كانت طلائع الظلام تزحف على ما تبقى من فلول ضوء النهار، فبدت كتنين عملاق يبتلع بيضة عظيمة، و كنت جالسا في جوف بيتي القصديري السقف، بيتي الذي يجاور الخواء، و يطل من خلال نوافذه على صمت سميك. كل الأصوات التي تجرؤ على اختراقه تتناهى إلى مسامعي عواء ذئاب ساغبة تتأهب لملاحقة طريدة شريدة.في إحدى الزوايا المسكونة بالألم...و الكآبة ، تنتصب شمعة تحاول عبثا محو العتمة التي تتساقط داخل البيت كسفا داجية تشذر ضوءها الباهت إلى بقع متنائية، فيتحول الليل إلى ضيف ثقيل، و وحش مرعب يقتات على وجع قلبي... يلتهم ما تبقى فيه من أقراص نور، ثم يبصقها نقطا سوداء في كل أعماقي. من السقف تتدلى عناكب سوداء في استعراض بهلواني مستفز، بينما أخرى تتراكض على الجدران...تمعن النظر في وجهي المتعب...تتهامس فيما بينها كأنها تدبر مكيدة ما. في الخارج جدجد يثقب طبلة أذني بصوته الحاد، المتواصل. و خفاش يرتطم بزجاج النافذة مصرا على أن يلفت انتباهي إلى وجهه الدميم.
كنت جالسا أتأملني،و عيون الليل الداجي تراقبني، و مستنقع الصمت يغمرني كليا. كم أنا ضئيل و تافه في عمق هذا الخواء السحيق، الذي يقذفني في أحراش عزلة لامتناهية؟ وكم هو هذا البيت اللعين بارد...موحش...و مُعَادٍ. أأحرقه و أصعد الثلة.. أتفرج عليه و أقرأ أشعار هوميروس في إحراق طروادة؟
يا إلهي الرحيم..
أنا عبدك الضعيف الذي طوحت به،فتلقفه هذا الخواء.
افرغ علي صبرا أستعين به على آلام وحدتي.
و امنحني إقداما يحررني من هذا الخوف الذي يسكن دواخلي.
و اجعل لي آية أهتدي بها في وحشة هذا التيه.
بعد هذا الابتهال، غمرني شعور بالراحة. لكنه لم يكن سوى إحساس مؤقت، فالمتوحد يعيش الصراع الأبدي بين ذاته،و نفسه. كلما أطفأ نار الحرب بينهما أشعلت فتيلها الذات. كلما صب الماء على جذوة الجدال العنيف أطلقت شرارته النفس. من أعماقي المغمورة بالصمت، و الظلام، يأتيني صوت جارح كالسهام:
- لن تنفعك ابتهالاتك مهما عظمت.العزلة مسخ من كائن اجتماعي إلى جرد لا يتقن إلا العيش في السراديب و الأنفاق. و حبائلها ستخنقك، و تشل فيك كل وظائف الحياة،فتصير كتلة لحم نخرة.اقرأ ما شئت من هذه الكتب،الملعونة منها،أو المباركة، التي يرضى عنها أسيادك من سدنة الفكر، أو التي لا يرضون عنها. كل هذا لن يجديك نفعا، حتى مذياعك هذا الذي لم تشغله لأسابيع، لن يشعرك بالأنس أبدا.
هبت علي نسائمها. زارني طيفها. آه لو كانت معي! لتألقت عيناها الساحرتان...لطردت العتمة من رحاب بيتي...لضمتني إلى صدرها و دفأت جسدي المقرور...لملأت علي الدنيا و بددت وحشتي. لا أمان إلا عند شواطئها الدافئة. كيف السبيل إلى سواحلها
المضمخة بعطر جسدها، و بحار من الصمت،و السواد تمنع وصالنا؟
ترددت في استعمال المذياع خوفا من أن يزيدني عذابا على عذاباتي المزمنة.و مع ذلك لم أستطع أن أقاوم الفكرة.فجاءني صوت المذيعة ثقيلا كالرصاص:
- إسرائيل تقصف غزة بكل أسلحة الموت، و القادة العرب يختلفون عن تاريخ و مكان القمة لـ ...؟
خبر ولد في أعماقي شعورا، هو خليط من الرغبة في الضحك الممزوج بالعويل، و طرح الأسئلة:
- كيف لهؤلاء الأقزام الذين تحركهم أياد معروفة من الخلف كعرائس بئيسة؟ كيف لهم أن يفيدوا الشعب...؟بعضهم قادته الصدف إلى سدة الحكم، و بعضهم ورثة بائسون لكيانات منهوكة، و مرهونة لغير شعوبها...ورثوا معها جنون نيرون، و سيف الحجاج... يستوزرون وزراء يتبارون في رفع أسوار المعتقلات... يتفانون في نصب المقاصل.
حاصرتني أجواء البيت الكئيبة...ضغطت على أعصابي بشدة بالغة..لم أعد أتحمل الجلوس في جوفه الدامس...ترجلت...وقفت ببابه...رفعت عيني إلى السماء.كان القمر هناك في كبدها متعبا...أمعنت فيه النظر...همست:
- أنا لا أحبه هكذا مكورا...أريده على شكل امرأة أو بندقية.