عبدالرزاق دحنون - نساء حسيب كيالي الجميلات

للمُغني اليساري "الشيخ إمام" جملة فيها حكمة و هي خلاصة تجربة إنسانية عظيمة . قال في ردَّ عن طبيعة علاقته بالمرأة: "المرأة في القلب ومن لا يضعها في القلب فليس بآدم".

لخَّصت هذه المقولة فلسفة الأديب السوري الكبير حسيب كيالي -ولد في إدلب 1921 وتوفي في دبي 1993- في المرأة التي أحبها حتى تخوم العشق, فتركها تأخذ حيزاً هاماً في إنتاجه الأدبي, فالمرأة بطلة روايتيه "مكاتيب الغرام" و "أجراس البنفسج الصغيرة" وبطلة في معظم مسرحياته وقصصه, و "نعيمة زعفران" عنوان آخر مجموعاته القصصية وكان يغمز -من خلال العنوان- من قناة الكاتبة والصحفية السورية الإدلبيَّة حميدة نعنع.

المثال الحاضر الآن قصته التي حملت عنوان "تلك الأيام" و هي من القصص الجميلة التي كتبها حسيب كيالي. افتتح قصته بشخصية أم الناجي التي نعرفها من خلال قصص كثيرة. و هي من الشخصيات النسائية الأثيرة لديه. هذه المرأة الصغيرة المجففة ذات العينين الصغيرتين والتي "شلوطت" أحرقت رموشها النار والسنون بحكم عملها خبازة بأجر, هي كادحة عاملة على طريقة الشيخ كارل ماركس, حيث تقف أمام التنور طويلاً ولو كانت الدنيا تموز أو آب. يقول حسيب كيالي:

كانت معارفنا في تلك الأيام من النساء تقتصر على الأمهات والمحرمات وحدهن. وقد تنكشف علينا عجوز مثل أم الناجي, صحيح أنها كانت لا تمانع في إبداء وجهها, ولكنها ما أن ترانا, ونحن في تلك السن المبكرة ما نزال, حتى تسرع في وضع شيء على رأسها لأن الله أمر بالسترة. ولأن شعر المرأة عورة ولو كانت مثل أم الناجي. فإذا طُرق الباب ولم يكن وراء الباب غير الحريم, ولم يكن لربة البيت مناص من أن تُجيب وقفت خلف الباب وضعت في فمها شاشية أو غطاء صلاة أو كماً أو فضل ثوب ثم أجابت الطارق. وذلك كي يخرج صوتها مشوهاً لأن صوت المرأة عورة.

ثم يكتب حسيب كيالي هذه الملاحظة الدقيقة في قصته: ما أصفه الآن لا يشمل النسوة اللواتي يأكل عائلوهن خبزهم بعرق الجبين, أعني أولئك المطحونين من عتالين وسقائين وأجراء وبائعين متجولين في القرى من جهة وفلاحين من جهة أخرى. نسوة هؤلاء الكادحين لسن فاضيات لمثل هذا الترف, ترف أن يتخبأن أو يشوهن أصواتهن بشاشية. حجابهم ذاته نوع من فضِّ العتب لآن نساء الكادحين يكدحن أيضاً.

هل كان حسيب كيالي يُنشد مجد الأنثى؟ نعم, بكل تأكيد, سعى من خلال حياته وابداعه لأن يؤسس لثقافة كونية تُعطى المرأة حقها الطبيعي في أن تكون حرة بقدر ما تتسع الحرية. سعى لأن يكون الرجل شهماً طيباً أنيساً ودوداً مع المرأة في كل مراحل عمرها وكتب في فاتحة روايته مكاتيب الغرام:

أنا واثق من أن الظلمة التي تتخبّط فيها بطلة الرواية حالة طارئة ستخرج منها بناتنا حين نشفى كلنا من آثار القرون وننطلق جميعاً في طريق مضيئة ترن فيها الضحكات خالصة صافية. ولعل هذا ما أغواني بكتابتها.

وحسيب كيالي في حبه لحواء صافي السريرة ناعم الضمير خلي القلب من شواغل الجاه والمال والسلطة يقترب كثيراً من أهل التصوف في آمالهم وأشواقهم. ونظريته في الحياة واضحة صريحة فهو كسّاب وهّاب. وهذه فلسفة قيمة لمن يُدرك فحواها جيداً وهي تحتاج إلى شجاعة نادرة في القول والعمل وقد كان حسيب كيالي شجاعاً في حياته كما في أدبه.

وقد اعترف لي في جلسة خاصة مع فنجان قهوة في بيته بحي السطوة في ديرة دبي ربيع عام 1993 أن ما جاء في قصته حلاق دبي من مجموعته القصصية نعيمة زعفران يمسه شخصياً وأن وراء ذهابه في رحلة استجمام من دبي إلى بانكوك هو البحث عن امرأة ترمّ العظم وتُخرج النفس من وحشة ألمت بها. وقد وُفق في مسعاه حيث تعرَّف هُناك إلى ما لا بدَّ منه "مالا" وهي امرأة بوذية في التاسعة والثلاثين, جسدها مثل الزبدة الغنم, عذوبة في الوجه, أميل إلى السمنة, تخجل مثل بنت الأربعة عشر, تملكُ هنَّاً راب مجسته. وقد تعرَّف إليها من خلال فتاة تايلاندية من أصل صيني ألتقى بها في دبي وهي في عمر أحفاده. أعطته عنوانها في بانكوك فسافر إليها بعد حين. سألته وهما في بهو الفندق في بانكوك:

- بابا, ألم تشبك واحدة من فتيات الفندق؟

- كلا

– لماذا بابا؟

- أخاف المرض والأطباء الجنسيين الحرمية, فقد ابتلى أحد زملائي في المؤسسة التي نعمل فيها بوسوسة صحية لجأ على أثرها إلى طبيب اسمه...

- بابا أنت ثرثار

- لماذا؟

- كنا في شيء صرنا في شيء آخر. أنا أسألك: ألم تتخذ لك صاحبة من فتيات الفندق, يعني جيرل فريند؟ فتجيء بسيرة لها اول مالها آخر عن طبيب دجال.

– طيب اسألي فلا أخرج عن الموضوع. لم أتدبر أمري لأني أخاف. عرّفيني بامرأة من سن السيدة والدتك, يعني مثلما تقولين في حيطان الأربعين تتناسب مع باباكي واياي أعني ابن الستين مبحبحة.

- قُم معي إذن.

– إلى أين؟

- إلى بيتنا.

– لماذا, لتعرفيني بالسيدة الوالدة؟

- لا, الوالدة لها زوج هو أبي وتسكن بعيداً عن بانكوك.

– إذن؟

- جارتي في البيت.

– ما اسمها؟

- مالا.

– توكلنا على الله... حلوة؟

- الآن تراها.

- أرملة ؟

- لا , على وشك الطلاق من زوجها.

- لماذا؟

- لم يتفقا.

–لها أولاد؟

- صبيَّان.

- مسلمة؟

- لا, بوذية.

- وزوجها؟

- مسيحي, وأطمئنك, هي عادت لا تحمل.

– والله يا ست ريتا ما عندي مانع, وإن كنت أتمنى أن تكون قادرة على أن تجيء لي بصبي.

– لماذا, أليس عندك أولاد؟

- عندي ولد, مشطوط, مُدلل في العرف العام ... فإذا جأني آخر ساقوه إلى العسكرية وخلصت منه.

في سورية الولد الوحيد لا يذهب إلى "خدمة العلم" التجنيد الاجباري, أو العسكريَّة.

أخذت ريتا حسيباً إلى بيت يجب ان تعبر النهر لكي تصل إليه من الفندق الذي نزل فيه. بيت مالا كان نموذجاً للبيت الخشبي التايلندي الأصيل. راقت شخصية مالا لحسيب, امرأة أنيسة جميلة فيها من الأنوثة ما يروي الظمأ ويفيض. غرفة مالا تقع في الطابق الثاني صعدوا إليها وكانت ريتا تقوم بدور المُترجم. لغة حسيب الإنكليزية ليست خيراً من إنكليزية مالا, يعني شبه لا شيء. ولكن ذكاء فؤاد ريتا الرائعة ومعرفة لها قديمة بقليل من الفرنسية جعلتهما يستنبطان لغة ثالثة هي التي استخدماها في سؤال مالا إذا كانت توافق على الانتهاء من طلاق زوجها نهائيا والقبول بحسيب كيالي زوجاً جديداً. اقترح حسيب كيالي على مالا وريتا أن يذهبوا فيتعشوا عشاء تايلاندياً أو صينياً لا يخلطه خالط ولا ينقصه حتى الشاي بالثلج. مالا هي التي ساقت السيارة القديمة المكلثمة وقُبيل المطعم استأذنت ريتا التي كانت في المقعد الخلفي أن تنزل لتشتري حاجة عرضت لها. بقي حسيب ومالا في السيارة وحدهما. التفت نحوها. كان وجهها مشغولاً. اكتشف أنها غارقة حتي أذنيها في تركيب جُملة بالإنكليزية وُفقت بعد حين إلى قولها:

-أي أم لافيو.

قال حسيب في شبه صراخ فرح:

-مي تو, وحياة مالا.

في المحصلة لم يكن حسيب كيالي قادراً على البقاء في بانكوك أكثر من أسبوع, فاتفق ومالا من خلال الترجمانة على أن يغيب بعض الوقت تكون مالا في هذه الأثناء تتعلم بعض دروس الإنكليزية من كتاب ابنها الصغير. عاد حسيب كيالي إلى دبي كأنه منوّم, مسحور. خاف أن يكون قد فاته شيء من جمالات تلك الرحلة فلم يسجله في دفتر يومياته, فأكب على نقل متفرقات اليوميات واستذكار مالم يكتبه إلى أن وصل إلى وداع مالا وريتا والولدين في مطار بانكوك فقد بكى هؤلاء الناس الطيبون وهم يرونه يغيب ذاهباً إلى قاعات الانتظار المخصصة للمغادرين.

مؤلفاته:

مع الناس- قصص- بيروت 1952

أخبار من البلد- قصص- بيروت 1954

- مكاتيب الغرام- رواية- بيروت 1956

الناسك والحصاد- مسرحية شعرية غنائية- دمشق 1969

أجراس البنفسج الصغيرة- رواية- بيروت 1970

رحلة جدارية- قصص- 1971

حكاية بسيطة- قصص- دمشق 1972

المهر زاهد- حكاية شعبية ممسرحة- دمشق 1973

تلك الأيام- قصص- دمشق 1977

في خدمة الشعب-خمس مسرحيات- دمشق 1978

الحضور في أكثر من مكان- قصص- دمشق 1979

المطارد- قصص- دمشق 1982

ماذا يقول الماء-أربع مسرحيات-دمشق1980

قصة الأشكال- قصص 1991

من حكايات ابن العم- قصص 1992

نعيمة زعفران- قصص 1993

ترجم عن الفرنسية:

-رواية أرض الرجال -أنطوان دي سانت إكسوبري- منشورات عويدات-بيروت 1963.

-حكايات القط الجاثم, مارسيل أيميه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى