سمعتُ أول مرة بقضية الشيخ علي يوسف من الأستاذ "حافظ إبراهيم" مدرّس مادة العلوم الطبيعية في الصف الثالث الثانوي بمدرسة "المتنبي" في مدينة إدلب في الشمال السوري مطلع ثمانينيات القرن العشرين. كان يتحفنا في الدقائق القليلة بين فقرات درس العلوم بأبيات شعرية جميلة من ذاكرته الحيَّة. وفي إحدى هذه المرات أسمعنا أبياتاً من قصيدة الشاعر الكبير حافظ إبراهيم "حَطَمْتُ اليَراعَ" وحين سألناه عن مناسبة نظم هذه القصيدة, وعدنا برواية قصَّة هذه القصيدة الهجائية في فرصة أخرى.
نعم كان معلم صفنا لمادة العلوم الطبيعية يحمل اسم "حافظ إبراهيم" وقد كان فخوراً بحمله هذا الاسم المشهور. كان مدرساً فذَّاً يندر أن تجود الأيام بمثله. وكم أسفنا حين غادر صفنا على عجل بعد انتهاء الفصل الأول من العام الدراسي بسبب سفره إلى إنكلترا لاستكمال دراسة الدكتوراه في العلوم.
1
علي يوسف شاب فقير من قرية نائية في صعيد مصر. كان ذكياً وعصامياً. قَدِمَ القاهرة فتعلم واشتغل بمهنة الصحافة, واجتهد وكافح ووافاه الحظُّ فأنشأ جريدة "المؤيّد" أكبر جريدة في مصر, يحررها أشهر كتاب تلك الأيام.وقد لقّبه الناس بالشيخ علي يوسف, تعظيماً له, وحصل على مكانة اجتماعية عالية قربته من خديوي مصر عبّاس حلمي الثاني, وانتخب عضواً في الجمعية العمومية, ومنحه السلطان العثماني أوسمة رفيعة, وكانت بينه وبين الشيخ أحمد عبد الخالق السادات, شيخ الطريقة الوفائية. مودّة وصداقة, وشيوخ الطرق كانوا يُدعَون بالأشراف, لأنه يُفترض فيهم أنهم إحدى سلالات النبي محمد r. وكان للشيخ السادات ابنة تُدعى صفيّة فخطبها الشيخ علي من أبيها, فرضيت هي وسكت أبوها, وعُقِدَ عَقْدُ الزواج في بيت السيد البكري,شيخ الطريقة البكرية, بغير علم أبيها.
في اليوم الثاني لعقد الزواج , قرأ الشيخ السادات في جريدة المقطّم نبأ زفاف ابنته على الشيخ علي يوسف, فرفع الدعوى أمام المحكمة الشرعية طالباً فسخ العقد لعدم الكفاءة في النسب والمهنة. فمن ناحية النسب فإن الشيخ علي لا ينتسب إلى نسب رفيع كنسب زوجته, ومن ناحية الحرفة فإنه يحترف مهنة الصحافة وهي مهنة حقيرة. ونظر في الدعوى قاض عُرف بالتزّمت, يدعى الشيخ "أبو خطوة" وتحدّد للنظر فيها يوم 25 تموز 1904 .
2
وقبل جلسة المحاكمة كتب الشيخ علي يوسف في جريدة المؤيد مقالاً مؤثراً يخاطب والد الفتاة قال فيه: أما الشرف فبالطريقة التي يمكنك أن تثبته لنفسك نستطيع نحن, وأما الثروة فبالطريقة التي تتوّصل بها إلى بيان بسطة مالك نتوصل نحن. وأمّا الحرفة فكلانا عضو في الجمعية العمومية أما أنا فمن قبل الأمة, وأما أنت فمن قبل الحكومة,والأمة أصل والحكومة فرع. وأما كوني صاحب جريدة فإنني أترك شرف الدفاع عن هذه الحرفة لمحامي الدفاع.
3
وفي جلسة المحاكمة قدّم محامي الشيخ السادات شهودًا لإثبات عدم الكفاءة في النسب والمال والحرفة, منهم من شَهد على أصالة موكله , وأوصل نسبه إلى فاطمة الزهراء بنت رسول الله r ومنهم شهود كانوا موظفين في قرية "بلصفورة" مسقط رأس الشيخ علي يوسف, شهدوا بأنه من أسرة فقيرة, وأن أباه كان لا يملك شيئاً, وآخرون شهدوا على أن الشيخ علي يوسف بدأ عمله في الصحافة مصححاً,وهذا عمل وضيع لا يفعله إلا عديم الأصل. ووقف محامي الشيخ السادات يمجّد موكله, ويقول: إنه يعيش على أملاك واسعة تركها له آباؤه الأماجد, ويقارن بينه وبين علي يوسف الذي يضطر إلى العمل لكسب رزقه, ويحترف مهنة حقيرة, هي الصحافة, وهي مهنة دنيئة يحرِّمها الشرع الإسلامي, لأنها تقوم على الجاسوسية, وكشف الأسرار, وهذا منهّي عنه شرعاً.
4
دافع محامي الشيخ علي يوسف عن موكله ودحض أقوال خصمه بحجج قويّة مستمدة من واقع موكله الذي ارتقى بجده وكفاحه إلى مرتبة تضاهي في الشرف والأصالة مرتبة خصمه,وزاد في ثرائه عليه بكسبه وعمله. ولم يأخذ القاضي بهذه الحجج, وأصدر حكمه بقبول الدعوى, وقضى بفسخ عقد الزواج, والتفريق بين الزوجين, واعتمد في حكمه على أقوال فقهاء المذهب الحنفي المعمول به في مصر, وهي تشترط لصحة الزواج كفاءة الزوج في النسب والمال, والحرفة, وقد ثبت بالبينة أن الشيخ علي يوسف من أصل وضيع وأنه يمتهن مهنة الصحافة , وهي مهنة محرّمة, ولأن ثراءه الحالي لا يمحو عنه تلك الوصمة, وهي أنه كان فقيراً ذات يوم, وأن فقره في بدئه, وإن زال عنه الآن باكتساب الغنى, إلا أن عاره لا يزول عنه.
طعن الشيخ علي يوسف في الحكم بالاستئناف, لكن طعنه رُفض, وكتب مقالاً في جريدته يقول: أين هي النصوص التي تقول إن الفقر السابق يبقى عاراً على صاحبه مهما نال بعد ذلك من الغنى والمال والجاه؟ إن القائل يريد أن يسجل الانحطاط على الجنس البشري كله, لأن الأصل في الإنسان الفقر, والغنى طارئ عليه, وأساس الغنى الجدّ والعمل , ولو علم الإنسان الفقير الذي توافرت فيه بواعث الهمّة أنّ عار فقره القديم سيبقى له ولأولاده من بعده وصمة يعيروّن بها, حتى من الكسالى الخاملين ممن رزقهم الله ميراثاً أو جرت عليهم صدقات وقف قديم. ما انبعثت نفس أحد لعمل كبير.
5
تركت هذه القضية في نفس الشيخ علي يوسف جرحاً عميقاً, فظلّ يعمل ويجدّ حتى صار رئيساً لحزب, فوق ملكيته لأكبر جريدة في مصر, واستخدم ما حصل عليه في تلفيق نسب يصله بإحدى سلالات الرسول r وسجل في سجل الأشراف وتزوّج مرة أخرى من صفيّة ابنة الشيخ السادات. ومات الشيخ علي يوسف, وعاشت صفيّة بعده ثلاثين سنة, وتزوجت من زكي عكاشه صاحب أوّل فرقة تمثيل مسرحية في مصر والممثل الأول فيها.
6
كان الرأي العام الشعبي يؤيد حكم القاضي بفسخ عقد الزواج, لعدم كفاءة النسب, ولدناءة مهنة الصحافة التي كان يطلق على من يمتهنها اسم جورنالجي, من كلمة جورنال الفرنسية, تهكماً وازدراء له. ولم يسخط إلاّ فئة من المثقفين, وهم آنئذ نفر قليل إذا عدّوا بعامة الشعب, وكان من أكبر الساخطين شاعر مصر الكبير حافظ إبراهيم, فحمل على تلك الغوغاء الدينية التي انحازت إلى الباطل وسلطته, وعبّر عن سخطه بقصيدة هجائية غاضبة. وأكد أن هذا العرف الذي انتصر, إنما نشأ من نظام فاسد للطبقات الاجتماعية, تحكّمت فيه طبقة نالت رتبة الأشراف بالملق والتلفيق, وغطّت جهلها بثراء موروث, تميّز برفاهة العيش, وترّفعت عمّن سواها بزهو الوجاهة, وأقامت بينها وبين الشعب سداً منيعاً.
(حَطَمْتُ اليَراعَ)
الشاعر حافظ إبراهيم
حَطَمْتُ اليَراعَ فلا تَعْجَبِي ِ = وعفتُ البَيانَ فلا تَعتُبي
فما أنتِ يا مصرُ دارَ الأديب = ولا أنتِ بالبَلَدِ الطَّيِّبِ
فلا تُعذُليني لهذا السكوت = فقد ضاقَ بي منكِ ما ضاقَ بي
أيُعجِبُني منكِ يومَ الوِفاق = سُكوتُ الجَمادِ ولِعْبُ الصَّبي
وكم غَضب الناسُ من قبلِنا = لسَلبِ الحُقوقِ ولمْ نغضَبِ
وكم ذا بمصرَ من المضحكاتِ = كما قال فيها أبو الطيِّب
أمورٌ تمرُّ وعيشٌ يُمِرُّ = ونحن من اللَّهو في ملعب
وشعب يفرُّ من الصالحاتِ = فرارَ السَّليم من الأجرب
وصُحْف تطنُّ طنينَ الذُّبابِ = وأخرى تشنُّ على الأقرب
وهذا يلوذ بقصر الأميرِ = ويدعو إلى ظِلِّه الأرحب
هذا يصيحُ مع الصائحينَ = على غير قصدٍ ولا مأرب
وقالوا: المؤيَّدُ في غمرةٍ = رماه بها الطَّمعُ الأشعبي
دعاه الغرامُ بسنّ الكهولِ = فجُنَّ جُنوناً ببنت النَّبي
ونادى رجالٌ بإسقاطهِ = وقالوا: تَلَوَّنَ في المَشْرَب
وعَدُّوا عليه من السَّيِّئاتِ = أُلوفاً تَدُورُ مع الأحقُب
وقالوا لصيقٌ ببيتِ الرَّسولِ = أغارَ على النَّسَبِ الأنجب
وزكَّى أبو خَطوةٍ قولَهم = بحكمٍ أحَدَّ من المضرب
فيا أمّةً ضاقَ عن وصفها = جَنانُ المفوَّهِ والأَخْطَبِ
تضيعُ الحقيقةُ ما بيننا = ويَصْلى البريءُ مع المذنب
ويُهضَمُ فينا الإمام الحكيمُ = ويُكْرَم فينا الجهولُ الغَبِي
على الشَّرق منِّي سلامُ الودود = وإنْ طأطأ الشَّرقُ للمغرب
لقد كان خِصباً بجدب الزّمانِ = فأجدبَ في الزَّمن المُخْصِب
نعم كان معلم صفنا لمادة العلوم الطبيعية يحمل اسم "حافظ إبراهيم" وقد كان فخوراً بحمله هذا الاسم المشهور. كان مدرساً فذَّاً يندر أن تجود الأيام بمثله. وكم أسفنا حين غادر صفنا على عجل بعد انتهاء الفصل الأول من العام الدراسي بسبب سفره إلى إنكلترا لاستكمال دراسة الدكتوراه في العلوم.
1
علي يوسف شاب فقير من قرية نائية في صعيد مصر. كان ذكياً وعصامياً. قَدِمَ القاهرة فتعلم واشتغل بمهنة الصحافة, واجتهد وكافح ووافاه الحظُّ فأنشأ جريدة "المؤيّد" أكبر جريدة في مصر, يحررها أشهر كتاب تلك الأيام.وقد لقّبه الناس بالشيخ علي يوسف, تعظيماً له, وحصل على مكانة اجتماعية عالية قربته من خديوي مصر عبّاس حلمي الثاني, وانتخب عضواً في الجمعية العمومية, ومنحه السلطان العثماني أوسمة رفيعة, وكانت بينه وبين الشيخ أحمد عبد الخالق السادات, شيخ الطريقة الوفائية. مودّة وصداقة, وشيوخ الطرق كانوا يُدعَون بالأشراف, لأنه يُفترض فيهم أنهم إحدى سلالات النبي محمد r. وكان للشيخ السادات ابنة تُدعى صفيّة فخطبها الشيخ علي من أبيها, فرضيت هي وسكت أبوها, وعُقِدَ عَقْدُ الزواج في بيت السيد البكري,شيخ الطريقة البكرية, بغير علم أبيها.
في اليوم الثاني لعقد الزواج , قرأ الشيخ السادات في جريدة المقطّم نبأ زفاف ابنته على الشيخ علي يوسف, فرفع الدعوى أمام المحكمة الشرعية طالباً فسخ العقد لعدم الكفاءة في النسب والمهنة. فمن ناحية النسب فإن الشيخ علي لا ينتسب إلى نسب رفيع كنسب زوجته, ومن ناحية الحرفة فإنه يحترف مهنة الصحافة وهي مهنة حقيرة. ونظر في الدعوى قاض عُرف بالتزّمت, يدعى الشيخ "أبو خطوة" وتحدّد للنظر فيها يوم 25 تموز 1904 .
2
وقبل جلسة المحاكمة كتب الشيخ علي يوسف في جريدة المؤيد مقالاً مؤثراً يخاطب والد الفتاة قال فيه: أما الشرف فبالطريقة التي يمكنك أن تثبته لنفسك نستطيع نحن, وأما الثروة فبالطريقة التي تتوّصل بها إلى بيان بسطة مالك نتوصل نحن. وأمّا الحرفة فكلانا عضو في الجمعية العمومية أما أنا فمن قبل الأمة, وأما أنت فمن قبل الحكومة,والأمة أصل والحكومة فرع. وأما كوني صاحب جريدة فإنني أترك شرف الدفاع عن هذه الحرفة لمحامي الدفاع.
3
وفي جلسة المحاكمة قدّم محامي الشيخ السادات شهودًا لإثبات عدم الكفاءة في النسب والمال والحرفة, منهم من شَهد على أصالة موكله , وأوصل نسبه إلى فاطمة الزهراء بنت رسول الله r ومنهم شهود كانوا موظفين في قرية "بلصفورة" مسقط رأس الشيخ علي يوسف, شهدوا بأنه من أسرة فقيرة, وأن أباه كان لا يملك شيئاً, وآخرون شهدوا على أن الشيخ علي يوسف بدأ عمله في الصحافة مصححاً,وهذا عمل وضيع لا يفعله إلا عديم الأصل. ووقف محامي الشيخ السادات يمجّد موكله, ويقول: إنه يعيش على أملاك واسعة تركها له آباؤه الأماجد, ويقارن بينه وبين علي يوسف الذي يضطر إلى العمل لكسب رزقه, ويحترف مهنة حقيرة, هي الصحافة, وهي مهنة دنيئة يحرِّمها الشرع الإسلامي, لأنها تقوم على الجاسوسية, وكشف الأسرار, وهذا منهّي عنه شرعاً.
4
دافع محامي الشيخ علي يوسف عن موكله ودحض أقوال خصمه بحجج قويّة مستمدة من واقع موكله الذي ارتقى بجده وكفاحه إلى مرتبة تضاهي في الشرف والأصالة مرتبة خصمه,وزاد في ثرائه عليه بكسبه وعمله. ولم يأخذ القاضي بهذه الحجج, وأصدر حكمه بقبول الدعوى, وقضى بفسخ عقد الزواج, والتفريق بين الزوجين, واعتمد في حكمه على أقوال فقهاء المذهب الحنفي المعمول به في مصر, وهي تشترط لصحة الزواج كفاءة الزوج في النسب والمال, والحرفة, وقد ثبت بالبينة أن الشيخ علي يوسف من أصل وضيع وأنه يمتهن مهنة الصحافة , وهي مهنة محرّمة, ولأن ثراءه الحالي لا يمحو عنه تلك الوصمة, وهي أنه كان فقيراً ذات يوم, وأن فقره في بدئه, وإن زال عنه الآن باكتساب الغنى, إلا أن عاره لا يزول عنه.
طعن الشيخ علي يوسف في الحكم بالاستئناف, لكن طعنه رُفض, وكتب مقالاً في جريدته يقول: أين هي النصوص التي تقول إن الفقر السابق يبقى عاراً على صاحبه مهما نال بعد ذلك من الغنى والمال والجاه؟ إن القائل يريد أن يسجل الانحطاط على الجنس البشري كله, لأن الأصل في الإنسان الفقر, والغنى طارئ عليه, وأساس الغنى الجدّ والعمل , ولو علم الإنسان الفقير الذي توافرت فيه بواعث الهمّة أنّ عار فقره القديم سيبقى له ولأولاده من بعده وصمة يعيروّن بها, حتى من الكسالى الخاملين ممن رزقهم الله ميراثاً أو جرت عليهم صدقات وقف قديم. ما انبعثت نفس أحد لعمل كبير.
5
تركت هذه القضية في نفس الشيخ علي يوسف جرحاً عميقاً, فظلّ يعمل ويجدّ حتى صار رئيساً لحزب, فوق ملكيته لأكبر جريدة في مصر, واستخدم ما حصل عليه في تلفيق نسب يصله بإحدى سلالات الرسول r وسجل في سجل الأشراف وتزوّج مرة أخرى من صفيّة ابنة الشيخ السادات. ومات الشيخ علي يوسف, وعاشت صفيّة بعده ثلاثين سنة, وتزوجت من زكي عكاشه صاحب أوّل فرقة تمثيل مسرحية في مصر والممثل الأول فيها.
6
كان الرأي العام الشعبي يؤيد حكم القاضي بفسخ عقد الزواج, لعدم كفاءة النسب, ولدناءة مهنة الصحافة التي كان يطلق على من يمتهنها اسم جورنالجي, من كلمة جورنال الفرنسية, تهكماً وازدراء له. ولم يسخط إلاّ فئة من المثقفين, وهم آنئذ نفر قليل إذا عدّوا بعامة الشعب, وكان من أكبر الساخطين شاعر مصر الكبير حافظ إبراهيم, فحمل على تلك الغوغاء الدينية التي انحازت إلى الباطل وسلطته, وعبّر عن سخطه بقصيدة هجائية غاضبة. وأكد أن هذا العرف الذي انتصر, إنما نشأ من نظام فاسد للطبقات الاجتماعية, تحكّمت فيه طبقة نالت رتبة الأشراف بالملق والتلفيق, وغطّت جهلها بثراء موروث, تميّز برفاهة العيش, وترّفعت عمّن سواها بزهو الوجاهة, وأقامت بينها وبين الشعب سداً منيعاً.
(حَطَمْتُ اليَراعَ)
الشاعر حافظ إبراهيم
حَطَمْتُ اليَراعَ فلا تَعْجَبِي ِ = وعفتُ البَيانَ فلا تَعتُبي
فما أنتِ يا مصرُ دارَ الأديب = ولا أنتِ بالبَلَدِ الطَّيِّبِ
فلا تُعذُليني لهذا السكوت = فقد ضاقَ بي منكِ ما ضاقَ بي
أيُعجِبُني منكِ يومَ الوِفاق = سُكوتُ الجَمادِ ولِعْبُ الصَّبي
وكم غَضب الناسُ من قبلِنا = لسَلبِ الحُقوقِ ولمْ نغضَبِ
وكم ذا بمصرَ من المضحكاتِ = كما قال فيها أبو الطيِّب
أمورٌ تمرُّ وعيشٌ يُمِرُّ = ونحن من اللَّهو في ملعب
وشعب يفرُّ من الصالحاتِ = فرارَ السَّليم من الأجرب
وصُحْف تطنُّ طنينَ الذُّبابِ = وأخرى تشنُّ على الأقرب
وهذا يلوذ بقصر الأميرِ = ويدعو إلى ظِلِّه الأرحب
هذا يصيحُ مع الصائحينَ = على غير قصدٍ ولا مأرب
وقالوا: المؤيَّدُ في غمرةٍ = رماه بها الطَّمعُ الأشعبي
دعاه الغرامُ بسنّ الكهولِ = فجُنَّ جُنوناً ببنت النَّبي
ونادى رجالٌ بإسقاطهِ = وقالوا: تَلَوَّنَ في المَشْرَب
وعَدُّوا عليه من السَّيِّئاتِ = أُلوفاً تَدُورُ مع الأحقُب
وقالوا لصيقٌ ببيتِ الرَّسولِ = أغارَ على النَّسَبِ الأنجب
وزكَّى أبو خَطوةٍ قولَهم = بحكمٍ أحَدَّ من المضرب
فيا أمّةً ضاقَ عن وصفها = جَنانُ المفوَّهِ والأَخْطَبِ
تضيعُ الحقيقةُ ما بيننا = ويَصْلى البريءُ مع المذنب
ويُهضَمُ فينا الإمام الحكيمُ = ويُكْرَم فينا الجهولُ الغَبِي
على الشَّرق منِّي سلامُ الودود = وإنْ طأطأ الشَّرقُ للمغرب
لقد كان خِصباً بجدب الزّمانِ = فأجدبَ في الزَّمن المُخْصِب