جعفر الديري - نقاد: "جاك دريدا".. فكر سائل و"تفكيكية" عصية على التعليب

بتاريخ السبت 9 أكتوبر 2004 ، أعلنت الأوساط الثقافية وفاة «جاك دريدا» الفيلسوف الفرنسي الشهير الذي اقترن اسمه بـ «التفكيكية» وهو المنهج الذي ابتكره وجعله جزءا من النقد الأدبي في مرحلة ما بعد الحداثة.
لقد حول دريدا سؤال الفكر الى مجالات اللغة والتأويل واستطاع أن يخلق مدرسة كبيرة في تاريخ الفلسفة، مدرسة لم يقتصر نشاطها وتفكيكها على النصوص الأدبية أو الفلسفية أو الدينية فحسب ولكنها طالت الكتابات القانونية والقضائية، المؤسسات، الأعراف، البرامج والمسائل المطروحة.
حظي «دريدا» بالاهتمام الكبير من قبل المثقفين والمتابعين حتى وصل الى منطقة الخليج العربي. اذ استطاعت نظريته أو مدرسته الفكرية «التفكيكية» أن تنال جزءا كبيرا من اهتمام المثقفين في البحرين.
يقول الناقد محمد البنكي: «يمكن القول إن اسهامات دريدا تنتظم في سياق ما حاولت فلسفة الاختلاف أن تقدمه على سبيل الجهد لمجاوزة «هيغل» ومنظوره التاريخي. فدريدا ينخرط في سلسلة نسب فكري يمر عبر «نيتشه» من جهة ثم «هوسرل» فـ «هيدغر» من الجهة الأخرى. وقد مثلت مؤلفاته الأولى، على الأخص في الجراماتولوجي والكتابة والاختلاف وهوامش الفلسفة أقوى التدخلات من أجل التصدي النقدي للبنيوية التي كانت مزدهرة في نهاية السبعينات من القرن الماضي. لقد استطاعت الاستراتيجية التي طورها دريدا في القراءة أن تكتسب أنصاراً كثراً في الأكاديميا خلف الأطلسي وفي أعرق جامعة الولايات المتحدة تحديداً: جامعتي «ييل» و«جونز هوبكنز» وهكذا استطاع حوارييوه والمتأثرون به، ممن سموا بـ «عصابة ييل» يومها أن يرثوا الهيمنة على أقسام الفلسفة واللغات متسنمين سدة الصدارة من النقد الجديد الذي كان ذاهبا إلى الأفول. وإن بعض من وهج دريدا يأتي من كونه قد استطاع أن يحلحل الاشكالات فيما يشبه الزحزحة الابستمولوجية لانشغالات الدرس الفكري العالمي، وهو قد ضم إلى ذلك منافحة لا تلين عن حقوق الإنسان وقضايا العدالة ومناوأة القمع. وهكذا لم تخرج مسيرة باريسية من أجل فلسطين إلا كان الرجل في الصفوف الأولى منها، وعلى المنوال نفسه كان دفاعه المتصل لأعوام طويلة عن الصحافي الأميركي المسلم «موميا أبوجمال» الذي حكم بالإعدام في ملابسات عنصرية بغيضة، وفي السياق نفسه يأتي دفاعه عن «نيلسون مانديلا» ولجنة المصالحة والسلم في جنوب إفريقيا، كما يتعزز هذا كله بدفاع دريدا الحار عن حقوق العمال العرب المتوجهين إلى فرنسا وانشائه البرلمان الدولي للكتاب للدفاع عن حرية الرأي والنشر.
ويبقى أن جهد دريدا ومساهماته متعذران تماماً على الحصر والاحصاء في هذه العجالة المتسناة هنا، لكن المرجح باطمئنان هو أن دريدا أحد أهم القامات الفكرية في العقود الأخيرة وما الاختلاف الشديد عليه مناصرة أو تبخيسا إلا جزءاً من وهجه وتميزه».
وبشأن التساؤل عن اهتمام المثقف العربي به وهل شكل اشتغاله بتفكيك العقلانية الغربية عاملا من عوامل هذا الاهتمام يقول البنكي «ان ما ينبغي الانتباه إليه دائما هو أن نقد دريدا للتمركز حول العقل في تاريخ الفكر الغربي لا يمكن تجييره بسهولة لدعاوي نضالية ايديولوجية الأفق، على الأقل لا يمكن ذلك من دون التضحية بمنهجيته نفسها.
مع ذلك، فهذا لا يعفي من توسل بعض الجهود الفكرية إلى استثمار هذه الاستراتيجيات في نوايا من هذا النوع. وهي على أية حالة سلاح فعال وشديد التأثير، لكن الإخلاص لطبيعة هذه الاستراتيجيات يقتضي الإشارة إلى أنها موجهة دائما بشكل مزدوج، بمعنى أنها تشتغل على تفكيك الذات والآخر في الوقت نفسه. ومن هنا فإن التوظيف الأعور يسفح أهم ما في التفكيك من فاعلية ونشاط. أنه يكفه عن العمل محولاً إياه إلى أداة نضالية مفرغة من محتواها وقوتها الحقيقية.

ثورة دريدا

من جهته يقول الكاتب المسرحي يوسف الحمدان «لقد كانت لدريدا اسهاماته الكبيرة في تحويل الخطاب النقدي والدلالي، وهو الخطاب الذي يشاكس الآخر والذي لا ينتظر نتائج إذ إن دريدا كان من بنية مختلفة مشكّلة على أساس فلسفي به تراكم في لغة الخطاب ومن هنا جاءت ثورته، فالدخول الى عالم دريدا أمر غير اعتيادي لأن عالمه الفكري لا يعتمد على الجهوزية والأسئلة القائمة على الجواب، فالدخول الى عالمه يستلزم أن يكون لدى قارئه وعي كبير به.
هناك شبكة علاقات متداخلة لقراءة دريدا وهي تدخل في النقد الجدلي للفكر السائل وليس المعلب. لذلك نجد ان الكثير من النقاد قد اقتربوا من دريدا ولكنهم لم يستطيعوا التواصل معه لأن دريدا ببساطة محترق بنار الأسئلة حتى تلك المتعلقة بالوجود. ولكن الشيء المؤسف حقيقة أنه لا توجد لدينا مدارس نقدية تستطيع أن تستقطب أفكار جاك دريدا ولا حتى تيارات فكرية قادرة على تبني أفكاره».

أسلوب صعب

ومن جانبه يقول الكاتب عبدالله جناحي: «ان لدريدا أسلوباً صعباً ولكن في تصوري أن عدم دقة الترجمة كان له أثر سيئ في ذلك. وقد حدث من قبل أن اطلع المثقفون على كتاب «الواقعية بلا ضفاف» لـ «روجيه دوبريه» عندما ترجم الى اللغة العربية، ولكن من قرأ الكتاب بلغته الأم وهي الفرنسية اكتشف فرقا كبيرا بين الترجمتين.
يبقى مع ذلك أسلوب دريدا صعبا يحتاج الى اعمال الفكر والى الجهد في فهمه وان كانت لدريدا طريقته البارعة حين يكتب في فكرة التفكيك أو في تراكم وانتهاء دور المؤلف اذ يكثف أفكاره بعد نهاية كل فقرة في عبارة تلخص الفكرة كلها التي قد تكون غامضة بالنسبة لك فتكون بمثابة الاضاءة للفقرات الطويلة فهناك امكان للفهم ولكن مع ذلك لن نستطيع ان نتعامل مع دريدا بشكل سريع، فلدريدا اسهامه السخي في النقد في قضية التفكيك ففي الوقت الذي كنا فيه نتعامل مع النص وأحيانا مع الفقرات كان دريدا يعلمنا أننا قبل أن نفهم النص يمكننا تفكيك العنوان وحتى غلاف الكتاب لندخل في عمق الفكرة. فأنت عندما تقرأ النص ويكون حاضرا لديك المنهج التفكيكي تستطيع أن تفهم ما وراء الكلمات وذلك أمر يحتاج الى الاطلاع على معنى التفكيك وهو أمر قد كشف مدى قوة المفكرين العرب وخصوصاً المغربيين منهم الذين قاموا بتفكيك التراث الاسلامي وبذلك وصلوا الى نتائج خطيرة لم تصطدم مع بنية الحضارة الاسلامية وذلك يكشف عن أن منهج دريدا في التفكيك منهج صالح للاستخدام مع كل المناهج بخلاف مناهج كثيرة.

لا نسق يمكن فهمه

ويقول الروائي والناقد عبدالله خليفة "خلال الأربعة عقود الماضية وجدنا كتابات تتحدث عن جاك دريدا ولكننا لم نجد ترجمة لكتبه الى العربية فكل ما استطعنا التعرف عليه عن هذا الفيلسوف الفرنسي اكتشفناه من خلال تلخيصات بعض الباحثين لأفكاره فمن خلال المقتطفات من المجلات والكتب نجد أن التفكيكية جاءت بعد البنيوية والألسنية وبحسب المدرستين السابقتين فان الأنساق الموجودة في الألسنية غير موضوعية فقامت على نسفها البنيوية فهي تبحث عن أنساق معينة في الظواهر الابداعية وهي مقصورة على أنساق الحياة الاجتماعية اذ تأخذ الأدب مفصولا عن الحياة فأتى دريدا ليرفض وجود انساق داخل البنى الابداعية فلا يوجد نسق يمكن فهمه بحسب تصوره وهو لذلك يذهب للنص الأدبي المكتوب أو المجسم ليبحث ويفكك باستمرار ليطلع بجوانب أخرى وراء اللغة وليس علاقات ويعتبر أن النص يمكن أن يكون في اشارة المرور في نوتة موسيقية في علامة تجارية".
«جاك دريدا»... فكر سائل و«تفكيكية» عصية على التعليب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى