نورالدين عزيزة - أَلْعَنُ الظَّلامَ وَأَتَسَلَّقُ شَمْعَة.. شعر

إلى روح الثّائر العربي الليبي، عُمَر المُختار



1
أَيَّتُها الغُرْبَةُ يا جَسَدي..
قَدْ تَخبُو النُّجُومُ الحُمْرُ سَرَاباً..
تَخْرَبُ يَوْمًا خَرَاباَ.. تَخْوَى خَواء.. تَنْطَفِي
جَذْوَتُها.. تَخْتَفِي تَفنَى.. فَنَاء…
إِنَّما.. إِنَّما لا يَغْرُبُ عُصفُورٌ في صَحارينا هَذِه الخَضْراءِ ولا يَنْحني صَوتُهُ
في صَحارينا الخَضْراء
هَلْ يغرُبُ صَوْتٌ يَرفَعُ تَوقَ الأَصَابِع رَايَهْ
ويُغَنِّي أحْلامَ الخَلاياَ أعلَى غِناء.. يَقُولُ :
اِنْتَسِبْ يا وَطَني يَغْبِطْكَ الطَّيرْ
جَمِّعْ أَنهارَكَ يا وَطَني يَرْهَبْكَ البَحرْ

√ √ √

أيتُها الغُربَةُ يا وَطَني.. مِنْ أَيْنَ تَفُورين؟!
كُلَّما قُلْتُ دُسْتُ عَلى قَلَقي تَخْرُجينَ كَما يَخْرُجُ المِلْحُ في عَرَقي
يا قِصَصاً مُدْهِشَةً تُرْوَى وَقِصَصْ
نَحْنُ الماءُ وَنَحْنُ الظَّمَـا
نَحْنُ هذا الشِّتاءُ وَهَذَا الصَّيْف
نَحْنُ الكَهْفُ وَأهلُ الكَهْف
فَمَنْ.. ما.. ومَنْ.. ما وَما.. مَنْ.. أُقاتِل؟!
هذا جَسَدي المَقْرورُ دِماءٌ.. وَسَعَالٍ تَمْتَصُّ
وَتَمتَصُّ وَتَمتَصّ
ولِصٌّ مُنتَظِرٌ في ظَهْرِ لِصْ..
وطَنٌ.. مِن أَرْوَعِ أوْطانِ الأرض
ومِقَصٌّ وَمِقَصٌّ وَمِقَصٌّ مِنْ أَحْدَثِ آلاَتِ القَصْ
يا قِصَصاً تُرْوَى.. وقِصَصْ
يا قَطِيعَ خَرَائِطَ، يا أشْباهَ حُدودٍ، وَأَشباهَ حُرَّاسِ حُدُود
وَفضَاءٌ دونَ فَضَاءٍ.. وَهواءٌ دونَ هَواءْ
وجُيوشَ أَوامِرَ سُلْطانيّهْ
بَيْنَ سِيَاجاتِها العالِيَةِ الوَطِيَّهْ
نَحْنُ الأَهلُ والغُرَباء
أيُّها اللُّغزُ.. يا وَطَني..
لا غُرْبةَ في هذا العَصْرِ إلاَّ غُربةٌ عَرَبِيَّهْ

2
طَرَابُلسُ.. إِنِّي أَعُودُ وَهَذي العَصَافيرُ تَغْزو سَماءَكِ
في ساعَةٍ كَاسِدَهْ
فَبَعْضٌ حَنِينٌ إِلَيْكِ، وبَعْضٌ هَشيمٌ، وَبَعْضٌ عَنيدٌ حَديد
وَبَعْضٌ تَحاشَتْهُ كُلُّ الفَرَاشاتِ.. فَهْوَ سِرَاجٌ وَحيد
وَبَعْضٌ تَعَدَّتْ عَلَيْهِ كِلاَبٌ
وَبَعْضٌ تَعَدَّتْ عَلَيْهِ دُمًى وَقُرود
وبَعْضٌ أَصابِعُهُ في الهَواءِ ولاَ يَستَطيعُ حَرَاكا
فَحَتَّى الهَواءُ.. قُيودٌ هُنَا.. وَسُدُودٌ هُناكَ
طرابُلسُ.. اَلشَّمْسُ ساطِعَةٌ في رِحابِ السَّماء
وَفي جَسَدي يَسْتَحِمُّ الجَليد..
طرابُلسُ.. يا فَرَسًا عَرَبِيَّا..
أَيَا عُمَرٌ عاشَرَتْهُ أعزُّ الخَنادِق
وقد حاصَرَتْهُ أَلدُّ البَنادِقِ.. عادَتْهُ كُلُّ المَشَانِق..
وَلم يُلْقِ يَومًا سِلاَحَ القَضِيَّهْ

√ √ √

طَرابُلسُ إِنِّي أَعُودُ.. وَقَدْ عَلَّمَتْنِي الجِرَاحُ التي تَعْرِفينَ جَميعَ الجِرَاحْ
أعُودُ وَفِي القَلبِ خَفْقٌ صياحٌ.. رِياحٌ.. بِحارٌ وبِيدْ
ولكِنَّهُ دائِمًا مِثْلما تَعْرِفين يُؤَرِّقُهُ العِشْقُ وَالكِبْرياء
وَيَسْكُنُهُ كلُّ حُلْمٍ بعيدْ
يُهَدِّمُهُ كُلَّ يَوْمٍ مَساءٌ وَيَبْعَثُهُ كُلَّ يَوْمٍ صَباحٌ جَديدْ

3
غَرِيبانِ نَحْنُ.. غَريبَانِ حَتَّى النُّخَاع..
بأَرْضِ الخَوارقِ والمُعجِزَات
غَريبَانِ حَتَّى دُخُولِ الحَياةِ مَسَاءً وَجَهلِ جَميعِ مَفاتيحِها
في الصَّباح
وَكَمْ مِنْ زعيمٍ لَدينا نَبِيْ!..
وَكَمْ مِنْ زَعيمٍ إلَهْ!
سَميعٌ، عَليمٌ، بَصيرٌ، قَديرٌ على أَنْ يُغَيِّرَ في لَحْظَةٍ كُلَّ شيْ
وما حَولَهُ حَشَراتٌ أليفَة
فَلاَ عِلْمَ إِلاَّ الَّذي يَعلَمُ..
وَلا رسْمَ إلاَّ الَّذي يَرْسُمُ..
وَلاَ أَكْلَ، لاَ شُرْبَ، لاَ جِنْسَ، لاَ سِلْمَ، لاَ حَرْبَ،
إلاَّ الَّذي يَزْعَمُ
غَريبانِ نَحْنُ.. وَهُمْ طينةٌ وَاحِدَهْ
إذا غَنِمُوا غَنِمُوا كُلَّ شَيْ
وَإِنْ عَدِمُوا عَدِمُوا كُلَّ شَيْ
وَلاَ أَحَدٌ مِنْهُـمُ سَيَّجَ المُدُنَ
ولاَ خانَ يَوْماً عُهُودًا ولا وَطَناَ
وَلاَ مَسَخَ السُّفُنَ المُبْحِراتِ، فَكانَتْ ضِفَافًا
ولاَ أَعْدَمَ الطَّائِرَ في عُشِّهِ
ولاَ خَنَقَ الزَّهَراتِِ النَّديَّهْ
وَلاَ هُوَ أَطعَمَ ليلَ دَهاليزِهِ حُلُمَ الأَبْجَدِيَّهْ

√ √ √

.. وَهُمْ كلُّهُمْ طينَةٌ واحِدَة
يَنامُونَ في دَعَةٍ سادِرينَ، وَهلْ علِمُوا أَنَّ هَذا الهَواءَ الذي يَنْعَمُونَ وَيستَنْشِقُونَ، يمُرُّ وَلاَ يَنْعَمُونَ وَلاَ يَنْشَقُونَ، وَهَذا الفَضَاءَ الَّذي يَعبُرُونَ يَضيقُ ويَمتَدُّ كَيفَ يَشاءُ وَلاَ يَعبُرُونَ، وهَذِي البِحَارَ التي يَرْكَبُونَ ولاَ يَرْكَبُون، وَهَذا المُكَيِّفَ، هَذا السِّلاحَ المُزَيَّفَ، هَذِي اليَدَ الزَّائفَهْ..
غَزَتْ أَرْضَنا، مَلأَتْ بَيتَنا، عَشَّشَتْ في
دَقَائِقِنا الوَاقِفَهْ
وَصارَتْ هِيَ الأَهْلُ والمَاءُ في دَارِنَا وَالهَوَاء
وَنَحْنُ غَدَونَا بِها الغُرَبَاء
نُدَخِّنُ دُخَّانَ ”كَانَتْ“ وَنَقْرَأُ ”كَانَتْ“ وَنَرْقُدُ ”كَانَتْ“ ونَعْلُكُ ” كَانَ وكَانَت “
وَفي لَحْظَةٍ بَرْبَرِيّه
يُفَاجِئِنَا جُنْدُ ” كَانَتْ “
يُحيُّونَ مَا فِي رِبَاطَاتِنَا من خُيُولٍ أَبِيَّهْ
خُيُولٍ تغَذَّتْ عَلَى غَزَوَاتِ الضُّحَى والعَشِيَّهْ
يُحَيُّونَ فُرْسانَنَا عِنْدَ سَاحَتِنا النَّوَوِيَّهْ
أَذَلَّ تَحِيَّهْ
يَهُدُّونَ بُنْيَانَنَا مِنْ وَراءٍ.. يَهُدُّونَهُ مِنْ أَمامْ
يَمُرُّونَ مَرَّ الكِرَام اللِّئَام
فَنَجلِسُ نَجلِسُ نَجلِسُ في مَطْبَخِ الجلَسَاتِ الخَفيّةِ والعَلَنيّهْ
صَبَاحَ مَسَاءْ
وَنَدْعُو إِلَى هَذِهِ الجَلَسَاتِ وَنَدْعُو لَهَا
وَنُغْرِقُها نُكَتًا مَالِحَهْ
بِكُلِّ شَهِيَّهْ
وَهَلْ يَثلُجُ الصَّدْرُ إِلاَّ بِأُمِّ الكبائِرِ، دَرْدَشَةٍ أُمَمِيَّة‍‼ ‍‍‍‍‍‍
يُفاجِئُنَا جُنْدُ ”كَانَتْ“.. يُحيُّونَ فِينَا بِلاَ أَدَبٍ
نَخْوَةً عَرَبِيَّهْ
وَنَرْهَبُ نَرْهَبُ مِنْ رَدِّ حَتَّى التَّحِيَّهْ
غَرِيبَانِ نَحْنُ.. وأَيُّ بلِيَّهْ
غَريبَانِ حَتَّى غَدَتْ أيُّها غُرْبةٍ عَرَبيّة

4
طَرابُلْسُ .. إِنِّي أَعُودُ وَقَلْبي الجَرِيحُ يَعُودُ يَجُرُّ
جِراحاً أُخَرْ
وَلَكِنَّهُ لاَ يَزَالُ بِرَغْمِ جَميعِ الجِرَاحِ الّذِي تَعْرِفِينَ وَلاَ
تَعْرِفِين، يُحِبُّ السَّفَرْ
وَيَعْشَقُ.. هَلْ تَذْكُرِينَ، فَتَاةً بَهِيَّهْ
لَهَا رَعْشَةُ العَاصِفَهْ
وَطَعْمُ الضُّحَى وَشُجُونُ العَشِيَّهْ
تُحِبُّ الصِّغَارَ، وَتَعْشَقُ مِثْلِي السَّفَرْ
وَتَهْوَى الهَوَاءَ طَلِيقاَ
ويُسْعِدُهَا أَنْ تَظَلَّ فَضَاءً سَحِيقاً.. سَحِيقاً..
وَبَحْرًا وَبَرْ
وَتُنْشِدُ تُنْشِدُ حَتَّى انْهِمَارِ المَطَرْ
وَحَتَّى اخْضِرَارِ الصَّحَاري
وَتُنْشِدُ.. تُنْشِدُ.. خَارِجَ كُلِّ مَدارِ..
إذَا الشَّعبُ يومًا أَرَادَ الحَيَاةَ فلاَ بدّ أنْ يستَجيبَ القدرْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
أنشِدت في مهرجان يونيو للأدب المقاتل الذي انتظم بطرابلس بالجماهيرية العربية الليبيّة 24 - 28 جوان1981م
ونُشِـرتْ بجريدة الرأي العـام الكويتيّة العدد 6782 بتاريخ 3 – 10 – 1982م.

(فِي رِحَابِ اللَّيْلِ المُزْمِن، تليه الكوريدا أو أسماء أخرى للموت واسم للحياة، تونس 2004م ؛ ص 21 - 34)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى