اعترف أن أبي لم يفكر في يوم من الايام بلقاء جبرا الشاعر والروائي والرسام الفلسطيني,واعتقد دون ذرة شك واحدة انه لم يكن يعرف من هو جبرا ابراهيم جبرا لأني لم اسمعه يتطرق الى ذكر اسمه على الاقل.
فقد كان ابي رجل مزاج صوفي يبحث عن المتعة في ابسط الاشياء.ويفضل ان ينظر الى الحياة نظرة لا تعقيد فيها لان التعقيد يسمم الحياة,ويجعلها مثل قشر نارنجة.وفي كل ايام حياته كان يعيش بهدوء شديد,ويتحدث عن متع زمانه الملكي حين كان جنديا مكلفا في البداية ثم متطوعا مع امتيازات هذا التطوع قياسا باوضاع الناس في القرى البعيدة التي يعاني فيها الناس الفقر والحاجة وعلى الخصوص القرية التي جاء منها ابي لاداء خدمته العسكرية.كان الفقر والجوع سببين شخصيين لقيادة حياة ابي واعطائها مذاقا جديدا.جاء الى بغداد بشغف المعري دون ان يعرف عظمة المدينة التي تقدم اليها بجرأة احسده عليها.فأبي لم يكن يعرف كلمة عربية واحدة.كان مغلفا بلغته الكردية وكل ما ورثه من قريته الكردستانية البعيدة عن بغداد القريبة من حدود تركيا.قرية جبلية محدودة الرزق خضراء لم تنظم جيدا لان يد الدولة لم تكن طويلة لتصل الى هناك.كان أبي مكسوا بلحاء يشبه لحاء شجرة جوز ضخمة وكان على بغداد ان تخرجه من دثاره القروي الذي عاش فيه ثمانية عشر عاما حين ترك كل شيء خلفه ليكون جنديا في مدينة ستعرف كيف تتفاهم معه,وتشعره انه تغير,وانه سيترك للحياة نفسها ان ترسم له مصيرا جديدا.واذا كانت حياة ابي عامرة بسر كنت ابحث عن معناه وتفسيره فإن الحياة من جهتها كانت تخطط له ليلتقي بجبرا لقاء كان فوق تصور الجميع اعني تصور جبرا وتصور ابي وتصوري انا ايضا.
كنت في الواقع مشغولا في طرح سؤال على احد اعمامي عن سبب بقاء ابي في بغداد بعد ان اكمل خدمته الالزامية,وعدم عودته الى قريته كما فعل كل اعمامي الذين جاءوا الى بغداد كجنود انهوا خدمتهم وعادوا من حيث اتوا.لم يكن لدى احد اجابة دقيقة عن السبب.ابي نفسه لم يكن يعرف سببا لبقائه في مدينة لا يعرف فيها احدا.كان عازبا,ويقيم علاقات مع بعض الاصدقاء الذين تعرف عليهم في عالم الجنود الغريب الاطوار.ويبدو انه كان محدود العلاقات جدا فاقتصر على قلة من الاصدقاء بعضهم كان من القومية الكردية ممن قدموا الى بغداد قبله,وكانوا عونا له في معرفة بعض التفاصيل التي يحتاجها غرباء المدن الذين لا يعرفون لغتها الاصلية.
شخصيا لم اتوصل الى كشف سر احتفاظ ابي بعلاقته الحميمة ببغداد.لقد قلب نظرية الوجدان راسا على عقب.وسخر من ابي تمام الذي قال في لحظة الهام شعري:كم منزلٍ في الارض يألفه الفتى وحنينه ابدا لأول منزلِ.في الواقع كان ابي ذائبا في بحر هذه المدينة التي لامه الكثيرون على البقاء فيها.وعلى الرغم من انه لم يكن ثريا جدا لكنه فضل ان يظل هنا لاغيا فكرة العودة الى المنزل الاول.ولم تخطر بباله لحظة واحدة فكرة العودة الى كردستان وزج ابنائه في عملية التغيير الكبيرة التي حصلت بعد فصل الاقليم عن العراق عام 1991.في تلك اللحظة حدثت حركة بناء وهجرة,واعمار,واستثمار لم تستطع ان تثير رغبة ابي في المغادرة.كان محصنا جدا وقانعا ومشاركا في افراح واحزان عالمه الجديد.وبمرور الوقت تحطمت عندي فكرة الحدود والاوطان وعرفت ان الانسان يستطيع ان يتأقلم بسهولة كبيرة.وهذا ما لا تملكه الحيوانات او الاشجار.الانسان قادر على خلق اسطورته وحياته,وقادر ايضا على قلب حركة وامواج الوجدان.فبدلا من ان تهبط الموجة من اقصى قرية كردية الى بغداد تغير الحال فبقيت موجة الحنين تصعد من بغداد الى قرية ابي.كان السر اذن في القلب,والحياة هي التي قررت لقاء ابي بجبرا,وكان هذا جزءا من السر العجيب.
كانت الحياة تنسج وتغزل على مهل اجواء اللقاء بين الرجلين المختلفين في كل شيء.فمن القدس القديمة,ورحلة التعلم في اوكسفورد,والدوران حول العالم توقف جبرا في بغداد استاذا للغة الانكليزية في كلية الاداب وكلية الملكة عالية.وحين يتحدث جبرا عن بغداد فإنه يتحدث بشوق واضح كأنه يتحدث عن قدسه القديمة.انا اتحدث هنا عن رحلة المجيء الى بغداد وعدم مغادرتها على الرغم من توفر فرص المغادرة.لكن دورة حياة ابي المقفلة كانت تحت سيطرة الحياة كما كانت تضاريس حياة جبرا تتحول كلها الى لحظة صنعتها يد الحياة الخالقة.وفي النهاية التقت الحياتان حياة ابي وحياة جبرا في مقبرة بغدادية محاطة وعامرة باشجار اليوكالبتوس..هناك حيث انزلوا ابي في قبره,وحرقة الدمع تمارس عملها في جفني علمت ان على بعد امتار كان يرقد جبرا في قبره.لقد التقى الرجلان الهائمان الوحيدان كجارين متشابهين في درجة الحب لمدينة ليست عادية.وكان لقاؤهما الاستثنائي لقطة لا يمكن ان تحدث الا بتدبير لقوى الغيب التي تملكها الحياة وحدها.
نقلا عن:
نوزاد حسن : حين التقى أبي بجبرا ابراهيم جبرا في المقبرة (ملف/12)
فقد كان ابي رجل مزاج صوفي يبحث عن المتعة في ابسط الاشياء.ويفضل ان ينظر الى الحياة نظرة لا تعقيد فيها لان التعقيد يسمم الحياة,ويجعلها مثل قشر نارنجة.وفي كل ايام حياته كان يعيش بهدوء شديد,ويتحدث عن متع زمانه الملكي حين كان جنديا مكلفا في البداية ثم متطوعا مع امتيازات هذا التطوع قياسا باوضاع الناس في القرى البعيدة التي يعاني فيها الناس الفقر والحاجة وعلى الخصوص القرية التي جاء منها ابي لاداء خدمته العسكرية.كان الفقر والجوع سببين شخصيين لقيادة حياة ابي واعطائها مذاقا جديدا.جاء الى بغداد بشغف المعري دون ان يعرف عظمة المدينة التي تقدم اليها بجرأة احسده عليها.فأبي لم يكن يعرف كلمة عربية واحدة.كان مغلفا بلغته الكردية وكل ما ورثه من قريته الكردستانية البعيدة عن بغداد القريبة من حدود تركيا.قرية جبلية محدودة الرزق خضراء لم تنظم جيدا لان يد الدولة لم تكن طويلة لتصل الى هناك.كان أبي مكسوا بلحاء يشبه لحاء شجرة جوز ضخمة وكان على بغداد ان تخرجه من دثاره القروي الذي عاش فيه ثمانية عشر عاما حين ترك كل شيء خلفه ليكون جنديا في مدينة ستعرف كيف تتفاهم معه,وتشعره انه تغير,وانه سيترك للحياة نفسها ان ترسم له مصيرا جديدا.واذا كانت حياة ابي عامرة بسر كنت ابحث عن معناه وتفسيره فإن الحياة من جهتها كانت تخطط له ليلتقي بجبرا لقاء كان فوق تصور الجميع اعني تصور جبرا وتصور ابي وتصوري انا ايضا.
كنت في الواقع مشغولا في طرح سؤال على احد اعمامي عن سبب بقاء ابي في بغداد بعد ان اكمل خدمته الالزامية,وعدم عودته الى قريته كما فعل كل اعمامي الذين جاءوا الى بغداد كجنود انهوا خدمتهم وعادوا من حيث اتوا.لم يكن لدى احد اجابة دقيقة عن السبب.ابي نفسه لم يكن يعرف سببا لبقائه في مدينة لا يعرف فيها احدا.كان عازبا,ويقيم علاقات مع بعض الاصدقاء الذين تعرف عليهم في عالم الجنود الغريب الاطوار.ويبدو انه كان محدود العلاقات جدا فاقتصر على قلة من الاصدقاء بعضهم كان من القومية الكردية ممن قدموا الى بغداد قبله,وكانوا عونا له في معرفة بعض التفاصيل التي يحتاجها غرباء المدن الذين لا يعرفون لغتها الاصلية.
شخصيا لم اتوصل الى كشف سر احتفاظ ابي بعلاقته الحميمة ببغداد.لقد قلب نظرية الوجدان راسا على عقب.وسخر من ابي تمام الذي قال في لحظة الهام شعري:كم منزلٍ في الارض يألفه الفتى وحنينه ابدا لأول منزلِ.في الواقع كان ابي ذائبا في بحر هذه المدينة التي لامه الكثيرون على البقاء فيها.وعلى الرغم من انه لم يكن ثريا جدا لكنه فضل ان يظل هنا لاغيا فكرة العودة الى المنزل الاول.ولم تخطر بباله لحظة واحدة فكرة العودة الى كردستان وزج ابنائه في عملية التغيير الكبيرة التي حصلت بعد فصل الاقليم عن العراق عام 1991.في تلك اللحظة حدثت حركة بناء وهجرة,واعمار,واستثمار لم تستطع ان تثير رغبة ابي في المغادرة.كان محصنا جدا وقانعا ومشاركا في افراح واحزان عالمه الجديد.وبمرور الوقت تحطمت عندي فكرة الحدود والاوطان وعرفت ان الانسان يستطيع ان يتأقلم بسهولة كبيرة.وهذا ما لا تملكه الحيوانات او الاشجار.الانسان قادر على خلق اسطورته وحياته,وقادر ايضا على قلب حركة وامواج الوجدان.فبدلا من ان تهبط الموجة من اقصى قرية كردية الى بغداد تغير الحال فبقيت موجة الحنين تصعد من بغداد الى قرية ابي.كان السر اذن في القلب,والحياة هي التي قررت لقاء ابي بجبرا,وكان هذا جزءا من السر العجيب.
كانت الحياة تنسج وتغزل على مهل اجواء اللقاء بين الرجلين المختلفين في كل شيء.فمن القدس القديمة,ورحلة التعلم في اوكسفورد,والدوران حول العالم توقف جبرا في بغداد استاذا للغة الانكليزية في كلية الاداب وكلية الملكة عالية.وحين يتحدث جبرا عن بغداد فإنه يتحدث بشوق واضح كأنه يتحدث عن قدسه القديمة.انا اتحدث هنا عن رحلة المجيء الى بغداد وعدم مغادرتها على الرغم من توفر فرص المغادرة.لكن دورة حياة ابي المقفلة كانت تحت سيطرة الحياة كما كانت تضاريس حياة جبرا تتحول كلها الى لحظة صنعتها يد الحياة الخالقة.وفي النهاية التقت الحياتان حياة ابي وحياة جبرا في مقبرة بغدادية محاطة وعامرة باشجار اليوكالبتوس..هناك حيث انزلوا ابي في قبره,وحرقة الدمع تمارس عملها في جفني علمت ان على بعد امتار كان يرقد جبرا في قبره.لقد التقى الرجلان الهائمان الوحيدان كجارين متشابهين في درجة الحب لمدينة ليست عادية.وكان لقاؤهما الاستثنائي لقطة لا يمكن ان تحدث الا بتدبير لقوى الغيب التي تملكها الحياة وحدها.
نقلا عن:
نوزاد حسن : حين التقى أبي بجبرا ابراهيم جبرا في المقبرة (ملف/12)