من العيب أن لا يعرف الإنسان هذا الذي مات شهيدا لمتعة فكره، وربما يكون سقراط الفيلسوف الوحيد الذي يعرف الجميع اسمه على الأقل. أدين بتهمة محبته للحكمة، وأعدم بالسم. وفي لحظاته الأخيرة ظل مبتهجا بالحوار الفلسفي، يمد يده إلى قدح السم بمتعة، وكأنه يريد أن يتخلص من هذا العالم الذي تشعر فيه الفلسفة بالاغتراب.
هكذا كانت روح سقراط تعيش متعة الغاية من خلال دفاعه بشراسة عن الفلسفة، وبمكر وتهكم على آرائه، ويقضي الواجب أن نعترف بأن أثينا حين أعدمت سقراط، فإنها قامت بإعدام الجسد ولم تستطع نسف آراء الفيلسوف، التي استمرت في روح أفلاطون وأرسطو وغيرهما. لأن خير الآراء هي دوما علة لأعظم فلسفة، وهل هناك فلسفة أعظم من فلسفة سقراط التي أبدعت صناعة الفضيلة؟ وما هي الشروط التي تتطلبها الفضيلة من الإنسان؛ هل هي الطبع، أم التحلق، أم العقل؟
إذا كان الإنسان وحده قد امتلك العقل، وهو أعمق نعمة في الوجود، فمن الضروري أن يحيا فاضلا بعقله يغاير تلك التوجهات السيئة للطبع والعادات، لأن من الصفات الغريزية ما تنحو به العادة، إما نحو السوء وإما نحو الخير، والعقل يبقى هو المكيال الذي يميز الخير عن الشر. بيد أن العقل يكتسب بالتهذيب والمعرفة، إنه اللوغوس الذي يشكل حقيقة الإنسان، فالابتعاد عنه معناه الابتعاد عن الحقيقة، من حيث هي انكشاف لصورة حقيقة المعرفة عندما تستقر في النفس، ولذلك فإن سقراط كان يولد النفوس العارفة، وينقذها من التخدير السوفسطائي، الذي يسعى إلى اصطيادها بواسطة الخطاف، وربما كان هذا الصراع الشرس بين من يريد أن يحرر النفوس من الجهل وفتح متعة المعرفة أمامها باعتبارها خيرا، وبين من يسعى إلى تغييب إدراكها والحكم عليها بالنوم في الأحزان مدى الحياة، إنها لعبة بين اللوغوس وثورة الفلسفة، التي واجهتها حملة آلة الدولة والخطباء الذين يستمدون سلطتهم من الاستبداد والسماء، ولعل هذا هو الحاجز الذي يحول بين الإنسان وعلاقة الوجود بماهية الإنسان منذ سقراط وإلى يومنا هذا.
يمر الزمان ويظل مصير الإنسان معلقا بين السماء والأرض. براديغم الجهل يضطهد براديغم المعرفة، وتتهيأ جلسات محاكم العقل التي تضمن للدول الفاسدة أوفر قدرا من الاطمئنان، والفيلسوف مرغوب فيه لا لذاته، ولكن لأنه المحرض على المعرفة واختيار طريق السعادة، باعتباره طبيبا للفضيلة، ومن ثم فإنه الناطق الرسمي باسمها: «لأن الحياة الفاضلة تعوزها بعض المؤن؛ فمن طاب مزاجه قلت حاجته إلى تلك المؤن؛ ومن فسد مزاجه، كثرت حاجته إليها. وأن البعض مع اقتدارهم على بلوغ السعادة يسيئون طلبها منذ أول وهلة، ولكن بما أن غايتنا لا يمكن أن تتجاوز حدود الإقامة الممتعة في الفلسفة، وبما أن خير إقامة هي التي تضمن للإنسان الفاضل أكبر شطر من السعادة، فإنه ينبغي أن لا تخفى علينا ماهية السعادة. هكذا وجدنا أنفسنا قد ألقي بنا في الجوهر الحميم لماهية الحقيقة، باعتبارها انكشافا للسعادة، التي لا تأتي إلا حين تكون مصحوبة برفاقها: العقل، والحكمة والفضيلة. فما هو يا ترى هذا القدر اللذيذ الذي اختاره سقراط لاتباعه؟ وأي مائدة هذه التي يدعونا إليها؟ هل من أجل الحوار؟ أم بغية الموت دفاعا عن متعة الفلسفة؟
في ظل هذا الانشطار الناعم الذي تتلقاه النفس من دروس سقراط، التي أخذتها من ضياء الشمس وعممتها على الفطر الفائقة، يجب الاعتراف أنه بمجرد ما نبدأ في السير في أزقة سقراط، يتضح أمامنا الطريق المؤدي إلى السعادة، ذلك: «أن السعادة عمل الفضيلة واستخدام لها استخداما كاملا، مطلقا لا مقيدا، وأعني بما هو مقيد الأمور الضرورية؛ وبما هو مطلق، ما يجمل عمله». ولذلك فإن احتلال النفس لموقع مثالي يعود إلى يد الأقدار، وأما اكتسابها للفضيلة، فليس من صنع الأقدار وإنما من صنع المعرفة والإرادة الحرة، لأنه لا أحد يختار الفضيلة مجبرا، ولكنه يختار الرداءة عن طواعية: «لأن الرجل الفاضل يكون سعيدا، إذا توفرت له بواسطة الفضيلة الخيرات التي هي خيرات مجردة، وجلي أن استخدام تلك الخيرات، يجب أن يكون ضرورة استخدامها فاضلا وجميلا على وجه الإطلاق. ولذا، يظن الناس أن الخيرات الخارجية هي سبب السعادة، كما لو عزي العزف الرائق البهي على القيثار إلى الآلة، قبل أن يعزى إلى الفنون، لعل الفن الذي يقترحه علينا سقراط في جل محاورته هو فن صياغة الأسئلة، لأن طرح الأسئلة أمر عظيم الأهمية للنفس، سواء مع ذاتها، أو مع غيرها: «إذا كان يعتقد أن السبب الذي يجعل الإنسان يرتكب الخطيئة هو افتقاره إلى المعرفة، ولو عرف لما ارتكبها. فالسبب الأول للشر هو الجهل، ولكي نصل إلى الخير لابد لنا من اكتساب المعرفة، ومن ثم فالخير هو المعرفة». والمبدأ الأساسي في المعرفة هو الاعتراف بأن ما نعرفه هو أننا لا نعرف شيئا، وهذا هو شعار المذهب السقراطي، لأن الجاهل الحقيقي هو الذي يجهل بأنه جاهل، أما الذي يعترف أمام الحقيقة بأنه لا يعرف شيئا، فإنه يكون غير بعيد عن المعرفة، وحين ندرك ذلك عن وعي يحق لنا القول إننا لا نعرف شيئا.
هكذا سننجو من سخرية وتهكم سقراط، ومن المحتمل أن يفتح أمامنا باب مدينة الحكمة، على الرغم من أننا نسير بخطى بطيئة، لعدم توفرنا على الشجاعة التي كان يتميز بها: «كان سقراط رجلا غير هياب، في الحرب والسلم على السواء، وظل على هذا النحو حتى ساعة موته» والسبب في موته أنه كشف للناس جهلهم، وقد جلب لنفسه عداوة الكثيرين، لأنه استطاع أن يقتحم ماهية الابتهاج بواسطة أدوات محبة الحكمة التي علمته أن: «الحياة مع أناس أخيار أفضل من العيش مع الأشرار»، ولذلك فإن متعة الفلسفة لها ثمن باهظ وهو التضحية بالحياة.
ولا نملك إلا أن نستغرب من هذا الرجل الذي وهب حياته من أجل الحفاظ على حياة عاشقته، فهل تستحق هذه العاشقة المتمردة كل هذه التضحية؟ ومن الذي علمها أن تصبح مدللة تهاجر في المساء كلما شعرت بالاغتراب؟ فهل ورث قلق بارميندس الذي فشل في البرهنة على أن الوجود موجود، واللاوجود غير موجود؟، ومتى تحولت الفلسفة إلى عدوة مضطهدة من قبل السياسة؟ ولمن تكون الفلسفة متعة؟
والحال أن سقراط ظل يتهكم منا رغم موته، لأننا ننسى أننا مجرد مسافرين ننتظر السفينة التي ستنقلنا إلى لجة العدم، وربما يكون هذا هو السبب في مأساتنا، التي انبثقت عندما أصبح الحكيم مذنبا، وحكم عليه بالإعدام لأنه يدافع عن أوفر الأعمال حظا من البراءة، ويحتقر فن اقتناء نفوس البشر بعد تخديرهم، هكذا يتحول الوعي بالذات إلى تهمة تؤدي بصاحبها إلى الإعدام. بيد أن سقراط لم يكن يخاف الموت: «لأنه إما أن يكون نوما بلا أحلام، وإما أن يكون حياة في عالم آخر يستطيع فيه أن يتحدث بحرية مع العظماء»، ويعشق الفلسفة بدون أن يخاطر بحياته، لأنه في ذلك العالم لا يمكن أن يكون جزاء من يطرح الأسئلة هو الإعدام بل سينعم بالدعة والطمأنينة، باعتبارهما جوهر محبة الحكمة. فما الذي كان سيحدث لو أن سقراط هرب من السجن ولم يعدم بالسم؟ لماذا كل هذه الشجاعة التي تحولت إلى تهور وجنون بعشقه للفلسفة؟ ألم يكن غياب الفيلسوف قد أغرق الفلسفة في الاغتراب، تاركا إياها مهجورة وبعيدة عن ماهية الإنسان؟
٭ كاتب مغربي
هكذا كانت روح سقراط تعيش متعة الغاية من خلال دفاعه بشراسة عن الفلسفة، وبمكر وتهكم على آرائه، ويقضي الواجب أن نعترف بأن أثينا حين أعدمت سقراط، فإنها قامت بإعدام الجسد ولم تستطع نسف آراء الفيلسوف، التي استمرت في روح أفلاطون وأرسطو وغيرهما. لأن خير الآراء هي دوما علة لأعظم فلسفة، وهل هناك فلسفة أعظم من فلسفة سقراط التي أبدعت صناعة الفضيلة؟ وما هي الشروط التي تتطلبها الفضيلة من الإنسان؛ هل هي الطبع، أم التحلق، أم العقل؟
إذا كان الإنسان وحده قد امتلك العقل، وهو أعمق نعمة في الوجود، فمن الضروري أن يحيا فاضلا بعقله يغاير تلك التوجهات السيئة للطبع والعادات، لأن من الصفات الغريزية ما تنحو به العادة، إما نحو السوء وإما نحو الخير، والعقل يبقى هو المكيال الذي يميز الخير عن الشر. بيد أن العقل يكتسب بالتهذيب والمعرفة، إنه اللوغوس الذي يشكل حقيقة الإنسان، فالابتعاد عنه معناه الابتعاد عن الحقيقة، من حيث هي انكشاف لصورة حقيقة المعرفة عندما تستقر في النفس، ولذلك فإن سقراط كان يولد النفوس العارفة، وينقذها من التخدير السوفسطائي، الذي يسعى إلى اصطيادها بواسطة الخطاف، وربما كان هذا الصراع الشرس بين من يريد أن يحرر النفوس من الجهل وفتح متعة المعرفة أمامها باعتبارها خيرا، وبين من يسعى إلى تغييب إدراكها والحكم عليها بالنوم في الأحزان مدى الحياة، إنها لعبة بين اللوغوس وثورة الفلسفة، التي واجهتها حملة آلة الدولة والخطباء الذين يستمدون سلطتهم من الاستبداد والسماء، ولعل هذا هو الحاجز الذي يحول بين الإنسان وعلاقة الوجود بماهية الإنسان منذ سقراط وإلى يومنا هذا.
يمر الزمان ويظل مصير الإنسان معلقا بين السماء والأرض. براديغم الجهل يضطهد براديغم المعرفة، وتتهيأ جلسات محاكم العقل التي تضمن للدول الفاسدة أوفر قدرا من الاطمئنان، والفيلسوف مرغوب فيه لا لذاته، ولكن لأنه المحرض على المعرفة واختيار طريق السعادة، باعتباره طبيبا للفضيلة، ومن ثم فإنه الناطق الرسمي باسمها: «لأن الحياة الفاضلة تعوزها بعض المؤن؛ فمن طاب مزاجه قلت حاجته إلى تلك المؤن؛ ومن فسد مزاجه، كثرت حاجته إليها. وأن البعض مع اقتدارهم على بلوغ السعادة يسيئون طلبها منذ أول وهلة، ولكن بما أن غايتنا لا يمكن أن تتجاوز حدود الإقامة الممتعة في الفلسفة، وبما أن خير إقامة هي التي تضمن للإنسان الفاضل أكبر شطر من السعادة، فإنه ينبغي أن لا تخفى علينا ماهية السعادة. هكذا وجدنا أنفسنا قد ألقي بنا في الجوهر الحميم لماهية الحقيقة، باعتبارها انكشافا للسعادة، التي لا تأتي إلا حين تكون مصحوبة برفاقها: العقل، والحكمة والفضيلة. فما هو يا ترى هذا القدر اللذيذ الذي اختاره سقراط لاتباعه؟ وأي مائدة هذه التي يدعونا إليها؟ هل من أجل الحوار؟ أم بغية الموت دفاعا عن متعة الفلسفة؟
في ظل هذا الانشطار الناعم الذي تتلقاه النفس من دروس سقراط، التي أخذتها من ضياء الشمس وعممتها على الفطر الفائقة، يجب الاعتراف أنه بمجرد ما نبدأ في السير في أزقة سقراط، يتضح أمامنا الطريق المؤدي إلى السعادة، ذلك: «أن السعادة عمل الفضيلة واستخدام لها استخداما كاملا، مطلقا لا مقيدا، وأعني بما هو مقيد الأمور الضرورية؛ وبما هو مطلق، ما يجمل عمله». ولذلك فإن احتلال النفس لموقع مثالي يعود إلى يد الأقدار، وأما اكتسابها للفضيلة، فليس من صنع الأقدار وإنما من صنع المعرفة والإرادة الحرة، لأنه لا أحد يختار الفضيلة مجبرا، ولكنه يختار الرداءة عن طواعية: «لأن الرجل الفاضل يكون سعيدا، إذا توفرت له بواسطة الفضيلة الخيرات التي هي خيرات مجردة، وجلي أن استخدام تلك الخيرات، يجب أن يكون ضرورة استخدامها فاضلا وجميلا على وجه الإطلاق. ولذا، يظن الناس أن الخيرات الخارجية هي سبب السعادة، كما لو عزي العزف الرائق البهي على القيثار إلى الآلة، قبل أن يعزى إلى الفنون، لعل الفن الذي يقترحه علينا سقراط في جل محاورته هو فن صياغة الأسئلة، لأن طرح الأسئلة أمر عظيم الأهمية للنفس، سواء مع ذاتها، أو مع غيرها: «إذا كان يعتقد أن السبب الذي يجعل الإنسان يرتكب الخطيئة هو افتقاره إلى المعرفة، ولو عرف لما ارتكبها. فالسبب الأول للشر هو الجهل، ولكي نصل إلى الخير لابد لنا من اكتساب المعرفة، ومن ثم فالخير هو المعرفة». والمبدأ الأساسي في المعرفة هو الاعتراف بأن ما نعرفه هو أننا لا نعرف شيئا، وهذا هو شعار المذهب السقراطي، لأن الجاهل الحقيقي هو الذي يجهل بأنه جاهل، أما الذي يعترف أمام الحقيقة بأنه لا يعرف شيئا، فإنه يكون غير بعيد عن المعرفة، وحين ندرك ذلك عن وعي يحق لنا القول إننا لا نعرف شيئا.
هكذا سننجو من سخرية وتهكم سقراط، ومن المحتمل أن يفتح أمامنا باب مدينة الحكمة، على الرغم من أننا نسير بخطى بطيئة، لعدم توفرنا على الشجاعة التي كان يتميز بها: «كان سقراط رجلا غير هياب، في الحرب والسلم على السواء، وظل على هذا النحو حتى ساعة موته» والسبب في موته أنه كشف للناس جهلهم، وقد جلب لنفسه عداوة الكثيرين، لأنه استطاع أن يقتحم ماهية الابتهاج بواسطة أدوات محبة الحكمة التي علمته أن: «الحياة مع أناس أخيار أفضل من العيش مع الأشرار»، ولذلك فإن متعة الفلسفة لها ثمن باهظ وهو التضحية بالحياة.
ولا نملك إلا أن نستغرب من هذا الرجل الذي وهب حياته من أجل الحفاظ على حياة عاشقته، فهل تستحق هذه العاشقة المتمردة كل هذه التضحية؟ ومن الذي علمها أن تصبح مدللة تهاجر في المساء كلما شعرت بالاغتراب؟ فهل ورث قلق بارميندس الذي فشل في البرهنة على أن الوجود موجود، واللاوجود غير موجود؟، ومتى تحولت الفلسفة إلى عدوة مضطهدة من قبل السياسة؟ ولمن تكون الفلسفة متعة؟
والحال أن سقراط ظل يتهكم منا رغم موته، لأننا ننسى أننا مجرد مسافرين ننتظر السفينة التي ستنقلنا إلى لجة العدم، وربما يكون هذا هو السبب في مأساتنا، التي انبثقت عندما أصبح الحكيم مذنبا، وحكم عليه بالإعدام لأنه يدافع عن أوفر الأعمال حظا من البراءة، ويحتقر فن اقتناء نفوس البشر بعد تخديرهم، هكذا يتحول الوعي بالذات إلى تهمة تؤدي بصاحبها إلى الإعدام. بيد أن سقراط لم يكن يخاف الموت: «لأنه إما أن يكون نوما بلا أحلام، وإما أن يكون حياة في عالم آخر يستطيع فيه أن يتحدث بحرية مع العظماء»، ويعشق الفلسفة بدون أن يخاطر بحياته، لأنه في ذلك العالم لا يمكن أن يكون جزاء من يطرح الأسئلة هو الإعدام بل سينعم بالدعة والطمأنينة، باعتبارهما جوهر محبة الحكمة. فما الذي كان سيحدث لو أن سقراط هرب من السجن ولم يعدم بالسم؟ لماذا كل هذه الشجاعة التي تحولت إلى تهور وجنون بعشقه للفلسفة؟ ألم يكن غياب الفيلسوف قد أغرق الفلسفة في الاغتراب، تاركا إياها مهجورة وبعيدة عن ماهية الإنسان؟
٭ كاتب مغربي