مسائل ثقافية حول العمل الأدبي
في غمرة الضياع الثقافي الذي توصف به الحياة العربية المعاصرة، على أنه من مظاهر المعاناة الفكرية القلقة في المرحلة الراهنة، تستأثر بعض المفاهيم الثقافية بأهمية تبلغ حد الخطورة، لا لأنها تبدو أشبه بالمفاتيح السحرية لفهم القضايا الأدبية والفنية فحسب، بل لأن الواقع الثقافي قد فرضها على الجميع في أجيال متعاقبة، مثلما يفرض الواقع السياسي أو الاجتماعي كثيراً من القضايا الإنسانية الكبرى في حياة الجماهير. ولا تفسير لمثل هذه الظاهرة "الجماعية" في التجربة الثقافية، إلا أن هناك تغيرات حاسمة تطرأ على "العقلية العربية المعاصرة"، لا تقل شأناً عن ظواهر التبدل في النواحي الأخرى، وهي تقترن بشعار التحرر أو الثورة وبناء الحياة الجديدة.
والحقيقة أن أزمة الضياع تبدأ بالالتباس الذي يهيمن على الفكر العربي، حين يحاول أن يحدد المضمون الواقعي الحي لأي مفهوم ثقافي، فإذا تجاوزنا المفردات التقليدية المألوفة في هذا المجال كالثقافة ذاتها في معانيها المتعددة، وما ندعوه "بالعقلية العربية" وما يوصف منها "بالمعاصرة" وغير ذلك، تبرز مسألة التغير الثقافي في أرضية مثقلة بالتناقضات: إلى أي حد يمكن الحديث عما هو "ثوري" أو "طليعي" في هذه "العقلية" في حين تتكشف سلبياتها، عاماً بعد عام، عن مزيد من الغموض والارتباك، يحولان دون وعي الحقيقة والرؤية الواضحة؟.. لماذا المطالبة الدائمة بأن تهيأ الأذهان للوعي الثوري، وتختمر الأفكار التقدمية في أذهان الجميع، لكي يكون ثمة مجال للتغيرات الجذرية في الواقع، في حين يكتفي المناخ الثقافي في هذا الصدد، بوصاية النخبة من المثقفين أو التزام التيارات العقائدية أو هيمنة الوجدان الجماهيري الغامض؟. ألا يمكن أن يعد هذا الاكتفاء نوعاً من عزل التجارب الثقافية ذاتها –كما يعانيها الجميع في شتى المستويات- عن التأثير المباشر في الأحداث المصيرية؟ وفي الوقت نفسه يُطالب الفكر مثلاً أو الأدب أو الفن "بموقف مصيري" –إذا صح التعبير- يتجاوز حدود العمل الثقافي إلى التزام القضايا التحررية!..
لقد أصبح من المألوف أن نتحدث عن الكلمة التي "تقاوم" أو "ترفض" أو "تقاتل"، وعن القصيدة التي تتحدى المحرمات مثلاً، أو تقحم إيقاع التجربة المعاصرة بين "أنقاض التراث"، وعن الرواية التي تتحدث عن مشكلة الأرض أو تفضح رياء العلاقات البشرية في مرحلة "ما قبل الثورة".. الخ، غير أننا قلما نتساءل عن طبيعة الكلمة في خاصتها التاريخية الحية: إنها تجسد نضج الحس البديعي لدى الكاتب، أو تعبر عن ارتباط الإنسان بالثقافة القومية، أو عن تحرر شخصيته الإنسانية.. الخ..
من خلال هذا التساؤل الأساسي، تأخذ أزمة الضياع أو الاغتراب صيغة أكثر تعقيداً، وأشد ارتباطاً بالمصير الثقافي للأمة. في الملامح الأولى لهذه الصيغة أن الذين لا يملكون التعبير "الأصيل" عن ممارسة إنسانيتهم في حرية، قد يكونون عاجزين عن أن تصبح لهم ثقافة قومية، أو أن يؤلفوا أمة ذات تاريخ متحرر من التبعية!.. ذلك هو موقف الاستعمار الجديد من قضية الثقافة في حياة الشعوب المستقلة حديثاً.
في ندوة عقدتها مجلة "السياسة الدولية" في القاهرة /حزيران 1971/ حول هذا الموضوع، تبرز نقاط أولى في هذا الموضوع يمكن أن تتشعب عنها جميع المشكلات الأخرى:
أولاً- لقد ترك الاستعمار في البلاد "النامية" لغته الأجنبية وبنيانه الفكري. وإذا أتيح لهذه البلاد أن تستخدم لغاتها الأصلية فإن لغة المستعمر القديمة هي سبيل اتصالها بالعالم، كما أن بنية التفكير الأجنبي هي التي تتيح لها استيعاب التجربة الحضارية المعاصرة، مما يعد عاملاً خطيراً في تكوين العقلية الجديدة لشعوبها المستقلة. إن كثيراً منها تعاني الاغتراب في أقسى صوره لأنها قد فقدت لغتها الأصلية أو أصبحت هذه اللغة مظهراً "أثرياً" أصم لما يدعونه بالتراث الشعبي أو الثقافة المحلية الضيقة. وما دامت اللغة هي العنصر "الديناميكي" الحي في التجربة الثقافية، فليس من الصعب أن تصبح هذه الشعوب في ثقافتها "الدخيلة التعبير" امتداداً لثقافة الآخرين، وأن يكون في ذلك ما يشير إلى تبعيتها المتزايدة، على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. الخ، ومع أن اللغة القومية قد استعادت كيانها وحيويتها لدى العرب مثلاً، فإن ما فرض عليها الضياع والاستلاب، خلال السيطرة الاستعمارية، ما يزال يثير الكثير من التساؤلات حول جدارة الشعب بتمثل حضارة العصر، عن طريق لغته وما تركه التراث من بنى التفكير وأساليب الأداء!.. وإذا كانت معركة التعريب في أقطار المغرب سوف تمتص وحدها أجيالاً متعاقبة، وجهوداً خارقة، فإن ترويض العربية في أقطار المشرق، على تمثل التجربة الحضارية الحديثة، يعد أيضاً من مظاهر الكفاح الطويل الأمد، من أجل البناء الثقافي ومن ثم فإن أزمة "حرية التعبير" في الحياة الأدبية على نحو خاص، لا تقتصر على الشروط التي تفسح المجال للكلمة الصادقة، النظيفة، بل إن شيئاً أساسياً من الأزمة، يرجع إلى عجز التعبير ذاته عن الإحساس بحركة التاريخ: أن يقترن باللفظية "الغوغائية"، أو الالتباس المرائي، أو الأداء الخرافي. وهي لا تصدر إلا عن وجدان مستلب "مضيَّع"، يكون فيه الإنسان "أداة" في يد الآخرين، وتكون فيه الثقافة خارج الزمن. فكيف يتاح للأديب العربي، أمام هذه الأزمة، أن يعايش في تجربته الفنية وأدائه، وجدان الإنسان المعاصر؟..
ثانياً- لقد استطاع الاستعمار أن يفرض الكثير من تقاليده الثقافية بما فيها العقلية الحضارية الحديثة، من خلال المثقفين في البلاد النامية. وعلى الرغم من الطابع "الإنساني"، "العقلي" الشامل للحضارة، فإن ظاهرة النخبة المثقفة قد حملت نوعاً من الصراع بين التقاليد "الأجنبية" المزوَّدة "بديناميكية" العصر، وبين التقاليد القومية أو المحلية التي ما تزال تحتفظ بشخصيتها أو تحاول الانبعاث بتراثها البعيد أو تستنجد بخصائصها، على نحو أو آخر، لكي يعبر عن رفضها لكل ألوان التبعية. ومع أن هذا الرفض ينطوي على شيء من السلبية في النطاق الثقافي، وقد يعبر عن الكبرياء القومية أحياناً، فإنه يضع المثقفين دائماً في أزمة الانتماء الثقافي المزدوج أنه يحمِّلهم مسؤولية التمهيد للتغلغل الاستعماري "الجديد" والتنكر للثقافات القومية التي تعاني الجمود والتخلف أحياناً، أو تعجز عن معاصرة العقلية الحضارية في الغالب، وفي الوقت نفسه يُطالبَون بإحياء التراث وتجاوزه إلى البناء الثقافي الجديد.
في هذا الإطار، تثار معظم القضايا المصيرية في الحياة الثقافية أمام الأديب العربي: فإذا أتيح للثقافة العربية أن تستوعب –في تجاربها الأدبية على الأقل- كل حركة التاريخ المعاصر، وتتمثل الحضارة بكل نزعاتها إلى التجديد، أين يقف الالتزام بالكاتب العربي؟..
قد يكون التزام التراث القومي مظهراً للتحرر من الاغتراب، ولكن مثل هذا الالتزام يطرح منذ البداية مشكلة الأصالة، وهي من أكثر المفاهيم عرضة للتضليل. إن الفكر الرجعي مثلاً يلتمس معنى الأصالة في نظرية "الدورة الحضارية المغلقة" للتراث القومي، وهو يبدو من خلالها معجزة لن تستعاد، لا لأنها وحدها "الحلقة الذهبية" في تاريخ الشعب فحسب، بل لأن العصر أيضاً قد أعد من أجل بشر آخرين، يجدون أنفسهم في تقهقر مستمر أمام عنفوان الماضي، وعجز عن تطلعات المستقبل في آن واحد. ذلك هو طابع الجيل التقليدي في الغالب، إنه يعترف بالانحدار أمام منجزات الماضي "الأصيلة"، ويؤكد بأن الأمة كلها تعاني الاغتراب عن حقيقتها، لأنها فقدت لغتها الحقة، وبنية أدائها السليمة، غير أنه يؤكد في الوقت نفسه أن روح العصر تحتم أن يكون الاحتفاظ بالخصائص القديمة المتميزة للغة وبنية التعبير، وطريقة التفكير، مظهراً للحرص على التخلف ذاته.
بهذا التناقض يتجلى العقم في الكثير من القضايا الثقافية التي يطرحها الأدب العربي الحديث:
هل تستطيع القصيدة العربية ببنيتها التقليدية أن تستجيب للتجارب المعاصرة؟
إلى أي حد يسوَّغ للقصة أو الرواية أن تتجاوز روافدها الضحلة في التراث القديم، وتقفز إلى الصيغ المحدثة في تياراتها الجديدة، قبل أن تصنع تراثها الطبيعي المعاصر؟.
لقد حدد ابن خلدون مثلاً، رؤية واضحة للمفاهيم الأدبية تلخص موقف عصره من طبيعة العمل الثقافي، وهي رؤية ما تزال صالحة للتعبير عن صورة الانحدار... فإلى أي حد نستطيع أن نتبين الموقف البديل في حياتنا الثقافية المعاصرة؟.
ينطلق ابن خلدون من حقيقة أولى تتفق ومفهوم البداوة، هي الفعالية العفوية الحرة التي "يولد" بها الإنسان، وتتيح له ممارسة الكلام على أنها ملكة اللسان التي تحمل منذ البداية بنيته في التعبير وأحكامه في البلاغة.
(المقدمة –ف 47)، وتتصف هذه الملكة بالطابع القومي المحض من ناحية، و بأنها تعتمد على "الذوق" في اختيار أشكال الأداء البليغة، من ناحية ثانية. (ف-47).
إلى جانب الملكة والذوق يشير ابن خلدون إلى مفهوم ضمني أكثر عفوية وغموضاً في الوقت نفسه، هو علاقة اللغة بالتجربة الدينية. إن هذه العلاقة هي التي جعلت اللسان العربي يستأثر بصفة الأصالة "الفطرية"، في حين يبدو تاريخ اللغة والأدب في النظم والنثر، مراحل من محاولات التعبير (أو صناعة الكلام) لا غاية لها إلا اتقاء الهجنة والفساد، وما إلى ذلك. إن تاريخ النحو مثلاً –كما يُشرح حتى الآن- ينطلق من مقولة "سلبية" هي الانهيار "اللغوي" المتوقع. وهو ما يسوغ لابن خلدون والأجيال التقليدية التي تبنت شيئاً من نظرته حتى المراحل الراهنة أن تولي "الصيغة" الأدبية كل اهتمامها حين تتحدث عن الأصالة أو التجديد. بل إن ابن خلدون كان أكثر وضوحاً في التأكيد على هذا الموقف "التقييمي" –إذا صح التعبير-. يقول: "إن صناعة الكلام نظماً ونثراً إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل. والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر"... "فالمعاني موجودة عند كل واحد في طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى.. فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف.. والماء واحد في نفسه، وتختلف الجودة في الأواني المملوءة باختلاف جنسها لا باختلاف الماء، كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال، تختلف باختلاف طبقات الكلام.." الخ.. (ف-48).
في مثل هذه النظرة التي تتفق والنظرية الشكلية في الأدب المعاصر، خلال الثلاثينات من هذا القرن، وتلتقي بعض الشيء مع موجة الرواية الجديدة في الستينات، كما عبر عنها آلان روب غرييه: "لا يهم ماذا يقول الكاتب، بل كيف؟.."، يُدان التراث العربي كله أحياناً بأنه يفتقر إلى المعاناة الفكرية أو الفنية الحرة، التي تتجاوز حدود التجارب "الجماعية" والمعاني "التقليدية" المألوفة التي تصدر عنها.. فهل هناك ما يجعل هذه الإدانة مشروعة، على أنها تنسحب أيضاً على حياتنا الثقافية الجديدة؟.. وإلى أي حد تعد هذه الظاهرة صورة لانغلاق "الوجدان العربي" في تجربته البديعية، عن تفتح الثقافة العالمية المعاصرة؟.
ثالثاً- إن اللغة (القومية) التي يتاح لها من الوجهة التاريخية أن تمثل الطرف الأشد مناعة في مقاومة الاستعمار "الجديد"، والضياع الثقافي بما فيه من محاولة الاستمرار في فرض الاغتراب على الإنسان العربي، إنما تمثل الميدان الأول للامتحان الصعب في حياة المثقفين عامة، والكتاب على نحو خاص. فقد يكون من السهل أن تُستعاد اللغة على أنها وسيلة للتفاهم وتبادل الأفكار والمشاركة في التعبير، غير أن "ممارستها" على الصعيد البديعي ترتبط أشد الارتباط بممارسة الحرية، ليس من أجل التعبير عن الحقيقة الإنسانية في تطلعاتها فحسب، بل لكي تجسد حرية الآخر أيضاً: أن لا تكون –على الأقل- أداة قمع واستلاب، لدى أي كائن بشري آخر. وعلى هذا النحو فلا مجال للحديث عن انحدار العربية بعد أن انحسرت مرحلة "السليقة" البدوية الأصيلة... الخ، ما دامت هناك شعوب قد التقطتها- إذا صح التعبير- ووجدت في بنيانها المتماسك الصارم، وسبلها الأصيلة في الأداء، ما يتيح لكل إنسان "آخر"، أن يعبر عن حقيقته في حرية، وأن يسهم في بناء ثقافي جديد يكون عاملاً في صنع المستقبل بدلاً من أن تكون تجربته الثقافية حاشية على الأحداث تذهب بها أية مرحلة تاريخية عابرة.
وإذا كان لمثل هذه التجربة ما يتيح لها أن تمثل شيئاً من المستقبل، فلا بد لها من التسليم الصادق، بأن الحياة القادرة على الاستمرار والتجدد، تجري أبداً في جذور الماضي البعيدة. وهو شأن اللغة العربية بوصفها أداة للفن، في طابعها الحضاري. فما يبدو لنا نهاية المطاف، يمكن أن يصبح بداية. ومهما تخضع له البلاغة في النثر أو قصيدة الشعر، من الأحكام –على حد التعبير القديم-فإنه لا يعني مثلاً أن استقلال البيت في القصيدة أو وحدة الروي والقافية،.. يعزلان الشاعر عن أية رؤية أخرى للتجربة الفنية تفرض صيغاً جديدة، أو تتيح له أن يعايش معاصريه في الصيغ القديمة ذاتها. كان آراغون يقول: "إني لأهتم أشد الاهتمام بتجارب الذين لم يحدد مصيرهم منذ البداية". ويذكر لوكاتش: "إن رسالة الأدب في كل زمان ومكان، أن يطرح الأسئلة ويثير المشكلات في صور أناس جدد، ومصائر بشرية محدثة".
رابعاً-في البحث عن رؤية جديدة للحياة المعاصرة يجسدها العمل الأدبي، وتحمل في آن واحد، أصالة الملامح القومية واتساع الأرضية "الإنسانية" التي تتحرك عليها في حرية، لا بد من أن تعطى المفاهيم الثقافية المألوفة، معاني جديدة تناقض كل ما تفرضه نظرية "الانهيار". فمن عنفوان اللسان العربي مثلاً وأصالته الحضارية أنه أصبح قاموساً ووضعت "المعاجم" لضبطه، مثلما أنشئت له علوم اللغة والنحو وما إلى ذلك، بهذا أتيح له أن يصبح من ينابيع "التحرر" الثقافي عبر الأجيال المختلفة، وبين البلدان المتباعدة... ومع أن عملية التحرر هذه، يمكن أن تقتصر في النطاق الأدبي على اكتشاف الكلمة الحية، المشدودة إلى واقع التجربة الإنسانية، فإن طابع "الأصالة" فيها، يرجع إلى خاصتها الفنية أو صفتها البديعية. ومن ثم فلا بد من التمييز بين الكلمة التي لا تملك من الجرأة إلا الإشارة الخرساء، والصورة "اللفظية" التي تؤدي دورها في التفاهم العابر أو مشاركة الأفكار في القضايا المألوفة، وبين الكلمة الصريحة الحية، ذات البنية الفنية، تتجاوز كل هذه الحدود لكي تجسد موقف الإنسان من مصيره على النحو الذي يمليه الوجدان البديعي. من أجل هذا الموقف تصبح الكلمة "رؤية" مشرقة، تتمثل حقيقة التجربة بكل رسوخها وحرارتها، وتتخطى معطيات التراث وضياع الواقع الراهن، من أجل ما يتجدد باستمرار في وجود الإنسان، ما ينطوي على بنية واقع آخر لا مكان فيه مع أداء الكلمة لألوان الغموض والخوف من الحقيقة والإشارة والإبهام والتعثر في مجابهة التناقضات الفاجعة التي يعانيها كل واقع إنساني مستلب.. وهو واقع الأديب العربي المعاصر، و هو يعجز عن إدراج اللغة العربية ببنيتها الفنية وانفتاحها الإنساني، في التراث العالمي للعصر، مثلما يعجز عن تجسيد مرحلة الانبعاث الثقافي، أو تجربة الانعتاق من وراثة الانحطاط على الأقل، في الصعيد الأدبي. وليس التلويح بمثل هذا العجز من قبيل التشاؤم، بل إنه مظهر للشعور بالمسؤولية في أبعادها المختلفة، لدى الأديب العربي: أن يجد نفسه أمام كل جيل وافد، ملزماً بإعادة النظر فيما هو "تقدمي"، "مصيري" في النتاج القديم والجديد، يستجيب لنزعات التحرر في الوجدان الجماهيري. إن هذا الوجدان –على ارتباكه ومعاناته ما يزال يحتفظ بالانقياد الفني "للكلمة- الرؤية" تمنحه القدرة على أن يتمثل كل إيقاعات الحياة الإنسانية في مصائرها الكبيرة، ولا سيما حين تكون جدارة الإنسان وكيانه القومي، ومعناه الحضاري، هي أولى قضاياه المصيرية.
خامساً- لئلا ينزلق الحوار الفكري حول قضية الأدب العربي في تكرار المسائل الثقافية الغامضة، (التراث والمعاصرة، الأصالة والتجديد، التقاليد القومية وحرية التعبير، القديم والجديد، الالتزام وحرية الأداء، الأدب والوجدان الجماهيري... الخ) لا بد من التأكيد على منطلق أساسي يفرضه ارتباط العمل الأدبي بفكرة "المصير"، هو أن صناعة الكلمة في رؤية الحقيقة وتبصر المستقبل، تعني في الوقت نفسه صنع الإنسان العربي الجديد. ومن ثم فإن على كل حوار أن يتجاوز "التقييم" التاريخي المرحلي الذي تستأثر باهتمامه غزارة النتاج الأدبي ومحاولة الابتكار فيه، إلى التقييم الفني الصارم في علاقته بمعنى التجربة البديعية في حياة الجماهير، ومن ثم لا بد من الرجوع إلى مفهوم "الإيقاع" الإنساني الأصيل للأثر الفني.. وفي أزمة الاستلاب والضياع، يحمل هذا الإيقاع عن طريق الكلمة وبنيانها الحي، ملامح الإنسان الذي لم يتكون بعد. يقول هلدرلن في التعبير عن وظيفة الشاعر:
"حتى صمت الأثير، كنت أفهمه.. هذا السكون المترامي".
"أما كلمة "الإنسان".. فلم أعرف حقيقتها على الإطلاق!..".
(هيبيريون)
وبهذا التساؤل الصامت يتحدث بول فاليري عن الإنسان أيضاً:
".. ولكنه يختلف عني وعنك... إذا كان له شكل وله صوت.. فإن هناك "الآخر" يأخذ جميع الأشكال وجميع الأصوات..". (السيد تيست- ص92).
مثل هذا "الكائن" الطليق يحدد ملامح الأصالة والإبداع في كل عمل فني، مهما تكن صيغته وبناؤه، وهو ما يفسر استمرار الكثير من هيمنة التراث العربي مثلاً، ولا سيما في الشعر، والكثير من "رؤيته" المشرقة، على الرغم من بنيته الصارمة وتقاليد صياغته. ففي كل أداء بياني –مهما تتكرر معانيه- إيقاع تجربة جديدة يفتح الشاعر آفاقها البعيدة "وليس من الصعب أن نتبين ذلك حتى في النماذج العادية من صناعة الشعر التقليدي، كيف تحمل الكلمة وحدها صورة التغير أمام الزمن. يقول حميد بن ثور:
وكائن لقينا من نعيم ولذة
وأعجبنا المصطاف والمتربع
وقلنا لعل الماء يربو فنقتني
وعل غلاماً ناشئاً يترعرع
أماني عام بعد عام تعلقت
بأمثالها في الناس عاد وتبَّع
ولكنما الدنيا غرور ولا ترى
لها لذة إلا تبيد وتُنزع... الخ
إيقاع قديم التاريخ، ولكن الكلمات الموجزة في أدائه الفني تملك الرؤية المعاصرة كل حين،.. يتساءل آتيماتوف: "كم ينبغي أن يكون النتاج الفني قادراً على إثارة القلق الروحي لدى الآخرين وإغناء عالمهم البديعي!.. إن أشد ما ينكبنا به الأدب "الحديث" هو فيض الأدب "الوسط".. الرؤيا الزائفة التي يكون فيها الزبد أكثر من الماء الحي".
(المؤتمر الخامس لاتحاد الكتاب السوفييت – 1971)
إذا كان مثل هذا "الزبد" تعبيراً عن المتراكم"، "المرتجل"، "المألوف" مما يضاف إلى التراث، فإن المسألة المطروحة على كل جيل –كما يقول ريمون آرون- هي: هل يقبل الماضي أم يرفضه؟.." (18 درساً في المجتمع الصناعي-ص81). وعلى الرغم أنه أصبح من أكثر تساؤلات الثقافة العالمية ابتذالاً في تعبيرها عن أزمة الحضارة الغربية على نحو خاص، ومحاولتها إغراق التجربة العربية بسلبية المفردات "الثقافية" القاتمة، فما يزال هناك مجال للسؤال: إلى أي حد يملك الأديب العربي المعاصر حق الحكم النهائي على التراث، وشرعية رفض الاغتراب الراهن، وهو لم يجسد بعد في عمل مبدع رؤية المستقبل الناصعة؟..
"لو أن كاتباً واحداً في تاريخ الأدب الإنساني قد استطاع أن يلتزم حقاً قضية مصيرية لما بقي لنا ما نكتب عنه".
بمثل هذه العبارة الساخرة يعلق كاتب مسرحي معاصر على مسألة الحرية والالتزام في حياة الأديب، وعلى الرغم من أنه قد يكون رأياً عابراً، غير أن هذه المسألة في حقيقتها كانت تنطوي كل حين على مثل هذا الالتباس. فما من كاتب ـ مهما يكن عليه من عدم الاكتراث ـ إلا وهو ملتزم على نحو أو آخر، إنه يكتب بلغة قومه ويطورها على الأقل ومع هذا فإن تاريخ الأدب لم يعرف كاتباً استطاع أن يحل قضية إنسانية كبرى أو أن يتجاوز التناقضات في أية مشكلة على نحو يتيح للنتاج الأدبي أن يكون عنصراً حاسماً في صنع الواقع البشري.
ومع هذا فإن هناك حواراً قديماً بين الحرية والالتزام في العمل الأدبي، ما يزال مستمراً، يحمل إلينا حشداً لا نهاية له من المفاهيم المستهلكة والتصورات المألوفة، ووجهات النظر المتباينة. ولا بد من تحديد الجوانب الجديدة التي تسوِّغ لنا تناول البحث على نحو ما، وإعادة النظر في بعض المنطلقات المستحدثة، أي التي تمليها المرحلة التاريخية الراهنة من تجارب الثقافة العربية المعاصرة. وهذا هو الهدف الأول لهذا الموضوع.. بل إن تحديد هذه المنطلقات الجديدة ـ وقد أسفرت عنها هذه التجارب في السنوات الأخيرة ـ يمكن أن يكون أكثر تعبيراً عن الواقع الأدبي بما تنطوي عليه معاناة الأديب العربي المعاصر من سلبيات المواقف العملية خلال المراحل، وما يحمله التأكيد على العمل الأدبي المجدد من ارتباط بالمرحلة وتفاؤل بالمستقبل.
إننا نقتصر في هذه الصفحات على التنويه بما يضاف في الحقبة الراهنة من مفاهيم إلى هذا الموضوع. ولا ريب في أن التأكيد على ما يضاف من جديد إلى كل موضوع، إنما هو محاولة لفهم التأثير المباشر الذي يمليه واقع التجربة الإنسانية في المرحلة على الفكر بصورة عامة. وليس من الصعب أن نتبين في هذا الصدد ما يمكن أن يعد من المنطلقات التي يقدر لها أن تلعب دوراً كبيراً في كل حوار فكري أو أدبي أو عقائدي، حول مسألة من هذا القبيل: ممارسة الحرية في العمل الفني، اللغة العربية في دورها القومي وحركتها التاريخية وطبيعتها "البديعية"، الثورة ومسألة الصراع، المعرفة الفنية وشرعيتها في صنع الوجدان الجماهيري.. إلخ.
في طبيعة القضايا الإنسانية الكبرى، حين تطرح مشكلاتها العديدة على الأدب، إن الحوار الجاد حولها ينطلق عادة من تصور المستقبل. إننا نقف أمامها كما لو أنها منعطف حاسم، علينا أن نتبين فيه صيغة معينة لكل مصير الآخرين، ومن ثم فإن كل دراسة مجدية لأية مشكلة من هذا القبيل ـ مهما تكن هذه المشكلة ثانوية عابرة ـ تفرض أكبر قسط من حرية الاختيار، لا لأنها تحتم الكثير من ألوان الصراع الفكري فحسب بل لأنها تنطوي دائماً على "شيء يتكون من جديد، يُصنع هنا أو هناك، على نحو أو آخر، ولا بد من تدخل الإرادة البشرية في تحديد سماته الأخيرة، أو إعداد المناخ الصحي الملائم لأن يصبح هذا "الجديد" صورة مغايرة للحاضر المثقل بالفجوات المزمنة إن لم تحمل هذه الصورة ملامح النقيض، أو البديل الذي انتزعته منه ـ على الأقل ـ كل دعائم الانهيار الراهن.
ومع أن هذه الحقيقة قد أصبحت تفرض نفسها على حياتنا الأدبية، في سلسلة لا نهاية لها من مفاهيم التمرد والثورة والنضال المصيري.. وغيرها من المفردات اللفظية المثيرة، وعبارات "التعميم" الملتبسة، فإن صنعة "الأدب ـ القضية" ـ على ما فيها من التصدي الجريء في عمليات التغيير ـ تمتد بجذورها البعيدة إلى أعماق الواقع العربي، وتبدو أشد ارتباطاً بالتجارب الحية بكل ما تحمل هذه التجارب من طابع محسوس ملتصق بالمعاناة اليومية، واضح المعالم. وليس من الصعب أن نتبين الكثير من مظاهر هذا الارتباط، من خلال المسائل الأدبية الرئيسية التي تهيمن على واقعنا الثقافي منذ بداية القرن، وتتمكن جيلاً بعد جيل من تأكيد أولوياتها و"جدارتها" ليس على صعيد البيئات الثقافية فحسب، بل في بوادر الوعي الجماهيري أيضاً: محنة اللغة العربية أمام الحضارة الحديثة: كيف يتاح للأديب العربي أن يتمثل أصالة التراث اللغوي مثلاً، على نحو يمنح معاصريه قدرة التعبير عن معايشة العصر، أو يجسد لهم ولو في نتاجه الفني المحض تجربة الانعتاق من بُنى الأداء اللفظية أو الشكلية أو المتعثرة الركيكة في عصور الانحطاط؟.
لا ريب في أن الحديث عن "محنة" في هذا الصدد، قد ينطوي على المبالغة. فقد استطاع الأدب العربي الحديث، في السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة، على الأقل، أن يمارس تجربة التحرر "اللغوي" ـ إذا صح التعبير ـ على نحو لا يخلو من الابتكار والتجديد، غير أن مسألة اللغة ما تزال ـ وقد تبقى أمداً طويلاً ـ على احتفاظها بكل خطورتها عبر الأجيال المتعاقبة. وها نحن بعد أكثر من قرن على بداية التنبيه الثقافي بين العديد من الجماعات العربية المتباعدة، نقف في بعض الأقطار أمام مأساة من الاغتراب اللغوي الكامل تطرح مشكلة تعريب الجماهير من جديد، مثلما نقف في أقطار أخرى أمام اغتراب أشد تعقيداً، تعانيه الثقافة ذاتها: أن يتقهقر الأداء المشرق، المرتبط بوضوح الحقيقة وأصالة التجربة، أمام المحاولات الأدبية الموغلة في تعثر العبارة وركاكتها أحياناً، وفي كل صور الالتباس والإبهام. ليس ما يدعو إلى الحذر القلق، إنها محض محاولات عفوية متفردة، تقتحم سياق الحياة الأدبية، بتأثيرات معينة، بل إنها تكاد أن تصبح باردة التجديد الوحيدة في مستقبل الأدب العربي الحديث. إن ارتباطها الصارخ بكل ما هو "جديد" "معاصر" في تجارب الأجيال الناشئة، يتجاوز كونها "بدعاً" طارئة تعبر عن التمزق الوجداني الذي تعانيه الحياة العربية في مرحلة معينة، وهو التقييم "التقليدي" المألوف الذي يؤكد في تفاؤل صامت، أن اصطفاء التاريخ الأدبي، سوف يعيد إلى الممارسة الأدبية بنيتها الصحية السليمة ـ غير أن هذا التفاؤل يبدو على جانب من السطحية، إزاء ما ينال اللغة ذاتها من اغتراب عن متانة بنيانها وصفائه من ناحية، وعن الحقيقة الإنسانية من ناحية ثانية. إنها تجابه تياراً جارفاً من الارتباك والهجنة في الأداء الفني، قد يحمل في كثير من التجارب الرائدة كل معالم الأصالة والابتكار، غير أنه يشرِّع لكل جيل ناشئ منطلقاً متعثراً لا يمكن أن يوصف إلا بالخوف من الحقيقة والافتقار إلى الصدق في معاناة تجربة الواقع.
ليس هذا التأكيد على مسألة اللغة منذ البداية، محض مثال عابر عن العلاقة الوثيقة بين الأدب وقضية الثقافة العربية في مرحلتها التاريخية الراهنة، وما تحمله هذه القضية من أشكال الالتزام أمام محاولات التغيير الحاسمة في مصائر الآخرين. بل إن أزمة التعبير التي تثيرها مسألة اللغة هي أحد جناحي الموضوع في خطوطه الرئيسية. الجناح الآخر يتناول منطلقاً لا يقل خطورة، يتمثل في اكتشاف الأرضية الاجتماعية التي تتحرك فيها المبادرات المتعاقبة للعمل الأدبي. إن التلويح بصيغة "الأدب ـ القضية" أو الأدب والقضايا المصيرية، يضع أمامنا مهمة البحث الجاد، في ميدان لم يقدر له بعد، أن يتذرع بالمنهجية العلمية الواضحة، هو ما يتعلق "بعلم اجتماع الأدب العربي". إن نبض الدراسات والبحوث النقدية والتقييمية التي يحملها تاريخ أدبنا المعاصر، لم يلامس بعد إلا جوانب محدودة من الأسس التي يمكن أن يقوم عليها "علم الاجتماع الأدبي": الأديب والحياة بصورة عامة، الأديب والالتزام العقائدي، الأدب والحياة بصورة عامة، والأحداث السياسية... إلخ. وكثيراً ما تنتهي الدراسات في هذا الصدد، بالنتيجة السلبية المألوفة: الافتقار الصارخ إلى نظرية "عربية" حديثة في النقد أو الأدب، أو إلى الناقد "الكبير" الذي يمتلك "شرعية" التقييم المعاصر، أو إلى المنهج النقدي الواضح. ولشد ما تتعثر هذه التطلعات في الواقع الأدبي، وتفتقر هي نفسها إلى رؤية الحقيقة، ذلك أن الذين يتوجهون بها إلى الحركة الأدبية، يعترفون في الوقت نفسه، بأن علم اجتماع "الواقع العربي" البحث لم يتكون بعد، وأن النظرية المعنية لن تكون إلا ثمرة لجدارة النتاج الأدبي الفنية، ـ وه يما تزال موضع الارتياب أو التساؤل على الأقل ـ وأن المنهج ـ مهما يكن مرتبطاً بموضوعية العلم ـ لن يكون إلا امتداداً لموقف عقائدي تمليه الرؤية الشاملة للحياة العربية المعاصرة.
لا ريب في أن التعرض لمثل هذه الصعوبات على هذا النحو الجذري الصارم، يضعنا أمام كل مظاهر الفراغ في حياتنا الثقافية دفعة واحدة، وقد يكشف لنا عن الكثير من منزلقات الدراسات الأدبية الراهنة في تحديد مشكلاتها ومناهج البحث فيها، مما قد يوحي بأن جميع البدايات خاطئة في طبيعتها وأنها لن تلبث أن تجد نفسها جميعاً في طريق مسدود، غير أن هذا كله لا يحمل على إعادة النظر في جدوى المحاولات الغزيرة القيمة التي تصدت لرصد الحياة الأدبية منذ مطلع القرن، وتولت شتى الاجتهادات في تقييم النتاج المعاصر أو تطلعت إلى تقييم جديد للتراث القديم. لقد أتيح لهذه المحاولات أن ترفد تاريخ النقد الأدبي في ماضيه وحاضره، بالكثير من معطيات الثقافة العالمية في هذا المجال، وأن "تطعِّم" فكرنا الأدبي ـ إذا صح التعبير ـ بشيء من "المنهجية" المعاصرة، لا غنى عنها في تلافي المحاذير المألوفة الخطيرة في أساليب النقد المتبعة: الارتجال والموقف الشخصي، والمغالاة في الإدانة أو التقريظ، والبعد عن الموضوعية من ناحية وعن الصفات المرحلية "التاريخية" للأثر الأدبي من ناحية ثانية.
ومع أن الطابع التجريبي الواضح في عمليات النقد الأدبي الحديثة، يمهد الطريق للعمل الثقافي الجاد في هذا المجال، فإن التجريبية التي تستند في الغالب إلى معايشة الحياة الأدبية في "واقعية" جريئة، لا تستطيع أن تتجاوز حدودها الضيقة إلا إذا أدرجت محاولاتها جميعاً في إطار البحث عن الخصائص المميزة لقضية الأدب العربي كلها في هذه المرحلة. لقد كان ينبغي أن لا تبحث مسائل الأدب في علاقتها بالقضايا الكبرى للحياة العربية، وبالمصير العربي، على نحو عام، إلا بعد تحديد المعالم الرئيسية لتلك الخصائص. قبل أن نتساءل ماذا يستطيع الأدب أو الأديب في واقع معين؟ لا بد من أن نبين في شيء من الوضوح، ما هو أدب المرحلة، ومن هو الأديب في مجابهة القضايا المطروحة؟
وفي هذا السبيل نجد أنفسنا ملزمين بأولى المنطلقات الأساسية للعمل الأدبي في جذوره البديعية والاجتماعية معاً. ولئلا نوغل في تشتت "التجريبية" المرتجلة التي تغمر حياتنا الثقافية في هذا المجال، فإن حركة الواقع في تغيراتها العميقة، تفرض علينا منذ البداية، أن ننتزع من كل موقف فني أو ثقافي أو قومي، ما يشير إلى الصفة التاريخية ليس في الظاهرة الأدبية فحسب، بل في دراستها وتقييمها أيضاً. ذلك أن ما هو تاريخي.. متحرك، هو وحده الذي يطرح مشكلة الحرية والالتزام. ولا نملك من هذه "التاريخية" على صعيد الحياة الأدبية، إلا أن هذا الاندماج التقليدي العريق بين حياة اللغة العربية وحياة الأدب، من جهة، وهذا الإرهاص العنيف الذي يهيمن به الواقع الاجتماعي ملوحاً بالتجارب الجماهيرية بصورة خاصة، على جدارة الأديب ومصيره.
على هذا النحو يأخذ الحوار حول مشكلات الحرية والالتزام صيغة الصراع الثقافي الجاد، وهو يتناول موضوعاته الأساسية في تحديد واضح ملموس، لما يستطيع أن يمارس الأدب والنقد معاً في عمليات التغير، مهما تكن عليه العبارات الدارجة في هذا المجال من لفظية الكلمات، وعمومية المعاني واتساع ميادينها النظرية. إن الإلحاح على صيغة "الصراع" بدلاً من الحوار، هو نقطة البداية في معايشة الواقع الأدبي، والثقافي معاً، بصورته المحسوسة الواضحة، ما دام الأمر يتعلق بما نستطيع أن ندعوه "الالتزام المصيري" بكل ما يمكن أن ينطوي من الأبعاد. قد يكون في الحوار متسع أرحب لاكتشاف الحقائق، وتعدد وجهات النظر، وتعايش المواقف المتباينة، غير أنه قد ينطوي أيضاً على أخطر المحاذير، حين يسوِّغ لكلٍ أن يحتفظ "بحقيقته" الخاصة، وأن يتذرع بكل الشروط الموضوعية "الممكنة" لكي يتنصل من مسؤولية الالتزام، حتى في العمل الأدبي المحض. وليس ما هو أكثر دلالة على مثل هذا التنصل من موجات الأدب "المبتذل" أو "الغث" وهي توشك أن تغمر الحياة الأدبية، تحت شعار "مساومة الواقع". ما دامت شروط التخلف في الحياة العربية أقسى من أن تُقاوَم، فليكن الأدب متخلفاً أيضاً، بل ينبغي أن يكون. وما دامت العربية لم تبلغ مرحلة النضج "الحضاري" في التعبير عن روح العصر، فلتدرج المخاطبة الجماهيرية المباشرة، في أساليب الأداء الفني، بكل ما تحمله من التهاون في تطلعات المرحلة إلى بناء ثقافي جديد. بمثل هذه الصيغ الدارجة، تنحدر التنازلات بالعمل الأدبي إلى المزيد من مظاهر الضحالة والركاكة، والأساليب "البهلوانية" أحياناً، واصطناع الحزلقة أحياناً أخرى، فراراً من مسؤولية التعبير الجريء الحر. غير أن ما هو أشد خطراً في مثل هذا التنصل يكمن في تجاهل الشرط التاريخي الوحيد الذي يفرضه المناخ الثقافي الراهن، نقطة انطلاق أساسية في حرية العمل الأدبي والتزام المصير القومي في آن واحد: أنه لا بد من التعبير عن شيء من الإيمان العميق بأن هذا المناخ يحمل روح الثورة قبل كل شيء، وأنه لا حوار في قضية الثورة، ولا مكان لأية وجهة نظر ترفض رؤية المعاناة الجماهيرية في حركتها التاريخية، أو تمنح نفسها حرية الاختيار في اتخاذ موقف محايد، إلا إذا كان هذا الموقف محاولة لتجريد العمل الأدبي من محتواه الإنساني ومن بنيته الحية المتجددة في آن واحد..
إن إقحام "الثورة" بمفرداتها المتشعبة في مثل هذا الحوار الثقافي المحض، كثيراً ما يبدو نوعاً من اصطناع الأزمات الفكرية، لا يخلو من فرض الوصاية على المرحلة أو التعنت العقائدي ـ كما يردد الكثيرون ـ غير أن رفض الحوار التقليدي حول هذه القضايا، هو الذي يحتم التأكيد على ما هو ثوري في كل مسألة ثقافية أو أدبية، مهما تكن جانبية أو ثانوية. فمن هذا التأكيد وحده، تصدر ضرورة التمييز بين موقف "الالتزام المصيري" الجاد، وبين الموقف الحائر الذي يوصف عادة بعدم الاكتراث. وليس هناك موقف ثالث. ومن ثم فإن هناك صراعاً حقيقياً، وإن لم تتحدد صيغته "العلمية" الواضحة وتتبلور عناصره وأبعاده. أما أن يكون العمل الأدبي في الاتجاه التقدمي المتحرر لحركة المجتمع المرحلية، ومن ثم فهو طرف في معركة، وأما أن يكون في الاتجاه المغاير الذي لا نملك من وصفه "الاجتماعي" إلا العبارة التي يستخدمها عادة فقه القانون في إيجابيته الوضعية: وهي عبارة "السكينة"، على أنها نهاية المطاف في تكوين القيم الاجتماعية، بعد القيمتين الأساسيتين: التقدم والعدالة. وما يعنينا من هذا المفهوم القانوني العريق، هو الموقف الإنساني الذي يمليه في الحفاظ على التوازن الاجتماعي، وقد يتجاوز هذا الموقف حدود التشريعات التي تحقق هذا التوازن، ويبرز التناقض بين القوانين "الجائرة" والقيم الاجتماعية والأخلاقية التي تحمل تعبيراً أوسع عن شروط الحياة الإنسانية "العادلة" غير أن ذلك كله لا يلغي خطورة الروح السكونية، ـ إذا صح التعبير ـ في مرحلة تتعثر فيها أسباب التقدم ويشوه وجه العدالة، ويتلفت فيها الوجدان الجماهيري، بكل عفويته وشقائه، إلى منطلق حاسم للعمل ضد "السكونية" الاجتماعية الزائفة.
على هذا النحو ترتسم أولى ملامح الثورة. وتلوح في الوقت نفسه كل مغالطات العقلية "السكونية" وافتقارها إلى الوعي التاريخي الحق، فهي التي تتولى مساومة الواقع والإذعان لشروطه والدفاع عن أخطائه المزمنة، في حشد من معطيات الخنوع المتوارثة، تحمل فيها الثورة كل سلبيات الرفض والعصيان المتبجح، إلا أنها ـ أي الثورة ـ تجسد وحدها ممارسة الحرية الإنسانية في خلق قيم جديدة وتكوين الإنسان العربي المعاصر. ولا مجال لاستعادة جميع المعطيات "الثورية" المألوفة في هذا الصدد: ماذا يعني التكوين الجديد بالقياس إلى العمل الأدبي، وما الذي تعنيه الثورة ذاتها، في حركتها التاريخية، وما هو الموقع الحقيقي المحدد للأديب العربي في صيرورة الأحداث المتعاقبة؟ غير أنه لا بد من التأكيد على أن للأدب والأديب معاً، قسطاً كبيراً من ممارسة التجربة الثورية كما تحياها المرحلة قد يتجاوز حدود الدور المباشر الذي يلعبه المثقف أو السياسي أو المناضل العقائدي. إن الممارسة العملية قد تقف بهؤلاء جميعاً عند حدود القضايا المرحلية الراهنة التي تغدق عليها تناقضات "الحاضر" كل ألوان الخطورة المصيرية والمبادرة السريعة الحاسمة، مما قد يعزلها في الغالب، عن مسؤولية النظر في وراثات الماضي، ورؤية المستقبل. أما ارتباط العمل الأدبي بما هو مصيري في المرحلة، فإنه يفترض في "ثورية الأديب" أن تتمثل كل ما يمكن أن يمتد إليه وعي الوجدان القومي، منذ أن ولدت الكلمة أداة للتعبير الفني عن هذا الوجدان في حساسيته الفنية وتطلعاته الأخلاقية، إلى أن تصدت لمهمتها الأكثر مسؤولية والأبعد طموحاً: أن تسهم في إعداد أرضية طليعية جديدة للمصائر الإنسانية التي لم تتكون بعد.
ومهما تكن عليه الثورة في الإطار السياسي أو الاجتماعي أو العقائدي، من رؤية بعيدة لهذه المصائر، ومهما تكن صيغتها معنية بما ينبغي أن يبقى من التغييرات الحاسمة، بعد الثورة، فإن صفتها المرحلية وكونها محض وسيلة للتحرر، يفرضان عليها أبداً، أن تستنجد بكل ما يمكن أن يتجاوز المرحلة من ألوان الوعي والمعرفة، وصور التعبير عن الحقيقة الإنسانية. و في هذه الأمور جميعاً، يمارس العمل الأدبي ـ والفن بصورة عامة ـ وظيفة الكشف الجريء عن كل الجذور الدفينة في الواقع "التاريخي" الذي تعمل الثورة على تعرية تناقضاته وتبديل بنيته الاجتماعية من الأساس بكل قيمها المنهارة. في الوصف المألوف للثورة "أن جميع الأسرار البشرية تصبح في العراء، وأن من العار أن يتراجع الإنسان أمام أخطاء الماضي ومخازيه. إن المرحلة الثورية تلزم الجميع بالتصدي لمشقة الكفاح من أجل البديل". قد يكون في هذه العبارات التقريرية الدارجة، كثير من إعلاء شأن العمل الأدبي، من شأنه أن يؤكد الدور المزدوج للأديب: أن يحول الحقائق الإنسانية التي تعريها الثورة إلى قيم بديعية راسخة، وأن يكون مناضلاً من أجل حرية التعبير في الوقت نفسه. غير أن كل ما يحمله هذا التأكيد من لفظية حماسية، في واقعنا الراهن، لا يزحزح الأديب العربي عن مكانه الطبيعي في عملية الثورة، إلا إذا اضطرته وصاية القيادة الثورية، أو تبعيته الطارئة للاندفاع الجماهيري، إلى التخلي عن مهمته الأساسية في ترسيخ القيم الجديدة في الوجدان الجماعي.
في مثل هذا التخلي تنعكس على موقف الأديب ونتاجه كل التناقضات التي تحملها قضية الحرية والالتزام، وهي تشير جميعاً إلى منزلقات "الثورة الكاذبة" في التجربة الأدبية. أن لا تكون أكثر من تحريض غوغائي في المناسبات المثيرة، يصدر عما يدعونه عادة بالموقف البطولي..، أو أن تقتصر هذه الثورية على التعبير "البديعي" المصقول عن "وقائع" الثورة، باسم التاريخ الحي أو الرواية الأسطورية التي ترصد نماذج الصمود أو التمرد أو الإيمان بقضية الثورة.
إن الثورة لا تستمد شرعيتها إلا مما تقدم من أجل ما بعد الثورة، من أجل أن يتكون الوجدان الجماهيري المنيع الذي يقاوم في حسم نهائي كل محاولة جديدة لاستلاب الإنسان والعبث بمصير الأمة. وأخطر ما يمكن أن تتعرض له "الممارسة الثورية" من انحراف، إنما يلوِّح به هذا التساؤل العفوي: "ما الذي يتبقى من القيم الجديدة للأجيال القادمة؟..".
في مثل هذه الأرضية الصعبة، يحمل الأديب العربي في المرحلة الراهنة، كل ألوان المعاناة. إن شيئاً من الحتمية التاريخية يفرض عليه الانتماء إلى الواقع "الثوري" في حياة المجتمع، الواقع الذي تمثله إرادة الإنسان الجماعية في تغيير واقع آخر لم تبق من ملامحه الإنسانية إلا الأنقاض. وسواء استنجدت هذه الإرادة بالكفاح السياسي الذي يتوجه إلى انتزاع السلطة وممارستها في تحقيق المنجزات السريعة أو أخذت صورتها الاجتماعية في تحالف طبقي جديد يمتلك بروحه التقدمية زمام المبادرة في صراع طويل الأمد، وسواء كان للكلمة "الفنية" ـ وهي ذريعة الأديب ـ أثر فعال مباشر في عمليات التغيير المرتقبة، أم احتفظ بخصائص النخبة المتعالية التي تتوجه إلى المستقبل الأبعد، فإن الممارسة الحية للعمل الأدبي الجاد، تضع الأديب العربي في مسار التاريخ الذي يُصنع من جديد. قد يكون للانتماءات الجانبية في حياته، دور في تكوين شخصيته الأدبية أو فيما يتاح لآثاره من الوصول إلى الجماهير، غير أن "حقيقته الفنية" بذاتها تمثل واقعاً متحركاً باتجاه التاريخ الجديد، لا سبيل إلى تجاهله أو الحياد عنه.
ولكي نتناول هذا الواقع في معطياته المحسوسة الراهنة، لا بد من إشارة عابرة إلى ما تعنيه هذه "الحقيقة الفنية" في تاريخ الأدب العربي على نحو خاص، ما دمنا نغامر بهذه المقولة: "أن تكون تجربة الحرية الحقة لدى الأديب، متمثلة في هذا الالتزام الثوري". إن في طبيعة الثورة منطلقاً أول هو معرفة الواقع على نحو يحدد معالم الحتمية والضرورة في تغيراته جميعاً، ويميز بالتالي أين تستطيع الإرادة البشرية أن تمارس فعاليتها من أجل ما هو مصيري في حياة الجميع. إن الصفة المصيرية.. تحتم أن تكون هذه المعرفة ـ على ارتباطها بالحقائق العلمية والمنطلقات العقائدية ـ ذات طابع تقويمي واضح، نسميه عادة "تبصُّر المستقبل"، أو "الرؤية الطليعية" إلى العالم. وفي هذه الصيغة يمكن أن تنحل كل معرفة إلى شكل آخر للمعرفة، فما هو من قوانين السياسة مثلاً يتحول إلى حقائق علم الاجتماع واطراد العلاقات الاجتماعية ينحل إلى شيء من الترابط الضروري في الظواهر العلمية، إلا ما يمثله وعي الفنان للحقيقة الإنسانية، وما يتاح له من صياغة هذا الوعي في الأداء الفني المبدع.
وعلى هذا النحو ففي كل مرحلة تاريخية حاسمة من مراحل الانعطاف الجذري الذي تمليه الثورة، تبرز "المعرفة الفنية" أو "البديعية" على أنها الإطار الأوسع لممارسة الحرية الحقيقية: على الرغم من أن الفكر العربي أصبح في السنوات الأخيرة يقحم "ما هو مصيري" في كل مجال، وأصبح المفهوم نفسه على شيء من الابتذال. إن المنطق الطبيعي لفكرة المصير في هذا الصدد، هو أقرب إلى التصورات العفوية الساذجة التي يمليها الوجدان الجماعي لأول وهلة، بعيداً عن كل اجتهاد فكري غائم أو إطار عقائدي متسع الأبعاد. "ما هو مصيري" في مسائل الفكر والأدب والفن، يعني أن الحقيقة الثقافية سواء تجسدت في مسلمات الفكر ويقينه أو في أصالة العمل الأدبي والإبداع الفني، لا تعد حقيقة تاريخية حية، إلا إذا كانت على صلة وثيقة بما يتبدل بمصائر الناس المعاصرين. وبمقدار ما تحمل هذه الصلة من التطلع الجريء إلى تغيير هؤلاء الناس، أو تكشف لديهم شيئاً من إرادة التغيير الجذري، تكون الحقيقة في مظاهرها المختلفة، ذات طابع مصيري. من دون ذلك لا مجال للحديث عن أي شكل من أشكال الالتزام الحقيقي ولا سيما في نطاق الأدب والفن. إن تجاهل هذا المنطلق البديهي البسيط، قد غمر حياتنا الثقافية الراهنة بفيض من ألوان المغالطة والتضليل، ليس حول معنى الكلمة وما يتفرع عنها عن المفردات الدارجة، فحسب، بل حول القضايا الأساسية للحياة الأدبية والفنية أيضاً: أن يلتزم الأديب صناعته الفنية مثلاً! أو يلتزم المعاناة التي تتيح له أن يبدع عملاً فنياً ذا طابع إنساني شامل! أو يلتزم الحفاظ على أصالة التراث في "نتاج" شامخ يمكن أن يندرج في تقاليد هذا التراث!.. أو يلتزم التجديد في الأداء الفني عن طريق الأخذ بروح الحداثة في أنضج تجاربها والاستجابة لتقنية الفن المعاصرة!. صور لا نهاية لها من مواقف الالتزام، تملك كل شرعيتها ومسوغاتها على الصعيد الثقافي المحض، غير أنها ليست في النهاية إلا تعبيراً واضحاً عن التقهقر أمام مسؤولية الالتزام الحقيقي الجاد بالمرحلة التاريخية الراهنة. في مثل هذه المسؤولية ينطلق الأديب أو الفنان من التساؤل العفوي الصادق الذي تمليه المرحلة ذاتها بكل ما فيها من أشكال التناقض والمعاناة: هل يملك العمل الأدبي أن ينفصل عما هو مصيري في واقع التجربة الإنسانية كما يعانيها الآخرون، ولا سيما أن هؤلاء الآخرين، ينحسرون جيلاً بعد جيل، عن قوى بشرية جديدة، تمنحها الأحداث المتلاحقة، ملامح شتى عن هوية تاريخية صارمة تتجمع كل عناصرها حول محور واحد هو إرادة الثورة في أبعادها المختلفة؟ وسواء أخذت هذه الملامح صيغة الكيان القومي المتحفز الذي يستنجد بوعي الماضي العربي وتراثه البعيد، والصمود أمام تحديات الواقع الصعبة، وشعار النضال المصيري الواحد، أو كانت الصيغة في وعي الاستغلال الطبقي والاستلاب "اللا إنساني" الذي يقوم على أنقاضه كل بناء اشتراكي راسخ أو اقتصرت هذه الصيغة على الأفكار الثورية وما تفرضه على الجماهير من الشعارات التحررية، فإن أول مظهر للتحولات الجذرية في الواقع العربي، يتمثل في انحسار الطابع القطيعي، الغارق في الإذعان والتبعية. وإذا كان باستطاعة الأديب أن يفصل بين موقفه السياسي أو العقائدي أو بإحدى هذه الصيغ أو سواها في التعبير عن استجابته لحركة الواقع "الديناميكية"، كمن يؤكد صفة المعاصرة ومعايشة الآخرين، في شخصيته الأدبية، فإنه لا يستطيع أن يتجاهل ارتباط العمل الأدبي حتى في بنائه الفني المحض، بكل ما تحمله المرحلة في واقعها الجماهيري، من مثل هذا الانحسار الذي يمثل الخطوة الأولى في عمليات التحرر الذاتية للحياة العربية.
تبدو هذه الحقيقة لأول وهلة، بصفتها التقريرية الصارخة، وكأنها دفاع عن واقعنا الأدبي كله. فإذا كان هناك ثمة انفصال بين شخصية الأديب التي يمكن أن تأخذ بكل أشكال الالتزام السياسي أو العقائدي، وبين عمله الأدبي الذي لا يحمل خصائصه الفنية إلا لارتباطه بحركة التحرر العامة، فإن الأديب في حل من أي التزام مصيري، بل إن تاريخ أدبنا الحديث ليلوِّح في كثير من محاولات "التقييم" التقليدية المألوفة، إن مثل هذا الالتزام قد يفسد العمل الأدبي ذاته، لا لأنه يقوم على قسر "الصناعة الأدبية" ـ إذا صح التعبير ـ للغائية السياسية أو العقائدية، في حين تشترط هذه الصناعة تحرر الوجدان من أجل الغائية الفنية وحدها، بل لأن "ما هو مصيري" يحتم أيضاً أن يكون التقييم الفني نفسه في أبعد حدود الصرامة: أن يطالب أبداً بالأعمال الأصيلة المبدعة، والنتاج الذي يتسع لما تحمله القضايا المصيرية عادة، من الطابع العالمي للتطلعات الإنسانية، وفي جميع الأحوال، يجابه الأديب العربي أزمة الاعتراف بجدارته الحقيقية في كل مرحلة: إذا كان التزامه العمل الفني المحض معبر عن تفتح الوعي الثقافي في المرحلة، فلماذا لا يكون للكلمة دورها التحرري المباشر في تحريك الجماهير؟ لقد أصبح هذا التساؤل الصارخ مألوفاً في حياتنا الأدبية، غير أنه، مع هذا، لم يأخذ أبعاده التاريخية الحقة. بل إن الكثرة من الأدباء يرونه دخيلاً على قضية الأدب، وكثير ما يعزى إلى الحماسة الطارئة، لدى الأجيال الناشئة، في تأثرها التلقائي بتجارب الثورات التحررية أو البناء الاشتراكي في كثير من أقطار العالم.. ماذا تستطيع الكلمة في غمرة الصراع المرير من أجل تحرر الوطن، وثورة المجتمع على نفسه في شؤون الحياة الأساسية، التخلف والجوع والبنية "القطيعية" للجماعات العربية، وتناقضات السلطة؟.. أليس هذا الصراع، مهما تتعدد ألوانه، ذا طابع سياسي محض؟. وطوال عصور الانحطاط كانت التقاليد "الأدبية" تحذر من تعاطي السياسة، لأنها مهلكة للكاتب. قد يكون التحذير مشروعاً في مراحل الوصاية الاستبدادية الجاهلة التي كانت تفرضها سلطة أوكلت نفسها برعاية التناقضات وخلق المناخ الملائم لاستمرار الانهيار والسقوط، بما فيهما من إدانة للغة القومية السليمة، والأدب والفن، والنظر إليها جميعاً على أنها إما أن تكون في خدمة الواقع المتعفن وإما ألا تكون. غير أن كل تلك المراحل، لم تكن إلا فترات انقطاع متعاقبة، عن تاريخ الأدب العربي ذاته. إن ما أصبح من السياسة في العصور المتأخرة لهذا التاريخ، كان في العصور المزدهرة من أكثر التقاليد عنفواناً وأصالة: أن تكون الكلمة ـ حتى في أرهف أدائها الفني المحض ـ تجسيداً لوجدان الأمة، ورؤية جديدة للمستقبل. إن الشاعر الجاهلي مثلاً لم يكن صدى لتجارب القبيلة. ولم يكن القرآن وسيلة سحرية للإيمان، حتى قصائد الفخر والمديح والرثاء في العصور التالية، لم تكن وسيلة تعبير عن مشاركة المشاعر الإنسانية، بل كانت "العبارة العربية"، في صياغتها الفنية الواعية، عملية بناء مصيري جاد، ليس في الحياة العربية فحسب، بل في سياق التراث الحضاري للإنسانية كلها.
في مثل هذا المنعطف تقف حياتنا الأدبية المعاصرة، منذ أن قدر للأديب أن يعايش شيئاً من مصائر الآخرين، وبدأ يشعر بأنه قد يملك الحرية المطلقة في اختيار أي موقف من المجتمع والحياة والعصر، ولكنه لا يملك حرية التصرف بمصيره الثقافي: أن يتراجع عن كونه شاعراً أو قاصاً أو روائياً، في هذه الحقبة من تجارب المجتمع الذي يعيش فيه، وخلال الوضع الثقافي الراهن، بكل ما فيه من مظاهر الاضطراب والضياع أو ما ينطوي عليه من التماسك والنزوع إلى التفتح والازدهار.
إن ما يحدد الجدارة الحقيقية للأديب العربي هو هذا الارتباط الوثيق بين تجربته الفنية وبين ما يمكن أن تعنيه في صنع المصير الثقافي للمرحلة التاريخية. وسيان في هذا السبيل كان مؤمناً بأنها مرحلة انبعاث وتجدد، وأن له دوراً مجدياً في رسم ملامحها الطليعية أو كان ممعناً في السلبية أمام مظاهر الصراع في الواقع الحي، يرفض الاعتراف بأن في هذا الصراع شيئاً حاسماً في صيرورة المجتمع ومصائر الآخرين.
وعلى الرغم من جميع التطلعات الإيجابية المتفائلة التي تحشد للتعبير عنها جميع المفردات "التحررية" المعاصرة، منذ عشرينات هذا القرن، فإن تاريخنا الأدبي الحديث، ما يزال بجذور اليقظة القومية الممتدة حتى منتصف القرن الماضي، يخضع للكثير من الأوهام في تقييم المراحل المتعاقبة. إن المفهوم التقليدي القديم للسياسة كما يقحم في قضية الأدب، هو أحد هذه الأوهام الكبيرة. ليس من السهل أن ننظر إلى الالتزام السياسي في حياة الأديب العربي خلال هذه المراحل، نظرة تقويم مصيري ـ إذا صح التعبير ـ أن نفرز الأدباء في لوائح الصراع الاجتماعي والعقائدي (الرجعية والتقدمية، اليمينية والثورية، التقليدية والطليعية.. إلخ)، ما دام تاريخ الأدب نفسه، ينطلق من مسلمة أساسية هي أنها جميعاً مراحل تكون واختمار، وأن بداياتها في كل جيل، ما تزال تحمل شعار ترويض اللغة العربية على استيعاب التجربة المعاصرة، أو اكتشاف سبل الأداء الفني في بنيته السليمة. لقد كان هذا المنطلق، وما يزال، على صلة عميقة بالتجربة السياسية، في إطارها القومي العام. ومن خلال هذا الإطار، ما يزال الجيل التقليدي مثلاً في العشرينات حتى الخمسينات يضم العديد من الرواد الحقيقيين في هذا المجال، رغم كل ما يحملونه من التعثر والتناقض والارتباك، في انتماءاتهم السياسية. ففي سنوات الاحتلال مثلاً، كان الشعر العربي كله يرسم بالكلمة صورة الوطن المتحرر، والكفاح البطولي من أجله، قبل أن يتكون حتى مفهوم "المواطن" الذي يملك شرعية الانتقال من بنية الرعية القطيعية إلى بنية الكائن السياسي المعاصر. وكان هم "الأداء" في المقالة والقصة والرواية والمسرحية، مثقلاً بالتزاماته الشاقة أمام الوجدان الجماعي: كيف يتاح للعبارة العربية ببنيتها اللفظية الموشاة بالحذلقة والالتباس أو بركاكة تعبيرها العامي المبتذل، أن تحمل شيئاً من صفاء المشاركة الوجدانية الحية، بين تجربة الأديب ووعي الآخرين، أن تصبح من واقع الاتصال الإنساني والقومي، بعد أن كانت إشارة مبهمة، أو أداة تحريض غائم..
على هذا النحو تحمل الريادة لدى كل جيل تقليدي في النصف الأول من هذا القرن، شيئاً من ملامح الالتزام الجاد لا يمكن إلا أن يوصف بالمعاصرة والتجديد، ما دام يهدف تلقائياً إلى أن تصبح البنية التقليدية للتراث اللغوي أكثر مرونة في التعبير وأقرب إلى حرارة التجربة المعاصرة.
من هذه الوجهة وحدها يمكن الحديث عن أوائل الرواد ليس بين ممثلي الجيل التقليدي فحسب، بل في التجربة الأدبية لكل مرحلة تالية أيضاً. في نصيحة لأحد النحاة القدامى: "وانظر كيف أصبحوا يقولون ماذا يريدون، لكي تعرف كم قصروا عن الأوائل، وهل سبقوهم في الكلام البليغ؟". منذ أن يوضع الأداء في سياقه التاريخي، وهو المنطلق الأول لكل تقييم أدبي جاد، يبدو المضمون ـ رغم ارتباطه بقوة البيان ـ عنصراً ثانوياً، ولا سيما حين يكتنف الالتباس ما في تجربة الأديب من أصالة "ذاتية"، أو وعي فني عميق يضع نتاجه في المستوى الإنساني الشامل. بل إن مثل هذا الالتباس يمثل الآن أزمة النتاج العربي الحديث كله، فإذا كان من السهل أن نتبين فيه التأثر البعيد بالتراث الأدبي القديم وهو مصدر إدانة لجيل المقلدين حتى الثلاثينات، فإن التلقي العفوي لتجارب التراث العالمي، يمنع كل تمييز تقييمي واضح لما هو من شخصية الأديب الفنية ومظاهر إبداعه. وكثيراً ما تلوح في هذا التلقي ظاهرة التسرب الحضاري الذي يفرض مبدأ الهيمنة والإذعان: ما هو ضحل مهلهل في التجربة، يذعن بالضرورة لما هو أعمق وعياً وأغنى في التعبير عن المعاصرة. وإذا كانت هذه الظاهرة طبيعية في إنضاج العمل الأدبي، فإن من سلبياتها الخطيرة أن يتجاوز هذا التلقي حد التأثر الذي قد تقتضيه المشاركة الوجدانية، أو الاستيحاء أو الاقتباس المتواضع إلى تقمص التجربة وادعاء معاناتها وصياغتها الفنية على نحو أو آخر. مظهر صارخ للاستلاب في حياة الأديب العربي: أن يكون حتى في وجدانه الفني أداة للتعبير عما هو من ثمار الإبداع لدى الآخرين. إذا تجاوزنا الصورة الهزلية لهذا المظهر الذي يُعِد فيه حتى الناشئة، إكليل العبقرية سلفاً من أجل ما لم يكتبوا بعد، فإن هناك وجهاً أليماً لا يخلو من عنصر المأساة والرثاء، إن الأديب المستلب في هذا المجال، لا يقتصر على التخلي الطوعي عن بدائيته وسذاجته العفوية في ممارسة الأدب، وقد يكون فيهما الكثير من نفحات الصدق والموهبة، بل إنه يقوم بالدور المحزن لكل بهلوان دعي، يحمِّل جسده فوق طاقته من جهد الحركات، لكي يتسع له مكان في العرض الكبير، وينتزع اعتراف الجماهير.
إذا كان المضمون على هذا النحو من الالتباس في "تقييم" الأثر الأدبي، بالقياس إلى الوضوح الذي ينطوي عليه تقييم الأداء، والشكل الفني، في ارتباطهما بالمرحلة التاريخية من حياة العمل الأدبي، واستجابتهما الحتمية لتطور الوعي الجماعي في تذوق الأدب، فإن هناك جانباً مشرقاً في كل مضمون، يكاد أن يكون خالياً من الارتباك والغموض، هو الموقف الفكري للأديب من مسألة الحرية والالتزام. في هذا الموقف تكمن الصلة التاريخية بين "فنية" العمل الأدبي وبين ما تمثله شخصية الأديب في تفتح الوجدان الجماهيري من هذه الناحية، وفي انغلاقه أيضاً.
إن "تاريخية" الأداء تحمل لنا صورة واضحة للتجدد المستمر. فما كان وشياً في القرن التاسع عشر، معبراً عن موقف سلبي محض من قدرة الأداء التقليدي على امتلاك التجربة الحية، يصبح منذ أوائل القرن العشرين، معاناة أدبية جادة تعبر عن موقف إيجابي مناقض، لا يؤمن بدور الكلمة العربية في شؤون الحياة فحسب، بل يجد نفسه ملزماً بقفزة نوعية في ممارسة الانبعاث الأدبي: أصبح الأمر لا يتوقف على ترويض اللغة واصطفاء ما يصلح من بنيتها المتوارثة في حياة العصر، بل إن مفهوم الانبعاث يتجاوز كل ذلك، إلى استعادة الكثير من مضمون التراث نفسه. حيث تبدأ محاولات التجديد، يبدأ البحث عن الجذور الدفينة. هذا ما تمليه حركة التاريخ الذاتية في نطاق العمل الأدبي، وسواء امتدت هذه الجذور إلى العروبة والإسلام، أو أوغلت في ينابيع الحضارات "الأثرية" البعيدة، فإن صيغة الانبعاث، في إطارها الثقافي المحض، هي ذاتها في كل موقف. والسؤال نفسه يبقى مطروحاً في صدد البحث عن هوية متميزة. لكل مرحلة أدبية جديدة: ما أصبح يعوق البناء الجديد للثقافة العربية لأنه من تركة الماضي المندثر، وما احتفظ بقدرته الخلاقة على توطيد هذا البناء؟..
ومع أن هذا التساؤل العفوي المألوف يحمل على الصعيد الأدبي كثيراً من عناصر جوابه الحاسم، فإن هناك مواقف فكرية "دخيلة" على طبيعة الأدب، تحيطه بالكثير من الأوهام. ولا سيما أن ما يوصف بأنه دخيل في الموقف يمكن أن يحتوي كل ما يتنكر "لتاريخية" الواقع الأدبي ـ إذا صح التعبير ـ أي علاقته الوثيقة بتغيرات المجتمع والحركة الذاتية للمرحلة.
إن مثل هذا التنكر بما ينطوي عليه من القرار أمام تناقضات الواقع، والافتقار إلى الرؤية الموضوعية الواضحة، هو أول مظهر لهذه الأوهام. أن في طبيعة العمل الأدبي شيئاً أسطورياً تمليه الممارسة الفعلية للحرية من خلال التجربة الفنية. ومهما تكن عليه بواعث العمل الأدبي وشروطه وأهدافه، فإنه ليس في نهاية المطاف إلا ما ينبغي أن يقال في التعبير عن تحرر الوجدان وتطلعه إلى رؤى جديدة لمسائل الحياة. إن هذا الذي "ينبغي أن يقال" هو النسيج الحقيقي في الأثر الأدبي، لا لأن الأديب لا يملك أي التزام آخر في تجسيد حريته فحسب، بل لأن "ما ينبغي" أيضاً، أن يعبر بالضرورة عن مرحلة من التحرر في الوجدان الجماعي... إنها صورة لالتزام آخر لا بد منه تجاه الآخرين، بل إنه كثيراً ما يحدد وحده حقيقة الحرية في تجربة الأديب، أن يتحرك العمل الفني على أرضية إنسانية يمكن أن تضم مصائر الجميع. وفي كلا الحالين من الالتزام، ترتسم ملامح الشيء "الأسطوري" في العمل الأدبي: شيء خارج الزمن، يفرض وجوده على الحقيقة الإنسانية في كل جيل، لأنه يمتلك من ناحية وسيلة خرجت على الزمن هي اللغة ببنيانها المتماسك الصامد في صيغه عبر الأجيال، ولأنه يرفض من ناحية ثانية، كل تبعية زمنية تفرضها المرحلة، وتجعل الأديب فيها أداة اتصال ثقافي لا أكثر، تنتهي مهمته بانتهاء الدور الذي حدد له في حقبة معينة.
لكي يؤكد الأديب العربي موقعه المتميز في جماعات كبلتها العصور بارتباك الأداء وألجمها القهر عن التعامل مع لغتها القومية الصريحة، ولكي يعبر عن رفضه ألا يكون أكثر من متعلم أو مثقف عادي، فإنه يجسد نفسه مضطراً إلى التعلق بوهم الشيء الذي يتخطى الواقع بكل تقويماته النسبية، لكي يضاف بشخصيته الأدبية "المتفردة" ونتاجه الذي يجسد وعي المرحلة، إلى حلقات التراث الجديرة بالبقاء والخلود.
من خلال هذا الوهم تبرز كل المعايير المطلقة في التقييم الفني، ويلتبس المعنى الحقيقي للحرية بشتى المفاهيم "الغيبية" لما يوصف بعملية التحرر. في هذه المعايير مثلاً، يتجاوز الموقف الفكري تقييم العمل الأدبي في جوانبه البديعية "الجزئية" (المعاني المبتكرة، وأشكال الأداء الجديدة) إلى التأكيد على الشخصية الفنية "الفذة" التي تكمن وراء الأثر. وأخطر ما في مثل هذا التأكيد أن يعني أن المرحلة "التاريخية" كلها يمكن أن توجز بكاتب فذ (شاعر أو قاص أو روائي) ينبغي أن يدور الجميع في فلكه. وهو ما يحدث في واقعنا الأدبي حين نرى النقد كله يلهث وراء مثل هذا النموذج، في حين يؤكد الجميع أن الشخصية الأدبية التي يقدر لها أن تطبع أية مرحلة، لم تظهر بعد. إنها ما تزال تعطي الكثير من الجودة والتعثر معاً، في انتظار الموسم الكبير، وعليها أن تكتفي من "التقييم" ما يتناول نفحة الأصالة في نتاجها، بين حين وآخر، لا ما يحاول أن يكتشف فيها كل الملامح النهائية لتجربة فنية أصيلة.
وهم آخر يتفرع عن مثل هذا "التقييم" المصطنع، هو الذي يتناول "حرية التعبير" بذاتها. إن المعايير نفسها تفرض على الكثير من مواقفنا الفكرية في صدد هذه الحرية، نوعاً من الالتباس المماثل واللفظية الغائمة. ليست الحرية شرطاً إنسانياً لتكون الشخصية الأدبية، وممارسة الإبداع في العمل الفني فحسب، بل هي أيضاً منح الأديب حق الوصاية المطلقة على الوجدان الجماعي، وبالتالي على كل المصير الثقافي للآخرين. هذا ما نطالب به منذ البداية. وسواء تناولت هذه المطالبة منح الحق أو استرداده أو الاعتراف بشرعيته، فإنها تتوجه في الغالب إلى واقع سياسي أو اجتماعي يقوم على شيء من الاستبداد والقهر. وما دام كل واقع من هذا القبيل، ذا طابع مرحلي يزدحم بصراع التناقضات، فإن مسألة الحرية على الصعيد الأدبي، تبقى مسألة معلقة، شأنها في ذلك شأن الحقوق السياسية في حياة الشعب، مهما أتيح لها أن تمارس فعلياً، فإنها تلبث تابعة للقضايا المطروحة. إن قضية البطالة مثلاً هي التي تطرح حرية المطالبة بحق العمل. وعلى هذا النحو فإن حرية التعبير تتبع أيضاً حق الكاتب في أن يقول كلمته الصادقة في "أزمة" نظام سياسي معين، أو في مأساة تعانيها العاطفة البشرية أو في مأزق قومي. إن الحرية في هذا المحال لا تعني أن يقول الأديب شيئاً باسم الالتزام الأدبي الذي تفرضه معايشة الواقع البشري في معاناته الصارخة، بل هي تعني أن رؤية جديدة قد تكونت لدى الأديب، ولا بد من أن تقال على نحو ما، لا لأن ذلك شيء من طبيعة العمل الأدبي الحي فحسب، بل لأن ما "لا بد من قوله" يجب أن يصبح من التقاليد الثقافية الراسخة في المرحلة.
إن وهم الحرية يفترض النقيض. إنه لا يكتفي بتجاوز القضايا الإنسانية أو القومية في منعطفاتها التاريخية، والمطالبة بالوصاية الشاملة، بل يضع الأديب في موقف السيد "القديم" في تأريخ العلاقات البشرية. فلكي يمتلك معنى وجوده، ينبغي أن تتوافر له أولاً كل شروط "السيادة" وفي طليعتها أن تناط به جميع المصائر. هكذا يقفز الأديب بروح أسطورية خارقة، من موقع الكائن الاجتماعي البسيط الذي يكفيه أن يعترف الآخرون بجدارته المرحلية وبأن وظيفته الثقافية هي عنصر لا بد منه في عملية التغيير، إلى موقع الشخصية الإنسانية المتميزة التي تشترط مسبقاً كل ما يمنحها الخصائص الفوقية في أداء رسالتها الفنية.
يكثر الحديث في هذا الموقف عن الازدواج في شخصية الأديب العربي، على أنه يحمل قضية الأدب ويلتزم قضيته السياسية في آن واحد. وتكاد أن تكون هذه الظاهرة، طابع الحياة الأدبية منذ أقدم العهود، بل إنها كانت من مظاهر الصدق والأصالة في تجارب الشعراء الجاهليين الأوائل، حين كان الشاعر صوت الجماعة القبلية، أو كانت الفردية الجامحة تحفزه إلى التزام إحدى قضايا الحياة الكبرى في تحدي القوى الخارجية التي تمارسها السلطة السياسية في هذا العصر. غير أن مثل هذا الازدواج لا يملك في أية مرحلة معاصرة، صيغته المصيرية القديمة: "الأدب ـ القضية". لقد احتفظ الأدب بكيانه الفني. أما القضية فقد تحولت إلى سلسلة لا نهاية لها من المواقف السياسية والانتماءات قلما تستغرق من تجربة الأديب أكثر من التدليل على صلته بواقع الآخرين، إن لم تكن ذريعة مألوفة لاستهواء الجمهور. أكثر مظاهر الالتزام ريبة ورياء، وأشدها بعداً عن الحرية الحقيقية. هذا إذا كان بمقدورنا أن نورد مفهومي "الالتزام" و"الحرية" في هذا اللون من تبعية الكاتب للجماهير، كما تعبر عنها ذرائعية الرواج التجاري في السنوات الأخيرة.
لا سبيل إلى تتبع جميع التناقضات المماثلة التي تتفرع عن وهم "الروح الأسطورية" في شخصية الأديب العربي المعاصر، وأعماله الفنية، وحرياته "الخيالية"، والتزاماته النظرية، غير أن الرؤية الموضوعية لموقعه الاجتماعي الراهن، وتاريخية واقعه الأدبي تكشف عن الصيغة الأساسية لازمته الحقيقية مع الحرية والالتزام.
لكي نتبين هذه الرؤية في وضوح، لا بد من إعادة النظر في الكثير من التساؤلات المألوفة الدارجة في صدد الحرية خلال ممارستها الحية، وما يمكن أن يتمخض عنه طابعها التاريخي هذا، من أشكال الالتزام.
"الحرية لمن؟ ولماذا؟" هذا هو التساؤل الأول، وقد أصبح في السنوات الأخيرة جواباً بحد ذاته، لا يخلو من التحديد الحاسم الذي يرسم للأديب الجدير بالحرية كل ملامحه الطبقية والنضالية والعقائدية... إلخ، مثلما يعطي صورة تكاد أن تكون نهائية عن دوره "التاريخي" في تغيرات المرحلة. ومع أن الجوانب السلبية هي التي تُبرز غالباً في تلك الملامح وهذا الدور، ما دامت عملية التمرد على الواقع الأدبي التغير في خطوات التكون الأولى، فإن هناك مسلمات في نظرية "حرية الأديب" هذه لا سبيل فيها إلى النقاش والجدل، لا لأنها أصبحت تهيمن على حياتنا الأدبية فحسب، بل لأن ما هو إيجابي في موقف الأديب حتى من عمله الفني، إنما تصنعه وتفرضه المرحلة الثقافية بصورة عامة، بما تحمله من الوعي الفكري وهو في أوج ارتباطه بقضايا الإنسان، والتزامه الخط التقدمي المتحرر. فمن الإيجابية في هذه النظرية مثلاً أن يتجاوز الأديب تعرية الجذور الدفينة لوراثات الانحطاط في الواقع "الراهن" بكل ما يؤدي ذلك إلى إدانة السلفيات الجامدة مثلاً والنضال من أجل المعاصرة، لكي يجسد في نتاجه الفني، شيئاً مما يصبح دعامة للبناء الثقافي الجديد، غير أن هذا التجاوز كثيراً ما يكون عملاً فكرياً محضاً، لا علاقة له بالنمو الطبيعي الناضج للحركة الأدبية. عندئذ يفرض المناخ الثقافي العام وحده، جوابه الرادع: "الحرية للذين يكتبون عن الشعب في معاناته المريرة لشروط الواقع، أو للذين يرسمون بالقصة والرواية رؤية إنسانية جديدة للحياة العربية، أو للذين يصنعون إيقاعات شعرية صادقة للتجارب التي تحمل إرادة التحرر في الكفاح القومي والجدارة الإنسانية والحب والإحساس الفني بالطبيعة وما إلى ذلك. والواضح أن صفة "الردع" في مثل هذا الجواب تتناول جميع الذين لا حرية لهم في الواقع، ولا ينبغي أن تكون، لأنهم لا يتمثلون "ديناميكية" المرحلة ـ إذا صح التعبير ـ في الوعي الذي يتيح لالتزامهم الأدبي على الأقل، أن يوصف بحرية الاختيار. غير أن هذه الحرية ـ وقد منحت للآخرين ـ لم تعط ثمارها الأدبية الحقة بعد. إن ما تفرضه من الالتزام لا يتعدى المخطط الثقافي الذي تمليه بوادر النضج والتفتح في المرحلة، وليس في طبيعة أي مخطط من هذا القبيل أن يدرج في قاموسه مفردات التقييم المسبق للمواهب التي لم تعبر عن حقيقتها كما ينبغي، أو الآثار الأدبية التي لم تولد بعد.
إذن لا بد من المنطلق الآخر في التساؤل نفسه، وهو أقرب إلى التعبير عن "ديناميكية" المرحلة التاريخية: "الحرية.. لماذا؟.". والواضح أننا لا نملك إلا جواباً واحداً هو الذي تفرضه "الموضوعية" في النظر إلى حقيقة "الكاتب العربي"، ضمن الشروط المرحلية الراهنة. إن ما يمثل هذه الحقيقة هو الدور المزدوج الذي تقوم به الكلمة العربية في التعبير عن وعي الوجدان العربي للتغيرات الجذرية تتمخض عنها تجارب الجماهير. إنه دور الكلمة بصرف النظر عن انتمائها إلى كاتب أو أديب أو مذهب فني أو موقف عقائدي، وهو دور مزدوج لأنه يمارس التزامه قضايا الواقع الثقافي، من ناحيتين: بناء الصيغة "المعاصرة" الجديدة لأداء اللغة العربية، وامتلاك الرؤية المصيرية للواقع العربي عن طريق المعرفة الفنية.. وفي الحالين، لا بد من أن يكون الأديب العربي قد عايش كل الشروط التي تتحكم بالواقع، بما فيها من أسباب التغيرات التقدمية الحاسمة، وما يثقل حركتها التاريخية أيضاً من وراثات الماضي وأغلال الأجيال الغابرة. وسواء كانت هذه المعايشة من أجل الإسهام في تكوين الوجدان "الثوري" الجديد، أو من أجل الأثر الأدبي المحض، فإن كل ما يمكن أن توصف به من الحرارة والوعي والصدق، إنما يقاس بمقدار ما تستطيع المعرفة "البديعية" المتميزة، على نحو خاص، أن تكتشف من الجذور الدفينة لإرادة التغيير في تجارب الإنسان العربي، أن تتوجه باستمرار إلى ما يمكن أن يصبح من جديد موضعاً للتساؤل في كل قضية إنسانية كبرى. إن ما تحمله الصياغة الأدبية المشرقة من دفء الحياة، وتغلغل الرؤية البديعية في وجدان الآخرين، لا يفهم إلا من خلال هذا الحنين الأزلي إلى احتواء التجربة بكل ما تستنفد من ألوان المعاناة "المعاصرة"، وما توحيه صياغتها الفنية من رؤى "جديدة" للوجدان البشري، عبر الأجيال.
في غمرة الضياع الثقافي الذي توصف به الحياة العربية المعاصرة، على أنه من مظاهر المعاناة الفكرية القلقة في المرحلة الراهنة، تستأثر بعض المفاهيم الثقافية بأهمية تبلغ حد الخطورة، لا لأنها تبدو أشبه بالمفاتيح السحرية لفهم القضايا الأدبية والفنية فحسب، بل لأن الواقع الثقافي قد فرضها على الجميع في أجيال متعاقبة، مثلما يفرض الواقع السياسي أو الاجتماعي كثيراً من القضايا الإنسانية الكبرى في حياة الجماهير. ولا تفسير لمثل هذه الظاهرة "الجماعية" في التجربة الثقافية، إلا أن هناك تغيرات حاسمة تطرأ على "العقلية العربية المعاصرة"، لا تقل شأناً عن ظواهر التبدل في النواحي الأخرى، وهي تقترن بشعار التحرر أو الثورة وبناء الحياة الجديدة.
والحقيقة أن أزمة الضياع تبدأ بالالتباس الذي يهيمن على الفكر العربي، حين يحاول أن يحدد المضمون الواقعي الحي لأي مفهوم ثقافي، فإذا تجاوزنا المفردات التقليدية المألوفة في هذا المجال كالثقافة ذاتها في معانيها المتعددة، وما ندعوه "بالعقلية العربية" وما يوصف منها "بالمعاصرة" وغير ذلك، تبرز مسألة التغير الثقافي في أرضية مثقلة بالتناقضات: إلى أي حد يمكن الحديث عما هو "ثوري" أو "طليعي" في هذه "العقلية" في حين تتكشف سلبياتها، عاماً بعد عام، عن مزيد من الغموض والارتباك، يحولان دون وعي الحقيقة والرؤية الواضحة؟.. لماذا المطالبة الدائمة بأن تهيأ الأذهان للوعي الثوري، وتختمر الأفكار التقدمية في أذهان الجميع، لكي يكون ثمة مجال للتغيرات الجذرية في الواقع، في حين يكتفي المناخ الثقافي في هذا الصدد، بوصاية النخبة من المثقفين أو التزام التيارات العقائدية أو هيمنة الوجدان الجماهيري الغامض؟. ألا يمكن أن يعد هذا الاكتفاء نوعاً من عزل التجارب الثقافية ذاتها –كما يعانيها الجميع في شتى المستويات- عن التأثير المباشر في الأحداث المصيرية؟ وفي الوقت نفسه يُطالب الفكر مثلاً أو الأدب أو الفن "بموقف مصيري" –إذا صح التعبير- يتجاوز حدود العمل الثقافي إلى التزام القضايا التحررية!..
لقد أصبح من المألوف أن نتحدث عن الكلمة التي "تقاوم" أو "ترفض" أو "تقاتل"، وعن القصيدة التي تتحدى المحرمات مثلاً، أو تقحم إيقاع التجربة المعاصرة بين "أنقاض التراث"، وعن الرواية التي تتحدث عن مشكلة الأرض أو تفضح رياء العلاقات البشرية في مرحلة "ما قبل الثورة".. الخ، غير أننا قلما نتساءل عن طبيعة الكلمة في خاصتها التاريخية الحية: إنها تجسد نضج الحس البديعي لدى الكاتب، أو تعبر عن ارتباط الإنسان بالثقافة القومية، أو عن تحرر شخصيته الإنسانية.. الخ..
من خلال هذا التساؤل الأساسي، تأخذ أزمة الضياع أو الاغتراب صيغة أكثر تعقيداً، وأشد ارتباطاً بالمصير الثقافي للأمة. في الملامح الأولى لهذه الصيغة أن الذين لا يملكون التعبير "الأصيل" عن ممارسة إنسانيتهم في حرية، قد يكونون عاجزين عن أن تصبح لهم ثقافة قومية، أو أن يؤلفوا أمة ذات تاريخ متحرر من التبعية!.. ذلك هو موقف الاستعمار الجديد من قضية الثقافة في حياة الشعوب المستقلة حديثاً.
في ندوة عقدتها مجلة "السياسة الدولية" في القاهرة /حزيران 1971/ حول هذا الموضوع، تبرز نقاط أولى في هذا الموضوع يمكن أن تتشعب عنها جميع المشكلات الأخرى:
أولاً- لقد ترك الاستعمار في البلاد "النامية" لغته الأجنبية وبنيانه الفكري. وإذا أتيح لهذه البلاد أن تستخدم لغاتها الأصلية فإن لغة المستعمر القديمة هي سبيل اتصالها بالعالم، كما أن بنية التفكير الأجنبي هي التي تتيح لها استيعاب التجربة الحضارية المعاصرة، مما يعد عاملاً خطيراً في تكوين العقلية الجديدة لشعوبها المستقلة. إن كثيراً منها تعاني الاغتراب في أقسى صوره لأنها قد فقدت لغتها الأصلية أو أصبحت هذه اللغة مظهراً "أثرياً" أصم لما يدعونه بالتراث الشعبي أو الثقافة المحلية الضيقة. وما دامت اللغة هي العنصر "الديناميكي" الحي في التجربة الثقافية، فليس من الصعب أن تصبح هذه الشعوب في ثقافتها "الدخيلة التعبير" امتداداً لثقافة الآخرين، وأن يكون في ذلك ما يشير إلى تبعيتها المتزايدة، على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. الخ، ومع أن اللغة القومية قد استعادت كيانها وحيويتها لدى العرب مثلاً، فإن ما فرض عليها الضياع والاستلاب، خلال السيطرة الاستعمارية، ما يزال يثير الكثير من التساؤلات حول جدارة الشعب بتمثل حضارة العصر، عن طريق لغته وما تركه التراث من بنى التفكير وأساليب الأداء!.. وإذا كانت معركة التعريب في أقطار المغرب سوف تمتص وحدها أجيالاً متعاقبة، وجهوداً خارقة، فإن ترويض العربية في أقطار المشرق، على تمثل التجربة الحضارية الحديثة، يعد أيضاً من مظاهر الكفاح الطويل الأمد، من أجل البناء الثقافي ومن ثم فإن أزمة "حرية التعبير" في الحياة الأدبية على نحو خاص، لا تقتصر على الشروط التي تفسح المجال للكلمة الصادقة، النظيفة، بل إن شيئاً أساسياً من الأزمة، يرجع إلى عجز التعبير ذاته عن الإحساس بحركة التاريخ: أن يقترن باللفظية "الغوغائية"، أو الالتباس المرائي، أو الأداء الخرافي. وهي لا تصدر إلا عن وجدان مستلب "مضيَّع"، يكون فيه الإنسان "أداة" في يد الآخرين، وتكون فيه الثقافة خارج الزمن. فكيف يتاح للأديب العربي، أمام هذه الأزمة، أن يعايش في تجربته الفنية وأدائه، وجدان الإنسان المعاصر؟..
ثانياً- لقد استطاع الاستعمار أن يفرض الكثير من تقاليده الثقافية بما فيها العقلية الحضارية الحديثة، من خلال المثقفين في البلاد النامية. وعلى الرغم من الطابع "الإنساني"، "العقلي" الشامل للحضارة، فإن ظاهرة النخبة المثقفة قد حملت نوعاً من الصراع بين التقاليد "الأجنبية" المزوَّدة "بديناميكية" العصر، وبين التقاليد القومية أو المحلية التي ما تزال تحتفظ بشخصيتها أو تحاول الانبعاث بتراثها البعيد أو تستنجد بخصائصها، على نحو أو آخر، لكي يعبر عن رفضها لكل ألوان التبعية. ومع أن هذا الرفض ينطوي على شيء من السلبية في النطاق الثقافي، وقد يعبر عن الكبرياء القومية أحياناً، فإنه يضع المثقفين دائماً في أزمة الانتماء الثقافي المزدوج أنه يحمِّلهم مسؤولية التمهيد للتغلغل الاستعماري "الجديد" والتنكر للثقافات القومية التي تعاني الجمود والتخلف أحياناً، أو تعجز عن معاصرة العقلية الحضارية في الغالب، وفي الوقت نفسه يُطالبَون بإحياء التراث وتجاوزه إلى البناء الثقافي الجديد.
في هذا الإطار، تثار معظم القضايا المصيرية في الحياة الثقافية أمام الأديب العربي: فإذا أتيح للثقافة العربية أن تستوعب –في تجاربها الأدبية على الأقل- كل حركة التاريخ المعاصر، وتتمثل الحضارة بكل نزعاتها إلى التجديد، أين يقف الالتزام بالكاتب العربي؟..
قد يكون التزام التراث القومي مظهراً للتحرر من الاغتراب، ولكن مثل هذا الالتزام يطرح منذ البداية مشكلة الأصالة، وهي من أكثر المفاهيم عرضة للتضليل. إن الفكر الرجعي مثلاً يلتمس معنى الأصالة في نظرية "الدورة الحضارية المغلقة" للتراث القومي، وهو يبدو من خلالها معجزة لن تستعاد، لا لأنها وحدها "الحلقة الذهبية" في تاريخ الشعب فحسب، بل لأن العصر أيضاً قد أعد من أجل بشر آخرين، يجدون أنفسهم في تقهقر مستمر أمام عنفوان الماضي، وعجز عن تطلعات المستقبل في آن واحد. ذلك هو طابع الجيل التقليدي في الغالب، إنه يعترف بالانحدار أمام منجزات الماضي "الأصيلة"، ويؤكد بأن الأمة كلها تعاني الاغتراب عن حقيقتها، لأنها فقدت لغتها الحقة، وبنية أدائها السليمة، غير أنه يؤكد في الوقت نفسه أن روح العصر تحتم أن يكون الاحتفاظ بالخصائص القديمة المتميزة للغة وبنية التعبير، وطريقة التفكير، مظهراً للحرص على التخلف ذاته.
بهذا التناقض يتجلى العقم في الكثير من القضايا الثقافية التي يطرحها الأدب العربي الحديث:
هل تستطيع القصيدة العربية ببنيتها التقليدية أن تستجيب للتجارب المعاصرة؟
إلى أي حد يسوَّغ للقصة أو الرواية أن تتجاوز روافدها الضحلة في التراث القديم، وتقفز إلى الصيغ المحدثة في تياراتها الجديدة، قبل أن تصنع تراثها الطبيعي المعاصر؟.
لقد حدد ابن خلدون مثلاً، رؤية واضحة للمفاهيم الأدبية تلخص موقف عصره من طبيعة العمل الثقافي، وهي رؤية ما تزال صالحة للتعبير عن صورة الانحدار... فإلى أي حد نستطيع أن نتبين الموقف البديل في حياتنا الثقافية المعاصرة؟.
ينطلق ابن خلدون من حقيقة أولى تتفق ومفهوم البداوة، هي الفعالية العفوية الحرة التي "يولد" بها الإنسان، وتتيح له ممارسة الكلام على أنها ملكة اللسان التي تحمل منذ البداية بنيته في التعبير وأحكامه في البلاغة.
(المقدمة –ف 47)، وتتصف هذه الملكة بالطابع القومي المحض من ناحية، و بأنها تعتمد على "الذوق" في اختيار أشكال الأداء البليغة، من ناحية ثانية. (ف-47).
إلى جانب الملكة والذوق يشير ابن خلدون إلى مفهوم ضمني أكثر عفوية وغموضاً في الوقت نفسه، هو علاقة اللغة بالتجربة الدينية. إن هذه العلاقة هي التي جعلت اللسان العربي يستأثر بصفة الأصالة "الفطرية"، في حين يبدو تاريخ اللغة والأدب في النظم والنثر، مراحل من محاولات التعبير (أو صناعة الكلام) لا غاية لها إلا اتقاء الهجنة والفساد، وما إلى ذلك. إن تاريخ النحو مثلاً –كما يُشرح حتى الآن- ينطلق من مقولة "سلبية" هي الانهيار "اللغوي" المتوقع. وهو ما يسوغ لابن خلدون والأجيال التقليدية التي تبنت شيئاً من نظرته حتى المراحل الراهنة أن تولي "الصيغة" الأدبية كل اهتمامها حين تتحدث عن الأصالة أو التجديد. بل إن ابن خلدون كان أكثر وضوحاً في التأكيد على هذا الموقف "التقييمي" –إذا صح التعبير-. يقول: "إن صناعة الكلام نظماً ونثراً إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل. والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر"... "فالمعاني موجودة عند كل واحد في طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى.. فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف.. والماء واحد في نفسه، وتختلف الجودة في الأواني المملوءة باختلاف جنسها لا باختلاف الماء، كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال، تختلف باختلاف طبقات الكلام.." الخ.. (ف-48).
في مثل هذه النظرة التي تتفق والنظرية الشكلية في الأدب المعاصر، خلال الثلاثينات من هذا القرن، وتلتقي بعض الشيء مع موجة الرواية الجديدة في الستينات، كما عبر عنها آلان روب غرييه: "لا يهم ماذا يقول الكاتب، بل كيف؟.."، يُدان التراث العربي كله أحياناً بأنه يفتقر إلى المعاناة الفكرية أو الفنية الحرة، التي تتجاوز حدود التجارب "الجماعية" والمعاني "التقليدية" المألوفة التي تصدر عنها.. فهل هناك ما يجعل هذه الإدانة مشروعة، على أنها تنسحب أيضاً على حياتنا الثقافية الجديدة؟.. وإلى أي حد تعد هذه الظاهرة صورة لانغلاق "الوجدان العربي" في تجربته البديعية، عن تفتح الثقافة العالمية المعاصرة؟.
ثالثاً- إن اللغة (القومية) التي يتاح لها من الوجهة التاريخية أن تمثل الطرف الأشد مناعة في مقاومة الاستعمار "الجديد"، والضياع الثقافي بما فيه من محاولة الاستمرار في فرض الاغتراب على الإنسان العربي، إنما تمثل الميدان الأول للامتحان الصعب في حياة المثقفين عامة، والكتاب على نحو خاص. فقد يكون من السهل أن تُستعاد اللغة على أنها وسيلة للتفاهم وتبادل الأفكار والمشاركة في التعبير، غير أن "ممارستها" على الصعيد البديعي ترتبط أشد الارتباط بممارسة الحرية، ليس من أجل التعبير عن الحقيقة الإنسانية في تطلعاتها فحسب، بل لكي تجسد حرية الآخر أيضاً: أن لا تكون –على الأقل- أداة قمع واستلاب، لدى أي كائن بشري آخر. وعلى هذا النحو فلا مجال للحديث عن انحدار العربية بعد أن انحسرت مرحلة "السليقة" البدوية الأصيلة... الخ، ما دامت هناك شعوب قد التقطتها- إذا صح التعبير- ووجدت في بنيانها المتماسك الصارم، وسبلها الأصيلة في الأداء، ما يتيح لكل إنسان "آخر"، أن يعبر عن حقيقته في حرية، وأن يسهم في بناء ثقافي جديد يكون عاملاً في صنع المستقبل بدلاً من أن تكون تجربته الثقافية حاشية على الأحداث تذهب بها أية مرحلة تاريخية عابرة.
وإذا كان لمثل هذه التجربة ما يتيح لها أن تمثل شيئاً من المستقبل، فلا بد لها من التسليم الصادق، بأن الحياة القادرة على الاستمرار والتجدد، تجري أبداً في جذور الماضي البعيدة. وهو شأن اللغة العربية بوصفها أداة للفن، في طابعها الحضاري. فما يبدو لنا نهاية المطاف، يمكن أن يصبح بداية. ومهما تخضع له البلاغة في النثر أو قصيدة الشعر، من الأحكام –على حد التعبير القديم-فإنه لا يعني مثلاً أن استقلال البيت في القصيدة أو وحدة الروي والقافية،.. يعزلان الشاعر عن أية رؤية أخرى للتجربة الفنية تفرض صيغاً جديدة، أو تتيح له أن يعايش معاصريه في الصيغ القديمة ذاتها. كان آراغون يقول: "إني لأهتم أشد الاهتمام بتجارب الذين لم يحدد مصيرهم منذ البداية". ويذكر لوكاتش: "إن رسالة الأدب في كل زمان ومكان، أن يطرح الأسئلة ويثير المشكلات في صور أناس جدد، ومصائر بشرية محدثة".
رابعاً-في البحث عن رؤية جديدة للحياة المعاصرة يجسدها العمل الأدبي، وتحمل في آن واحد، أصالة الملامح القومية واتساع الأرضية "الإنسانية" التي تتحرك عليها في حرية، لا بد من أن تعطى المفاهيم الثقافية المألوفة، معاني جديدة تناقض كل ما تفرضه نظرية "الانهيار". فمن عنفوان اللسان العربي مثلاً وأصالته الحضارية أنه أصبح قاموساً ووضعت "المعاجم" لضبطه، مثلما أنشئت له علوم اللغة والنحو وما إلى ذلك، بهذا أتيح له أن يصبح من ينابيع "التحرر" الثقافي عبر الأجيال المختلفة، وبين البلدان المتباعدة... ومع أن عملية التحرر هذه، يمكن أن تقتصر في النطاق الأدبي على اكتشاف الكلمة الحية، المشدودة إلى واقع التجربة الإنسانية، فإن طابع "الأصالة" فيها، يرجع إلى خاصتها الفنية أو صفتها البديعية. ومن ثم فلا بد من التمييز بين الكلمة التي لا تملك من الجرأة إلا الإشارة الخرساء، والصورة "اللفظية" التي تؤدي دورها في التفاهم العابر أو مشاركة الأفكار في القضايا المألوفة، وبين الكلمة الصريحة الحية، ذات البنية الفنية، تتجاوز كل هذه الحدود لكي تجسد موقف الإنسان من مصيره على النحو الذي يمليه الوجدان البديعي. من أجل هذا الموقف تصبح الكلمة "رؤية" مشرقة، تتمثل حقيقة التجربة بكل رسوخها وحرارتها، وتتخطى معطيات التراث وضياع الواقع الراهن، من أجل ما يتجدد باستمرار في وجود الإنسان، ما ينطوي على بنية واقع آخر لا مكان فيه مع أداء الكلمة لألوان الغموض والخوف من الحقيقة والإشارة والإبهام والتعثر في مجابهة التناقضات الفاجعة التي يعانيها كل واقع إنساني مستلب.. وهو واقع الأديب العربي المعاصر، و هو يعجز عن إدراج اللغة العربية ببنيتها الفنية وانفتاحها الإنساني، في التراث العالمي للعصر، مثلما يعجز عن تجسيد مرحلة الانبعاث الثقافي، أو تجربة الانعتاق من وراثة الانحطاط على الأقل، في الصعيد الأدبي. وليس التلويح بمثل هذا العجز من قبيل التشاؤم، بل إنه مظهر للشعور بالمسؤولية في أبعادها المختلفة، لدى الأديب العربي: أن يجد نفسه أمام كل جيل وافد، ملزماً بإعادة النظر فيما هو "تقدمي"، "مصيري" في النتاج القديم والجديد، يستجيب لنزعات التحرر في الوجدان الجماهيري. إن هذا الوجدان –على ارتباكه ومعاناته ما يزال يحتفظ بالانقياد الفني "للكلمة- الرؤية" تمنحه القدرة على أن يتمثل كل إيقاعات الحياة الإنسانية في مصائرها الكبيرة، ولا سيما حين تكون جدارة الإنسان وكيانه القومي، ومعناه الحضاري، هي أولى قضاياه المصيرية.
خامساً- لئلا ينزلق الحوار الفكري حول قضية الأدب العربي في تكرار المسائل الثقافية الغامضة، (التراث والمعاصرة، الأصالة والتجديد، التقاليد القومية وحرية التعبير، القديم والجديد، الالتزام وحرية الأداء، الأدب والوجدان الجماهيري... الخ) لا بد من التأكيد على منطلق أساسي يفرضه ارتباط العمل الأدبي بفكرة "المصير"، هو أن صناعة الكلمة في رؤية الحقيقة وتبصر المستقبل، تعني في الوقت نفسه صنع الإنسان العربي الجديد. ومن ثم فإن على كل حوار أن يتجاوز "التقييم" التاريخي المرحلي الذي تستأثر باهتمامه غزارة النتاج الأدبي ومحاولة الابتكار فيه، إلى التقييم الفني الصارم في علاقته بمعنى التجربة البديعية في حياة الجماهير، ومن ثم لا بد من الرجوع إلى مفهوم "الإيقاع" الإنساني الأصيل للأثر الفني.. وفي أزمة الاستلاب والضياع، يحمل هذا الإيقاع عن طريق الكلمة وبنيانها الحي، ملامح الإنسان الذي لم يتكون بعد. يقول هلدرلن في التعبير عن وظيفة الشاعر:
"حتى صمت الأثير، كنت أفهمه.. هذا السكون المترامي".
"أما كلمة "الإنسان".. فلم أعرف حقيقتها على الإطلاق!..".
(هيبيريون)
وبهذا التساؤل الصامت يتحدث بول فاليري عن الإنسان أيضاً:
".. ولكنه يختلف عني وعنك... إذا كان له شكل وله صوت.. فإن هناك "الآخر" يأخذ جميع الأشكال وجميع الأصوات..". (السيد تيست- ص92).
مثل هذا "الكائن" الطليق يحدد ملامح الأصالة والإبداع في كل عمل فني، مهما تكن صيغته وبناؤه، وهو ما يفسر استمرار الكثير من هيمنة التراث العربي مثلاً، ولا سيما في الشعر، والكثير من "رؤيته" المشرقة، على الرغم من بنيته الصارمة وتقاليد صياغته. ففي كل أداء بياني –مهما تتكرر معانيه- إيقاع تجربة جديدة يفتح الشاعر آفاقها البعيدة "وليس من الصعب أن نتبين ذلك حتى في النماذج العادية من صناعة الشعر التقليدي، كيف تحمل الكلمة وحدها صورة التغير أمام الزمن. يقول حميد بن ثور:
وكائن لقينا من نعيم ولذة
وأعجبنا المصطاف والمتربع
وقلنا لعل الماء يربو فنقتني
وعل غلاماً ناشئاً يترعرع
أماني عام بعد عام تعلقت
بأمثالها في الناس عاد وتبَّع
ولكنما الدنيا غرور ولا ترى
لها لذة إلا تبيد وتُنزع... الخ
إيقاع قديم التاريخ، ولكن الكلمات الموجزة في أدائه الفني تملك الرؤية المعاصرة كل حين،.. يتساءل آتيماتوف: "كم ينبغي أن يكون النتاج الفني قادراً على إثارة القلق الروحي لدى الآخرين وإغناء عالمهم البديعي!.. إن أشد ما ينكبنا به الأدب "الحديث" هو فيض الأدب "الوسط".. الرؤيا الزائفة التي يكون فيها الزبد أكثر من الماء الحي".
(المؤتمر الخامس لاتحاد الكتاب السوفييت – 1971)
إذا كان مثل هذا "الزبد" تعبيراً عن المتراكم"، "المرتجل"، "المألوف" مما يضاف إلى التراث، فإن المسألة المطروحة على كل جيل –كما يقول ريمون آرون- هي: هل يقبل الماضي أم يرفضه؟.." (18 درساً في المجتمع الصناعي-ص81). وعلى الرغم أنه أصبح من أكثر تساؤلات الثقافة العالمية ابتذالاً في تعبيرها عن أزمة الحضارة الغربية على نحو خاص، ومحاولتها إغراق التجربة العربية بسلبية المفردات "الثقافية" القاتمة، فما يزال هناك مجال للسؤال: إلى أي حد يملك الأديب العربي المعاصر حق الحكم النهائي على التراث، وشرعية رفض الاغتراب الراهن، وهو لم يجسد بعد في عمل مبدع رؤية المستقبل الناصعة؟..
"لو أن كاتباً واحداً في تاريخ الأدب الإنساني قد استطاع أن يلتزم حقاً قضية مصيرية لما بقي لنا ما نكتب عنه".
بمثل هذه العبارة الساخرة يعلق كاتب مسرحي معاصر على مسألة الحرية والالتزام في حياة الأديب، وعلى الرغم من أنه قد يكون رأياً عابراً، غير أن هذه المسألة في حقيقتها كانت تنطوي كل حين على مثل هذا الالتباس. فما من كاتب ـ مهما يكن عليه من عدم الاكتراث ـ إلا وهو ملتزم على نحو أو آخر، إنه يكتب بلغة قومه ويطورها على الأقل ومع هذا فإن تاريخ الأدب لم يعرف كاتباً استطاع أن يحل قضية إنسانية كبرى أو أن يتجاوز التناقضات في أية مشكلة على نحو يتيح للنتاج الأدبي أن يكون عنصراً حاسماً في صنع الواقع البشري.
ومع هذا فإن هناك حواراً قديماً بين الحرية والالتزام في العمل الأدبي، ما يزال مستمراً، يحمل إلينا حشداً لا نهاية له من المفاهيم المستهلكة والتصورات المألوفة، ووجهات النظر المتباينة. ولا بد من تحديد الجوانب الجديدة التي تسوِّغ لنا تناول البحث على نحو ما، وإعادة النظر في بعض المنطلقات المستحدثة، أي التي تمليها المرحلة التاريخية الراهنة من تجارب الثقافة العربية المعاصرة. وهذا هو الهدف الأول لهذا الموضوع.. بل إن تحديد هذه المنطلقات الجديدة ـ وقد أسفرت عنها هذه التجارب في السنوات الأخيرة ـ يمكن أن يكون أكثر تعبيراً عن الواقع الأدبي بما تنطوي عليه معاناة الأديب العربي المعاصر من سلبيات المواقف العملية خلال المراحل، وما يحمله التأكيد على العمل الأدبي المجدد من ارتباط بالمرحلة وتفاؤل بالمستقبل.
إننا نقتصر في هذه الصفحات على التنويه بما يضاف في الحقبة الراهنة من مفاهيم إلى هذا الموضوع. ولا ريب في أن التأكيد على ما يضاف من جديد إلى كل موضوع، إنما هو محاولة لفهم التأثير المباشر الذي يمليه واقع التجربة الإنسانية في المرحلة على الفكر بصورة عامة. وليس من الصعب أن نتبين في هذا الصدد ما يمكن أن يعد من المنطلقات التي يقدر لها أن تلعب دوراً كبيراً في كل حوار فكري أو أدبي أو عقائدي، حول مسألة من هذا القبيل: ممارسة الحرية في العمل الفني، اللغة العربية في دورها القومي وحركتها التاريخية وطبيعتها "البديعية"، الثورة ومسألة الصراع، المعرفة الفنية وشرعيتها في صنع الوجدان الجماهيري.. إلخ.
في طبيعة القضايا الإنسانية الكبرى، حين تطرح مشكلاتها العديدة على الأدب، إن الحوار الجاد حولها ينطلق عادة من تصور المستقبل. إننا نقف أمامها كما لو أنها منعطف حاسم، علينا أن نتبين فيه صيغة معينة لكل مصير الآخرين، ومن ثم فإن كل دراسة مجدية لأية مشكلة من هذا القبيل ـ مهما تكن هذه المشكلة ثانوية عابرة ـ تفرض أكبر قسط من حرية الاختيار، لا لأنها تحتم الكثير من ألوان الصراع الفكري فحسب بل لأنها تنطوي دائماً على "شيء يتكون من جديد، يُصنع هنا أو هناك، على نحو أو آخر، ولا بد من تدخل الإرادة البشرية في تحديد سماته الأخيرة، أو إعداد المناخ الصحي الملائم لأن يصبح هذا "الجديد" صورة مغايرة للحاضر المثقل بالفجوات المزمنة إن لم تحمل هذه الصورة ملامح النقيض، أو البديل الذي انتزعته منه ـ على الأقل ـ كل دعائم الانهيار الراهن.
ومع أن هذه الحقيقة قد أصبحت تفرض نفسها على حياتنا الأدبية، في سلسلة لا نهاية لها من مفاهيم التمرد والثورة والنضال المصيري.. وغيرها من المفردات اللفظية المثيرة، وعبارات "التعميم" الملتبسة، فإن صنعة "الأدب ـ القضية" ـ على ما فيها من التصدي الجريء في عمليات التغيير ـ تمتد بجذورها البعيدة إلى أعماق الواقع العربي، وتبدو أشد ارتباطاً بالتجارب الحية بكل ما تحمل هذه التجارب من طابع محسوس ملتصق بالمعاناة اليومية، واضح المعالم. وليس من الصعب أن نتبين الكثير من مظاهر هذا الارتباط، من خلال المسائل الأدبية الرئيسية التي تهيمن على واقعنا الثقافي منذ بداية القرن، وتتمكن جيلاً بعد جيل من تأكيد أولوياتها و"جدارتها" ليس على صعيد البيئات الثقافية فحسب، بل في بوادر الوعي الجماهيري أيضاً: محنة اللغة العربية أمام الحضارة الحديثة: كيف يتاح للأديب العربي أن يتمثل أصالة التراث اللغوي مثلاً، على نحو يمنح معاصريه قدرة التعبير عن معايشة العصر، أو يجسد لهم ولو في نتاجه الفني المحض تجربة الانعتاق من بُنى الأداء اللفظية أو الشكلية أو المتعثرة الركيكة في عصور الانحطاط؟.
لا ريب في أن الحديث عن "محنة" في هذا الصدد، قد ينطوي على المبالغة. فقد استطاع الأدب العربي الحديث، في السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة، على الأقل، أن يمارس تجربة التحرر "اللغوي" ـ إذا صح التعبير ـ على نحو لا يخلو من الابتكار والتجديد، غير أن مسألة اللغة ما تزال ـ وقد تبقى أمداً طويلاً ـ على احتفاظها بكل خطورتها عبر الأجيال المتعاقبة. وها نحن بعد أكثر من قرن على بداية التنبيه الثقافي بين العديد من الجماعات العربية المتباعدة، نقف في بعض الأقطار أمام مأساة من الاغتراب اللغوي الكامل تطرح مشكلة تعريب الجماهير من جديد، مثلما نقف في أقطار أخرى أمام اغتراب أشد تعقيداً، تعانيه الثقافة ذاتها: أن يتقهقر الأداء المشرق، المرتبط بوضوح الحقيقة وأصالة التجربة، أمام المحاولات الأدبية الموغلة في تعثر العبارة وركاكتها أحياناً، وفي كل صور الالتباس والإبهام. ليس ما يدعو إلى الحذر القلق، إنها محض محاولات عفوية متفردة، تقتحم سياق الحياة الأدبية، بتأثيرات معينة، بل إنها تكاد أن تصبح باردة التجديد الوحيدة في مستقبل الأدب العربي الحديث. إن ارتباطها الصارخ بكل ما هو "جديد" "معاصر" في تجارب الأجيال الناشئة، يتجاوز كونها "بدعاً" طارئة تعبر عن التمزق الوجداني الذي تعانيه الحياة العربية في مرحلة معينة، وهو التقييم "التقليدي" المألوف الذي يؤكد في تفاؤل صامت، أن اصطفاء التاريخ الأدبي، سوف يعيد إلى الممارسة الأدبية بنيتها الصحية السليمة ـ غير أن هذا التفاؤل يبدو على جانب من السطحية، إزاء ما ينال اللغة ذاتها من اغتراب عن متانة بنيانها وصفائه من ناحية، وعن الحقيقة الإنسانية من ناحية ثانية. إنها تجابه تياراً جارفاً من الارتباك والهجنة في الأداء الفني، قد يحمل في كثير من التجارب الرائدة كل معالم الأصالة والابتكار، غير أنه يشرِّع لكل جيل ناشئ منطلقاً متعثراً لا يمكن أن يوصف إلا بالخوف من الحقيقة والافتقار إلى الصدق في معاناة تجربة الواقع.
ليس هذا التأكيد على مسألة اللغة منذ البداية، محض مثال عابر عن العلاقة الوثيقة بين الأدب وقضية الثقافة العربية في مرحلتها التاريخية الراهنة، وما تحمله هذه القضية من أشكال الالتزام أمام محاولات التغيير الحاسمة في مصائر الآخرين. بل إن أزمة التعبير التي تثيرها مسألة اللغة هي أحد جناحي الموضوع في خطوطه الرئيسية. الجناح الآخر يتناول منطلقاً لا يقل خطورة، يتمثل في اكتشاف الأرضية الاجتماعية التي تتحرك فيها المبادرات المتعاقبة للعمل الأدبي. إن التلويح بصيغة "الأدب ـ القضية" أو الأدب والقضايا المصيرية، يضع أمامنا مهمة البحث الجاد، في ميدان لم يقدر له بعد، أن يتذرع بالمنهجية العلمية الواضحة، هو ما يتعلق "بعلم اجتماع الأدب العربي". إن نبض الدراسات والبحوث النقدية والتقييمية التي يحملها تاريخ أدبنا المعاصر، لم يلامس بعد إلا جوانب محدودة من الأسس التي يمكن أن يقوم عليها "علم الاجتماع الأدبي": الأديب والحياة بصورة عامة، الأديب والالتزام العقائدي، الأدب والحياة بصورة عامة، والأحداث السياسية... إلخ. وكثيراً ما تنتهي الدراسات في هذا الصدد، بالنتيجة السلبية المألوفة: الافتقار الصارخ إلى نظرية "عربية" حديثة في النقد أو الأدب، أو إلى الناقد "الكبير" الذي يمتلك "شرعية" التقييم المعاصر، أو إلى المنهج النقدي الواضح. ولشد ما تتعثر هذه التطلعات في الواقع الأدبي، وتفتقر هي نفسها إلى رؤية الحقيقة، ذلك أن الذين يتوجهون بها إلى الحركة الأدبية، يعترفون في الوقت نفسه، بأن علم اجتماع "الواقع العربي" البحث لم يتكون بعد، وأن النظرية المعنية لن تكون إلا ثمرة لجدارة النتاج الأدبي الفنية، ـ وه يما تزال موضع الارتياب أو التساؤل على الأقل ـ وأن المنهج ـ مهما يكن مرتبطاً بموضوعية العلم ـ لن يكون إلا امتداداً لموقف عقائدي تمليه الرؤية الشاملة للحياة العربية المعاصرة.
لا ريب في أن التعرض لمثل هذه الصعوبات على هذا النحو الجذري الصارم، يضعنا أمام كل مظاهر الفراغ في حياتنا الثقافية دفعة واحدة، وقد يكشف لنا عن الكثير من منزلقات الدراسات الأدبية الراهنة في تحديد مشكلاتها ومناهج البحث فيها، مما قد يوحي بأن جميع البدايات خاطئة في طبيعتها وأنها لن تلبث أن تجد نفسها جميعاً في طريق مسدود، غير أن هذا كله لا يحمل على إعادة النظر في جدوى المحاولات الغزيرة القيمة التي تصدت لرصد الحياة الأدبية منذ مطلع القرن، وتولت شتى الاجتهادات في تقييم النتاج المعاصر أو تطلعت إلى تقييم جديد للتراث القديم. لقد أتيح لهذه المحاولات أن ترفد تاريخ النقد الأدبي في ماضيه وحاضره، بالكثير من معطيات الثقافة العالمية في هذا المجال، وأن "تطعِّم" فكرنا الأدبي ـ إذا صح التعبير ـ بشيء من "المنهجية" المعاصرة، لا غنى عنها في تلافي المحاذير المألوفة الخطيرة في أساليب النقد المتبعة: الارتجال والموقف الشخصي، والمغالاة في الإدانة أو التقريظ، والبعد عن الموضوعية من ناحية وعن الصفات المرحلية "التاريخية" للأثر الأدبي من ناحية ثانية.
ومع أن الطابع التجريبي الواضح في عمليات النقد الأدبي الحديثة، يمهد الطريق للعمل الثقافي الجاد في هذا المجال، فإن التجريبية التي تستند في الغالب إلى معايشة الحياة الأدبية في "واقعية" جريئة، لا تستطيع أن تتجاوز حدودها الضيقة إلا إذا أدرجت محاولاتها جميعاً في إطار البحث عن الخصائص المميزة لقضية الأدب العربي كلها في هذه المرحلة. لقد كان ينبغي أن لا تبحث مسائل الأدب في علاقتها بالقضايا الكبرى للحياة العربية، وبالمصير العربي، على نحو عام، إلا بعد تحديد المعالم الرئيسية لتلك الخصائص. قبل أن نتساءل ماذا يستطيع الأدب أو الأديب في واقع معين؟ لا بد من أن نبين في شيء من الوضوح، ما هو أدب المرحلة، ومن هو الأديب في مجابهة القضايا المطروحة؟
وفي هذا السبيل نجد أنفسنا ملزمين بأولى المنطلقات الأساسية للعمل الأدبي في جذوره البديعية والاجتماعية معاً. ولئلا نوغل في تشتت "التجريبية" المرتجلة التي تغمر حياتنا الثقافية في هذا المجال، فإن حركة الواقع في تغيراتها العميقة، تفرض علينا منذ البداية، أن ننتزع من كل موقف فني أو ثقافي أو قومي، ما يشير إلى الصفة التاريخية ليس في الظاهرة الأدبية فحسب، بل في دراستها وتقييمها أيضاً. ذلك أن ما هو تاريخي.. متحرك، هو وحده الذي يطرح مشكلة الحرية والالتزام. ولا نملك من هذه "التاريخية" على صعيد الحياة الأدبية، إلا أن هذا الاندماج التقليدي العريق بين حياة اللغة العربية وحياة الأدب، من جهة، وهذا الإرهاص العنيف الذي يهيمن به الواقع الاجتماعي ملوحاً بالتجارب الجماهيرية بصورة خاصة، على جدارة الأديب ومصيره.
على هذا النحو يأخذ الحوار حول مشكلات الحرية والالتزام صيغة الصراع الثقافي الجاد، وهو يتناول موضوعاته الأساسية في تحديد واضح ملموس، لما يستطيع أن يمارس الأدب والنقد معاً في عمليات التغير، مهما تكن عليه العبارات الدارجة في هذا المجال من لفظية الكلمات، وعمومية المعاني واتساع ميادينها النظرية. إن الإلحاح على صيغة "الصراع" بدلاً من الحوار، هو نقطة البداية في معايشة الواقع الأدبي، والثقافي معاً، بصورته المحسوسة الواضحة، ما دام الأمر يتعلق بما نستطيع أن ندعوه "الالتزام المصيري" بكل ما يمكن أن ينطوي من الأبعاد. قد يكون في الحوار متسع أرحب لاكتشاف الحقائق، وتعدد وجهات النظر، وتعايش المواقف المتباينة، غير أنه قد ينطوي أيضاً على أخطر المحاذير، حين يسوِّغ لكلٍ أن يحتفظ "بحقيقته" الخاصة، وأن يتذرع بكل الشروط الموضوعية "الممكنة" لكي يتنصل من مسؤولية الالتزام، حتى في العمل الأدبي المحض. وليس ما هو أكثر دلالة على مثل هذا التنصل من موجات الأدب "المبتذل" أو "الغث" وهي توشك أن تغمر الحياة الأدبية، تحت شعار "مساومة الواقع". ما دامت شروط التخلف في الحياة العربية أقسى من أن تُقاوَم، فليكن الأدب متخلفاً أيضاً، بل ينبغي أن يكون. وما دامت العربية لم تبلغ مرحلة النضج "الحضاري" في التعبير عن روح العصر، فلتدرج المخاطبة الجماهيرية المباشرة، في أساليب الأداء الفني، بكل ما تحمله من التهاون في تطلعات المرحلة إلى بناء ثقافي جديد. بمثل هذه الصيغ الدارجة، تنحدر التنازلات بالعمل الأدبي إلى المزيد من مظاهر الضحالة والركاكة، والأساليب "البهلوانية" أحياناً، واصطناع الحزلقة أحياناً أخرى، فراراً من مسؤولية التعبير الجريء الحر. غير أن ما هو أشد خطراً في مثل هذا التنصل يكمن في تجاهل الشرط التاريخي الوحيد الذي يفرضه المناخ الثقافي الراهن، نقطة انطلاق أساسية في حرية العمل الأدبي والتزام المصير القومي في آن واحد: أنه لا بد من التعبير عن شيء من الإيمان العميق بأن هذا المناخ يحمل روح الثورة قبل كل شيء، وأنه لا حوار في قضية الثورة، ولا مكان لأية وجهة نظر ترفض رؤية المعاناة الجماهيرية في حركتها التاريخية، أو تمنح نفسها حرية الاختيار في اتخاذ موقف محايد، إلا إذا كان هذا الموقف محاولة لتجريد العمل الأدبي من محتواه الإنساني ومن بنيته الحية المتجددة في آن واحد..
إن إقحام "الثورة" بمفرداتها المتشعبة في مثل هذا الحوار الثقافي المحض، كثيراً ما يبدو نوعاً من اصطناع الأزمات الفكرية، لا يخلو من فرض الوصاية على المرحلة أو التعنت العقائدي ـ كما يردد الكثيرون ـ غير أن رفض الحوار التقليدي حول هذه القضايا، هو الذي يحتم التأكيد على ما هو ثوري في كل مسألة ثقافية أو أدبية، مهما تكن جانبية أو ثانوية. فمن هذا التأكيد وحده، تصدر ضرورة التمييز بين موقف "الالتزام المصيري" الجاد، وبين الموقف الحائر الذي يوصف عادة بعدم الاكتراث. وليس هناك موقف ثالث. ومن ثم فإن هناك صراعاً حقيقياً، وإن لم تتحدد صيغته "العلمية" الواضحة وتتبلور عناصره وأبعاده. أما أن يكون العمل الأدبي في الاتجاه التقدمي المتحرر لحركة المجتمع المرحلية، ومن ثم فهو طرف في معركة، وأما أن يكون في الاتجاه المغاير الذي لا نملك من وصفه "الاجتماعي" إلا العبارة التي يستخدمها عادة فقه القانون في إيجابيته الوضعية: وهي عبارة "السكينة"، على أنها نهاية المطاف في تكوين القيم الاجتماعية، بعد القيمتين الأساسيتين: التقدم والعدالة. وما يعنينا من هذا المفهوم القانوني العريق، هو الموقف الإنساني الذي يمليه في الحفاظ على التوازن الاجتماعي، وقد يتجاوز هذا الموقف حدود التشريعات التي تحقق هذا التوازن، ويبرز التناقض بين القوانين "الجائرة" والقيم الاجتماعية والأخلاقية التي تحمل تعبيراً أوسع عن شروط الحياة الإنسانية "العادلة" غير أن ذلك كله لا يلغي خطورة الروح السكونية، ـ إذا صح التعبير ـ في مرحلة تتعثر فيها أسباب التقدم ويشوه وجه العدالة، ويتلفت فيها الوجدان الجماهيري، بكل عفويته وشقائه، إلى منطلق حاسم للعمل ضد "السكونية" الاجتماعية الزائفة.
على هذا النحو ترتسم أولى ملامح الثورة. وتلوح في الوقت نفسه كل مغالطات العقلية "السكونية" وافتقارها إلى الوعي التاريخي الحق، فهي التي تتولى مساومة الواقع والإذعان لشروطه والدفاع عن أخطائه المزمنة، في حشد من معطيات الخنوع المتوارثة، تحمل فيها الثورة كل سلبيات الرفض والعصيان المتبجح، إلا أنها ـ أي الثورة ـ تجسد وحدها ممارسة الحرية الإنسانية في خلق قيم جديدة وتكوين الإنسان العربي المعاصر. ولا مجال لاستعادة جميع المعطيات "الثورية" المألوفة في هذا الصدد: ماذا يعني التكوين الجديد بالقياس إلى العمل الأدبي، وما الذي تعنيه الثورة ذاتها، في حركتها التاريخية، وما هو الموقع الحقيقي المحدد للأديب العربي في صيرورة الأحداث المتعاقبة؟ غير أنه لا بد من التأكيد على أن للأدب والأديب معاً، قسطاً كبيراً من ممارسة التجربة الثورية كما تحياها المرحلة قد يتجاوز حدود الدور المباشر الذي يلعبه المثقف أو السياسي أو المناضل العقائدي. إن الممارسة العملية قد تقف بهؤلاء جميعاً عند حدود القضايا المرحلية الراهنة التي تغدق عليها تناقضات "الحاضر" كل ألوان الخطورة المصيرية والمبادرة السريعة الحاسمة، مما قد يعزلها في الغالب، عن مسؤولية النظر في وراثات الماضي، ورؤية المستقبل. أما ارتباط العمل الأدبي بما هو مصيري في المرحلة، فإنه يفترض في "ثورية الأديب" أن تتمثل كل ما يمكن أن يمتد إليه وعي الوجدان القومي، منذ أن ولدت الكلمة أداة للتعبير الفني عن هذا الوجدان في حساسيته الفنية وتطلعاته الأخلاقية، إلى أن تصدت لمهمتها الأكثر مسؤولية والأبعد طموحاً: أن تسهم في إعداد أرضية طليعية جديدة للمصائر الإنسانية التي لم تتكون بعد.
ومهما تكن عليه الثورة في الإطار السياسي أو الاجتماعي أو العقائدي، من رؤية بعيدة لهذه المصائر، ومهما تكن صيغتها معنية بما ينبغي أن يبقى من التغييرات الحاسمة، بعد الثورة، فإن صفتها المرحلية وكونها محض وسيلة للتحرر، يفرضان عليها أبداً، أن تستنجد بكل ما يمكن أن يتجاوز المرحلة من ألوان الوعي والمعرفة، وصور التعبير عن الحقيقة الإنسانية. و في هذه الأمور جميعاً، يمارس العمل الأدبي ـ والفن بصورة عامة ـ وظيفة الكشف الجريء عن كل الجذور الدفينة في الواقع "التاريخي" الذي تعمل الثورة على تعرية تناقضاته وتبديل بنيته الاجتماعية من الأساس بكل قيمها المنهارة. في الوصف المألوف للثورة "أن جميع الأسرار البشرية تصبح في العراء، وأن من العار أن يتراجع الإنسان أمام أخطاء الماضي ومخازيه. إن المرحلة الثورية تلزم الجميع بالتصدي لمشقة الكفاح من أجل البديل". قد يكون في هذه العبارات التقريرية الدارجة، كثير من إعلاء شأن العمل الأدبي، من شأنه أن يؤكد الدور المزدوج للأديب: أن يحول الحقائق الإنسانية التي تعريها الثورة إلى قيم بديعية راسخة، وأن يكون مناضلاً من أجل حرية التعبير في الوقت نفسه. غير أن كل ما يحمله هذا التأكيد من لفظية حماسية، في واقعنا الراهن، لا يزحزح الأديب العربي عن مكانه الطبيعي في عملية الثورة، إلا إذا اضطرته وصاية القيادة الثورية، أو تبعيته الطارئة للاندفاع الجماهيري، إلى التخلي عن مهمته الأساسية في ترسيخ القيم الجديدة في الوجدان الجماعي.
في مثل هذا التخلي تنعكس على موقف الأديب ونتاجه كل التناقضات التي تحملها قضية الحرية والالتزام، وهي تشير جميعاً إلى منزلقات "الثورة الكاذبة" في التجربة الأدبية. أن لا تكون أكثر من تحريض غوغائي في المناسبات المثيرة، يصدر عما يدعونه عادة بالموقف البطولي..، أو أن تقتصر هذه الثورية على التعبير "البديعي" المصقول عن "وقائع" الثورة، باسم التاريخ الحي أو الرواية الأسطورية التي ترصد نماذج الصمود أو التمرد أو الإيمان بقضية الثورة.
إن الثورة لا تستمد شرعيتها إلا مما تقدم من أجل ما بعد الثورة، من أجل أن يتكون الوجدان الجماهيري المنيع الذي يقاوم في حسم نهائي كل محاولة جديدة لاستلاب الإنسان والعبث بمصير الأمة. وأخطر ما يمكن أن تتعرض له "الممارسة الثورية" من انحراف، إنما يلوِّح به هذا التساؤل العفوي: "ما الذي يتبقى من القيم الجديدة للأجيال القادمة؟..".
في مثل هذه الأرضية الصعبة، يحمل الأديب العربي في المرحلة الراهنة، كل ألوان المعاناة. إن شيئاً من الحتمية التاريخية يفرض عليه الانتماء إلى الواقع "الثوري" في حياة المجتمع، الواقع الذي تمثله إرادة الإنسان الجماعية في تغيير واقع آخر لم تبق من ملامحه الإنسانية إلا الأنقاض. وسواء استنجدت هذه الإرادة بالكفاح السياسي الذي يتوجه إلى انتزاع السلطة وممارستها في تحقيق المنجزات السريعة أو أخذت صورتها الاجتماعية في تحالف طبقي جديد يمتلك بروحه التقدمية زمام المبادرة في صراع طويل الأمد، وسواء كان للكلمة "الفنية" ـ وهي ذريعة الأديب ـ أثر فعال مباشر في عمليات التغيير المرتقبة، أم احتفظ بخصائص النخبة المتعالية التي تتوجه إلى المستقبل الأبعد، فإن الممارسة الحية للعمل الأدبي الجاد، تضع الأديب العربي في مسار التاريخ الذي يُصنع من جديد. قد يكون للانتماءات الجانبية في حياته، دور في تكوين شخصيته الأدبية أو فيما يتاح لآثاره من الوصول إلى الجماهير، غير أن "حقيقته الفنية" بذاتها تمثل واقعاً متحركاً باتجاه التاريخ الجديد، لا سبيل إلى تجاهله أو الحياد عنه.
ولكي نتناول هذا الواقع في معطياته المحسوسة الراهنة، لا بد من إشارة عابرة إلى ما تعنيه هذه "الحقيقة الفنية" في تاريخ الأدب العربي على نحو خاص، ما دمنا نغامر بهذه المقولة: "أن تكون تجربة الحرية الحقة لدى الأديب، متمثلة في هذا الالتزام الثوري". إن في طبيعة الثورة منطلقاً أول هو معرفة الواقع على نحو يحدد معالم الحتمية والضرورة في تغيراته جميعاً، ويميز بالتالي أين تستطيع الإرادة البشرية أن تمارس فعاليتها من أجل ما هو مصيري في حياة الجميع. إن الصفة المصيرية.. تحتم أن تكون هذه المعرفة ـ على ارتباطها بالحقائق العلمية والمنطلقات العقائدية ـ ذات طابع تقويمي واضح، نسميه عادة "تبصُّر المستقبل"، أو "الرؤية الطليعية" إلى العالم. وفي هذه الصيغة يمكن أن تنحل كل معرفة إلى شكل آخر للمعرفة، فما هو من قوانين السياسة مثلاً يتحول إلى حقائق علم الاجتماع واطراد العلاقات الاجتماعية ينحل إلى شيء من الترابط الضروري في الظواهر العلمية، إلا ما يمثله وعي الفنان للحقيقة الإنسانية، وما يتاح له من صياغة هذا الوعي في الأداء الفني المبدع.
وعلى هذا النحو ففي كل مرحلة تاريخية حاسمة من مراحل الانعطاف الجذري الذي تمليه الثورة، تبرز "المعرفة الفنية" أو "البديعية" على أنها الإطار الأوسع لممارسة الحرية الحقيقية: على الرغم من أن الفكر العربي أصبح في السنوات الأخيرة يقحم "ما هو مصيري" في كل مجال، وأصبح المفهوم نفسه على شيء من الابتذال. إن المنطق الطبيعي لفكرة المصير في هذا الصدد، هو أقرب إلى التصورات العفوية الساذجة التي يمليها الوجدان الجماعي لأول وهلة، بعيداً عن كل اجتهاد فكري غائم أو إطار عقائدي متسع الأبعاد. "ما هو مصيري" في مسائل الفكر والأدب والفن، يعني أن الحقيقة الثقافية سواء تجسدت في مسلمات الفكر ويقينه أو في أصالة العمل الأدبي والإبداع الفني، لا تعد حقيقة تاريخية حية، إلا إذا كانت على صلة وثيقة بما يتبدل بمصائر الناس المعاصرين. وبمقدار ما تحمل هذه الصلة من التطلع الجريء إلى تغيير هؤلاء الناس، أو تكشف لديهم شيئاً من إرادة التغيير الجذري، تكون الحقيقة في مظاهرها المختلفة، ذات طابع مصيري. من دون ذلك لا مجال للحديث عن أي شكل من أشكال الالتزام الحقيقي ولا سيما في نطاق الأدب والفن. إن تجاهل هذا المنطلق البديهي البسيط، قد غمر حياتنا الثقافية الراهنة بفيض من ألوان المغالطة والتضليل، ليس حول معنى الكلمة وما يتفرع عنها عن المفردات الدارجة، فحسب، بل حول القضايا الأساسية للحياة الأدبية والفنية أيضاً: أن يلتزم الأديب صناعته الفنية مثلاً! أو يلتزم المعاناة التي تتيح له أن يبدع عملاً فنياً ذا طابع إنساني شامل! أو يلتزم الحفاظ على أصالة التراث في "نتاج" شامخ يمكن أن يندرج في تقاليد هذا التراث!.. أو يلتزم التجديد في الأداء الفني عن طريق الأخذ بروح الحداثة في أنضج تجاربها والاستجابة لتقنية الفن المعاصرة!. صور لا نهاية لها من مواقف الالتزام، تملك كل شرعيتها ومسوغاتها على الصعيد الثقافي المحض، غير أنها ليست في النهاية إلا تعبيراً واضحاً عن التقهقر أمام مسؤولية الالتزام الحقيقي الجاد بالمرحلة التاريخية الراهنة. في مثل هذه المسؤولية ينطلق الأديب أو الفنان من التساؤل العفوي الصادق الذي تمليه المرحلة ذاتها بكل ما فيها من أشكال التناقض والمعاناة: هل يملك العمل الأدبي أن ينفصل عما هو مصيري في واقع التجربة الإنسانية كما يعانيها الآخرون، ولا سيما أن هؤلاء الآخرين، ينحسرون جيلاً بعد جيل، عن قوى بشرية جديدة، تمنحها الأحداث المتلاحقة، ملامح شتى عن هوية تاريخية صارمة تتجمع كل عناصرها حول محور واحد هو إرادة الثورة في أبعادها المختلفة؟ وسواء أخذت هذه الملامح صيغة الكيان القومي المتحفز الذي يستنجد بوعي الماضي العربي وتراثه البعيد، والصمود أمام تحديات الواقع الصعبة، وشعار النضال المصيري الواحد، أو كانت الصيغة في وعي الاستغلال الطبقي والاستلاب "اللا إنساني" الذي يقوم على أنقاضه كل بناء اشتراكي راسخ أو اقتصرت هذه الصيغة على الأفكار الثورية وما تفرضه على الجماهير من الشعارات التحررية، فإن أول مظهر للتحولات الجذرية في الواقع العربي، يتمثل في انحسار الطابع القطيعي، الغارق في الإذعان والتبعية. وإذا كان باستطاعة الأديب أن يفصل بين موقفه السياسي أو العقائدي أو بإحدى هذه الصيغ أو سواها في التعبير عن استجابته لحركة الواقع "الديناميكية"، كمن يؤكد صفة المعاصرة ومعايشة الآخرين، في شخصيته الأدبية، فإنه لا يستطيع أن يتجاهل ارتباط العمل الأدبي حتى في بنائه الفني المحض، بكل ما تحمله المرحلة في واقعها الجماهيري، من مثل هذا الانحسار الذي يمثل الخطوة الأولى في عمليات التحرر الذاتية للحياة العربية.
تبدو هذه الحقيقة لأول وهلة، بصفتها التقريرية الصارخة، وكأنها دفاع عن واقعنا الأدبي كله. فإذا كان هناك ثمة انفصال بين شخصية الأديب التي يمكن أن تأخذ بكل أشكال الالتزام السياسي أو العقائدي، وبين عمله الأدبي الذي لا يحمل خصائصه الفنية إلا لارتباطه بحركة التحرر العامة، فإن الأديب في حل من أي التزام مصيري، بل إن تاريخ أدبنا الحديث ليلوِّح في كثير من محاولات "التقييم" التقليدية المألوفة، إن مثل هذا الالتزام قد يفسد العمل الأدبي ذاته، لا لأنه يقوم على قسر "الصناعة الأدبية" ـ إذا صح التعبير ـ للغائية السياسية أو العقائدية، في حين تشترط هذه الصناعة تحرر الوجدان من أجل الغائية الفنية وحدها، بل لأن "ما هو مصيري" يحتم أيضاً أن يكون التقييم الفني نفسه في أبعد حدود الصرامة: أن يطالب أبداً بالأعمال الأصيلة المبدعة، والنتاج الذي يتسع لما تحمله القضايا المصيرية عادة، من الطابع العالمي للتطلعات الإنسانية، وفي جميع الأحوال، يجابه الأديب العربي أزمة الاعتراف بجدارته الحقيقية في كل مرحلة: إذا كان التزامه العمل الفني المحض معبر عن تفتح الوعي الثقافي في المرحلة، فلماذا لا يكون للكلمة دورها التحرري المباشر في تحريك الجماهير؟ لقد أصبح هذا التساؤل الصارخ مألوفاً في حياتنا الأدبية، غير أنه، مع هذا، لم يأخذ أبعاده التاريخية الحقة. بل إن الكثرة من الأدباء يرونه دخيلاً على قضية الأدب، وكثير ما يعزى إلى الحماسة الطارئة، لدى الأجيال الناشئة، في تأثرها التلقائي بتجارب الثورات التحررية أو البناء الاشتراكي في كثير من أقطار العالم.. ماذا تستطيع الكلمة في غمرة الصراع المرير من أجل تحرر الوطن، وثورة المجتمع على نفسه في شؤون الحياة الأساسية، التخلف والجوع والبنية "القطيعية" للجماعات العربية، وتناقضات السلطة؟.. أليس هذا الصراع، مهما تتعدد ألوانه، ذا طابع سياسي محض؟. وطوال عصور الانحطاط كانت التقاليد "الأدبية" تحذر من تعاطي السياسة، لأنها مهلكة للكاتب. قد يكون التحذير مشروعاً في مراحل الوصاية الاستبدادية الجاهلة التي كانت تفرضها سلطة أوكلت نفسها برعاية التناقضات وخلق المناخ الملائم لاستمرار الانهيار والسقوط، بما فيهما من إدانة للغة القومية السليمة، والأدب والفن، والنظر إليها جميعاً على أنها إما أن تكون في خدمة الواقع المتعفن وإما ألا تكون. غير أن كل تلك المراحل، لم تكن إلا فترات انقطاع متعاقبة، عن تاريخ الأدب العربي ذاته. إن ما أصبح من السياسة في العصور المتأخرة لهذا التاريخ، كان في العصور المزدهرة من أكثر التقاليد عنفواناً وأصالة: أن تكون الكلمة ـ حتى في أرهف أدائها الفني المحض ـ تجسيداً لوجدان الأمة، ورؤية جديدة للمستقبل. إن الشاعر الجاهلي مثلاً لم يكن صدى لتجارب القبيلة. ولم يكن القرآن وسيلة سحرية للإيمان، حتى قصائد الفخر والمديح والرثاء في العصور التالية، لم تكن وسيلة تعبير عن مشاركة المشاعر الإنسانية، بل كانت "العبارة العربية"، في صياغتها الفنية الواعية، عملية بناء مصيري جاد، ليس في الحياة العربية فحسب، بل في سياق التراث الحضاري للإنسانية كلها.
في مثل هذا المنعطف تقف حياتنا الأدبية المعاصرة، منذ أن قدر للأديب أن يعايش شيئاً من مصائر الآخرين، وبدأ يشعر بأنه قد يملك الحرية المطلقة في اختيار أي موقف من المجتمع والحياة والعصر، ولكنه لا يملك حرية التصرف بمصيره الثقافي: أن يتراجع عن كونه شاعراً أو قاصاً أو روائياً، في هذه الحقبة من تجارب المجتمع الذي يعيش فيه، وخلال الوضع الثقافي الراهن، بكل ما فيه من مظاهر الاضطراب والضياع أو ما ينطوي عليه من التماسك والنزوع إلى التفتح والازدهار.
إن ما يحدد الجدارة الحقيقية للأديب العربي هو هذا الارتباط الوثيق بين تجربته الفنية وبين ما يمكن أن تعنيه في صنع المصير الثقافي للمرحلة التاريخية. وسيان في هذا السبيل كان مؤمناً بأنها مرحلة انبعاث وتجدد، وأن له دوراً مجدياً في رسم ملامحها الطليعية أو كان ممعناً في السلبية أمام مظاهر الصراع في الواقع الحي، يرفض الاعتراف بأن في هذا الصراع شيئاً حاسماً في صيرورة المجتمع ومصائر الآخرين.
وعلى الرغم من جميع التطلعات الإيجابية المتفائلة التي تحشد للتعبير عنها جميع المفردات "التحررية" المعاصرة، منذ عشرينات هذا القرن، فإن تاريخنا الأدبي الحديث، ما يزال بجذور اليقظة القومية الممتدة حتى منتصف القرن الماضي، يخضع للكثير من الأوهام في تقييم المراحل المتعاقبة. إن المفهوم التقليدي القديم للسياسة كما يقحم في قضية الأدب، هو أحد هذه الأوهام الكبيرة. ليس من السهل أن ننظر إلى الالتزام السياسي في حياة الأديب العربي خلال هذه المراحل، نظرة تقويم مصيري ـ إذا صح التعبير ـ أن نفرز الأدباء في لوائح الصراع الاجتماعي والعقائدي (الرجعية والتقدمية، اليمينية والثورية، التقليدية والطليعية.. إلخ)، ما دام تاريخ الأدب نفسه، ينطلق من مسلمة أساسية هي أنها جميعاً مراحل تكون واختمار، وأن بداياتها في كل جيل، ما تزال تحمل شعار ترويض اللغة العربية على استيعاب التجربة المعاصرة، أو اكتشاف سبل الأداء الفني في بنيته السليمة. لقد كان هذا المنطلق، وما يزال، على صلة عميقة بالتجربة السياسية، في إطارها القومي العام. ومن خلال هذا الإطار، ما يزال الجيل التقليدي مثلاً في العشرينات حتى الخمسينات يضم العديد من الرواد الحقيقيين في هذا المجال، رغم كل ما يحملونه من التعثر والتناقض والارتباك، في انتماءاتهم السياسية. ففي سنوات الاحتلال مثلاً، كان الشعر العربي كله يرسم بالكلمة صورة الوطن المتحرر، والكفاح البطولي من أجله، قبل أن يتكون حتى مفهوم "المواطن" الذي يملك شرعية الانتقال من بنية الرعية القطيعية إلى بنية الكائن السياسي المعاصر. وكان هم "الأداء" في المقالة والقصة والرواية والمسرحية، مثقلاً بالتزاماته الشاقة أمام الوجدان الجماعي: كيف يتاح للعبارة العربية ببنيتها اللفظية الموشاة بالحذلقة والالتباس أو بركاكة تعبيرها العامي المبتذل، أن تحمل شيئاً من صفاء المشاركة الوجدانية الحية، بين تجربة الأديب ووعي الآخرين، أن تصبح من واقع الاتصال الإنساني والقومي، بعد أن كانت إشارة مبهمة، أو أداة تحريض غائم..
على هذا النحو تحمل الريادة لدى كل جيل تقليدي في النصف الأول من هذا القرن، شيئاً من ملامح الالتزام الجاد لا يمكن إلا أن يوصف بالمعاصرة والتجديد، ما دام يهدف تلقائياً إلى أن تصبح البنية التقليدية للتراث اللغوي أكثر مرونة في التعبير وأقرب إلى حرارة التجربة المعاصرة.
من هذه الوجهة وحدها يمكن الحديث عن أوائل الرواد ليس بين ممثلي الجيل التقليدي فحسب، بل في التجربة الأدبية لكل مرحلة تالية أيضاً. في نصيحة لأحد النحاة القدامى: "وانظر كيف أصبحوا يقولون ماذا يريدون، لكي تعرف كم قصروا عن الأوائل، وهل سبقوهم في الكلام البليغ؟". منذ أن يوضع الأداء في سياقه التاريخي، وهو المنطلق الأول لكل تقييم أدبي جاد، يبدو المضمون ـ رغم ارتباطه بقوة البيان ـ عنصراً ثانوياً، ولا سيما حين يكتنف الالتباس ما في تجربة الأديب من أصالة "ذاتية"، أو وعي فني عميق يضع نتاجه في المستوى الإنساني الشامل. بل إن مثل هذا الالتباس يمثل الآن أزمة النتاج العربي الحديث كله، فإذا كان من السهل أن نتبين فيه التأثر البعيد بالتراث الأدبي القديم وهو مصدر إدانة لجيل المقلدين حتى الثلاثينات، فإن التلقي العفوي لتجارب التراث العالمي، يمنع كل تمييز تقييمي واضح لما هو من شخصية الأديب الفنية ومظاهر إبداعه. وكثيراً ما تلوح في هذا التلقي ظاهرة التسرب الحضاري الذي يفرض مبدأ الهيمنة والإذعان: ما هو ضحل مهلهل في التجربة، يذعن بالضرورة لما هو أعمق وعياً وأغنى في التعبير عن المعاصرة. وإذا كانت هذه الظاهرة طبيعية في إنضاج العمل الأدبي، فإن من سلبياتها الخطيرة أن يتجاوز هذا التلقي حد التأثر الذي قد تقتضيه المشاركة الوجدانية، أو الاستيحاء أو الاقتباس المتواضع إلى تقمص التجربة وادعاء معاناتها وصياغتها الفنية على نحو أو آخر. مظهر صارخ للاستلاب في حياة الأديب العربي: أن يكون حتى في وجدانه الفني أداة للتعبير عما هو من ثمار الإبداع لدى الآخرين. إذا تجاوزنا الصورة الهزلية لهذا المظهر الذي يُعِد فيه حتى الناشئة، إكليل العبقرية سلفاً من أجل ما لم يكتبوا بعد، فإن هناك وجهاً أليماً لا يخلو من عنصر المأساة والرثاء، إن الأديب المستلب في هذا المجال، لا يقتصر على التخلي الطوعي عن بدائيته وسذاجته العفوية في ممارسة الأدب، وقد يكون فيهما الكثير من نفحات الصدق والموهبة، بل إنه يقوم بالدور المحزن لكل بهلوان دعي، يحمِّل جسده فوق طاقته من جهد الحركات، لكي يتسع له مكان في العرض الكبير، وينتزع اعتراف الجماهير.
إذا كان المضمون على هذا النحو من الالتباس في "تقييم" الأثر الأدبي، بالقياس إلى الوضوح الذي ينطوي عليه تقييم الأداء، والشكل الفني، في ارتباطهما بالمرحلة التاريخية من حياة العمل الأدبي، واستجابتهما الحتمية لتطور الوعي الجماعي في تذوق الأدب، فإن هناك جانباً مشرقاً في كل مضمون، يكاد أن يكون خالياً من الارتباك والغموض، هو الموقف الفكري للأديب من مسألة الحرية والالتزام. في هذا الموقف تكمن الصلة التاريخية بين "فنية" العمل الأدبي وبين ما تمثله شخصية الأديب في تفتح الوجدان الجماهيري من هذه الناحية، وفي انغلاقه أيضاً.
إن "تاريخية" الأداء تحمل لنا صورة واضحة للتجدد المستمر. فما كان وشياً في القرن التاسع عشر، معبراً عن موقف سلبي محض من قدرة الأداء التقليدي على امتلاك التجربة الحية، يصبح منذ أوائل القرن العشرين، معاناة أدبية جادة تعبر عن موقف إيجابي مناقض، لا يؤمن بدور الكلمة العربية في شؤون الحياة فحسب، بل يجد نفسه ملزماً بقفزة نوعية في ممارسة الانبعاث الأدبي: أصبح الأمر لا يتوقف على ترويض اللغة واصطفاء ما يصلح من بنيتها المتوارثة في حياة العصر، بل إن مفهوم الانبعاث يتجاوز كل ذلك، إلى استعادة الكثير من مضمون التراث نفسه. حيث تبدأ محاولات التجديد، يبدأ البحث عن الجذور الدفينة. هذا ما تمليه حركة التاريخ الذاتية في نطاق العمل الأدبي، وسواء امتدت هذه الجذور إلى العروبة والإسلام، أو أوغلت في ينابيع الحضارات "الأثرية" البعيدة، فإن صيغة الانبعاث، في إطارها الثقافي المحض، هي ذاتها في كل موقف. والسؤال نفسه يبقى مطروحاً في صدد البحث عن هوية متميزة. لكل مرحلة أدبية جديدة: ما أصبح يعوق البناء الجديد للثقافة العربية لأنه من تركة الماضي المندثر، وما احتفظ بقدرته الخلاقة على توطيد هذا البناء؟..
ومع أن هذا التساؤل العفوي المألوف يحمل على الصعيد الأدبي كثيراً من عناصر جوابه الحاسم، فإن هناك مواقف فكرية "دخيلة" على طبيعة الأدب، تحيطه بالكثير من الأوهام. ولا سيما أن ما يوصف بأنه دخيل في الموقف يمكن أن يحتوي كل ما يتنكر "لتاريخية" الواقع الأدبي ـ إذا صح التعبير ـ أي علاقته الوثيقة بتغيرات المجتمع والحركة الذاتية للمرحلة.
إن مثل هذا التنكر بما ينطوي عليه من القرار أمام تناقضات الواقع، والافتقار إلى الرؤية الموضوعية الواضحة، هو أول مظهر لهذه الأوهام. أن في طبيعة العمل الأدبي شيئاً أسطورياً تمليه الممارسة الفعلية للحرية من خلال التجربة الفنية. ومهما تكن عليه بواعث العمل الأدبي وشروطه وأهدافه، فإنه ليس في نهاية المطاف إلا ما ينبغي أن يقال في التعبير عن تحرر الوجدان وتطلعه إلى رؤى جديدة لمسائل الحياة. إن هذا الذي "ينبغي أن يقال" هو النسيج الحقيقي في الأثر الأدبي، لا لأن الأديب لا يملك أي التزام آخر في تجسيد حريته فحسب، بل لأن "ما ينبغي" أيضاً، أن يعبر بالضرورة عن مرحلة من التحرر في الوجدان الجماعي... إنها صورة لالتزام آخر لا بد منه تجاه الآخرين، بل إنه كثيراً ما يحدد وحده حقيقة الحرية في تجربة الأديب، أن يتحرك العمل الفني على أرضية إنسانية يمكن أن تضم مصائر الجميع. وفي كلا الحالين من الالتزام، ترتسم ملامح الشيء "الأسطوري" في العمل الأدبي: شيء خارج الزمن، يفرض وجوده على الحقيقة الإنسانية في كل جيل، لأنه يمتلك من ناحية وسيلة خرجت على الزمن هي اللغة ببنيانها المتماسك الصامد في صيغه عبر الأجيال، ولأنه يرفض من ناحية ثانية، كل تبعية زمنية تفرضها المرحلة، وتجعل الأديب فيها أداة اتصال ثقافي لا أكثر، تنتهي مهمته بانتهاء الدور الذي حدد له في حقبة معينة.
لكي يؤكد الأديب العربي موقعه المتميز في جماعات كبلتها العصور بارتباك الأداء وألجمها القهر عن التعامل مع لغتها القومية الصريحة، ولكي يعبر عن رفضه ألا يكون أكثر من متعلم أو مثقف عادي، فإنه يجسد نفسه مضطراً إلى التعلق بوهم الشيء الذي يتخطى الواقع بكل تقويماته النسبية، لكي يضاف بشخصيته الأدبية "المتفردة" ونتاجه الذي يجسد وعي المرحلة، إلى حلقات التراث الجديرة بالبقاء والخلود.
من خلال هذا الوهم تبرز كل المعايير المطلقة في التقييم الفني، ويلتبس المعنى الحقيقي للحرية بشتى المفاهيم "الغيبية" لما يوصف بعملية التحرر. في هذه المعايير مثلاً، يتجاوز الموقف الفكري تقييم العمل الأدبي في جوانبه البديعية "الجزئية" (المعاني المبتكرة، وأشكال الأداء الجديدة) إلى التأكيد على الشخصية الفنية "الفذة" التي تكمن وراء الأثر. وأخطر ما في مثل هذا التأكيد أن يعني أن المرحلة "التاريخية" كلها يمكن أن توجز بكاتب فذ (شاعر أو قاص أو روائي) ينبغي أن يدور الجميع في فلكه. وهو ما يحدث في واقعنا الأدبي حين نرى النقد كله يلهث وراء مثل هذا النموذج، في حين يؤكد الجميع أن الشخصية الأدبية التي يقدر لها أن تطبع أية مرحلة، لم تظهر بعد. إنها ما تزال تعطي الكثير من الجودة والتعثر معاً، في انتظار الموسم الكبير، وعليها أن تكتفي من "التقييم" ما يتناول نفحة الأصالة في نتاجها، بين حين وآخر، لا ما يحاول أن يكتشف فيها كل الملامح النهائية لتجربة فنية أصيلة.
وهم آخر يتفرع عن مثل هذا "التقييم" المصطنع، هو الذي يتناول "حرية التعبير" بذاتها. إن المعايير نفسها تفرض على الكثير من مواقفنا الفكرية في صدد هذه الحرية، نوعاً من الالتباس المماثل واللفظية الغائمة. ليست الحرية شرطاً إنسانياً لتكون الشخصية الأدبية، وممارسة الإبداع في العمل الفني فحسب، بل هي أيضاً منح الأديب حق الوصاية المطلقة على الوجدان الجماعي، وبالتالي على كل المصير الثقافي للآخرين. هذا ما نطالب به منذ البداية. وسواء تناولت هذه المطالبة منح الحق أو استرداده أو الاعتراف بشرعيته، فإنها تتوجه في الغالب إلى واقع سياسي أو اجتماعي يقوم على شيء من الاستبداد والقهر. وما دام كل واقع من هذا القبيل، ذا طابع مرحلي يزدحم بصراع التناقضات، فإن مسألة الحرية على الصعيد الأدبي، تبقى مسألة معلقة، شأنها في ذلك شأن الحقوق السياسية في حياة الشعب، مهما أتيح لها أن تمارس فعلياً، فإنها تلبث تابعة للقضايا المطروحة. إن قضية البطالة مثلاً هي التي تطرح حرية المطالبة بحق العمل. وعلى هذا النحو فإن حرية التعبير تتبع أيضاً حق الكاتب في أن يقول كلمته الصادقة في "أزمة" نظام سياسي معين، أو في مأساة تعانيها العاطفة البشرية أو في مأزق قومي. إن الحرية في هذا المحال لا تعني أن يقول الأديب شيئاً باسم الالتزام الأدبي الذي تفرضه معايشة الواقع البشري في معاناته الصارخة، بل هي تعني أن رؤية جديدة قد تكونت لدى الأديب، ولا بد من أن تقال على نحو ما، لا لأن ذلك شيء من طبيعة العمل الأدبي الحي فحسب، بل لأن ما "لا بد من قوله" يجب أن يصبح من التقاليد الثقافية الراسخة في المرحلة.
إن وهم الحرية يفترض النقيض. إنه لا يكتفي بتجاوز القضايا الإنسانية أو القومية في منعطفاتها التاريخية، والمطالبة بالوصاية الشاملة، بل يضع الأديب في موقف السيد "القديم" في تأريخ العلاقات البشرية. فلكي يمتلك معنى وجوده، ينبغي أن تتوافر له أولاً كل شروط "السيادة" وفي طليعتها أن تناط به جميع المصائر. هكذا يقفز الأديب بروح أسطورية خارقة، من موقع الكائن الاجتماعي البسيط الذي يكفيه أن يعترف الآخرون بجدارته المرحلية وبأن وظيفته الثقافية هي عنصر لا بد منه في عملية التغيير، إلى موقع الشخصية الإنسانية المتميزة التي تشترط مسبقاً كل ما يمنحها الخصائص الفوقية في أداء رسالتها الفنية.
يكثر الحديث في هذا الموقف عن الازدواج في شخصية الأديب العربي، على أنه يحمل قضية الأدب ويلتزم قضيته السياسية في آن واحد. وتكاد أن تكون هذه الظاهرة، طابع الحياة الأدبية منذ أقدم العهود، بل إنها كانت من مظاهر الصدق والأصالة في تجارب الشعراء الجاهليين الأوائل، حين كان الشاعر صوت الجماعة القبلية، أو كانت الفردية الجامحة تحفزه إلى التزام إحدى قضايا الحياة الكبرى في تحدي القوى الخارجية التي تمارسها السلطة السياسية في هذا العصر. غير أن مثل هذا الازدواج لا يملك في أية مرحلة معاصرة، صيغته المصيرية القديمة: "الأدب ـ القضية". لقد احتفظ الأدب بكيانه الفني. أما القضية فقد تحولت إلى سلسلة لا نهاية لها من المواقف السياسية والانتماءات قلما تستغرق من تجربة الأديب أكثر من التدليل على صلته بواقع الآخرين، إن لم تكن ذريعة مألوفة لاستهواء الجمهور. أكثر مظاهر الالتزام ريبة ورياء، وأشدها بعداً عن الحرية الحقيقية. هذا إذا كان بمقدورنا أن نورد مفهومي "الالتزام" و"الحرية" في هذا اللون من تبعية الكاتب للجماهير، كما تعبر عنها ذرائعية الرواج التجاري في السنوات الأخيرة.
لا سبيل إلى تتبع جميع التناقضات المماثلة التي تتفرع عن وهم "الروح الأسطورية" في شخصية الأديب العربي المعاصر، وأعماله الفنية، وحرياته "الخيالية"، والتزاماته النظرية، غير أن الرؤية الموضوعية لموقعه الاجتماعي الراهن، وتاريخية واقعه الأدبي تكشف عن الصيغة الأساسية لازمته الحقيقية مع الحرية والالتزام.
لكي نتبين هذه الرؤية في وضوح، لا بد من إعادة النظر في الكثير من التساؤلات المألوفة الدارجة في صدد الحرية خلال ممارستها الحية، وما يمكن أن يتمخض عنه طابعها التاريخي هذا، من أشكال الالتزام.
"الحرية لمن؟ ولماذا؟" هذا هو التساؤل الأول، وقد أصبح في السنوات الأخيرة جواباً بحد ذاته، لا يخلو من التحديد الحاسم الذي يرسم للأديب الجدير بالحرية كل ملامحه الطبقية والنضالية والعقائدية... إلخ، مثلما يعطي صورة تكاد أن تكون نهائية عن دوره "التاريخي" في تغيرات المرحلة. ومع أن الجوانب السلبية هي التي تُبرز غالباً في تلك الملامح وهذا الدور، ما دامت عملية التمرد على الواقع الأدبي التغير في خطوات التكون الأولى، فإن هناك مسلمات في نظرية "حرية الأديب" هذه لا سبيل فيها إلى النقاش والجدل، لا لأنها أصبحت تهيمن على حياتنا الأدبية فحسب، بل لأن ما هو إيجابي في موقف الأديب حتى من عمله الفني، إنما تصنعه وتفرضه المرحلة الثقافية بصورة عامة، بما تحمله من الوعي الفكري وهو في أوج ارتباطه بقضايا الإنسان، والتزامه الخط التقدمي المتحرر. فمن الإيجابية في هذه النظرية مثلاً أن يتجاوز الأديب تعرية الجذور الدفينة لوراثات الانحطاط في الواقع "الراهن" بكل ما يؤدي ذلك إلى إدانة السلفيات الجامدة مثلاً والنضال من أجل المعاصرة، لكي يجسد في نتاجه الفني، شيئاً مما يصبح دعامة للبناء الثقافي الجديد، غير أن هذا التجاوز كثيراً ما يكون عملاً فكرياً محضاً، لا علاقة له بالنمو الطبيعي الناضج للحركة الأدبية. عندئذ يفرض المناخ الثقافي العام وحده، جوابه الرادع: "الحرية للذين يكتبون عن الشعب في معاناته المريرة لشروط الواقع، أو للذين يرسمون بالقصة والرواية رؤية إنسانية جديدة للحياة العربية، أو للذين يصنعون إيقاعات شعرية صادقة للتجارب التي تحمل إرادة التحرر في الكفاح القومي والجدارة الإنسانية والحب والإحساس الفني بالطبيعة وما إلى ذلك. والواضح أن صفة "الردع" في مثل هذا الجواب تتناول جميع الذين لا حرية لهم في الواقع، ولا ينبغي أن تكون، لأنهم لا يتمثلون "ديناميكية" المرحلة ـ إذا صح التعبير ـ في الوعي الذي يتيح لالتزامهم الأدبي على الأقل، أن يوصف بحرية الاختيار. غير أن هذه الحرية ـ وقد منحت للآخرين ـ لم تعط ثمارها الأدبية الحقة بعد. إن ما تفرضه من الالتزام لا يتعدى المخطط الثقافي الذي تمليه بوادر النضج والتفتح في المرحلة، وليس في طبيعة أي مخطط من هذا القبيل أن يدرج في قاموسه مفردات التقييم المسبق للمواهب التي لم تعبر عن حقيقتها كما ينبغي، أو الآثار الأدبية التي لم تولد بعد.
إذن لا بد من المنطلق الآخر في التساؤل نفسه، وهو أقرب إلى التعبير عن "ديناميكية" المرحلة التاريخية: "الحرية.. لماذا؟.". والواضح أننا لا نملك إلا جواباً واحداً هو الذي تفرضه "الموضوعية" في النظر إلى حقيقة "الكاتب العربي"، ضمن الشروط المرحلية الراهنة. إن ما يمثل هذه الحقيقة هو الدور المزدوج الذي تقوم به الكلمة العربية في التعبير عن وعي الوجدان العربي للتغيرات الجذرية تتمخض عنها تجارب الجماهير. إنه دور الكلمة بصرف النظر عن انتمائها إلى كاتب أو أديب أو مذهب فني أو موقف عقائدي، وهو دور مزدوج لأنه يمارس التزامه قضايا الواقع الثقافي، من ناحيتين: بناء الصيغة "المعاصرة" الجديدة لأداء اللغة العربية، وامتلاك الرؤية المصيرية للواقع العربي عن طريق المعرفة الفنية.. وفي الحالين، لا بد من أن يكون الأديب العربي قد عايش كل الشروط التي تتحكم بالواقع، بما فيها من أسباب التغيرات التقدمية الحاسمة، وما يثقل حركتها التاريخية أيضاً من وراثات الماضي وأغلال الأجيال الغابرة. وسواء كانت هذه المعايشة من أجل الإسهام في تكوين الوجدان "الثوري" الجديد، أو من أجل الأثر الأدبي المحض، فإن كل ما يمكن أن توصف به من الحرارة والوعي والصدق، إنما يقاس بمقدار ما تستطيع المعرفة "البديعية" المتميزة، على نحو خاص، أن تكتشف من الجذور الدفينة لإرادة التغيير في تجارب الإنسان العربي، أن تتوجه باستمرار إلى ما يمكن أن يصبح من جديد موضعاً للتساؤل في كل قضية إنسانية كبرى. إن ما تحمله الصياغة الأدبية المشرقة من دفء الحياة، وتغلغل الرؤية البديعية في وجدان الآخرين، لا يفهم إلا من خلال هذا الحنين الأزلي إلى احتواء التجربة بكل ما تستنفد من ألوان المعاناة "المعاصرة"، وما توحيه صياغتها الفنية من رؤى "جديدة" للوجدان البشري، عبر الأجيال.