– لم أعد أقو على مزيد من الحياة.
قالها ومات.
عندما تحلق أولاده الستة حوله، أخذوا ينظرون لبعضهم واجمين، وبعد دقائق من الصمت تقاسموا العمل حتى تمت تهيئته لرحيله الأخير. داخل صندوق من الخشب وضعوه. وفي حفرة لايزيد طولها عن المترين كان من المفترض أن يستقر فيها آخر بقايا وجوده الذي قارب السبعين عاماً أو يزيد. لكن أحدهم قال: هل نسيتم وصية والدنا؟ لقد أوصى بأن ندفن جثته في جوف النهر!
حملوه على أكتافهم وساروا به وسرت خلفهم في الشارع المدخن بعوادم السيارات التي تنحت سطحه جيئة وذهاباً. مررنا من أمام محل امرأة زنجية تبيع زهوراً، عندما رأتنا من بعيد أحضرت زهرة نرجس ظلت واقفة بين قبضتيها حتى اقتربنا، ثم هرولت تمدد الزهرة على الصندوق برفق وعادت مرة أخرى تشيعنا بنظراتها. كانت –على مايبدو- في بالغ الأسف. ظلت الشمس متوارية خلف تلال من السحب، تضن علينا بلحظة دفئ تقلل برودة المشاعر التي تصلبت. الدموع صارت جليداً راسخاً في عيون كل البشر، ولا ألف شمس أخرى قادرة على إذابته. صعدنا ربوة ومررنا بحزام من الأشجار التي تنافس الديناصورات أعمارها. ثم وقفوا قليلاً وأخذوا يتلفتون حولهم، قال أحدهم: غلطتنا أننا سمعنا كلامك. لانهر يمر من هنا!
ثم تدخل أكبرهم حتى لايحتدم الموقف: أنا أعرف طريقاً للنهر. لكن دعونا نعود من حيث جئنا. حملوا الصندوق مرة أخرى ومررنا بنفس الشارع ولما رأتنا صاحبة محل الزهور، ركضت تأخذ الزهرة من فوق الصندوق وبدلتها بزهرة أخرى، ثم عادت تقف أمام محلها. الأصوات هادئة في الشارع ولايكاد المارة يبصروننا حتى يطرقون رؤوسهم ويتابعون السير، وظللنا نحن نسير هكذا، حتى اقترب المغيب.. لا اناس من حولنا ولا أضواء.. جبال مترهلة الأطراف نصعدها في تريث وصمت. سائر أنا خلفهم، سيجارتي أدخنها ولا أعلم إن كان دوري قد انتهى إلى هنا أم أنه من اللياقة أن أنتظر حتى يكمل الرجل رحلته الأخيرة بسلام؟
أنزلوا الصندوق على سطح الجبل وتلفتوا حولهم، ثم قال أحدهم: إن الأنهار لاتمر بالجبال! فرد الأكبر مغتاظاً: أحمق، أنا أعرف ذلك لكنني جئت إلى هنا كي نستطيع رؤية البلدة من مكان مرتفع فنعرف أين يقع النهر بالضبط.
أخذوا يتلفتون ورحت أتكئ على صخرة قريبة أدخن سيجارة أخرى. “لانهر هنا” قال أصغرهم، “لم يمر ببلادنا نهر من قبل، هكذا درسنا!!”
انزعجوا جميعاً وكذبوه حتى أنهم قالوا: غداً سنكون عرفنا مكان النهر بالظبط وحتما سيكون أبانا صادقاً. قال أقصرهم قامة وكان مدكوكاً في بعضه كأنه شطيرة لحم منتفخة عن آخرها: لقد تكسرت كتفاي من حمله إنه ثقيل للغاية. لم أعرف أن للموتى كل هذا الثقل!
فابتهج الأكبر في خبث وقال: حسناً. سنتركه هنا، وغدا سنعود ومعنا النهر.
وتركوه وذهبوا.. مع ذهابهم، وذهاب الشمس، حضر القمر، الذي لم يستطع رغم حجمه تبديد سيادة الظلام وسطوة الوحشة. وتساءلت إن كان لوجودي هنا الآن أي معنى؟
ما الذي سيجعلني أنتظر هنا حتى الصباح بجوار جثة لم يربطني بها أي شيء منذ أن كانت حية؟ فهل هناك رابطة بيننا وبين الأموات؟ الأحياء لايتواصلون مع بعضهم. هذا ما عشته من عمري على مشارف الأربعين دون أن أتواصل مع أي شخص. غير أنني اليوم وفي الصباح تحديداً عبرت الشارع بسرعة وبسبب شيء ما لا أذكر ما هو التفت خلفي فلمحت العجوز تتلألأ شعيراته الفضية تحت الشمس، يقاوم انحناءة الظهر ويحسب الخطوات بدقة حتى لايتعثر عند عبور الشارع، يحاول ألا يخطأ، وفي الحقيقة إن العجائز نادراً مايصيبون شيئاً. تعامد علي وأوصلته إلى مدخل البيت دون أن نتبادل الكثير من الكلام الذي لم يتجاوز بضع أسئلة تتضمن استفسارات لذلك الجزء الذي نسميه بـ “الهوية الشخصية”. لكنني لم أوجه له سؤالاً واحداً غير أننا ونحن في مدخل العمارة أخرج من جيبة مظروفاً أبيضاً وسألني إن كان بإمكاني إيصاله لشخص للأهمية. ثم قال: احذر أن تتأخر. وتراخت جفنيه وحاجبيه تهدلا: أرجوك.
(تلتف الأصابع في رفق حول مقبضي الدولاب، ثم يحشر نفسه وسط الأشياء ويبكي حتى تتجمع الدموع حوله، تتخلل أصابع قدميه، تقترب من فخذيه فيلتصقا أكثر. من ركبتيه فيدفن رأسه بينهما. يتعالى المد ويغمره فيرتفع قليلاً. يتنصل منه تدريجياً شعره وشعيراته وشعوره. ولأن المياه عميقة، فالسطح لن يكون أبداً صافياً.)
إني أستند الآن إلى صندوق محشو باللحم البشري المعتق منذ قرابة نهار كامل. الليل يدفعني لأحسده على نعمة هذا الغطاء الخشبي الذي يحميه من البرد. أشعر أن أصابعي قد تصلبت داخل الحذاء، ليتني كنت مكانه الآن.
– إن بيع المناديل في الجبل أفضل من المدينة. الأموات أكثر كرماً من الأحياء!
بدأت خيوط الشمس تفترش وجه ذلك الطفل الذي يتعامد بذراعيه أمامي، يثرثر كثيرأ ولم أكن بعد استعدت وعيي بالكامل. قال لي:
– لم يكن أبي شحاتاً قط.. لكنه إذا ماشعر بإهانة يكون عنيفاً.. كما فعل مع الشاب ذو السيارة البيضاء الفخمة.. ألم تسمع بهذه الواقعة؟ ألست في الجبل هنا منذ مدة طويلة؟ حسنا حسناً لقد هشم أبي أنفه وأحدث قطعاً في جمجمته بواسطة أحد الأحجار المترامية حولك.. قد تجده في طريقك عليه بقايا قطرات من الدم.
يغمض عينيه ويضحك بصوت عالي، رغم علو صوته فلا أثر يتركه على الصخور ولا الطيور ولا أي شيء، كل في حاله في سلام. أشعلت سيجارة وكانت أخر ما في العلبة، صمت عن الحديث وظلت عيناه تتحركان مع يدي، ترتفع إلى فمي فيرتفع معها وتهبط إلى الأرض فيهبط معها. ناولته السيجارة فالتقطها في سرور، أغمض عينيه ثم نفث دخانها كخبير وقال:
– أتعلم إن أبي ليس فقيراً.. لدينا الكثير من الأموال.. سأخبرك سراً..
ناولني السيجارة ثم اقترب من أذني وتحولت ملامحه إلى الجدة والاهتمام وهو يقول:
– ذات يوم كانت أختي تبيع المناديل هنا، تحرش بها أحد الصبية الذين لاأعلم من أين يأتون. أمسكت به وطرحته أرضاً وعجنته ضرباً. فرفصني ونهض يجري بعيداً، ولما حاولت أن أتبعه نادتني أختي في لهفة أن أرى ما وجدت فإذا بنا تحلقنا مندهشين من هذا الشق الذي ينبثق منه لمعان ذهبي غريب.. بدأت بتكسير الأحجار، ونادت هي على أبي، ولما وصل كنت قد استخرجت تمثالاً ذهبياً أثرياً في طول ذراعي هذا، أخذه أبي مبتسما باتساعة فمه، خبأه داخل صديريته وانطلق عدواً..
ألم أقل لك إن أبي ليس فقيرا..
ناولته النفس الأخير من السيجارة وقلت له:
– وماذا فعل أبوك بالتمثال ؟
– بالتأكيد باعه..
– وأين هو الآن؟
شرب السيجارة عن كلها وألقى بآخرها بعيداً:
– لا أعرف..
– كلا، لا أقصد التمثال، بل أقصد أبوك..
ابتسم وهو ينهض:
– لا أعرف أيضاً..
ثم نظر في عيني بخبث، وتضاءلت ابتسامته وأنا أسأله عن إسمه وإسم أبوه، فقال:
– وهل سألتك أنا عن إسمك؟
تركني وهم بالرحيل تتقافز قدميه الرفيعتين بين الصخور الجبلية الحادة وهو يصفر بفمه، ثم توقف على مسافة وقال:
– أنت يا أحمق. أتصدق أشياء لم تحدث بعد؟
ثم أخرج لسانه قبل أن يهرول سريعاً مختفياً عن ناظري:
– لقد كذبت عليك.
لقد ضقت بهذا الإنتظار، وكأن الأولاد قد نسوا أباهم، أو قرروا أن ينسوه على مشارف الحلم بالنهر، فلن يبرح مكانه ولكن قد يبرح خياله أزمنة وأماكن عديدة. أسير بين الناس في الشوارع. في الطرقات عيونهم تتعلق علي، وكأن الجميع يعلم بأنني أحمل وصية شخص مات بالأمس. أفرد ياقتي معطفي وأختبئ بوجه داخلهما وأهرول تحت الإمتداد السماوي اللانهائي، تبهت الشمس رويداً وتبدأ الغيوم في ممارسة غوايتها القديمة.
قال لي أن أنتظر في المطعم الساعة الثانة بعد الظهر. ولا أعلم كم الساعة الآن، ولا أعرف هل أنشغل بالبحث عن الساعة أم بالركض تحت المطر الذي لايهدأ أبداً.
وصلت إلى المطعم، كانت الساعة الثانية بالفعل، لكنهم رفضوا إدخالي إلا بعد نصف ساعة. تعجبت. ووقفت في الخارج تحت مظلة الباب الرئيسي للفندق، أراقب السماء وهي تفرغ كل لعابها على رؤؤوس كل هؤلاء الناس. الحياة اكتسبت لوناً ضبابياً والهواء صار يصر بالعظام، ولافائدة.
مر أمامي طفل في العاشرة تقريباً. وقف أمامي ثم رفع رأسه إلي وقال متوسلاً:
– هل تسمح أن أسمعك قصيدة؟
نظرت حولي في اندهاش ثم أشرت له أن يبدأ. أغمض عينيه ثم فتح فمه عن آخره واخذ يصرخ بعنف شديد. رغم عمق كلامه إلا أنني لم أتبين حرفاً مما قال. أشرت له أن يتوقف، لكنه لم يستجب. وضعت أصابعي في أذني، وصرخت فيه بأن يتوقف عن الصراخ. لكن لم يستجب، كان الناس يمرون حولنا ولايعيرونا اهتماماً. لم أستطع احتمال المزيد، نظر إلي أحد المارة وكان يحمل شمسية فسألني إن كنت أحتاج مساعدة، فأشرت إلى هذا الطفل المزعج. فأغلق شمسيته وصفعه على رأسه. فسكت الطفل. ثم رحل الرجل. واستدار الطفل خلفه ومشى.
نظرت إلى الساعة المعلقة في مدخل المطعم، لازالت عشر دقائق، أخرجت المظروف الأبيض من جيبي أقلبه بين يدي، ولا أعلم ماذا يمكن أن يكون، مرت سيدتين جواري على مشارف الخمسينيات تقول إحداها للأخرى وهي تضحك في سخرية:
– وهل تظنين أن الإله نفسه بقادر على تغيير الماضي؟
لم أملك الكثير من الوقت كي أتبين باقي حديثهم، حيث سرعان ما اختفوا كسابقيهم وسط الزحام البشري. خرج مدير الفندق في حلته السوداء الأنيقة، وطلب مني الدخول. نظرت للساعة وكان حوالي خمس دقائق لازالت باقية حتى تتم الثانية والنصف. أوصلني إلى طاولة فخمة مغطاة بملاءة حمراء، وأمامي شمعدان عليه خمسة شموع غير مشعلة.. وضع أمامي كأس ماء، ثم انصرف..
لا أحتمل المزيد من الوقت، وأنا أرى مطعماً لايحوي زبائناً بالمرة، الإضاءة خافتة للغاية، فكرت أنه لو قرر الضيف الذي أنتظره أن يقرأ الرسالة التي معي فكيف سيكون الحال؟
لا أحد سيأتي كنت أسمع كل دواخلي تنطق بها، فقررت أن أفتح المظروف وأرى مافيه.. أمسكته في يدي، وأنظر إليه في تحفز للجهز عليه، فإذا بطفل يقارب في العمر الطفل الذي كان يصرخ في الخارج، يأتي في مقدمة النادل الأنيق، يسحب له كرسياً، ويجلسه على المقعد المقابل لي.
أسلمته الرسالة، فشقها ثم طوى الورقة إلى نصفين ووضعها أمامه. كان النصف المواجه لي فارغاً، استغللت بحثه عن قلم، فقلبت الورقة وكان نصفها الآخر أيضاً فارغاً!!
انتبه لي. فرمقني بنظرة متجهمة ثم وضع يده على الورقة.
قلت له:
إنها ورقة بيضاء !!
قال:
نعم. إنها كذلك بالفعل.
وانهمك في الكتابة..
كل شيء قد كتبه وانتهى الأمر عند ذلك الحد. نهضت من مكاني، أدفن رأسي بين ياقتي معطفي وأنا خارج من المطعم كانت الغيوم كثيفة.. وكان في الجوار يافطة تقول: رحلة مجانية إلى النهر..
* نقلا عن:
ذات مرة على جزيرة ما
قالها ومات.
عندما تحلق أولاده الستة حوله، أخذوا ينظرون لبعضهم واجمين، وبعد دقائق من الصمت تقاسموا العمل حتى تمت تهيئته لرحيله الأخير. داخل صندوق من الخشب وضعوه. وفي حفرة لايزيد طولها عن المترين كان من المفترض أن يستقر فيها آخر بقايا وجوده الذي قارب السبعين عاماً أو يزيد. لكن أحدهم قال: هل نسيتم وصية والدنا؟ لقد أوصى بأن ندفن جثته في جوف النهر!
حملوه على أكتافهم وساروا به وسرت خلفهم في الشارع المدخن بعوادم السيارات التي تنحت سطحه جيئة وذهاباً. مررنا من أمام محل امرأة زنجية تبيع زهوراً، عندما رأتنا من بعيد أحضرت زهرة نرجس ظلت واقفة بين قبضتيها حتى اقتربنا، ثم هرولت تمدد الزهرة على الصندوق برفق وعادت مرة أخرى تشيعنا بنظراتها. كانت –على مايبدو- في بالغ الأسف. ظلت الشمس متوارية خلف تلال من السحب، تضن علينا بلحظة دفئ تقلل برودة المشاعر التي تصلبت. الدموع صارت جليداً راسخاً في عيون كل البشر، ولا ألف شمس أخرى قادرة على إذابته. صعدنا ربوة ومررنا بحزام من الأشجار التي تنافس الديناصورات أعمارها. ثم وقفوا قليلاً وأخذوا يتلفتون حولهم، قال أحدهم: غلطتنا أننا سمعنا كلامك. لانهر يمر من هنا!
ثم تدخل أكبرهم حتى لايحتدم الموقف: أنا أعرف طريقاً للنهر. لكن دعونا نعود من حيث جئنا. حملوا الصندوق مرة أخرى ومررنا بنفس الشارع ولما رأتنا صاحبة محل الزهور، ركضت تأخذ الزهرة من فوق الصندوق وبدلتها بزهرة أخرى، ثم عادت تقف أمام محلها. الأصوات هادئة في الشارع ولايكاد المارة يبصروننا حتى يطرقون رؤوسهم ويتابعون السير، وظللنا نحن نسير هكذا، حتى اقترب المغيب.. لا اناس من حولنا ولا أضواء.. جبال مترهلة الأطراف نصعدها في تريث وصمت. سائر أنا خلفهم، سيجارتي أدخنها ولا أعلم إن كان دوري قد انتهى إلى هنا أم أنه من اللياقة أن أنتظر حتى يكمل الرجل رحلته الأخيرة بسلام؟
أنزلوا الصندوق على سطح الجبل وتلفتوا حولهم، ثم قال أحدهم: إن الأنهار لاتمر بالجبال! فرد الأكبر مغتاظاً: أحمق، أنا أعرف ذلك لكنني جئت إلى هنا كي نستطيع رؤية البلدة من مكان مرتفع فنعرف أين يقع النهر بالضبط.
أخذوا يتلفتون ورحت أتكئ على صخرة قريبة أدخن سيجارة أخرى. “لانهر هنا” قال أصغرهم، “لم يمر ببلادنا نهر من قبل، هكذا درسنا!!”
انزعجوا جميعاً وكذبوه حتى أنهم قالوا: غداً سنكون عرفنا مكان النهر بالظبط وحتما سيكون أبانا صادقاً. قال أقصرهم قامة وكان مدكوكاً في بعضه كأنه شطيرة لحم منتفخة عن آخرها: لقد تكسرت كتفاي من حمله إنه ثقيل للغاية. لم أعرف أن للموتى كل هذا الثقل!
فابتهج الأكبر في خبث وقال: حسناً. سنتركه هنا، وغدا سنعود ومعنا النهر.
وتركوه وذهبوا.. مع ذهابهم، وذهاب الشمس، حضر القمر، الذي لم يستطع رغم حجمه تبديد سيادة الظلام وسطوة الوحشة. وتساءلت إن كان لوجودي هنا الآن أي معنى؟
ما الذي سيجعلني أنتظر هنا حتى الصباح بجوار جثة لم يربطني بها أي شيء منذ أن كانت حية؟ فهل هناك رابطة بيننا وبين الأموات؟ الأحياء لايتواصلون مع بعضهم. هذا ما عشته من عمري على مشارف الأربعين دون أن أتواصل مع أي شخص. غير أنني اليوم وفي الصباح تحديداً عبرت الشارع بسرعة وبسبب شيء ما لا أذكر ما هو التفت خلفي فلمحت العجوز تتلألأ شعيراته الفضية تحت الشمس، يقاوم انحناءة الظهر ويحسب الخطوات بدقة حتى لايتعثر عند عبور الشارع، يحاول ألا يخطأ، وفي الحقيقة إن العجائز نادراً مايصيبون شيئاً. تعامد علي وأوصلته إلى مدخل البيت دون أن نتبادل الكثير من الكلام الذي لم يتجاوز بضع أسئلة تتضمن استفسارات لذلك الجزء الذي نسميه بـ “الهوية الشخصية”. لكنني لم أوجه له سؤالاً واحداً غير أننا ونحن في مدخل العمارة أخرج من جيبة مظروفاً أبيضاً وسألني إن كان بإمكاني إيصاله لشخص للأهمية. ثم قال: احذر أن تتأخر. وتراخت جفنيه وحاجبيه تهدلا: أرجوك.
(تلتف الأصابع في رفق حول مقبضي الدولاب، ثم يحشر نفسه وسط الأشياء ويبكي حتى تتجمع الدموع حوله، تتخلل أصابع قدميه، تقترب من فخذيه فيلتصقا أكثر. من ركبتيه فيدفن رأسه بينهما. يتعالى المد ويغمره فيرتفع قليلاً. يتنصل منه تدريجياً شعره وشعيراته وشعوره. ولأن المياه عميقة، فالسطح لن يكون أبداً صافياً.)
إني أستند الآن إلى صندوق محشو باللحم البشري المعتق منذ قرابة نهار كامل. الليل يدفعني لأحسده على نعمة هذا الغطاء الخشبي الذي يحميه من البرد. أشعر أن أصابعي قد تصلبت داخل الحذاء، ليتني كنت مكانه الآن.
– إن بيع المناديل في الجبل أفضل من المدينة. الأموات أكثر كرماً من الأحياء!
بدأت خيوط الشمس تفترش وجه ذلك الطفل الذي يتعامد بذراعيه أمامي، يثرثر كثيرأ ولم أكن بعد استعدت وعيي بالكامل. قال لي:
– لم يكن أبي شحاتاً قط.. لكنه إذا ماشعر بإهانة يكون عنيفاً.. كما فعل مع الشاب ذو السيارة البيضاء الفخمة.. ألم تسمع بهذه الواقعة؟ ألست في الجبل هنا منذ مدة طويلة؟ حسنا حسناً لقد هشم أبي أنفه وأحدث قطعاً في جمجمته بواسطة أحد الأحجار المترامية حولك.. قد تجده في طريقك عليه بقايا قطرات من الدم.
يغمض عينيه ويضحك بصوت عالي، رغم علو صوته فلا أثر يتركه على الصخور ولا الطيور ولا أي شيء، كل في حاله في سلام. أشعلت سيجارة وكانت أخر ما في العلبة، صمت عن الحديث وظلت عيناه تتحركان مع يدي، ترتفع إلى فمي فيرتفع معها وتهبط إلى الأرض فيهبط معها. ناولته السيجارة فالتقطها في سرور، أغمض عينيه ثم نفث دخانها كخبير وقال:
– أتعلم إن أبي ليس فقيراً.. لدينا الكثير من الأموال.. سأخبرك سراً..
ناولني السيجارة ثم اقترب من أذني وتحولت ملامحه إلى الجدة والاهتمام وهو يقول:
– ذات يوم كانت أختي تبيع المناديل هنا، تحرش بها أحد الصبية الذين لاأعلم من أين يأتون. أمسكت به وطرحته أرضاً وعجنته ضرباً. فرفصني ونهض يجري بعيداً، ولما حاولت أن أتبعه نادتني أختي في لهفة أن أرى ما وجدت فإذا بنا تحلقنا مندهشين من هذا الشق الذي ينبثق منه لمعان ذهبي غريب.. بدأت بتكسير الأحجار، ونادت هي على أبي، ولما وصل كنت قد استخرجت تمثالاً ذهبياً أثرياً في طول ذراعي هذا، أخذه أبي مبتسما باتساعة فمه، خبأه داخل صديريته وانطلق عدواً..
ألم أقل لك إن أبي ليس فقيرا..
ناولته النفس الأخير من السيجارة وقلت له:
– وماذا فعل أبوك بالتمثال ؟
– بالتأكيد باعه..
– وأين هو الآن؟
شرب السيجارة عن كلها وألقى بآخرها بعيداً:
– لا أعرف..
– كلا، لا أقصد التمثال، بل أقصد أبوك..
ابتسم وهو ينهض:
– لا أعرف أيضاً..
ثم نظر في عيني بخبث، وتضاءلت ابتسامته وأنا أسأله عن إسمه وإسم أبوه، فقال:
– وهل سألتك أنا عن إسمك؟
تركني وهم بالرحيل تتقافز قدميه الرفيعتين بين الصخور الجبلية الحادة وهو يصفر بفمه، ثم توقف على مسافة وقال:
– أنت يا أحمق. أتصدق أشياء لم تحدث بعد؟
ثم أخرج لسانه قبل أن يهرول سريعاً مختفياً عن ناظري:
– لقد كذبت عليك.
لقد ضقت بهذا الإنتظار، وكأن الأولاد قد نسوا أباهم، أو قرروا أن ينسوه على مشارف الحلم بالنهر، فلن يبرح مكانه ولكن قد يبرح خياله أزمنة وأماكن عديدة. أسير بين الناس في الشوارع. في الطرقات عيونهم تتعلق علي، وكأن الجميع يعلم بأنني أحمل وصية شخص مات بالأمس. أفرد ياقتي معطفي وأختبئ بوجه داخلهما وأهرول تحت الإمتداد السماوي اللانهائي، تبهت الشمس رويداً وتبدأ الغيوم في ممارسة غوايتها القديمة.
قال لي أن أنتظر في المطعم الساعة الثانة بعد الظهر. ولا أعلم كم الساعة الآن، ولا أعرف هل أنشغل بالبحث عن الساعة أم بالركض تحت المطر الذي لايهدأ أبداً.
وصلت إلى المطعم، كانت الساعة الثانية بالفعل، لكنهم رفضوا إدخالي إلا بعد نصف ساعة. تعجبت. ووقفت في الخارج تحت مظلة الباب الرئيسي للفندق، أراقب السماء وهي تفرغ كل لعابها على رؤؤوس كل هؤلاء الناس. الحياة اكتسبت لوناً ضبابياً والهواء صار يصر بالعظام، ولافائدة.
مر أمامي طفل في العاشرة تقريباً. وقف أمامي ثم رفع رأسه إلي وقال متوسلاً:
– هل تسمح أن أسمعك قصيدة؟
نظرت حولي في اندهاش ثم أشرت له أن يبدأ. أغمض عينيه ثم فتح فمه عن آخره واخذ يصرخ بعنف شديد. رغم عمق كلامه إلا أنني لم أتبين حرفاً مما قال. أشرت له أن يتوقف، لكنه لم يستجب. وضعت أصابعي في أذني، وصرخت فيه بأن يتوقف عن الصراخ. لكن لم يستجب، كان الناس يمرون حولنا ولايعيرونا اهتماماً. لم أستطع احتمال المزيد، نظر إلي أحد المارة وكان يحمل شمسية فسألني إن كنت أحتاج مساعدة، فأشرت إلى هذا الطفل المزعج. فأغلق شمسيته وصفعه على رأسه. فسكت الطفل. ثم رحل الرجل. واستدار الطفل خلفه ومشى.
نظرت إلى الساعة المعلقة في مدخل المطعم، لازالت عشر دقائق، أخرجت المظروف الأبيض من جيبي أقلبه بين يدي، ولا أعلم ماذا يمكن أن يكون، مرت سيدتين جواري على مشارف الخمسينيات تقول إحداها للأخرى وهي تضحك في سخرية:
– وهل تظنين أن الإله نفسه بقادر على تغيير الماضي؟
لم أملك الكثير من الوقت كي أتبين باقي حديثهم، حيث سرعان ما اختفوا كسابقيهم وسط الزحام البشري. خرج مدير الفندق في حلته السوداء الأنيقة، وطلب مني الدخول. نظرت للساعة وكان حوالي خمس دقائق لازالت باقية حتى تتم الثانية والنصف. أوصلني إلى طاولة فخمة مغطاة بملاءة حمراء، وأمامي شمعدان عليه خمسة شموع غير مشعلة.. وضع أمامي كأس ماء، ثم انصرف..
لا أحتمل المزيد من الوقت، وأنا أرى مطعماً لايحوي زبائناً بالمرة، الإضاءة خافتة للغاية، فكرت أنه لو قرر الضيف الذي أنتظره أن يقرأ الرسالة التي معي فكيف سيكون الحال؟
لا أحد سيأتي كنت أسمع كل دواخلي تنطق بها، فقررت أن أفتح المظروف وأرى مافيه.. أمسكته في يدي، وأنظر إليه في تحفز للجهز عليه، فإذا بطفل يقارب في العمر الطفل الذي كان يصرخ في الخارج، يأتي في مقدمة النادل الأنيق، يسحب له كرسياً، ويجلسه على المقعد المقابل لي.
أسلمته الرسالة، فشقها ثم طوى الورقة إلى نصفين ووضعها أمامه. كان النصف المواجه لي فارغاً، استغللت بحثه عن قلم، فقلبت الورقة وكان نصفها الآخر أيضاً فارغاً!!
انتبه لي. فرمقني بنظرة متجهمة ثم وضع يده على الورقة.
قلت له:
إنها ورقة بيضاء !!
قال:
نعم. إنها كذلك بالفعل.
وانهمك في الكتابة..
كل شيء قد كتبه وانتهى الأمر عند ذلك الحد. نهضت من مكاني، أدفن رأسي بين ياقتي معطفي وأنا خارج من المطعم كانت الغيوم كثيفة.. وكان في الجوار يافطة تقول: رحلة مجانية إلى النهر..
* نقلا عن:
ذات مرة على جزيرة ما