عبدالرزاق دحنون - هل كان ماركس على حق؟

بالعودة إلى الساعة الثامنة من مساء يوم الأحد المصادف الخامس عشر من تموز عام 1971 وفق توقيت واشنطن العاصمة الأمريكية حيث جلس ريتشارد نيكسون في حجرة صغيرة في البيت الأبيض, وبين يديه مخطوطة تسبب محتواها في تغيير مجرى الاقتصاد العالمي برمته. وما خلا نيكسون وبضعة من مساعديه, ما كان أحد في العالم يُدرك أن الرئيس الأمريكي السابع والثلاثين قد هيأ نفسه لأن يذيع بياناً يتضمن قراراً تاريخياً. وأنا هنا أعتمد في رواية الوقائع اعتماداً كلياً على كتاب الباحث الاقتصادي الألماني أولريش شيفر ( انهيار الرأسمالية) الصادر في فرانكفورت عام 2009 والمترجم إلى اللغة العربية في سلسلة كتب عالم المعرفة عام 2010 .

جلس الناس أمام شاشات التلفاز يستمعون إلى خطاب نيكسون قلقين, فزعين, وجلين, فنيكسون يخاطبهم بأنه تحدث إليهم في السنوات الأخيرة, مراراً وتكراراً عن الحرب في فيتنام؛ غير أن الحرب قد أشرفت على نهايتها الآن. من هنا, فإن لدى أمريكا الآن فرصة فريدة كي تحقق لجيل كامل من المواطنين السلام والرفاهية. لكن هذا الهدف لا يمكن التوصل إليه إلا إذا تغلبت أمريكا على الأزمة الاقتصادية المخيفة.لذلك فإن الرئيس الأمريكي يعلن تخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن تعهدها بتحويل الدولار الأمريكي إلى ذهب. بهذا القرار قوض الرئيس الأمريكي أركان نظام أسعار الصرف الثابتة للعملات العالمية. هذا النظام الذي أسبغ الاستقرار على الاقتصاد العالمي على مدى ربع قرن من الزمن, وساهم في خلق ازدهار اقتصادي مشهود.فقد عمل نظام أسعار الصرف الثابتة على خير ما يرام, ونشر الاستقرار في الاقتصاد العالمي, وصان أسواق المال من التعرض لشطط وإسراف مبالغ فيهما. بيد أن نظام أسعار الصرف الثابتة تعرض لرجات قوية في نهاية الستينيات. فالأمريكيون كانوا قد دأبوا على طبع مزيداً من الدولارات الورقية بغية تمويل حربهم في فيتنام. فهم صاروا يغرقون الأسواق بعملتهم, تماماً كما يفعلون اليوم, لكنهم ومع مرور الأيام أصبحوا يواجهون صعوبات جمة في العثور على من يرضى بالاحتفاظ بعملتهم. فكثير من الأطراف المتوافر لديها الدولار تتطلع إلى تحويله إلى ذهب, ففيما بات الدولار يخسر قيمته بوتائر سريعة, أصبحت عملات أخرى تسجل ارتفاعاً متواصلاً في قيمتها. ولهذا السبب أخذ الأمريكيون, بدءاً من عام 1968 يستجيبون لطلبات المصارف المركزية فقط لصرف قيمة العملة الورقية بالذهب؛ غير أن هذا التدبير لم يجد نفعاً أيضاً.فاحتياطي الذهب المُخزّن في خزائن (فورت نوكس) صار يتآكل من يوم إلى آخر, وأشرف على النفاد. وهكذا لم يبق أمام نيكسون سوى الاعتراف بأن النظام النقدي القائم على أسعار صرف مثبتة مقابل الدولار قد مات.

غير أن تفكير نيكسون كان يتمحور حول مصلحة أمريكا لا غير, إنه يريد الحد من سلطان المضاربين الذين باتوا يهاجمون الدولار.خيمت الحيرة على الدول الصناعية؛ فهي أُخذت على حين غرة حين سمعتْ بقرار الرئيس الأمريكي في صبيحة اليوم التالي. وأغلقت الحكومات في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان بورصات العملات الأجنبية في بلادها, واجتمع أعضاء كل واحدة من هذه الحكومات لمناقشة الوضع الجديد.وقطع المستشار الألماني فيلي براند إجازته السنوية حال سماعه بالخبر, وعاد إلى بون للتداول مع وزير الاقتصاد كارل شيلر. على صعيد آخر, رفض عديد من المصارف الأوربية في الأيام التالية تحويل الدولار إلى عملتها الوطنية, وذلك لأنها ما عادت تعلم بماهية القيمة الفعلية للدولار. وقد بذلت الدول الأوربية قصارى جهدها لإعادة الحياة إلى نظام أسعار الصرف الثابتة. غير أن هذه الجهود باءت بالفشل في نهاية المطاف, ولم تستطع الحيلولة دون بلوغ هذا النظام نهايته المحتومة في العام 1973 .

إن النهاية المفاجئة لنظام إصدار العملات والذي كان يُعرف شعبياً بتحويل قيمة الذهب المخزون في البنوك المركزية الحكومية إلى عملة ورقية لا يمكن أن تتخطى نسبة المطبوع من هذه العملات الرصيد الذهبي الموجود في البنوك المركزية لهذه الدولة أو تلك. هذه النهاية تشير إلى بزوغ فجر ما صار يُعرف بالعولمة في اليوم الراهن . فالقرار الذي اتخذه نيكسون من طرف واحد في تلك الأيام, مهَّد, بلا وعي من نيكسون, الطريق لاندلاع تطور غيّر ملامح الاقتصاد العالمي في الأربعين سنة التالية.فقد تحررت أسواق المال من التوجيه الحكومي وخلخلت الدول الصناعية أسس الحماية الجمركية التي كانت قد أنشأتها عقب تعرض الاقتصاد العالمي لأزمة الكساد الكبير في ثلاثينات القرن العشرين. كما عكفت على فتح أبواب مصارفها للمستثمرين الأجانب وشركات الخدمات المصرفية غير الوطنية. وهكذا, اندلعت حقبة التحرير والخصخصة وحذت حكومات بقية العالم حذو الولايات المتحدة الأمريكية وراحت تتخلى عن شركاتها ومشاريعها الوطنية اعتقاداً منها أنها لم تعد بحاجة إليها.

ظل الاعتقاد لسنوات طويلة أن الحكومة الأمريكية تملك حق السيطرة على طبع العملة من الدولار. هذا هو الطبيعي و المعهود، الكل يفكر بهذه الطريقة, لأن العملة هي السبيل القانوني المشروع الوحيد لتسوية الديون والمستحقات. إذاً كيف يمكن لهذا الأمر أن يترك بأيدي قطاع خاص أو عائلات؟ نعم, البنك المركزي الأمريكي يخضع لسيطرة صيارفة من القطاع الخاص وهذه مفاجأة كبيرة لأننا نعتقد أن البنوك المركزية التي تطبع العملات يجب أن تكون خاضعة لسيطرة الدولة لكن الحقيقة أنها من أملاك القطاع المصرفي الخاص. ولو تعاملنا مع العملة الورقية على أنها سلعة . والظاهر أنها سلعة, أو بضاعة حقيقية, حسب تعريف السلعة في الصفحات الأولى من كتاب كارل ماركس الشهير رأس المال. فالعملات الورقية تُباع وتُشترى. والدولارات هي في حقيقة الأمر بضاعة والقطعة الواحدة من فئة مئة دولار كُلْفة تصنيعها في الولايات المتحدة الأمريكية أقل من نصف دولار, ولكنها تطرح في أسواق المال العالمية بقيمتها الورقية المطبوعة عليها, إن صح التعبير, أو لنقُل هي تشتري بقيمتها المتعارف عليها الكثير من البضائع. وبما أن القطاع المصرفي الخاص في الولايات المتحدة الأمريكية يحتكر صناعة الدولار, فإن بيع كل مئة دولار في السوق يعود عليه بربح قدره تسعة وتسعين دولاراً ونصف الدولار. وبما أن أصحاب رأس المال في الولايات المتحدة الأمريكية يبادلون النفط والمواد الأولية من مختلف بلدان العالم بعملة ورقية تعرف بالدولار فماذا يعني هذا؟ والسؤال الآخر هنا هل هذه الكتلة النقدية تعادل قيمة البضائع المنتجة ؟ أغلب التقديرات تُشير أن الكتلة النقدية بالدولارات الأمريكية تزيد كثيراً عن حاجة الإنتاج الفعلي للتبادل بين الكتلتين العملة والبضاعة . وهذه المعادلة الاقتصادية في نهاية الأمر تكون في صالح أصحاب رأس المال.

وبصنيعها هذا, عززت الحكومات المختلفة المنافسة بنحو قوي وعريض, وساعدت على تحقيق رفاهية أكبر. بيد أن الدولة تسرعت, تحت ضغط جشع أصحاب رأس, في التخلي عمّا تقوم به من مهام. فالدولة, التي تركت السوق ولم تخلق المؤسسات الضرورية القادرة على فرض رقابة معقولة على عمل الأسواق.وبنهجها هذا زرعت الحكومات الرأسمالية بذور ما نشهده اليوم في كثير من البلدان حالياً من تمرد وثورة على سياسات الخصخصة الجائرة بحق المؤسسات الوطنية المخصصة للخدمات الاجتماعية,كالكهرباء والماء والطرق وسكك الحديدي والمطارات والنقل البحري ومؤسسات الاتصالات السلكية واللاسلكية والخدمات والبريدية ومؤسسات الراعية الصحية ومراكز الأبحاث والجامعات .

وفي أسواق رأس المال على وجه الخصوص, بانت, بنحو ساطع, وبنحو لا مثيل له في أي قطاع آخر, التحولات المفزعة التي أفرزها تراجع دور الدولة في الشأن الاقتصادي. فحتى مطلع السبعينيات كانت المشاريع الإنتاجية الضخمة تُدار من قبل الحكومات الوطنية وهي التي كانت تُهيمن على الاقتصاد. أما المصارف, فإن دورها كان ذا طبيعة خدمية لا غير. فهي تزود القطاع الإنتاجي بالنقد الذي تحصل عليه من المدخرين. وهكذا, وخلافاً لما هو سائد حالياً, ما كانت المصارف تُهيمن على العالم بنحو خفي. على صعيد آخر, كانت الدولة حتى ذلك الحين هي التي تحدد لأسواق المال لزوم ما يلزم فعله. فالمصارف كانت تخضع لرقابة صارمة. فالحكومات والمصارف المركزية كانت تسعى بإصرار, إلى التحكم بنحو دقيق إن أمكن بمقدار الكمية النقدية التي تحصل عليها المشاريع من المصارف.

لقد تغيرت هذه الأمور جميعاً بعد صدمة نيكسون.فلم يتخلخل النظام الصارم فقط, بل تخلخل الإطار العام لمجمل أسواق النقد العالمية. والدول تخلت عن الرقابة المفروضة على تدفقات رأس المال, وألغت القواعد الصارمة السارية في البورصات التي اتسع مجال عملها بحيث شمل كوكب الأرض كله. واليوم أصبحت البورصات مكاناً تستقطب المضاربين ويتم التعامل فيها بأكثر من ثلاثة تريليونات دولار أمريكي في اليوم الواحد. أي بنحو تسعين ضعفاّ مقارنة بحجم التجارة السلعية العالمية. وهنا لا بدَّ للمرء أن يلاحظ أمراً في غاية الأهمية حيث بورصات الصرف الأجنبي والقطاعات الإنتاجية يكاد تنعدم بينهما الروابط في اليوم الراهن. فأسواق المال تتطور, حالياً, إلى حلبة للجشع ومكان لتحقيق الربح بأقصى سرعة. فالمصارف تعرض في الأسواق أدوات مالية مفعمة بالمخاطر, وما خلا بضعة أفراد, ما عاد أحد يفهم مغزى هذه الأدوات وكنهها. ومع مرور الأيام تظهر في الأسواق بضائع مالية تزداد تعقيداً من يوم إلى آخر.

وفي كثير من الأحيان لا تسبر الحكومات غور هذه البضائع المالية أو لنقل أنها نادراً ما تفقه مغزى ما يبتدعه الصبيان الأنيقين العاملين في شوارع المال في أضخم مدن العالم.على صعيد آخر, تزداد,بلا انقطاع, السرعة التي تعمل بها أسواق المال.فأجهزة الكومبيوتر تزداد طاقة وسرعة بنحو متواصل وتستخدم تكنولوجيا تتطور من يوم إلى آخر بخطوات عظيمة.ومن هنا, لا غرابة في أن تتم الآن المعاملات التجارية بسرعة الضوء وأن يتمكن رجال الأعمال المتاجرة بالمليارات والتعاقد والوفاء بمستلزمات عقودهم خلال ثوان معدودة.

والأمر الذي لا خلاف عليه هو أن أسواق المال تنطوي على ما هو جيد. فقد ساهمت في عقود الزمن الأخيرة, في تسريع نمو الاقتصاد العالمي. كما أنها زودت المشروعات بالأموال التي تحتاجها لتمويل نشاطها الإنتاجي. غير أن هذا الجانب الايجابي ليس هو كل ما في الأمر.فإن النظام المالي, السائد في اليوم الراهن, أكثر عرضة للشطط والانجراف نحو الهاوية. فالعديد من الدراسات تبين بجلاء أن احتمال تعرض هذا البلد أو ذاك للأزمة قد تضاعف في اليوم الراهن. أضف إلى هذا أن الهزات التي تعصف بأسواق المال قد أخذت تزداد انتشاراً وتكراراً وذلك, من ناحية, لأن المصارف وصناديق الاستثمار والمستثمرين قد صاروا, بفضل تكنولوجيا الكمبيوتر الحديثة, قادرين على التحرك في الحال, ومن ناحية أخرى, لأن الفزع قد أمسى ينشر ظلاله على بقاع المعمورة خلال دقائق معدودة.

وبهذا المعنى, تحولت أسواق المال إلى خطر يتهدد الاقتصاد الوطني الإنتاجي لعشرات الدول. فقد تحولت البورصات إلى كازينو للقمار جذاب فعلاً بأضوائه المتوهجة. إن اللاعبين في هذا الكازينو يمكن أن يقوضوا أركان شركات عملاقة ومتوسطة, إذا ما خسروا الرهان ولا يهمهم ملايين العمال مع أسرهم الذين سيعانون البطالة والفقر.فهذه أخلاق رأس المال. وقد يتسببون في زعزعة الاستقرار في دول بأكملها.


وكان آرثر برونز محافظ البنك المركزي في إدارة ريتشارد نيكسون قد تنبأ في السبعينيات من القرن العشرين باندلاع هذه المخاطر. فوفق تنبؤاته.يؤدي تحرير أسواق المال إلى شقاء الإنسانية بكل تأكيد.وها نحن بعد أكثر من أربعين عاماً نجد باول فولكر أحد أهم المستشارين الاقتصاديين في إدارة باراك أوباما يصرح في نيسان عام 2008 إنه لمن الصعب جداً الزعم بأن النظام المالي العالمي الجديد قد حقق منافع ذات بال. وهذا النظام لم ينجح في اجتياز الاختبار على الرغم من توافر لاعبين موهوبين له, وعل الرغم من التسهيلات العظيمة التي تمتع بها.وقد صرّح أحد العاملين المخضرمين في أضخم بنك للاستثمار في وول ستريت في أمريكا قائلاً:

كلما طال بقائي في وول ستريت, ازدادت قناعتي أن آراء ماركس الاقتصادية كانت على صواب. وجائزة نوبل تنتظر ذلك الاقتصادي الذي سيبعث ماركس ويجمع آراءه كلها في نموذج متماسك.أنا مقتنع بالكامل أن طرح ماركس هو أفضل طريقة لرؤية حركة رأس المال .لأن رأس المال أخضع الكائنات البشرية للتهالك على كسب وده واختزانه . ألم يؤمن يقيناً أن الطريقة التي يعمل بها المجتمع على تنظيم الإنتاج تصوغ في النهاية مواقف الناس ومعتقداتهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى