قصيدة المنخّل بن يزيد اليشكري هذه، من مفاتن الشعر العربي، وعيونه. إنها ابنةُ مَلَكَةٍ شعرية، ربّما لا أخت لها. اشتهرت هذه القصيدة بمقطعها الثاني الذي يبدأ:
ولقد دخلتُ على الفتاة = الخدرَ في اليوم المطيرِ
المناهج التعليمية، تُهملُ مقطعها الأوّل، ربّما لأنّ مؤرخي الأدب لم يجدوا، واهمين، صلةً بين المقطعيْن، أو ربّما ظنّوا أنّه مربك للقارئ. تبدأ القصيدة:
إنْ كنتِ عاذلتي فسيري = نحو العراق ولا تحوري
(لا تحوري: أي لا ترجعي. وفي التنزيل:\"إنّه ظنّ أنْ لنْ يحور\".
يعرّفنا الشاعر منذ البداية بنفسه. إنّه غريب الدار والأهل. تعيّره عاذلته بضيق ذات اليد. فيحيلها إلى عشيرة بالعراق، ويسألها أن تذهب ولا ترجِع. ( ربما كناية عن غنى النعمان بن المنذر).
يقول عن نفسه إنه ينتمي إلى فوارس (أحلاس الذكور) يتوهجون كالنار الحامية. وهم من سكنة ظهور الخيول، غزاة، يلبسون الدروع الحديد المثبتة بالمسامير ( وهذا معنى: \"محكمة القتير\":
وأستلأموا وتلببوا = إنّ التلبب للمغير
(استلأموا: لبسوا السلاح. تلببوا: تحزّموا)
لكنْ رغم هذا التلبّب الثقيل، ينعمون بخفة حركة الصقور ومناوراتها.
هذه إحدى براعات الشاعر في تصوير التباين بين ثِقَل الدروع، ورشاقة جنحيْ صقر:
وعلى الجياد المضمرات = فوارس مثل الصقور
لكنْ من هذه الحومة القتالية المدججة، يصحو الشاعر على واقعه المزري، فإذا هو ببيتٍ متداعٍ نهْب الرياح من جهاته الأربع، وهذ بالضبط معنى : \"الرياح تتناوح\":
وإذا الرياح تناوحتْ = بجوانب البيت الكسيرِ
ألفيتُني هشّ اليدين = بمرْي قدحي أوشجيري
(في بعض النسخ: الرياح تكمشتْ.
وكذلك البيت الكبير بدل البيت الكسير) لكنّ تناوحت والبيت الكسير يناسبان مزاج القصيدة. إنهما مبرران للخروج وترك البيت.
الأكثر حزناً أنه كان هشّ اليديْن لا تقويان على الترميم. وهنا تباين آخر بين أيادي الفوارس، ويديْ راوية القصيدة.المهم إن المقطع الأوّل أعلاه بصليله، من جهة، والبيت الكسير من جهة أخرى ، إنما يمهدان أحذق تمهيد، للمقطع الثاني من القصيدة، ويجعلان خِدْرَ الفتاة ملاذاً، لاسيما وان دخول الشاعرعليها، تزامن مع نزول المطر، وفي الشتاء كما يرتئي ابن قتيْبة:
ولقد دخلتُ على الفتاةِ = الخدرَ في اليوم المطير
كذا ألمعية هذا الشاعر المنخّل. إنه لا يفاجئك بالحدث إلا بعد أن يمهّد له، وإذا أراد أن يزيده حدّة وعمقاً، أتى بنقيضهِ ( والشيءُ يُظهر حسنَه الضدّ، كما في القصيدة الجاهلية المسماة: الدعدية).
على أية حال، يوحي حرف الواو في تعبير: \"ولقد دخلتُ\" إلى انتقالة ذهنية من فكرة إلى فكرة، أو من حالة إلى حالة.
للفعل دخل ثلاثة أبعاد:
الأوّل؛ يفيد دخل معنى التحقيق لغة. لكنّ هذا المعنى اللغوي لا يسعف، لأن الشاعر لم يُرِدْ إثبات شيء مشكوك فيه. لو أراد الشاعر هذا المعنى لقال: إني دخلت. تفيد الواو هنا فنّياً ان الشاعر كان يستعيد مع نفسه - ويتلذذ بما يستعيد - حلماًَ صعباً ونضيراً، وكأنه لا يصدّق ما حدث.
البعد الثاني؛ من \"اليوم المطير\"، وكأن الشاعر دخل إلى خِدْر الفتاة للحماية من المطر، وهذا هو معنى الدخيل قاموساً ومواضعة، بالإضافة إلى الدُخْلة والتبنّي بالمرأة.
البعد الثالث يأتي من : الخِدْر التي لا تعني السكن فقط، وإنما الظلام أيضاً. هكذا يصبح معنى الدخول: مغامرة عاطفية حثّ عليها المطر في الظاهر، وربما تحت جنح الظلام.
أمام هذه الخلفية، وخلفية ملبس الدروع والحديد القتالية، تظهر كلمة: ترفل في البيت الثاني على أشُدّها دقة من حيثُ التوقيت، فهي بالإضافة إلى الخيال السمعي الواسع الذي يحتمل التداعيات الصوتية الآتية: ( رفّ، ترف، فلّ)، فإنها تشكل المزاج النقيض، لملابس الشاعر الرطبة بفعل المطر.
بالإضافة فإنّ معنى رفل: جرّ ذيلَه، وتبختر، وجرّ الذيل والتبختر، يعنيان بطء الحركة والأمان. يمكن مقابلة هذه الحركة المطمئنة، بحركة الشاعر السريعة، وكأن المطر عجّله. لا ننسى كذلك كيف كان الشاعر خائفاً من هبوب الرياح على بيته الكسير المتداعي.لكلمة الدمقس أهمية خاصة لأنها تعني الحرير الأبيض. يتداعى معنى اللون الأبيض ليس إلى ليلة الدخلة وإنما لابتعاده عن الرايات المتناحرة، وألوانها المتسايفة، في المقطع الأول.لم ينتظرْ راوية القصيدة طويلاً، حتى بكّر بالغزل:
فدفـعتهـا فتدافعـتْ = مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتـها فتنفسـتْ = كتنفس الظبي الغريرِ
كان القارئ يتوقّع من رجلٍ وامرأة وحيديْن في خِدْر، وبعد الدفع والتدافع، أن يأخذ الحدث مجراه الطبيعي، إلاّ أنّ الشاعر ببراءة محبّبة، ينتقل في الشطر الثاني من مكان ضيّق هو الخِدْر، إلى فضاء مكشوف واسع هو الغدير، ومن زمان إلى سواه، وبذلك شوّش القارئ.
لننظرْ في البيت من ناحية فنية. يقول الشاعر: \"فدفعتها فتدافعت \" ولم يقلْ فاندفعت. لأن تدافعت تفيد هنا معنى شبيهاً بتدافع الموج، وهو فعل يدلّ على ليونة جسدها وبضاضته. هل كانت الفتاة مربربة ذات ترف ونعمة؟
ثمّ ألا توحي كلمة فتدافعت أيضاً برغبة جامحة بمعنى ما وكأنّها اختضّتْ بالرغبة والخوف اللذيذ؟ كذا تتساوق الصورة مع مشي القطاة البطء وهي ظمأى تنشد الماء. المعروف أن القطاة بطيئة السير، ومن هنا حرقتها بين شدة عطشها وبطء سيرها.
صلاح نيازي
ولقد دخلتُ على الفتاة = الخدرَ في اليوم المطيرِ
المناهج التعليمية، تُهملُ مقطعها الأوّل، ربّما لأنّ مؤرخي الأدب لم يجدوا، واهمين، صلةً بين المقطعيْن، أو ربّما ظنّوا أنّه مربك للقارئ. تبدأ القصيدة:
إنْ كنتِ عاذلتي فسيري = نحو العراق ولا تحوري
(لا تحوري: أي لا ترجعي. وفي التنزيل:\"إنّه ظنّ أنْ لنْ يحور\".
يعرّفنا الشاعر منذ البداية بنفسه. إنّه غريب الدار والأهل. تعيّره عاذلته بضيق ذات اليد. فيحيلها إلى عشيرة بالعراق، ويسألها أن تذهب ولا ترجِع. ( ربما كناية عن غنى النعمان بن المنذر).
يقول عن نفسه إنه ينتمي إلى فوارس (أحلاس الذكور) يتوهجون كالنار الحامية. وهم من سكنة ظهور الخيول، غزاة، يلبسون الدروع الحديد المثبتة بالمسامير ( وهذا معنى: \"محكمة القتير\":
وأستلأموا وتلببوا = إنّ التلبب للمغير
(استلأموا: لبسوا السلاح. تلببوا: تحزّموا)
لكنْ رغم هذا التلبّب الثقيل، ينعمون بخفة حركة الصقور ومناوراتها.
هذه إحدى براعات الشاعر في تصوير التباين بين ثِقَل الدروع، ورشاقة جنحيْ صقر:
وعلى الجياد المضمرات = فوارس مثل الصقور
لكنْ من هذه الحومة القتالية المدججة، يصحو الشاعر على واقعه المزري، فإذا هو ببيتٍ متداعٍ نهْب الرياح من جهاته الأربع، وهذ بالضبط معنى : \"الرياح تتناوح\":
وإذا الرياح تناوحتْ = بجوانب البيت الكسيرِ
ألفيتُني هشّ اليدين = بمرْي قدحي أوشجيري
(في بعض النسخ: الرياح تكمشتْ.
وكذلك البيت الكبير بدل البيت الكسير) لكنّ تناوحت والبيت الكسير يناسبان مزاج القصيدة. إنهما مبرران للخروج وترك البيت.
الأكثر حزناً أنه كان هشّ اليديْن لا تقويان على الترميم. وهنا تباين آخر بين أيادي الفوارس، ويديْ راوية القصيدة.المهم إن المقطع الأوّل أعلاه بصليله، من جهة، والبيت الكسير من جهة أخرى ، إنما يمهدان أحذق تمهيد، للمقطع الثاني من القصيدة، ويجعلان خِدْرَ الفتاة ملاذاً، لاسيما وان دخول الشاعرعليها، تزامن مع نزول المطر، وفي الشتاء كما يرتئي ابن قتيْبة:
ولقد دخلتُ على الفتاةِ = الخدرَ في اليوم المطير
كذا ألمعية هذا الشاعر المنخّل. إنه لا يفاجئك بالحدث إلا بعد أن يمهّد له، وإذا أراد أن يزيده حدّة وعمقاً، أتى بنقيضهِ ( والشيءُ يُظهر حسنَه الضدّ، كما في القصيدة الجاهلية المسماة: الدعدية).
على أية حال، يوحي حرف الواو في تعبير: \"ولقد دخلتُ\" إلى انتقالة ذهنية من فكرة إلى فكرة، أو من حالة إلى حالة.
للفعل دخل ثلاثة أبعاد:
الأوّل؛ يفيد دخل معنى التحقيق لغة. لكنّ هذا المعنى اللغوي لا يسعف، لأن الشاعر لم يُرِدْ إثبات شيء مشكوك فيه. لو أراد الشاعر هذا المعنى لقال: إني دخلت. تفيد الواو هنا فنّياً ان الشاعر كان يستعيد مع نفسه - ويتلذذ بما يستعيد - حلماًَ صعباً ونضيراً، وكأنه لا يصدّق ما حدث.
البعد الثاني؛ من \"اليوم المطير\"، وكأن الشاعر دخل إلى خِدْر الفتاة للحماية من المطر، وهذا هو معنى الدخيل قاموساً ومواضعة، بالإضافة إلى الدُخْلة والتبنّي بالمرأة.
البعد الثالث يأتي من : الخِدْر التي لا تعني السكن فقط، وإنما الظلام أيضاً. هكذا يصبح معنى الدخول: مغامرة عاطفية حثّ عليها المطر في الظاهر، وربما تحت جنح الظلام.
أمام هذه الخلفية، وخلفية ملبس الدروع والحديد القتالية، تظهر كلمة: ترفل في البيت الثاني على أشُدّها دقة من حيثُ التوقيت، فهي بالإضافة إلى الخيال السمعي الواسع الذي يحتمل التداعيات الصوتية الآتية: ( رفّ، ترف، فلّ)، فإنها تشكل المزاج النقيض، لملابس الشاعر الرطبة بفعل المطر.
بالإضافة فإنّ معنى رفل: جرّ ذيلَه، وتبختر، وجرّ الذيل والتبختر، يعنيان بطء الحركة والأمان. يمكن مقابلة هذه الحركة المطمئنة، بحركة الشاعر السريعة، وكأن المطر عجّله. لا ننسى كذلك كيف كان الشاعر خائفاً من هبوب الرياح على بيته الكسير المتداعي.لكلمة الدمقس أهمية خاصة لأنها تعني الحرير الأبيض. يتداعى معنى اللون الأبيض ليس إلى ليلة الدخلة وإنما لابتعاده عن الرايات المتناحرة، وألوانها المتسايفة، في المقطع الأول.لم ينتظرْ راوية القصيدة طويلاً، حتى بكّر بالغزل:
فدفـعتهـا فتدافعـتْ = مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتـها فتنفسـتْ = كتنفس الظبي الغريرِ
كان القارئ يتوقّع من رجلٍ وامرأة وحيديْن في خِدْر، وبعد الدفع والتدافع، أن يأخذ الحدث مجراه الطبيعي، إلاّ أنّ الشاعر ببراءة محبّبة، ينتقل في الشطر الثاني من مكان ضيّق هو الخِدْر، إلى فضاء مكشوف واسع هو الغدير، ومن زمان إلى سواه، وبذلك شوّش القارئ.
لننظرْ في البيت من ناحية فنية. يقول الشاعر: \"فدفعتها فتدافعت \" ولم يقلْ فاندفعت. لأن تدافعت تفيد هنا معنى شبيهاً بتدافع الموج، وهو فعل يدلّ على ليونة جسدها وبضاضته. هل كانت الفتاة مربربة ذات ترف ونعمة؟
ثمّ ألا توحي كلمة فتدافعت أيضاً برغبة جامحة بمعنى ما وكأنّها اختضّتْ بالرغبة والخوف اللذيذ؟ كذا تتساوق الصورة مع مشي القطاة البطء وهي ظمأى تنشد الماء. المعروف أن القطاة بطيئة السير، ومن هنا حرقتها بين شدة عطشها وبطء سيرها.
صلاح نيازي