لا مكان ألوذ به من عورات النساء، إلا أن أعتصم بجبل موحش لا تسمع فيه لاغية.لقد أصبحت المدينة معرضا مترامي الأطراف، تعرض فيه النساء أجسادهن العارية، إلا من أثواب شفافة... كاشفة... واصفة، حتى المحتجبات صرن يكشفن عن عيون تشعل النار في الجليد.
ضحك صديقي حتى ظهرت نواجده:
- تتحمل مرارة العزلة في مكان قصي، على أن ترى النساء متبرجات.بينما الحل لا يقتضى هذه التضحية كلها.عليك فقط، أن تغض بصرك...
قاطعته ساخرا:
- هه... غض البصر! ذلك من رابع المستحيلات، أينما وليت وجهك، فثمة جسد عار يثير الفتنة،و يحرض على ارتكاب الفواحش.
- آه، مازلت كما انت، رجل يدعي أنه حمل عفيف، و ملاك طاهر، يبحث عن ضحية يضعها في قفص الاتهام، ليبرر انسياقه خلف نزواته المتوحشة. حتى عندما كانت المرأة مسجونة حلف ستار من حديد، كان الرجل يعتبرها شرا مستطيرا، و شيطانا آثما...
قبل أن يكمل صديقي حديثه، مرت أمامنا شابة في مقتبل العمر، جسدها شبه عار. اقتنصت المشهد لتعزيز موقفي:
- انظر إلى عريها المستفز. جسدها يناديك ( هيا قم، إن كنت رجلا اركبني الآن ) ألا تجد المشهد فيه الكثير من قلة الحياء.
- أنت الذي تحتل قارعة الشيطان...تحتلها عنوة، لتملأ عينيك بهذه المشاهد، لأنك تجد فيها متعة. تجري خلفها و تدينها. ألا تبا لكل فضيلة مفعمة بالنفاق. ألم تسمع بالحادثة الشنيعة التي وقعت في نهاية الأسبوع المنصرم. آه، نسيت كنتَ مسافرا. قبل أن أشرع في الحكي، يجب علي أن أحذرك أن القصة موجعة، يحتاج فيها السامع إلى قلب من صخر. و مع ذلك سأحكيها لك، ليس لتعزيز موقفي، بل لأمنحك زاوية أخرى للنظر، ربما تعيد النظر في هذه المواقف المتعالية. اسمع يا صديقي (الطاهر) قصة امرأة لم تغر أحدا،لكنها لم تسلم من الشهوة المنحطة للرجل:
أثار انتباهي شبه امرأة تقف على الرصيف. تخلى عنها الحظ ، و تكالبت عليها صروف الدهر. و قفت ساهمة ، تتأبط مجلد حزنها، و تلوك موال غربتها. تحدج المارة بعينين أشبه بعيني بقرة سقيمة. تغطي شعرها المنفوش بقبعة من الدُّوم. تستر جسدها النحيل الذي رمت به الظروف بين براثن الشيخوخة المبكرة بأسمال فقدت ألوانها.
تضاربت الروايات حول المكان الذي قدمت منه. زعم البعض أنها تسكن أحد أحياء الصفيح في المدينة المجاورة. و أكد آخرون أنهم شاهدوها في أحد الأسواق القريبة تبيع أشياء قديمة جمعتها من المزابل.لكن الجميع اتفق على أن قدومها شكل علامة فارقة في تاريخ تلك المدينة الصغيرة.
حنان !؟ هكذا بات الناس يسمونها. هادئة...ودودة...بشوشة.أصبحت جزءا من حكايات المدينة. تعبر الشارع وهي تحاور شخصا تراه،أو تحسه بجانبها.تتعب من الكلام. تتوقف. على صفحات مرآة تتخيلها في كفها،و من علبة مساحيق وهمية ، تضفي على وجها جمالا مزعوما. تلقي نظرة أخيرة إلى مرآة كفها. تلتفت إلى الشخص الذي كانت تحدثه،أو تحسه بجانبها:
- انظر...متع عينيك...ألست وسيمة ؟ ألست جديرة ...؟
تذرف دموعا تسيل في اتجاه فمها... تتجرع ملوحتها. ثم تجري إلى غير غاية كغزالة بلا قطيع،و لا مرعى. صارت حنان كثيرة القيء...تغيرت عاداتها في تناول الطعام... بات يلوح على وجهها قلق شديد،و تتصرف بعدوانية غامضة. تمر ببائع الفواكه الجافة...تطلب منه حبات لوز مرة... تقضمها متلهفة ، وتشرع في هرش جلدها حتى ينز الدم.
خلف هذا التغير المفاجئ علامات استفهام كبيرة لدى الناس. لم تتبدد إلا بعد أن شرع بطنها الضامر ينتفخ تدريجيا ، إلى أن كشف ثوبها الماحل عن تكور بطنها.تضغط عليه بكفيها. تحس الجنين يتحرك داخل رحمها. تدغدغها حركاته ، فتضحك ضحكات بريئة. - ما أصعب أن تتنكر لك الدنيا!فتسقط سقوطا تراجيديا بين مطرقة الملاجئ الصحية الشبيهة بالسجون،أو سندان الشارع بكل قسوته.
تعشق حنان الحمام.قضت الصباح كله في الساحة التي تتوسط المدينة مع أسرابه ، تقلده في هديله. صرخت حنان صرخة قوية.سقطت على الأرض تتلوى من الألم... داهمها وجع الطلق. نظرت إلى الحمام الذي عاد يهدل بجانبها،بعيون كسيرة مفعمة بالأسى. لم تعد تدري أتقلد هديله،أم تصيح من شدة المغص ؟
يوم مشهود. لن تنساه المدينة أبدا.لفرط ما انهمرت خلاله من دموع حارة. حرقت الخدود... صهرت القلوب...هزت الضمائر...و ضعت الناس جميعا عراة أمام مرآة بشاعتهم.
- الله !؟ الله !؟ أيوجد تحت سمائك رجل بهذه الخسة،و القذارة!؟ذئب جائع تمتد شهوته لبلهاء بريئة.أيكون قد ارتعش فوقها دون أن تميد به الأرض ؟ أتكون فهمت معنى أن يتأوَّه كلب مدنس على مداخل اللذة في جسدها المثخن بالجراح ؟
غرابة البشر لا حدود لها، و مفاجآته الصادمة لا حصر لها، و سعيه خلف الشهوة، جعله يبحث عنها في أماكن لا يتصورها العقل، و يعمل على جنيها بطرق مقززة. تارة يكون ضبعا يجدها في الجثث، و تارة تتصابى شهوته، و تنحدر به إلى الدرك الأسفل من الخسة، فيجعل من صبية موضوعا لنزواته،و أخرى يجنيها من جسد منهك، لا يؤشر شيء على أنه مازال حيا سوى حركاته البلهاء، التي لا معنى لها. صعب ، صعب على المرء أن يتحمل خواءنا الروحي، و التحلل المهول لقيمنا النبيلة. أحسست بالحرج. وددت لو كنت أنتمي إلى أي جنس في هذه الدنيا غير البشر.إذ كلما ارتقينا في سلم التطور، و الحضارة ، و حرصنا على تقديم صورة مشرقة عن أنفسنا ، إلا و طفا على السطح أصلنا الحيواني ، ليخدش تلك الصورة ، و يكشف زيفها ، و ما ترسب خلفها من همجية ، و وحشية لا تطاق. تمزقني الحيرة، إذ لا يمكنني أن أحسم إن كانت لعنة أصلنا المنحدر من أولئك القردة، هي التي تلاحقنا، لتذكرنا بماضينا السحيق، لأننا بتنا نعتقد أنفسنا كائنات متفوقة، لمجرد أننا نملك جلدا محلوقا، و نمشي بقامات منتصبة. أم ترانا ورثنا جينات جدنا قابيل، و صارت الجرائم النكراء جزء من شخصيتنا، و لم تفلح الديانات،و لا الأخلاق في تهذيبها، و نحن اليوم، نناضل بكل ما أوتينا من قوة كي تسود تلك الجينات المدنسة العالم، و تكون السمة الغالبة في طبع الأجيال القامة. أم أننا نبالغ في جلد أنفسنا، و نتطرف في تعميم الأحكام القاسية، لأن الأمر يتعلق بحالات شاذة، لسبب من الأسباب جنحت بسلوكها عن جادة الصواب. أم اننا صرنا رهينة لمزاعم النظريات التي تجرم الإنسان بالفطرة، و اتخذناها ذريعة، لكي نلوم الضحية، ونبرئ أنفسنا، و نشعر براحة الضمير إزاء ما تقترف أيدينا من بشاعة.
هل من رجل عارف جريء يمنحني جوابا يشفي غليلي... يبدد حيرتي... و ينتشلني من بين نيران الأسئلة الحارقة.
وددت لوْ أشهق شهقة واحدة،فتخرج روحي لتلتحق بخالقها. و أغيب عن هذا المشهد الذي يذبح القلوب، أو يبادرنا ربي بطوفان عظيم يطهر الأرض من قذارة البشر نهائيا.
تصيح حنان من شدة الوجع. تتلوى على الأرض.حفَّها الناس بثوب داكن لستر محنتها،أو ربما لإخفاء توسلاتها التي تدين الجميع...عشرات الهواتف تستغيث:
- ألو الشرطة...!؟ ألو الوقاية ..!؟ ألو المستشفى...!؟ ألو...؟ ألو...؟
الأفواه تستغيث،و العيون تنضح بالحزن ، و اليأس، وطاحونة الانتظار القاسية تحرق الأعصاب. في اللحظات العصيبة،كاللحظة التي نعيشها الآن، يضع المواطن نفسه في الميزان، فيكتشف كم هو رخيص بالنسبة للبلدان التي تعتبر الناس مجرد رعايا خلقوا ليهتفوا باسم الحاكم، و ليكونوا عبيدا تستنزف سواعدهم في الضيعات المترامية الأطراف، و في المصانع الضخمة، ليكتنز الأسياد الثروات الطائلة، و يشيدوا القصور الفاخرة. و عندما تنتهي الفاجعة، و يتفرق الجمع، سيحضر المسؤولون للتعبير عن أسفهم لوقوع هذا الحدث المزلزل، و ليدينوا الفاعل بأشد العبارات، و ليرفعوا، في الأخير، أكفهم إلى السماء لقراءة الفاتحة على الأرواح الزكية، التي أزهقت تحت أعين الجميع.ما أتعس الناس، ما أتعسهم!حين يكونون أضيع من الأيتام، في وطن اللئام!
أطلقت حنان صيحة رهيبة و صل دويها سهيلا، و السهى، بل تجاوز صداها سدرة المنتهي.أعقبتها صرخة ثانية. كان ثمرة هذه اللذة الملعونة توأمان سقطا غدرا في ساحة الحمام. خيم على الجميع صمت كثيف كدم الشهيد... ثقيل ككلمة الإخلاص. تناهت إلى مسامعنا دقات أجراس حزينة من كنائس بعيدة...سمع الجميع الآذان يرتفع في مساجد المدينة كلها.
ناء المشهد بكل ثقله على صدور الحاضرين. ارتفعت الحناجر بدعاء مخنوق ...ممزوج بالمرارة و الدموع.
حلقت فوق الرؤوس أجسام نورانية. حطت قرب الجثث الثلاث. كفنتها بأكفان ناصعة البياض.حنطتها بحنوط تفوح منه رائحة الفردوس. حملت الأجسام النورانية الجثث الثلاث، ثم اختفت خلف السحاب، و أذكار حزينة تساقط على ساحة الحمام من السماء.