعة، في ليلةٍ إضْحِيانة، حتى انتهى إلى موضعٍ يقال له حائط حزمان، فإذا هو بشقّ له يدٌ ورجل، وعينٌ، ومعه سيف، وهو يقول:
عَلْقمُ إني مقتولْ ... وإن لحمي مأكولْ
أضْربُهُمْ بالهذْلولْ ... ضربَ غلامٍ شُملولْ
رحبِ الذَّراع بُهلولْ
فقال علقمة:
يا شِقَّها مالي ولك ... اغمِدَ عنِّي مُنْصُلك
تَقْتُل مَنْ لا يقتلك
فقال شِقّ:
عَبيت لك عَبيتُ لك ... كيما أُتِيحَ مَقْتلك
فاصبر لما قَدْ حُمَّ لَكْ
قال: فضرب كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، فخرَّا ميِّتين، فممَّن قتلت الجنّ علقمةُ ابن صفوان هذا، وحَرْب بن أميّة.
قالوا: وقالت الجنّ:
وقَبْرُ حَرْبٍ بمكانٍ قفر ... وليس قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُِ
قالوا: ومن الدَّليل على ذلك، وعلى أنَّ هذين البيتين من أشعار الجن أن أحداً لا يستطيع أن ينشدَهما ثلاث مراتٍ متصلة، لا يَتتَعْتع فيها، وهو يستطيع أن يُنشد أثْقل شعر في الأرض وأشقَّه عشْر مرّات ولا يَتَعْتَعُ.
ذكر من قتلته الجنّ أو استهوته
قال: وقتلت مِرْداسَ بن أبي عامر، أبا عبّاس بن مرداسٍ، وقتلت الغريضَ خنْقاً بعد أن غنَّى بالغناء الذي كانوا نهَوه عنه، وقتلت الجنُّ سعد بن عُبادة بن دُلَيم، وسمعوا الهاتف يقول:
نحن قتَلْنا سيِّد الخزْز ... ج سَعْد بن عُباده
رَمَيْناه بِسَهمين ... فَلَمْ نُخْطِ فُؤادَهُ
واستهوَوا سِنانَ بن أبي حارثة ليستفحلوه، فمات فيهم، واستهووا طالب بن أبي طالب، فلم يوجد له أثرٌ إلى يومنا هذا.
واستهووا عَمرو بن عَدِيٍّ اللَّخميّ الملك، الذي يقال فيه: شَبّ عَمْرٌو عن الطّوق، ثمَّ ردُّوه على خاله جذيمة الأبرش، بعد سنين وسنين.
واستهوَوا عمارة بن الوليد بن المغيرة، ونفخوا في إحليله فصار مع الوحش.
ويروون عن عبد اللّه بن فائد بإسنادٍ له يرفعه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: خرافة رَجُل من عُذْرةَ استهوتْه الشّياطين، وأنّه تحدَّث يوماً بحديثٍ فقالت امرأةٌ من نسائه: هذا من حديث خُرافة قال: لا، وخُرافةُ حقٌّ.
طعام الجن
ورووا عن عُمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، أنّه سأل المفقود الذي استهوته الجن: ما كان طعامهم؟ قال: الفول، قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف.
ورووا أن طعامهم الرِّمة وما لم يذكر اسمُ اللّه عليه.
ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم - والحديث صحيح - أنه قال: خَمِّروا آنيتكم، وأوكئوا أسقيتكم وأجيفُوا الأبواب، وأطفئوا المصابيح، واكفُفُوا صِبيانكم، فإن للشّياطين انتشاراً وخَطْفة.
رؤوس الشياطين
وقد قال الناس في قوله تعالى: " إنّها شَجَرةٌ تَخْرُجُ في أصْلِ الجحيمِ، طلْعُها كأَنَّهُ رُؤُوس الشَّياطِين " ، فزعم ناس أنّ رؤوس الشياطين ثمر شجرةٍ تكون ببلاد اليمن، لها منظر كرِيه.
والمتكلّمون لا يعرفون هذا التَّفسير، وقالوا: ما عنى إلاّ رؤُوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم، من فَسَقة الجن ومَرَدتهم، فقال أهل الطَّعن والخلاف: كيف يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نرَه فنتوهَّمه، ولا وُصِفت لنا صورته في كتابٍ ناطق، أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدلُّ على التخويف بتلك الصُّورة، والتفزيع منها، وعلى أنّه لو كان شيءٌ أبلغَ في الزَّجر من ذلك لذكَرَه، فكيف يكون الشَّأن كذلك، والناس لا يفزعون إلاّ من شيء هائل شنيعٍ، قد عاينوه، أو صوّره لهم واصفٌ صدوقُ اللسان، بليغٌ في الوصف، ونحن لم نعاينها، ولا صوَّرها لنا صادق، وعلى أنَّ أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايشْ أهل الكتابين وحَمَلَة القرآن من المسلمين، ولم تسمع الاختلاف لا يتوهَّمون ذلك، ولا يقفون عليه، ولا يفزعون منه، فكيف يكون ذلك وعيداً عاماً؟.
قلنا: وإن كنّا نحن لم نر شيطاناً قطّ ولا صوّر رؤوسها لنا صادقٌ بيده، ففي إجماعهم على ضرْب المثل بقُبح الشيطان، حتَّى صاروا يضعُون ذلك في مكانين: أحدهما أن يقولوا: لهو أقبح من الشيطان، والوجه الآخر أن يسمَّى الجميلُ شيطاناً، على جهة التطيُّر له، كما تُسمَّى الفرسُ الكريمةُ شَوهاء، والمرأة الجميلة صَمّاء، وقرناء، وخَنْساء، وجرباء وأشباه ذلك، على جهة التطيُّر له، ففي إجماع المسلمين والعرب وكلِّ من لقيناهُ على ضرْب المثل بقُبْح الشيطان، دليلُ على أنه في الحقيقة أقبحُ من كل قبيح.
والكتابُ إنَّما نزل على هؤلاء الذين قد ثبّت في طبائعهم بغاية التثبيت.
وكما يقولون: لهو أقبحُ من السحر، فكذلك يقولون، كما قال عمر بن عبد العزيز لبعض من أحسنَ الكلام في طلب حاجته - هذا واللّه السِّحر الحلال.
وكذلك أيضاً ربّما قالوا: ما فلانٌ إلا شيطان على معنى الشَّهامة والنَّفاذ وأشباه ذلك.
صفة الغول والشيطان والعامّة تزعم أنَّ الغول تتصوَّر في أحسن صورة إلا أنه لا بدَّ أن تكون رِجْلُها رجلَ حمارٍ.
وخبَّروا عن الخليل بن أحمد، أنّ أعرابيّاً أنشده:
وحافر العَير في ساقٍ خَدَلَّجةٍ ... وجفنِ عينٍ خلاف الإنسِ في الطولِ
وذكروا أنّ العامَّة تزعم أنّ شقَّ عين الشيطان بالطول، وما أظنُّهم أخذوا هذين المعنين إلاّ عن الأعراب.
ردّ على أهل الطعن في الكتاب وأما إخبارهم عن هذه الأمم، وعن جهلها بهذا الإجماع والاتِّفاق والإطباق، فما القول في ذلك إلاّ كالقول في الزَّبانِية وخزنةِ جهنَّم، وصُورِ الملائكة الذين يتصوّرون في أقبح الصُّور إذا حضروا لقبْض أرواحِ الكفار، وكذلك في صور مُنكر ونكير، تكون للمؤمن على مثال، وللكافر على مثال.
ونحن نعلم أنّ الكفار يزعمون أنهم لا يتوهّمون الكلامَ والمحاجَّةَ من إنسان ألقي في جاحِم أتُّون فكيف بأن يُلَقى في نار جهنّم؟ فالحجّة على جميع هؤلاء، في جميع هذه الأبواب، من جهةٍ واحدة، وهذا الجوابُ قريبٌ، والحمد للّه.
وشقُّ فم العنكبوت بالطول، وله ثماني أرجل.
سكنى الجن أرض وبارِ
وتزعم الأعرابُ أن اللّه عزّ ذكره حين أهلك الأُمة التي كانت تسمَّى وبارِ، كما أهلك طسْماً، وجَدِيساً، وأميماً، وجاسماً، وعملاقاً، وثموداً وعاداً - أنَّ الجنّ سكنت في منازلها وحمتها من كلِّ مَنْ أرادها، وأنّها أخصبُ بلاد اللّه، وأكثرها شجراً، وأطيبُها ثمراً، وأكثرها حبّاً وعنباً، وأكثرها نخلاً وموزاً، فإن دنا اليومَ إنسانٌ من تلك البلاد، متعمِّداً، أو غالطاً، حَثوا في وجهه التراب، فإن أبى الرُّجوعَ خبلوه، وربّما قَتلوه.
والموضع نفسه باطل، فإذا قيل لهم: دُلُّونا على جهته، ووقِّفونا على حدِّه وخلاكُم ذمٌّ - زعموا أنّ من أراد أُلقي على قلبه الصَّرْفة، حتَّى كأنهم أصحابُ موسى في التِّيه، وقال الشاعر:
وداعٍ دعا واللَّيلُ مرخٍ سُدوله ... رجاءَ القِرى يا مُسْلِمَ بن حمارِ
دعا جُعَلاً لا يهتدِي لمقيله ... من اللؤم حتّى يهْتدي لوَبَارِ
فهذا الشاعرُ الأعرابيُّ جعل أرض وبارِ مثلاً في الضلال، والأعراب يتحدّثون عنها كما يتحدّثون عمّا يجدونه بالدَّوِّ والصَّمّان، والدهناء، ورمل يبرين، وما أكثر ما يذكرون أرض وبارِ في الشِّعر، على معنى هذا الشاعر.
قالوا: فليس اليومَ في تلك البلاد إلاَّ الجنُّ، والإبلُ الحُوشيَّة.
الحوشية من الإبل والحوشُ من الإبل عندهم هي التي ضربتْ فيها فحولُ إبل الجن، فالحوشِيَّة من نَسْل إبل الجن، والعِيديَّة، والمَهْرية، والعَسْجديّة، والعُمانية، قد ضربت فيها الحوش، وقال رُؤبة:
جَرَّت رَحانا من بلاد الحوشِ
وقال ابن هريم:
كأنّي على حُوشيَّةٍ أو نَعامةٍ ... لها نَسبٌ في الطَّيرِ وهو ظليمُ
وإنما سمَّوا صاحبة يزيد بن الطَّثرية حُوشيّة على هذا المعنى.
التحصُّن من الجنّ
وقال بعضُ أصحاب التفسير في قوله تعالى: " وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ من الإنسِ يَعُوذونَ بِرِجالٍ من الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهقاً " : إنَّ جماعة من العرب كانوا إذا صاروا في تيه من الأرض، وتوسَّطوا بلاد الحُوش، خافوا عبث الجنَّانِ والسَّعالي والغيلان والشياطين، فيقوم أحدهم فيرفع صوته: إنا عائذرن بسيِّد هذا الوادي فلا يؤذيهم أحدٌ، وتصير لهم بذلك خفارة.
أثر عشق الجن في الصرع
وهم يزعمون أن المجنون إذا صرعَتْه الجنّيّةُ، وأنّ المجنونةَ إذا صرعها الجنيّ - أنّ ذلك إنما هو على طريق العشْق والهوى، وشهوة النِّكاح، وأن الشيطان يعشق المرأة منّا، وأنَّ نظْرته إليها من طريق العُجب بها أشدُّ عليها من حُمّى أيام، وأنّ عين الجانّ أشدُّ من عين الإنسان.
قال: وسمع عمرو بن عُبيد، رضي اللّه عنه، ناساً من المتكلّمين يُنْكِرون صَرْع الإنسان للإنسان، واستهواء الجنّ للإنس، فقال وما ينكرون من ذلك وقد سمعوا قول اللّه عزّ ذكره في أكَلة الرِّبا، وما يصيبهم يوم القيامة، حيث قال: " الَّذينَ يأْكُلُونَ الرِّبا لا يقومُون إلاّ كما يَقُومُ الَّذي يَتَخبَّطهُ الشَّيْطانُ منَ المَسِّ " ، ولو كان الشَّيطانُ لم يَخْبِطْ أحداً لما ذكر اللّه تعالى به أكلة الرّبا، فقيل له: ولعلّ ذلك كان مرّةً فذهب، قال: ولعله قد كثر فازداد أضعافاً، قال: وما يُنكرون من الاستهواء بعد قوله تعالى: " كالَّذي استهْوَتْهُ الشّياطينُ في الأرض حَيْرانَ " .
الطاعون طعن من الشيطان
زعم العرب أن الطاعون طعن من الشيطان قال: والعرب تزعم أن الطاعون طعنٌ من الشيطان، ويسمُّون الطَّاعون رماح الجنّ، قال الأسديُّ للحارث الملك الغسّاني:
لَعَمْركَ ما خَشيتُ على أُبيٍّ ... رِماحَ بني مُقيِّدة الحمارِ
ولكني خَشيت على أُبيٍّ ... رِماحِ الجنِّ أو إياكَ حارِ
يقول: لم أكن أخاف على أُبيّ مع منعته وصرامته، أن يقتله الأنذال، ومن يرتبط العير دونَ الفَرس، ولكني إنما كنت أخافك عليه، فتكونُ أنت الذي تطعَنه أو يطعَنه طاعونُ الشّام.
وقال العُمانيّ يذكر دولة بني العبّاس:
قد دَفع اللّه رِماح الجن ... وأذهب العذابَ والتَّجنِّي
وقال زيد بن جُندب الإياديّ:
ولولا رِماحُ الجنِّ ما كان هزهم ... رِماح الأعادي من فصيح وأعجم
ذهب إلى قول أبي دؤاد:
سُلِّط الموتُ والمنونُ عليهم ... فلهم في صَدى المقابر هامُ
يعني الطاعون الذي كان أصاب إياداً.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه ذكر الطَّاعون فقال: " هو وَخْزٌ من عَدُوِّكم " : وأنَّ عَمْرو بن العاص قام في النّاس في طاعون عَمَواس فقال: إنّ هذا الطاعون قد ظهر، وإنما هو وخْزٌ من الشَّيطان، ففِرُّوا منه في هذه الشِّعاب.
وبلغ مُعاذ بن جبَلٍ، فأنكر ذلك القول عليه.
تصور الجنّ والغيلان والملائكة والناس
وتزعم العامَّة أنّ اللّه تعالى قد مَلّك الجن والشياطين والعُمَّار والغيلانَ أنْ يتحوّلوا في أيِّ صورة شاؤوا، إلاّ الغول، فإنّها تتحوَّل في جميع صُورة المرأة ولباسها، إلاّ رجليها، فلا بُدَّ من أن تكون رجليْ حمار.
وإنما قاسُوا تصوُّر الجن على تصوُّر جبريل عليه السلام في صورة دَحْية بن خليفة الكلبي، وعلى تصوُّر الملائكة الذين أتوا مريم، وإبراهيم، ولوطاً، وداود عليهم السلام في صورة الآدميِّين، وعلى ما جاء في الأثر من تصوُّر إبليس في صورة سُراقة بن مالك بن جعْشم، وعلى تصوّره في صورة الشيخ النجدي، وقاسوه على تصوُّر مَلَكَ الموت إذا حضر لقبض أرواح بني آدم، فإنه عند ذلك يتصوّر على قدر الأعمال الصالحة والطالحة.
قالوا: وقد جاء في الخبر أنّ من الملائكة من هو في صورة الرِّجال، ومنهم من هو في صورة الثِّيران، ومنهم من هو في صورة النسور، ويدلُّ على ذلك تصديقُ النبي صلى الله عليه وسلم لأميّة بن أبي الصّلت، حين أُنشِد:
رَجُلٌ وثَوْرٌ تحت رِجْلِ يمينه ... والنَّسْر للأُخرى ولَيْثٌ مُرْصدُ
قالوا: فإذ قد استقام أن تختلف صُورهم وأخلاط أبدانهم، وتتفق عقولهم وبيانهم واستطاعتهم، جاز أيضاً أن يكون إبليس والشّيطان والغول أن يتبدلوا في الصُّور من غير أنْ يتبدلوا في العقل والبيان والاستطاعة.
قالو: وقد حوَّل اللّه تعالى جعفر بن أبي طالب طائراً، حتى سماه المسلمون الطّيّار، ولم يخرجْه ذلك من أن نراه غداً في الجنة، وله مثلُ عقل أخيه علي رضي اللّه عنهما، ومثل عقل عمه حمزة رضي اللّه تعالى عنه، مع المساواة بالبيان والخلق.
أحاديث في إثبات الشيطان
قالوا: وقد جاء في الأثر النهي عن الصّلاة في أعطان الإبل، لأنّها خلقت من أعنان الشياطين.
وجاء أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهى عن الصَّلاة عند طلوع الشَّمس حتى طلوعها، فإنّها بين قرني شيطان.
وجاء أنَّ الشياطين تُغلّ في رمضان.
فكيف تنكر ذلك مع قوله تعالى في القرآن: " والشَّياطينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاص، وآخَرينَ مُقَرَّنينَ في الأصفادِ " .
ولشهرة ذلك في العرب، في بقايا ما ثبتوا عليه من دين إبراهيم عليه السّلام، قال النابغة الذبياني:
إلا سُلَيمانَ إذْ قال الإلهُ لَهُ ... قُم في البَرِيَّةِ فاحْددْها عن الفَنَد
وخيِّس الجِنَّ إنِّي قدْ أذِنتُ لَهُمْ ... يَبْنُون تَدْمُر بالصُّفَّاح والعمدِ
فمنْ عصاك فعاقِبْهُ مُعاقبةً ... تنهى الظّلوم ولا تقْعد على ضمدِ
وجاء في قتل الأسود البهيم من الكلاب، وفي ذي النُّكْتتين، وفي الحية ذات الطُّفْيتين، وفي الجانّ.
وجاء: لا تشربوا من ثُلمة الإناء، فإنَّه كِفْل الشَّيطان، وفي العاقد شَعره في الصلاة: إنَّه كِفْل الشيطان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تراصُّوا بينكم في الصلاة، لا تتخللكم الشّياطين كأنّها بنات حذف، وأنَّه نهى عن ذبائح الجن.
ورووا: أن امرأة أتتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ ابني هذا، به جنونٌ يصيبه عند الغداء والعَشَاء قال: فمسح النبيُّ صلى الله عليه وسلم صدْرَه، فثعَّ ثعة فخرج من جوفه جروٌ أسود يسعى.
قالوا: وقد قضى ابن عُلاثة القاضي بين الجنّ، في دم كان بينهم بحكمٍ أقنعهم.
رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهّراني: أما قوله:
وتزوّجْتُ في الشبيبة غولاً ... بغزال وصَدْقتي زِقُّ خمرِ
فزعم أنه جعل صداقها غزالاً وزِقَّ خمر، فالخمر لطيب الرائحة، والغزالُ لتجعله مَرْكباً، فإنّ الظَّباء من مراكب الجن.
وأما قوله:
ثيِّبٌ إن هَوِيتُ ذلك منها ... ومتى شئتُ لم أجِدْ غير بِكرِ
كأنه قال: هي تتصوَّر في أيِّ صورةٍ شاءتْ.
شياطين الشعراء
وأما قوله:
بنت عَمْرٍو وخالها مِسحل الخي ... ر وخالي هُميمُ صاحب عَمْرِو
فإنهم يزعمون أنّ مع كلِّ فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحلُ على لسانه الشعر، فزعم البهراني أنّ هذه الجنّية بنت عمرو صاحب المخبَّل، وأن خالها مِسْحل شيطان الأعشى، وذكر أن خاله هُمَيم، وهو همّام، وهمّام هو الفرزدق، وكان غالبُ بن صعصعة إذا دعا الفرزدق قال: يا هميم.
وأما قوله: صاحب عمرو فكذلك أيضاً يقال إن اسم شيطان الفرزدق عمرو، وقد ذكر الأعشى مِسْحلاً حين هجاه جُهُنَّام فقال:
دَعَوْتُ خليلي مِسْحلاً ودعَوا له ... جُهُنّامَ جَدْعاً للهجين المذَمَّمِ
وذكره الأعشى فقال:
حباني أخي الجنِّيُّ نفسي فداؤُه ... بأفْيَحَ جَيَّاشِ العَشيّات مِرْجمِ
وقال أعشى سُليم:
وما كان جِنّيُّ الفرزدقِ قدوةً ... وما كان فيهم مِثْلُ فَحْلِ المخبَّلِ
وما في الخوافي مثل عَمْرو وشيخِهِ ... ولا بعدَ عمرو شاعرٌ مثلٌ مِسْحلِ
وقال الفرزدق، في مديح أسد بن عبد اللّه:
ليُبلغَنّ أبا الأشبال مِدْحتنا ... مَنْ كان بالغُورِ أو مَرْوَيْ خُراسانا
كأنّها الذَّهب العقْيانُ حبّرها ... لسانُ أشْعر خلْقِ اللّه شيطانا
وقال:
فلو كنْتَ عنْدي يوم قوٍّ عذرْتني ... بيوم دهتْني جِنُّهُ وأخابلُه
فمن أجل هذا البيت، ومن أجل قول الآخر:
إذا ما راعَ جارَتهُ فلاقى ... خبالَ اللّه منْ إنس وجِنِّ
زعموا أنّ الخابل النّاس.
ولما قال بشّار الأعمى:
دعاني شِنِقْناقٌ إلى خَلْفِ بكرةٍ ... فقلتُ: اتركنِّي فالتفرُّدُ أحمدُ
يقول: أحمدُ في الشعر أن لا يكون لي عليه معين - فقال أعشى سُليم يردُّ عليه:
إذا ألِفَ الجنّيُّ قِرداً مُشَنّفاً ... فقل لخنازير الجزيرةِ أبْشري
فجزِع بشّارٌ من ذلك جزعاً شديداً، لأنّه كان يعلم مع تغزُّله أنَّ وجهه وجْهُ قردٍ، وكان أوّل ما عُرف من جزعه من ذكر القِرد، الذي رأوا منه حين أنشدوه بيت حمّاد:
ويا أقبحَ مِن قِرْدٍ ... إذا ما عَمِيَ القِرْدُ
وأما قوله:
ولها خِطَّةٌ بأرض وبار ... مسَحُوها فكان لي نصْفُ شطرِ
فإنما ادّعى الرُّبع من ميراثها، لأنه قال:
تركتْ عَبْدلاً ثمالَ اليتامى ... وأخوه مزاحم كان بكر
وَضَعَتْ تِسْعةً وكانتْ نَزوراً ... من نِساءٍ في أهْلِها غير نُزْرِ
وفي أنَّ مع كلِّ شاعر شيطاناً يقول معه، قول أبي النجم:
إني وكلّ شاعر من البَشرْ ... شيطانه أنْثى وشَيطاني ذكر
وقال آخر:
إني وإن كنتُ صغير السِّنّ ... وكان في العين نُبُوٌّ عنِّي
فإنّ شيطاني كبير الجنِّ
كلاب الجن
وأما قول عمرو بن كلثوم:
وقد هَرَّتْ كلابُ الجِنِّ منا ... وشَذَّبْنَا قتادةَ من يلينا
فإنهم يزعمون أنّ كلاب الجنِّ هم الشعراء.
أرض الجن
وأما قوله:
أرض حُوشٍ وجاملٍ عَكَنَانٍ ... وعُروجٍ من المؤبّلِ دَثْر
فأرض الحوش هي أرضُ وَبارِ، وقد فسَّرنا تأويل الحوش، والعَكَنَان: الكثير الذي لايكون فوقه عدد، قوله: عروج جمع عَرْج، والعَرْج: ألف من الإبل نقص شَيئاً أوْ زاد شيئاً، والمؤبّل من الإبل، يقال إبل مؤبَّلة، ودراهم مُدَرهمة، وبدَر مبدَّرة، مثل قوله تعالى: " وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَة " وأما قوله: " دثر " فإنهم يقولون: مال دَثر، ومالٌ دَبْر، ومال حَوْم: إذا كان كثيراً.
استراق السمع
وأما قوله:
ونَفَوْا عَنْ حريمها كلَّ عِفْر ... يسرقُ السَّمعَ كلَّ ليلةِ بَدْرِ
فالعِفْر هو العفريت، وجعله لا يسرق السمع إلا جهاراً في أضوإ ما يكون البدر، من شدَّة معاندته، وفرط قوته.
الشنقناق والشيصبان وأما قوله:
في فُتُوٍّ من الشَّنقناق غُرٍّ ... ونِساء من الزَّوابعِ زُهْرِ
الزوابع: بنو زَوْبعة الجنِّيّ، وهم أصحاب الرَّهج والقَتَام والتَّثوير وَقال راجزهم:
إنّ الشياطين أَتوْني أربعهْ ... في غَبَش الليل وفيهم زَوبعه
فأما شِنِقناق وشَيْصَبان، فقد ذكرهما أبو النجم:
لابن شنقْناق وشَيْصَبَانِ
فهذان رئيسان ومن آباء القبائل، وقد قال شاعرهم:
إذا ما ترَعْرَعَ فينا الغلامُ ... فليس يقال له من هُوَهْ
إذا لم يَسُدْ قبل شدِّ الإزار ... فذلك فينا الذي لا هُوَهْ
ولي صاحبٌ من بني الشَّيصبا ... ن فطوراً أقولُ وطوراً هُوَهْ
وهذا البيت أيضاً يصلح أن يلحق في الدَّليل على أنهم يقولون: إن مع كلِّ شاعر شيطاناً، ومن ذلك قولُ بشَّار الأعمى:
دَعاني شِنِقْناقٌ إلى خَلْف بَكرَةٍ ... فقلت: اترُكَنِّي فالتَّفَرُّدُ أحَمدُ
شياطين الشام والهند
قال: وأصحاب الرُّقى والأُخذ والعزائم، والسِّحر، والشَّعبذة، يزعمون أنّ العدد والقوّة في الجنِّ والشياطين لنازلة الشام والهند، وأنَّ عظيم شياطين الهند يقال له: تنكوير، وعظيم شياطين الشام يقال له: دركاذاب.
وقد ذكرهما أبو إسحاق في هجائه محمد بن يَسِير، حين ادّعى هذه الصناعة فقال:
قد لعمْرى جمعت مِلْ آصفيّا ... تِ ومن سفْر آدم والجرابِ
وتفردتَ بالطوالق والهي ... كل والرهنباتِ من كلِّ بابِ
وعلمتَ الأسماء كيما تُلاقى ... زُحلاً والمريخَ فوق السحابِ
واستثرتَ الأرواح بالبحْر يأت ... ينَ لصرعِ الصحيح بعدَ المصابِ
جامعاً من لطائف الدنهشيَّا ... تِ كبوسا نمقتها في كتابِ
ثمَّ أحكمت متقن الكرويا ... ت وفعل الناريس والنجابِ
ثمَّ لم تعْيك الشعابيذ والخد ... مةُ والاحتفاء بالطلابِ
بالخواتيم والمناديل والسع ... يِ بتنكوير ودركاذابِ
قتل الغول بضربة واحدة وأما قوله:
ضربَتْ فَردةً فصارت هَباءً ... في مُحاقِ القُمير آخر شَهْرِ
فإنّ الأعرابَ والعامّة تزعُم أن الغول إذا ضربت ضَربةً ماتت، إلاّ أن يُعيد عليها الضّارب قبل أن تقْضي ضربة أخرى، فإنّه إن فعل ذلك لم تمُتْ، وقال شاعرهم:
فَثنّيتُ والمِقدارُ يحرُسُ أهلَهُ ... فَلَيْتَ يميني قبل ذلك شلّتِ
وأنشد لأبي البلاد الطُّهَويّ:
لهَانَ علَى جهينةً ما أُلاقي ... من الروعاتِ يومَ رحَى بطانِ
لقيتُ الغول تسرِى في ظلامٍ ... بسهبٍ كالعباية صحصحانِ
فقلتُ لها كلانا نقض أرضٍ ... أخُو سفَر فصدِّى عن مَكانى
فصدتْ وانتحيتُ لها بعضبٍ ... حسامٍ غيرِ مؤتشبٍ يمانى
فقدّ سَراتها والبرك منها ... فخرتْ لليدين وللجران
فقالت زدْ فقلتُ رويدَ إنِّى ... على أمثالها ثبتُ الجنانِ
شددتُ عقالها وحططت عنها ... لأنظرَ غدوةً ماذا دهانى
إذا عينان في وجهٍ قبيحٍ ... كوجْه الهرِّ مشقوق اللسانِ
ورجلا مخدجٍ ولسانُ كلبٍ ... وجلدٌمن فراءِ أو سنانِ
وأبو البلاد هذا الطهوي كان من شياطين الأعراب، وهو كما ترى يكذِب وهو يَعلَم، ويُطيل الكذِب ويُحَبِّرُه، وقد قال كما ترى:
فقالت زِدْ فقلتُ رُوَيْد إنّي ... على أمثالها ثَبْتُ الجَنانِ
لأنّهم هكذا يقولون، يزعمون أنّ الغول تستزيد بعد الضَّرْبة الأولى لأنّها تموت من ضربةٍ، وتعيشُ من ألْف ضرْبة.
مناكحة الجنِّ ومحالفتهم
وأمّا قوله:
غلبتني على النَّجابة عرسي ... بعد أنْ طالَ في النجابة ذكري
وأرى فِيهِمُ شمائِل إنسٍ ... غيرَ أنّ النّجارَ صُورةُ عِفرِ
فإنَّه يقول: لما تركّب الولدُ منّي ومنها كان شبهُها فيه أكثر.
وقال عبيد بن أيُّوب:
أخو قَفراتٍ حَالَفَ الجِنَّ وانتفى ... مِنَ الإنْس حتّى قد تَقَضّتْ وسائلُهْ
له نَسَبُ الإنسيّ يُعرَفُ نَجْلُه ... وللجِنِّ منه خَلْقه وشمائلُه
وقال:
وصارَ خليلَ الغُول بَعدَ عداوةٍ ... صَفِيّاً وربَّتْه القِفَارُ البسابسُ
فَليس بِجِنّيٍّ فيُعْرَفَ نَجْله ... ولا أَنَسِيٍّ تحتويه المجالِسُ
يظلُّ ولا يبدوُ لشيءٍ نهارَه ... ولكنّه ينْباعُ واللّيْلُ دامِس
قال: وقال القَعقاع بنُ مَعْبَد بن زُرارة، في ابنه عوف بن القعقاع: واللّه لما أرى من شمائل الجنّ في عوف أكثر ممّا أرَى فيه من شمائل الإنس.
وقال مَسلمة بن محارب: حدّثني رجلٌ من أصحابنا قال: خرجنا في سَفرٍ ومعنا رجُلٌ، فانتهينا إلى واد، فدعَوْنا بالغَدَاء، فمدّ رجلٌ يدَه إلى الطعام، فلم يقدر عليه - وهو قبْلَ ذلك يأكلُ معَنا في كلِّ منزل - فاشتدّ اغتمامنا لذلك، فخرجنا نسأل عن حاله، فتلقَّانَا أعرابيٌّ فقال: ما لكم؟ فأخبرناه خبَر الرَّجُل، فقال: ما اسم صاحبكم؟ قلنا: أسد قال: هذا وادٍ قد أخِذَتْ سباعه فارحلوا، فلو قد جاوزتم الواديَ استمرَى الرَّجُل وأكَل.
مراكب الجن
وأمَّا قوله:
وبها كنتُ راكباً حشراتٍ ... مُلجِماً قُنفُذاً ومُسْرجَ وَبْر
وأجوبُ البلادَ تحتيَ ظبيٌ ... ضاحكٌ سنُّه كثيرُ التمرِّي
مُولجٌ دُبْرَهُ خَوَايَة مَكْوٍ ... وهو باللّيل في العفاريت يَسري
فقد أخبرْنا في صدر هذا الكتاب بقول الأعراب في مطايا الجن من الحشرات والوحش.
وأنشد ابنُ الأعرابي لبعض الأعراب:
كلَّ المطايا قد ركبنا فلم نجد ... ألَذَّ وأشهى مِنْ مذاكي الثَّعالبِ
وَمِنْ عنظوان صعبةٍ شمّرية ... تَخُبُّ برجْليها أمام الرَّكائبِ
ومنْ جُرَذٍ سُرْح اليدين مفرَّج ... يعوم برَحْلي بين أيدِي المراكب
ومنْ فارةٍ تزداد عِتْقاً وحدّةً ... تبرِّح بالخوصِ العِتاقِ النَّجَائبِ
ومنْ كلِّ فتْلاء الذِّراعَينِ حُرَّة ... مدَرَّبة من عافيات الأرانبِ
ومنْ وَرَل يغتالُ فضْلَ زِمامِهِ ... أضَرَّ به طول السُّرى في السَّباسِبِ
قال ابنُ الأعرابي: فقلت له: أترى الجن كانت تركبُها، فقال: أحلِفُ باللّه لقد كنتُ أجد بالظِّباء التَّوقيعَ في ظهورها؟ والسِّمة في الآذان، وأنشد:
كلّ المطايا قد ركبنا فلم نجدْ ... ألذَّ وأشْهَى من رُكوب الجَنادِبِ
ومنْ عَضْرفوط حطَّ بي فأقمتهُ ... يبادِرُ وِرداً من عظاءٍ قواربِ
وشرُّ مطايا الجنِّ أرْنبُ خُلّةٍ ... وذئبُ الغضا أوقٌ على كلِّ صاحبِ
ولم أر فيها مِثْلَ قُنفُذ بُرْقةٍ ... يَقُودَ قطاراً منْ عظام العناكبِ
وقد فسَّرنا قولهم في الأرانب، لم لا تركب، وفي أرنب الخَلّة، وقنفذ البُرْقة.
وحدثني أبو نُواس قال: بكرتُ إلى المِربَد، ومعي ألواحي أطلبُ أعرابيّاً فصيحاً، فإذا في ظلِّ دار جعفر أعرابيٌّ لم أسمع بشيطان أقبَحَ منه وجهاً، ولا بإنسان أحسنَ منه عقلاً، وذلك في يومٍ لم أر كبرده برداً، فقلتُ له: هلاَّ قعدت في الشمس فقال: الخَلْوة أحبُّ إليّ فقلت له مازحاً: أرأيت القنفذَ إذا امتطاه الْجِنيُّ وعلا به في الهواء، هل القنفذ يحمل الجنِّيّ أم الجنّيّ يحمل القنفذ؟ قال: هذا من أكاذيب الأعراب، وقد قلت في ذلك شعراً، قلت فأنشِدْنيه، فأنشَدَني بعد أن كان قال لي: قلت هذا الشعر وقد رأيت ليلة قنفذاً ويربوعاً يلتمسان بعض الرِّزق:
فما يُعجبُ الجنَّانَ منك عَدِمتَهم ... وفي الأُسْد أفراسٌ لهم ونجائبُ
أتُسرِج يربوعً وتُلجِم قُنفذاً ... لقَدْ أعوزَتهُمْ ما علمْتَ المراكِبُ
فإن كانت الجنّانُ جُنّت فبالحَرى ... ولا ذَنْبَ للأقدار واللّه غالبُ
وما الناس إلا خادعٌ ومخدَّعٌ ... وصاحبُ إسْهَابٍ وآخر كاذب
قال: فقلت له: قد كان ينبغي أن يكون البيت الثالث والرابع بيت آخر، قال: كانت واللّه أربعين بيتاً، ولكنَّ الحطمة واللّه حَطمتها، قال: فقلت: فَهلْ قلت في هذا الباب غير هذا؟ قال: نعم، شيءٌُ قلتُهُ لزوجتي، وهو واللّه عندها أصدقُ شيءٍ قلتُه لها:
أراه سَميعاً للسِّرارِ كقنفذٍ ... لقد ضاع سِرُّ اللّه يا أمَّ مَعْبدِ
قال: فلم أصبر أن ضحِكْتُ، فغضب وذهب.
شعر فيه ذكر الغول
ويكتب مع شعر أبي البلاد الطُّهوي:
فمن لامَني فيها فَوَاجَه مِثلَها ... على غِرَّةٍ ألقَت عطافاً ومئزرا
لها ساعِدَا غُولٍ ورجلا نعامةٍ ... ورأسٌ كمسْحاة اليهُوديِّ أزعَرَا
وبَطْنٌ كأثناء المزادةِ رَفّعتْ ... جوانبُه أعكانَه وتَكَسَّرا
وثدْيان كالخُرْجين نيطت عُرَاهُما ... إلى جُؤجُؤٍ جاني الترائب أزْوَرَا
قال: كان أبو شيطان، واسمه إسحاق بن رَزِين، أحد بني السِّمط سِمْط جعدة ابن كعب، فأتاهم أميرٌ فجعل ينْكُب عليهم جَوراً، وجعل آخر من أهل بلده ينقب عليهم: أي يكون عليهم نقيباً. فجعل يقول:
يا ذا الذي نَكَبَنَا ونَقَبَا ... زَوّجَهُ الرَّحمن غُولاً عقْرَبا
جمّع فيها ماله ولبْلَبا ... لبالب التّيس إذا تَهَبْهبَا
حتَّى إذا ما استطربَتْ واستطرَبَا ... عاينَ أشنا خَلقِ ربّيزرْنبَا
ذات نواتين وسَلعٍ أُسْقِبَا
يعني فرجها ونوَاتها، يقول، لم تُخْتَن.
جنون الجن وصرعهم
وأما قوله:
فإنْ كانت الجِنّان جُنّتْ فبالَحرى
فإنهم قد يقولون في مثل هذا، وقد قال دَعْلجُ بن الحكم:
وكيف يفِيق الدهرَ كعبُ بنُ ناشبٍ ... وشيطانه عِندَ الأهلَّة يُصْرَعُ
شعر فيه ذكر الجنون وأنشدني عبد الرحمن بن منصور الأُسَيْديِّ قبل أن يُجَنَّ:
جُنونكَ مجنونٌْ ولستَ بواجِدٍ ... طَبيباً يُداوِي منْ جُنونِ جُنونِ
وأنشدني يومئذ:
أتَوني بمجْنون يَسِيلُ لُعابُهُ ... وما صاحبي إلا الصَّحيحُ المسَلَّمُ
وفيما يشبه الأولَ يقولُ ابن ميَّادة:
فلما أتاني ما تقُولُ محاربٌ ... تَغَنَّتْ شياطيني وجُنَّ جُنونُها
وحاكتْ لها ممّا أقول قصائداً ... ترامَتْ بها صُهْبُ المَهارِي وجُونُها
وقال في التَّمثيل:
إنّ شَرخَ الشّبابِ والشّعرَ الأَس ... ودَ ما لم يُعاصَ كان جُنونا
وقال الآخر:
قالت عَهِدْتُك مجنوناً فقلتُ لها ... إنّ الشّبابَ جُنُونٌ بُرؤُه الكِبَرُ
وما أحسنَ ما قال الشّاعر حيث يقول:
فدقّت وجلّت واسبكرّت وأكمِلت ... فلو جُنَّ إنسانٌ من الحُسْنِ جُنَّتِ
وما أحسن ما قال الآخر:
حمراء تامِكةُ السَّنام كأنّها ... جَملٌ بهودج أهلِهِ مظعونُ
جادَتْ بها عند الغداةِ يمين ... كلتا يَدَي عَمْرِو الغَداة يمينُ
ما إن يجودُ بمثلها في مثلها ... إلاّ كريمُ الخِيمِ أو مَجنونُ
وقال الجميح:
لو أنّني لم أنَلْ مِنكم مُعاقبةً ... إلاّ السِّنَانَ لذاقَ الموتَ مظعونُ
أُوْ لاختطبتُ فإني قد هَمْمتُ به ... بالسَّيفِ إنّ خطِيبَ السَّيف مجنونُ
وأنشد:
هُمُ أَحْمَوا حِمى الوَقَبى بضرْبٍ ... يؤلّفُ بَيْنَ أشتاتِ المنُون
فنَكَّبَ عنهم دَرءَ الأعادي ... ودَاوَوْا بالجُنون من الجُنونِ
وأنشدني جعفر بن سعيد:
إنَّ الجنونَ سِهامٌ بين أربعةٍ ... الرِّيحُ والبحْرُ والإنسانِ والجَملُِ
وأنشدني أيضاً:
احْذَر مغايظَ أقوامٍ ذوي حَسَبٍ ... إنّ المغيظ جَهُولُ السَّيفِ مجنونُ
وأنشدني أبو تمام الطائي:
منْ كلِّ أصلَعَ قد مالَت عمامتُه ... كأَنّه من حِذار الضَّيمِ مجنونُ
وقال القطاميّ:
يَتْبَعْنَ سَامِيةَ العَينين تَحْسَبُها ... مجنُونةً أو تُرَى ما لا تُرَى الإبلُ
وقال في المعني الأوَّل الزَّفَيانُ العُوافيّ:
أنا العُوافيُّ فمنْ عاداني ... أذقتُه بوادِرَ الهوان
حتّى تَرَاهُ مُطرِقَ الشّيطانِ
وقال مروانُ بن محمد:
وإذا تجنّنَ شاعرٌ أو مُفْحَمٌ ... أسعطْتُه بمرارة الشيطانِ
وقال ابن مُقبِل:
وعِنْدي الدُّهَيم لو أحُلُّ عِقالهَا ... فتُصْعدُ لم تَعْدَم من الْجِنِّ حادِيا
وقد صغَر الدُّهيَم ليس على التحقير، ولكن هذا مثل قولهم: دبَّت إليهم دويهيَة الدهر.
أحاديث الفلاة وَقال أبو إسحاق: وأما قول ذي الرُّمَّة:
إذا حَثَّهُنََّ الرَّكبُ في مُدْلهِمَّة ... أحاديثُها مثلُ اصطخاب الضّرائر
قال أبو إسحاق: يكون في النَّهار ساعاتٌ ترى الشّخص الصَّغيرَ في تلك المهامهِ عظيماً، ويُوجَد الصَّوت الخافضُ رفيعاً، ويُسمع الصَّوتُ الذي ليس بالرَّفيع مع انبساط الشّمس غدوة من المكان البعيد؛ ويُوجَد لأوساط الفَيافي والقِفار والرِّمال والحرار، في أنصاف النّهار، مثلُ الدَّويّ من طبع ذلك الوقت وذلك المكان، عند ما يعرض له، ولذلك قال ذو الرُّمَّة:
إذا قال حادينا لتَشْبيهِ نَبأةٍ ... صَهٍ لم يكنْ إلا دويُّ المسامع
قالوا: وبالدَّويّ سمِّيت دوِّيّة وداوية، وبه سمِّي الدوّ دَوّاً.
تعليل ما يتخيله الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان
وكان أبو إسحاق يقول في الذي تذكر الأعرابُ من عزيف الجنان، وتغوُّل الغيلان: أصلُ هذا الأمر وابتداؤه، أنّ القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملتْ فيهم الوَحْشة، ومن انفردَ وطال مُقامُه في البلاد والخلاء، والبعد من الإنس - استوحَش، ولا سيَّما مع قلة الأشغال والمذاكرين.
والوَحدةُ لاتقطع أيامهم إلا بالمُنى أو بالتفكير، والفكرُ ربما كان من أسباب الوَسوَسة، وقد ابتلى بذلك غيرُ حاسب، كأبي يس ومُثَنًّّى ولد القُنافر.
وخبَّرني الأعمش أنه فكّر في مسألة، فأنكر أهله عقله، حتّى حَمَوه وداووه.
وقد عرض ذلك لكثير من الهند.
وإذا استوحشَ الإنسانُ تمثّل له الشّيء الصغيرُ في صورة الكبير، وارتاب، وتفرَّق ذهُنه، وانتقضت أخلاطُه، فرأى ما لا يُرى، وسمع ما لا يُسمع، وتوهم على الشيء اليسير الحقير، أنه عظيمٌ جليل.
ثمَّ جعلوا ما تصوَّر لهم من ذلك شعرا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً، ونشأ عليه الناشئ، ورُبّي به الطِّفل، فصار أحدهم حين يتوسَّط الفيافيَ، وتشتملُ عليه الغيظان في اللَّيالي الحنادس - فعند أوَّل وحْشةٍ وفزْعة، وعند صياح بُوم ومجاوبة صدًى، وقد رأى كلَّ باطل، وتوهَّم كلَّ زُور، وربما كان في أصل الخلْق والطبيعة كذّاباً نفّاجاً، وصاحبَ تشنيعٍ وتهويل، فيقولُ في ذلك من الشِّعر على حسب هذه الصِّفة، فعند ذلك يقول: رأيتُ الغيلان وكلّمت السِّعلاة ثمَّ يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول قتلتها، ثم يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول: رافَقتها ثمَّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوَّجتها.
قال عُبيد بن أيُّوب:
فللّه دَرُّ الغُولِ أيُّ رَفيقةٍ ... لصاحبِ قفْرٍ خائفٍ متقتّرِ
وقال:
أهذا خَليلُ الغولِ والذئبِ والذي ... يهيمُ بَرَبَّاتِ الحِجالِ الهَرَاكِلِ
وقال:
أَخُو قَفَرَاتٍ حالَفَ الجِنّ وانتَفَى ... من الإنْسِ حتَّى قد تقضّت وسائله
له نسَبُ الإنْسيِّ يُعْرَفُ نجله ... وللجنِّ منهُ خَلْقُه وشمائله
وممّا زادهم في هذا الباب، وأغراهم به، ومدَّ لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابيّاً مثلهم، وإلا عَامِّيّاً لم يأخُذْ نفسه قط بتمييز ما يستوجب التّكذيب والتّصديق، أو الشّكّ، ولم يسلُك سبيلَ التوقف والتثبّت في هذه الأجناس قطّ، وإمَّا أن يَلقَوْا رَاوِيَة شعر، أو صاحب خبَر، فالرّاوية كلّما كان الأعرابيُّ أكذبَ في شعره كان أطْرَف عِنْده، وصارت روايتُه أغلبَ، ومضاحيكُ حديثه أكثر فلذلك صار بعضهم يدّعي رؤية الغُول، أو قتلها، أو مرافقتها، أو تزويجها؛ وآخر يزعم أنّه رافقَ في مفازةٍ نمراً، فكان يطاعمه ويؤاكله، فمن هؤلاء خاصّة القَتّال الكِلابي؛ فإنّه الذي يقول:
أيرسِلُ مَرْوانُ الأميرُ رسالة ... لآتيه إني إذاً لَمَصلَّلُ
وما بي عِصْيانٌ ولا بُعدُ منزل ... ولكنّني من خوْف مَرْوانَ أوجلُ
وفي باحة العَنْقاء أو في عَمايةٍ ... أو الأُدَمِى من رَهْبةِ الموتِ مَوْئلُ
ولي صاحبٌ في الغارِ هَدَّكَ صاحباً ... هو الجَون إلاّ أنه لا يعلّل
إذا ما التقَينا كان جُلّ حديثنا ... صُماتٌ وطرْفٌ كالمعَابلِ أطْحَلُ
تَضَمَّنَتِ الأرْوَى لنا بطعامِنا ... كِلانا له منها نَصيبُ ومأكلُ
فأغلِبُه في صَنْعة الزّادِ إنّني ... أُميطُ الأذى عنه ولا يتأمَّلُ
وكانتْ لنا قَلتٌ بأرض مَضَلَّةٍ ... شريعتُنا لأيّنا جاءَ أوَّلُ
كلانا عدُوٌّ لو يرى في عدُوِّه ... مَحزّاً وكلٌّ في العداوة مُجْمِلُ
وأنشد الأصمعيّ:
ظللْنَا معاً جارَينْ نحترسُ الثَّأى ... يُسائرُني من نُطفةٍ وأسائرُهْ
ذكر سبعاً ورجُلاً، قد ترافقا، فصار كلُّ واحدٍ منهما يدَعُ فضْلاً من سُؤره ليشرَبَ صاحبه، الثَّأى: الفساد، وخبّر أنّ كلّ واحد منهما يحترس من صاحبه.
وقد يستقيمُ أن يكونَ شعر النابغة في الحية، وفي القتيلِ صاحب القَبْر، وفي أخيه المصالح للحيةِ أن يكون إنما جعل ذلك مثلاً، وقد أثبتناهُ في باب الحيات، فلذلك كرهنا إعادَته في هذا الموضع، فأما جميع ما ذكرناه عنهم فإنما يخبرون عنه من جهة المعاينَة والتّحقيق، وإنما المثل في هذا مثل قوله:
قد كان شيطانك منْ خطّابها ... وكان شيطاني منْ طُلاَّبِها
حيناً فلمّا اعتَركا ألْوى بها
الاشتباه في الأصوات والإنسان يجوع فيسمع في أذنه مثل الدويّ، وقال الشاعر:
دويُّ الفَيَافي رَابه فكأنّه ... أَميمٌ وسارِي اللَّيلِ للضُّرِّ مُعْوِرُ
مُعْوِر: أي مُصْحِر.
وربما قال الغلام لمولاه: أدعوتني؟ فيقول له: لا، وإنما اعترى مسامعه ذلك لعرضٍ، لا أنَّه سمعَ صوتاً.
ومن هذا الباب قول تأبَّط شراً، أو قول قائل فيه في كلمة له:
يَظَلُّ بمَوّْماةٍ ويُمسي بقَفرَةٍ ... جَحِيشاً ويَعرَوْرِي ظهورَ المهالِكِ
ويَسْبِقُ وقدَ الرِّيح من حَيث ينْتحي ... بمنخَرِقٍ من شَدِّهِ المتدارِكِ
إذا خاطَ عَينَيه كَرى النَّوم لم يزَلْ ... له كالئٌ من قَلبِ شَيْحانَ فاتكِ
ويجعلُ عينيه رَبيئةَ قلبهِ ... إلى سلَّةٍ من حَدِّ أخْضَر باتكِ
إذا هزَّه في عَظم قِرْنٍ تهلَّلتْ ... نواجذُ أفواهِ المنايا الضّواحكِ
يَرى الإنس وحْشيَّ الفَلاة ويهتدي ... بحيث اهتدتْ أمُّ النجومِ الشّوابكِ
نزول العرب بلاد الوحش والحشرات والسباع ويدلُّ على ما قال أبو إسحاق، من نزولهم في بلاد الوحْش وبينَ الحشَراتِ والسِّباع، ما رواه لنا أبو مُسْهرٍ، عن أعرابيٍّ من بني تميم نزل ناحية الشَّام، فكان لا يَعْدِمُهُ في كلِّ ليلة أن يعضَّه أو يَعضَّ ولدَه أو بعضَ حاشيته سبعٌ من السباع، أو دابّة من دوابّ الأرض فقال:
تعاوَرَني دَينٌ وذُلٌّ وغُربةٌ ... ومَزّقَ جلدي نابُ سبْع ومِخْلبُ
وفي الأرض أحناشٌ وسَبْع وحاربٌ ... ونحن أُسارَى وَسْطَهَا نتقلبُ
رُتَيْلا وطَبُّوعٌ وشِبْثَان ظُلْمةٍ ... وأرقطُ حُرْقُوصٌ وضَمْجٌ وعَقْربُ
ونمل كأشخاصِ الخنافس قُطَّبٌ ... وأرْسالُ جعلانٍ وهَزْلى تَسَرَّبُ
وعُثٌّ وحُفّاثٌ وضَبٌّ وعِربِدٌ ... وذرٌّ ودَحّاس وفَارٌ وعقربُ
وهرٌّ وظِرْبانٌ وسِمْعٌ ودَوْبَلٌ ... وثُرْمُلةٌ تجرِي وسِيدٌ وثعلبُ
ونمر وفَهْدٌ ثم ضبعٌ وجَيألٌ ... وليثٌ يجُوس الألف لا يتهيّبُ
ولم أرَ آوى حيث أسمعُ ذِكرَه ... ولا الدُّبَّ إنّ الدُّبَّ لا يتنسَّبُ
فأما الرُّتَيلا والطَّبُّوع، والشَّبَث، والحُرقوص، والضّمجُ والعنكبوت، والخنفُساء، والجُعَل، والعُثّ، والحُفَّاث، والدّحّاس والظّرِبان، والذِّئب، والثَّعلب، والنمر، والفَهْد، والضّبع، والأسد - فسنقول في ذلك إذا صرنا إلى ذكر هذه الأبواب، وقبل ذلك عند ذِكر الحشرات، فأما الضّبُّ والورَل، والعقرب، والجُعل، والخنفساء، والسِّمْع فقد ذكرنا ذلك في أوّل الكتاب، وأما قوله: وهَزْلى تسرب فالهزْلى هي الحيات، كما قال جَرير:
مَزَاحف هزْلَى بينها متباعدُ
وكما قال الآخر:
كأنَّ مَزَاحِفَ الهَزْلى عليها ... خدودُ رصائعٍ جُدِلَتْ تُؤَامَا
وأما قوله:
ولم أر آوَى حيثُ أسمع ذِكرَه
فإنّ ابنَ آوى لا ينزِلُ القفار، وإنّما يكونُ حيث يكونُ الريف.
وينبغي أن يكونَ حيث قال هذا الشّعر توهَّم أنّه ببياض نجد.
وأمَّا قوله:
ولا الدبَّ إنَّ الدبَّ لا يتنسَّبُ
فإنّ الدبَّ عندهم عجميٌّ، والعجميُّ لا يقيم نسبَه.
باب الجِدِّ من أمْر الجِنّ
ليس هذا، حفظك اللّه تعالى، من الباب الذي كُنَّا فيه، ولكنّه كان مُستراحاً وجماماً، وسنقول في باب من ذكر الجنّ، لتنتفع في دِينك أشد الانتفاع، وهو جِدٌّ كلُّه.
والكلام الأوّل وما يتلوه من ذكر الحشرات، ليس فيه جِدٌّ إلاّ وفيه خَلْطٌ من هزْل، وليس فيه كلامٌ صحيح إلا وإلى جنبه خرافة، لأن هذا الباب هكذا يقع.
وقد طعن قومٌ في استراق الشَّياطينِ السمعَ بوجوهٍ من الطَّعن، فإذْ قد جرى لها من الذّكر في باب الهزْل ما قد جرى، فالواجبُ علينا أن نقول في باب الجدِّ، وفيما يرد على أهل الدِّين بجملة، وإن كان هذا الكتابُ لم يُقصد به إلى هذا الباب حيثُ ابتدئ، وإن نحنُ استقصيناه كنَّا قد خرجْنا من حدِّ القول في الحيوان، ولكنا نقول بجملةٍ كافية، واللّه تعالى المعين على ذلك.
رد على المحتجّين لإنكار استراق السمع بالقرآن
قال قوم: قد علمنا أن الشياطينَ ألطف لطافةً، وأقلُّ آفَةً، وأحدُّ أذهاناً، وأقلُّ فضُولاً، وأخفُّ أبداناً، وأكثرُ معرفةً وأدقُّ فِطنةً منّا، والدّليلُ على ذلك إجماعهم على أنّه ليس في الأرض بدعةٌ بديعةٌ، دقيقةٌ ولا جليلة، ولا في الأرض مَعصِيةٌ من طريق الهوى والشّهوة، خفيّةً كانت أو ظاهرة، إلاّ والشَّيطانُ هو الدَّاعي لها، والمزيِّنُ لها، والذي يفتحُ بابَ كلِّ بلاء، ويَنصِب كلَّ حبالةٍ وخدعة، ولم تَكن لتَعرِف أصناف جميع الشرور والمعاصي حتى تَعرف جميعَ أصناف الخير والطّاعات.
ونحن قد نجدُ الرّجلَ إذا كان معه عقْل، ثمّ عِلم أنّه إذا نقب حائطاً قُطِعت يدهُ، أو أسمع إنساناً كلاماً قطع لسانه، أويكونُ متى رام ذلك حِيلَ دونَه ودونَ ما رام منْهُ - أنّه لايتكلّف ذلك ولا يرُومه، ولا يحاولُ أمراً قد أيقَنَ أنّه لا يبلغهُ.
وأنتم تزعمون أنّ الشّياطين الذين هم على هذه الصِّفة كلّما صعِد منهم شيطانٌ ليسترقَ السّمعَ قُذِف بشهاب نار، وليس له خواطئ، فإمَّا أن يكون يصيبه، وإمَّا أنْ يكون نذيراً صادقاً أو وعيداً إنْ يقدمْ عليه رمى به، وهذه الرُّجوم لا تكون إلا لهذه الأمور، ومتى كانت فقد ظهر للشَّيطان إحراق المستمع والمسترِق، والموانع دون الوصول ثمَّ لا نرى الأوَّلَ ينهي الثّاني، ولا الثّاني ينهي الثّالث، ولا الثّالث ينهي الرّابع عَجَب، وإن كان الذي يعود غيرَه فكيف خفي عليه شأنهم، وهو ظاهر مكشوف؟.
وعلى أنّهم لم يكونوا أعلَمَ منّا حتّى ميّزوا جميع المعاصي من جميع الطاعات، ولولا ذلك لدعوا إلى الطّاعة بحساب المعصية، وزينّوا لها الصَّلاح وهم يريدون الفساد، فإذا كانوا ليسوا كذلك فأدنى حالاتهم أن يكونوا قد عرفوا أخبار القرآن وصدقوها، وأنّ اللّه تعالى محقّق ما أوعَدَ كما يُنجِز ما وعد، وقد قال اللّه عزّ وجل: " وَلقَدْ زَيَّنّا السَّماء الدُّنيا بِمَصابيح وجَعَلْنَاها رُجُوماً للشَّياطينِ " ، وقال تعالى: " وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّماءٍ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها للنَّاظِرينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كلِّ شَيْطان رَجيمٍ " وقال تعالى: " إنّا زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينةٍ الْكَوَاكِبِ وحفْظاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ " وقال تعالى: " هَلْ أُنَبِّئكمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشّياطينُ تنَزَّلُ على كلِّ أفّاكٍ أثيمٍ، يُلْقون السَّمعَ وأكثَرُهم كاذِبُون " مع قولِ الجنّ: " أنَّا لا نَدْري أشَرٌّ أُرِيدَ بمَنْ في الأرْضِ أمْ أرَاد بهمْ رَبُّهم رَشَداً " وقولهم: " أَنَّا لَمسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلئَتْ حَرساً شديداً وَشُهُباً، وأنّا كنَّا نقعُدُ منْهَا مقَاعِد للسَّمع فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهَاباً رصَداً " .
فكيف يسترق السَّمع الذين شاهدوا الحالَتين جميعاً، وأظهروا اليقين بصحَّة الخير بأنَّ للمستمع بعد ذلك القذْفَ بالشُّهب، والإحراقَ بالنار، وقوله تعالى: " إنَّهُمْ عَنِ السَّمعِ لَمعْزولُونَ " وقوله تعالى: " وَحفْظاً مِنْ كلِّ شيْطاَنٍ مَاردٍ، لا يَسَّمَّعُون إلى الْملإ الأعْلى وَيُقْذَفُون مِن كُلِّ جانبٍ دُحوراً وَلَهُمْ عذَابٌ وَاصِبُ " في آيٍ غيرِ هذا كثير، فكيف يعُودُون إلى استراق السَّمع، مع تيقنهم بأنَّه قد حُصِّن بالشهب، ولو لم يكونوا مُوقِنين من جهة حقائق الكِتاب، ولا من جهة أنّهم بَعْدَ قعودِهم مقاعدَ السَّمْع لمَسُوا السَّماء فوَجَدوا الأمرَ قد تغيَّر - لكانَ في طول التَّجْربة والعِيان الظّاهِر، وفي إخبار بعضِهم لبعض، ما يكونُ حائلاً دُونَ الطّمع وقاطعاً دون التماس الصُّعود وبعد فأيُّ عاقل يُسرُّ بأنْ يسمع خبراً وتُقطعَ يدهُ فضْلاً عن أن تحرقه النَّار؟ وبعد فأيُّ خبر في ذلك اليوم؟ وهل يصِلون إلى النَّاس حتَّى يجعلوا ذلك الخبَر سبباً إلى صرْف الدّعوَى؟ قيل لهم: فإنّا نقول بالصّرْفة في عامَّة هذه الأصول، وفي هذه الأبواب، كنحو ما أُلقي على قلوب بني إسرائيل وهم يجُولون في التِّيهِ، وهم في العدد وفي كثرة الأدِلاَّء والتجّار وأصحاب الأسفار، والحمّارين والمُكارينَ، من الكثْرَة على ما قد سمعتم به وعرَفْتموه؛ وهم مع هذا يمشُون حتّى يُصبِحوا، مع شدّة الاجتهاد في الدَّهر الطويل، ومع قُرْب ما بينَ طرفي التِّيه، وقد كان طريقاً مسلوكاً، وإنّما سمَّوه التّيه حين تاهوا فيه، لأنَّ اللّه تعالى حين أرادَ أن يمتحِنَهم ويبتلِيهم صرَف أوهامَهم.
ومثل ذلك صنيعُه في أوهام الأُمة التي كان سُليمان مَلِكَها ونبيّها، مع تسخير الريح والأعاجيبِ التي أُعطِيَها، وليس بينهم وبين ملِكهم ومملكتهم وبين مُلك سَبأ ومملكةِ بِلقيس ملِكتهم بحارٌ لا تُركب، وجبالٌ لا تُرام، ولم يتسامَعْ أهل المملكتين ولا كان في ذكرهم مكانُ هذه الملِكة.
وقد قلنا في باب القول في الهُدهُد ما قلنا، حين ذكرنا الصَّرفة، وذكرنا حالَ يعقوب ويوسف وحالَ سليمان وهو معتمدٌ على عصاه، وهو مَيِّتٌ والجنُّ مُطيفة به وهم لا يشعُرون بموته، وذكرنا من صَرْف أوهام العرَب عن محُاولة معارضة القرآن، ولم يأتوا به مضطرِباً ولا مُلَفَّقاً ولا مُستكرَهاً؛ إذا كان في ذلك لأهل الشَّغبِ متعلّق، مع غير ذلك، ممّا يُخالَف فيه طريقُ الدُّهريّة، لأنّ الدّهريّ لا يُقر إلاّ بالمحسوسات والعادات على خلاف هذا المذهب.
ولعمري ما يستطيعُ الدّهريّ أن يقولَ بهذا القول ويحتجَّ بهذه الحجّة، ما دام لا يقول بالتّوحيد، وما دام لا يعرف إلا الفَلك وعمَلَه، ومادام يرى أن إرسال الرسُل يستحيل، وأن الأمر والنَّهي، والثوابَ والعقاب على غير ما نقول، وأنّ اللّه تعالى لا يجوز أن يأمر من جهة الاختبار إلا من جهة الحزْم.
وكذلك نقول ونزعم أن أوهَام هذه العفاريت تُصرف عن الذكر لتقع المحنة، وكذلك نقول في النبي صلى اللّه عليه وسلم أنْ لو كانَ في جميع تلك الهزاهز مَنْ يذكر قوله تعالى: " واللّه يَعصِمُك من النّاسِ " لسَقَطَ عنه من المحنة أغلظها، وإذا سقطَت المحنة لم تكن الطاعة والمعصية، وكذلك عظيم الطاعة مقرونٌ بعظيم الثّواب.
وما يصنع الدهري وغير الدّهري بهذه المسألة وبهذا التسطير؟ ونحن نقول: لو كان إبليس يذكر في كلِّ حال قوله تعالى: " وَإنَّ عَليْكَ اللّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ " وعلم في كلِّ حالٍ أنّه لا يُسْلِمُ لوَجَبَ أن المحنة كانت تسقط عنه، لأن من علِم يقيناً أنّه لا يمضي غداً إلى السوق ولايقبض دراهمَه من فلان، لم يطمع فيه، ومن لم يطَمعْ في الشيء انقطعت عنه أسباب الدواعي إليه، ومن كان كذلك فمُحالٌ أن يأتيَ السّوق.
فنقول في إبليس: إنه يَنْسى ليكون مُختَبراً ممتَحناً فليعلموا أن قولنا في مسترقي السمع كقولنا في إبليس، وفي جميع هذه الأمور التي أوْجَبَ علينا الدِّين أن نقولَ فيها بهذا القول. وليس له أن يدفَع هذا القولَ على أصل ديننا، فإن أحبَّ أن يسأل عن الدين الذي أوجب هذا القول علينا فيلفعَلْ، واللّه تعالى المعين والموفِّق.
وأما قولهم: منْ يُخاطر بذَهابِ نفْسِه لخبرٍ يستفيده فقد علِمْنا أن أصحاب الرِّياساتِ وإن كان متبيَّناً كيف كان اعتراضهم على أنّ أيسر ما يحتملون في جَنْب تلك الرِّياسات القتل.
ولعلّ بعض الشّياطين أن يكون معه من النّفْخ وحب الرِّياسة ما يهوِّن عليه أن يبلغ دُوَين المواضع التي إن دنا منها أصابه الرَّجْم، والرَّجمُ إنما ضمن أنه مانع من الوصول، ويعلم أنه إذا كان شهاباً أنه يُحرقه ولم يضمن أنه يتلف عنه، فما أكثر من تخترقه الرِّماح في الحرب ثم يعاودُ ذلك المكان ورزقُه ثمانون دِيناراً ولا يأخذ إلا نصفه، ولا يأخذه إلا قمحاً، فلولا أن مع قَدَم هذا الجنديِّ ضروباً مما يهزُّه وينجِّده ويدعو إليه ويُغْريه - ما كان يعود إلى موضعٍ قد قطعت فيه إحدى يديه، أو فقئت إحدى عينَيه.
ولِمَ وقع عليه إذاً اسمُ شيطان، وماردٍ، وعفريتٍ، وأشباه ذلك؟ ولِمَ صار الإنسانُ يُسمَّى بهذه الأسماء، ويوصَف بهذه الصفات إذا كان فيه الجزء الواحد من كلِّ ما همْ عليه؟.
وقالوا في باب آخر من الطّعن غير هذا، قالوا في قوله تعالى: " وَأنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقَاعِدَ للِسّمْعِ فَمَنْ يسْتَمعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهاباً رصداً " فقالوا: قد دلَّ هذا الكلام على أن الأخبار هناك كانت مُضَيَّعةً حتّى حُصِّنت بعد، فقد وصفْتُم اللّه تعالى بالتَّضييع والاستِدْراك.
قلنا: ليس في هذا الكلام دليلٌ على أنهم سمعوا سِرّاً قط أوْ هجموا على خبر إن أشاعوه فسد به شيءٌ من الدين، وللملائكةِ في السَّماء تسبيحٌ وتهليلٌ، وتكبيرٌ وتلاوة، فكان لا يبلغُ الموضعَ الذي يُسمَعُ ذلك منه إلا عفاريتُهم.
وقد يستقيم أن يكون العفريتُ يكذب ويقولُ: سمعت ما لم يَسْمع ومتى لم يكن على قوله برهانٌ يدلُّ على صدقه فإنما هو في كذبه من جنس كلِّ متنبئٍ وكاهن، فإن صدقه مصدقٌ بلا حُجَّة فليس ذلك بحجّةٍ على اللّه وعلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم.
المحتجون بالشعر لرجم الشياطين قبل الإسلام وذهب بعضهم في الطّعن إلي غير هذه الحُجّة، قالوا: زعمتم أن اللّه تعالى جعل هذه الرَّجومَ للخوافي حُجّة للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فكيف يكون ذلك رَجْماً، وقد كان قبل الإسلام ظاهراً مرْئيّاً، وذلك موجودٌ في الأشعار، وقد قال بشر بن أبي خازم في ذلك:
فجأجأها من أول الرِّيِّ غُدوة ... وَلَمَّا يسَكّنْهُ من الأرْضِ مَرْتعُ
بأكْلبةٍ زُرْقٍ ضوارٍ كأنّها ... خطاطيفُ من طول الطريدة تلمعُ
فجال على نَفْر تعرُّضَ كوكبٍ ... وقد حالَ دُون النّقْعِ والنّقْعُ يسْطَعُ
فوصف شَوْط الثّور هارباً من الكلابِ بانقضاض الكَوكب في سُرعته، وحُسْنه، وبريق جلده، ولذلك قال الطّرِمّاح:
يَبْدُو وتُضْمِرُه البلاد كأنّهُ ... سيفٌ علَى شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ
وأنشد أيضاً قولَ بِشْر بن أبي خازم:
وتشُجُّ بالعير الفلاة كأنّهَا ... فتْخاءُ كاسِرةٌ هَوَتْ من مرْقبِ
والعير يُرْهِقُها الخبَار وجَحشُها ... ينقضُّ خلْفهُما انْقِضاض الكوكبِ
قالوا: وقال الضّبّي:
يَنَالها مهتك أشْجارها ... بذي غُروب فيه تحريبُ
كأنّه حيِنَ نَحَا كوكبٌ ... أو قبَسٌ بالكفِّ مشبوبُ
وقال أوس بن حَجَر:
فانقضَّ كالدّريءِ يَتْبَعُهُ ... نَقْع يثُورُ تخالُه طُنُبَا
يَخفى وأحياناً يلوح كما ... رفع المشيرُ بكفِّهِ لهبَا
ورووا قوله:
فانقضَّ كالدّرّي من مُتَحدِّر ... لَمْعَ العقيقةِ جُنْحَ لَيل مُظْلِمِ
وقال عَوْف بن الخرِع:
يردُّ علينا العَيْرَ من دون أَنْفه ... أو الثَّوْر كالدُّرّي يتْبَعُهُ الدَّمُ
وقال الأفوه الأودي:
كشِهاب القَذفِ يَرمِيكُمْ به ... فارسٌ في كفِّه للحَرْبِ نارُ
وقال أُميَّةُ بن أبي الصّلْت:
وترى شياطيناً تَرُوغُ مُضافةً ... ورَواغُها شتّى إذا ما تُطْرَدُ
يُلْقى عليها في السَّماء مذلَّة ... وكواكبٌ تُرمى بها فتعرِّدُ
قلنا لهؤلاء القوم: إن قَدَرتم على شعرٍ جاهليٍّ لم يُدرِكْ مَبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا مَولِده فهو بعضُ ما يتعلَّق به مثلُكم، وإن كان الجوابُ في ذلك سيأتيكم إن شاء اللّه تعالى، فأما أشعار المخضْرمين والإسلاميّين فليس لكم في ذلك حُجَّة، والجاهليُّ ما لم يكن أدرك المولد، فإنَّ ذلك ممَّا ليس ينبغي لكم أن تتعلَّقوا به، وبِشرُ بنُ أبي خازم فقد أدرك الفِجار، والنبي صلى الله عليه وسلم شهِد الفِجار، وقال: شهدتُ الفجار فكنْتُ أنبل على عمومتي وأنا غلام.
والأعلام ضروب، فمنها ما يكون كالبشارات في الكتب، لكون الصِّفة إذا واقفت الصِّفة التي لا يقع مثلها اتفاقاً وعرضاً لزمتْ فيه الحجة، وضروبٌ أُخَرُ كالإرهاص للأمر، والتأسيس له، وكالتعبيد والترشيح، فإنَّه قلَّ نبيٌّ إلاّ وقد حدثت عند مولده، أو قُبيلَ مولِده، أو بعد مولده أشياءُ لم يكنْ يحدُث مثلُها، وعند ذلك يقول الناس: إنّ هذا لأَمرٍ، وإنّ هذا ليراد به أمرٌ وقع، أو سيكون لهذا نبأ، كما تراهم يقولون عند الذوائب التي تحدث لبعض الكواكب في بعض الزمان، فمن التّرشيح والتَّأسيس والتَّفخيم شأنُ عبد المطلب عند القُرعة، وحين خروج الماء من تحت رُكْبة جملة، وما كان من شأن الفيل والطيرِ الأبابيل وغير ذلك، مما إذا تقدم للرّجل زاد في نُبله وفي فَخامة أمره، والمتوقَّع أبداً معظّم.
فإن كانت هذه الشهب في هذه الأيام أبداً مرئيّة فإنما كانت من التأسيس والإرهاص، إلا أن يُنْشِدونا مثل شعر الشعراء الذين لم يدركوا المولد ولا بعد ذلك، فإنّ عددهم كثير، وشعرهم معروف.
وقد قيل الشِّعر قبل الإسلام في مقدار من االدهر أطولَ ممّا بيننا اليوم وبين أوّل الإسلام، وأولئكم عندكم أشعرُ ممن كان بعدهم.
وكان أحدهم لا يدع عظماً منبوذاً بالياً، ولا حجراً مطروحاً، ولا خنفساء، ولا جُعلاً، ولا دودة، ولا حيةً، إلا قال فيها، فكيف لم يتهيأ من واحدٍ منهم أن يذكر الكواكب المنقضّة مع حُسْنها وسُرعتها والأعجوبة فيها، وكيف أمسكُوا بأجمعهم عن ذكرها إلى الزَّمان الذي يحْتَجُّ فيه خصومُكم.
وقد علمْنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين ذُكر له يوم ذي قار قال: هذا أوَّلُ يومٍ انتصفَتْ فيه العربُ من العجم، وبي نُصروا.
ولم يكن قال لهم قبْل ذلك إنّ وقْعةً ستكون، من صِفَتها كذا، ومن شأنها كذا، وتُنصرون على العجَم، وبي تنصرون.
فإن كان بشرُ بن أبي خازمٍ وهؤلاء الذين ذكرتُم قد عايَنُوا انقضاض الكواكب فليس بمستنكرٍ أنْ تكون كانت إرهاصاً لمن لم يُخبر عنها ويحتجُّ بها لنفسه، فكيف وبشر بن أبي خازم حيّ في أيّام الفِجار، التي شهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه، وأنّ كنانة وقُريشاً به نُصروا.
وسنقول في هذه الأشعار التي أنشدتموها، ونُخبِر عن مقاديرها وطبقاتها، فأما قوله:
فانقضَّ كالدُّرِّي من متحدِّرٍ ... لمْعَ العقيقةِ جُنْحَ ليل مُظلمِ
فخبّرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبياتٍ أخر كان أسامة صاحب رَوْح بن أبي هَمَّام، هو الذي كان ولَّدها، فإن اتَّهمت خبر أبي إسحاق فسمِّ الشّاعرَ، وهات القصيدة، فإنَّه لا يُقبل في مثل هذا إلاّ بيتٌ صحيح صحيح الجوهَرِ، من قصيدةٍ، صحيحة لشاعر معروف، وإلاّ فإن كلَّ من يقول الشِّعر يستطيعُ أن يقول خمسين بيتاً كل بيتٍ منها أجودُ من هذا البيت.
وأسامة هذا هو الذي قال له رَوْحٌ:
اسقِني يا أُسامَهْ ... مِنْ رحيق مُدامَهْ
اسْقنيها فإنِّي ... كافرٌ بالقيامَهْ
وهذا الشعر هو الذي قتله، وأمَّا ما أنشدتم من قول أوس بن حجر:
فانقضَّ كالدريء يتبعه ... نَقْعٌ يثُور تخالُه طُنبا
وهذا الشّعر ليس يرويه لأوسٍ إلاّ من لا يفصِل بين شعر أوس بن حجر، وشُريح ابن أوس، وقد طعنت الرُّواة في هذا الشِّعر الذي أضفْتموه إلى بشر بن أبي خازم، من قوله:
والعير يرهقها الخبارُ وجَحْشها ... ينقضُّ خلفهما انقضاض الكوكبِ
فزعموا أنه ليس من عادتهم أن يصِفوا عََدْو الحمار بانقضاض الكوكب، ولا بَدَن الحمار ببدن الكوكب، وقالوا: في شعر بشر مصنوعٌ كثير، مما قد احتملتْه كثيرٌ من الرُّواة على أنَّه من صحيح شعره، فمن ذلك قصيدته التي يقول فيها:
فرجِّي الخيرَ وانتظِري إيابي ... إذا ما القارِظُ العَنَزِيُّ آبا
وأما ما ذكرتم من شعر هذا الضَّبِّي، فإنَّ الضّبيَّ مخضرم.
وزعمتم أنَّكم وجدتُم ذِكْر الشُّهب في كتب القُدماء من الفلاسفة، وأنّه في الآثار العُلْوية لأرسطاطاليس، حين ذكر القول في الشُّهب، مع القول في الكواكب ذوات الذوائب، ومع القول في القَوس، والطَّوق الذي يكون حول القَمَر بالليل، فإن كنتم بمثل هذا تَستعِينونَ، وإليه تفزعون، فإنّا نوجدكم من كذب التَّراجمة وزيادتهم، ومن فساد الكِتاب، من جهة تأويل الكلام، ومن جهة جهْل المترجِمِ بنقل لغةٍ إلى لغة، ومن جهة فَسادِ النَّسخ، ومن أنه قد تقادمَ فاعترضَتْ دونه الدُّهورُ والأحقاب، فصار لا يؤمن عليه ضروبُ التّبديل والفساد، وهذا الكلام معروفٌ صحيح.
وأما ما رويتم من شعر الأفوه الأوديّ فلعمري إنّه لجاهليّ، وما وجدْنا أحداً من الرُّواة يشكُّ في أن القصيدة مصنوعةٌ، وبعد فمِنْ أين علم الأفْوهُ أنّ الشهب التي يراها إنما هي قذْفٌ ورجْم، وهو جاهليٌّ، ولم يدَّعِ هذا أحدٌ قطُّ إلا المسلمون؟ فهذا دليلٌ آخر على أن القصيدة مصنوعة رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهرانيّ: وأما قوله:
جائباً للبحار أُهدي لِعِرْسي ... فُلفلاً مجتنًى وهَضْمة عِطْر
وأحلّي هُرَيْرَ مِنْ صدف البَحْ ... ر وأسْقي العِيال من نيل مِصرِ
فإن الناس يقولون: إن السَّاحر لا يكون ماهراً حتَّى يأتى بالفلْفُل الرّطب من سرنديب، وهُريرة: اسم امرأته الجنِّيّة.
وذكر الظِّبي الذي جعله مَرْكبه إلى بلاد الهند، فقال:
وأجوبُ البلاد تحتيَ ظبيٌ ... ضاحكٌ سِنُّه كثيرُ التَّمرِّي
مُولج دَبْرَهُ خَوَايَة مَكْوٍ ... وهو باللَّيل في العفاريت يَسْري
يقول: هذا الظَّبي الذي من جُبْنِهِ وحذره، من بين جميع الوَحْش، لا يدخل حَراه إلا مستدبِراً، لتكون عيناه تلقاء ما يخاف أن يغشاه هو الذي يسري مع العفاريت باللَّيل ضاحِكاً بي هازئاً إذا كان تحتي.
وأما قوله:
يحسَبُ النَّاظِرُون أني ابنُ ماءٍ ... ذاكرٌ عُشَّهُ بضَفّةِ نَهْرِ
فإن الجنّيَّ إذا طار به في جوِّ السماء ظنَّ كلُّ من رآه أنّه طائر ماء.
مصدر الكتاب : موقع الوراق
تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة