الفلسفة الغربية وأثرها على المذاهب المسرحية
(الكلاسيكية ، الرومانسية ، الواقعية ، التعبيرية)
************
تأليف الدكتور / ابوالقاسم قور حامد
المقدمة
يتناول هذا الكتاب بالدراسة والتحليل والنقد أثر الفلسفة الغربية علي المسرح الغربي منذ نشأته بداية بنظرية (التطهير) لأرسطو طاليس (584 ـ522ق .م ) نهاية برؤية جان بول سارتر في مسرح (العدم ) واوجين يونسكو في مسرح (اللامعقول ) في نهاية القرن الماضي . فهو كتاب فى أمر الدراما الغربية وتحولاتها ذات الاصول الفلسفية منذ أن بدأ المسرح بحثه عن الحياة وتقليدها كما هو الحال فى الكلاسيكية والواقعية نهاية ببحث المسرح عن ذاته وهروبه عن الحياة كما هو فى تيارات مسرح العدم ، وتيارات العبث واللامعقول في نهاية القرن العشرين ومطلع هذا القرن الحادى والعشرين .هذا الكتاب في النقد الفلسفي (Philosophical Criticism) للمسرحية الغربية /الأوربية بوصفه أحد روافد النقد المسرحي مثل النقد التاريخي للمسرحية ( Historical Criticism ) والنقد الأدبي للمسرحية ((Literary Criticism..
تناولت في هذا الكتاب الأصول الفكرية والمرتكزات الفلسفية للدراما الغربية European Drama)) عامة والمسرحية الأوربية (European Play ) خاصة وشكل بنائها الدرامي , كل ذلك يشكل في رؤيتي حجر الزاوية في فهم المسرحية الغربية لان فهمنا لهذه الشروط الفلسفية والتاريخية والأدبية مجتمعة بوضح لنا مدى إرتباط الإدب المسرحي الغربي بعناصر الثقافة والفكر والحضارة الغربية.
أري هذا كتاب به منفعة لطلاب النقد المسرحي من غير الأوربين عامة وطلاب الدراما في السودان خاصة وطلاب كلية الموسيقي والمسرح علي وجه الخصوص الذين لمست فيهم حاجة لمثل هذا المرجع وأستشعرت بهم ضرورة لمثل هذا السفر . فإذا ما استذكر الطلاب هذا الكتاب لوجدوا فيه فائد ة تعينهم على المام ببعض تأثر المسرحية الأوربية الغربية المتعددة , وامتياحها من مشارب الثقافة والفلسفة الأوربية مثل الفلسفة اليونانية والفلسفةالارسطوطالية علي المسرحية الكلاسيكية (Greece Drama) والترانسنتدالية (Transcendentalism ) علي المسر حية الرومانسية والفلسفة الوضعية المنطقية (Positivism ) والفلسفة الواقعية (Realism) علي المسرحية الواقعية , وكذلك أثر الوجودية ( Existentialism) على المسرحية التعبيرية والعبثية ومسرح اللامعقول ومسرح العدم .
هذا كتاب يستفيد منه طلاب النقد المسرحى والمهتمون بأمر الدراما الغربية وتأثرها بالفلسفة الغربية ويقع فى خمس فصول
الفصل الأول : يتناول الكتاب نظرية الفيلسوف اليونانى أرسطو طاليس في التراجيديا التي وردت في كتابة فن الشعرPoetica) ) ثم تتبعت أثر نظريته فى الشعر على المسرحية حتى الكلاسيكة العائدة على يد كل من النقاد الدرامين كاستلفتر ( Ludovic Caselvetro) 1505 ـ1571 ج. درايــدن (John Dayden)1631ـ 1700 في القرن السـابع عشر، فضلأ عن إفـراد حيزمختصر للمسرح الروماني هوراس (Horace) نموذجآ والمسرح الكنسي في العصور الوسطى. كما تعرضت لترجمة الفيلسوف والمفكر الإسلامي أبن رشد لكتاب فن الشعر فضلاً عن إفراد مساحة حللت فيها مسرحية الملك أوديب لكاتبها اليونانى سوفوكليس . هذا ولقد تناولت في هذا الباب بعض عبارات أرسطوطاليس وكاستلفترو و ج درايدن بالتحليل .
الفصل الثاني : يناقش الكتاب أثر الفلسفة المثالية عند كل من كانط (Kant).1724ـ1804م وهيجل (Hegel) . 1770ـ1831م على كل من الكاتب الفيلسوفي الفرنسي دينيس ديدرو (Diderot) 1713 - 1784م والكاتب الدرامي والشاعر الانجليزي كلوردج (Samual tayior Coleridge) م ومن ثم استعراض الخطوط الرئيسة لنظريته الدرامية (الإيهام الدرامي).
الفصل الثالث : يتناول هذا الفصل الفلسفة الوضعية وأثرها على المذهب الواقعى فى المسرحية واقعية من أمثال سان سيمون( 1760 –1825م) وكذلك جوزيف برودون Joseph Broudon ( 1809 –1865م) والذي يري أن العدالة ما هي رؤية مثاليــة صنعها الإنسان لنفسه لكنها وليدة المجتمع .كما تم استعراض مسرح رائد الواقعية هنريك ابسن
الفصل الرابع : تناولت فى هذا الفصل أثر الفلسفة الوجودية (Existentialism )عند جان بول سارتر(Jean-Paul Sartre) والعدم عند البير كامي(Albert camus) 1913-1960م والعبثية (Absurd ) لدى صمويل بيكت واللامعقول لدى اوجين يونسكو (Eugene Ionesco ) 1912ـ1995 م كل ذلك في إطار تيار التعبيرية .
الفصل الخامس : تم افراد هذا الفصل لنقد نظرية الدراما الغربية وارساء قواعد رؤية جديدة بعنوان نظرية الدراما من التطهير الى التحمل. عشمي أن يضيف هذا الكتاب شيئاً مفيداً للقارئ الكريم في هذا المجال فإني أرى أن درباً طويلاَ قد بدأته بخطوة ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوقفنا في إكمال هذا الدرب فهو درب كثرت شعابه ودروبه
الفصل الأول
المذهب الكلاسيكي (384 ق.م – 1750م)
يعتبرالمذهب الكلاسيكي من أضخم التيارات المسرحية، أكبرها أثراً على نظريات النقد المسرحي ، البناء الدرامي والتأليف المسرحى ويمثل تيار الكلاسيكية النشأة الحقيقية للظاهرة المسرحية إذ لا زالت التراجيديا اليونانية تمثل العصر الذهبي لدي عديد من النقاد المسرحيين، لكل ذلك أفردت له هذا الفصل من البحث لتيار الكلاسيكية ، باحثاً فيها ومقتفياً اثر نظرية أرسطو طاليس (Aristotle) على من بعده من نقاد مسرحيين مثل هوراس Horace ورواد الكلاسيكية الجديدة (Neo -Classicism) بالاضافة الى إفراد مساحة لطبيعة الفكر الدرامي في فترة القرون الوسطى.
لقد مضى حتى اليوم نحو من ثلاثة وعشرين قرن على نظرية الفيلسوف اليونانى أرسطو طاليس في المأساة (Tragedy) والتي وردت في كتابه الشهير فن الشعر (Poetica) ولازالت هذه النظرية تحظى باهتمام النقاد المسرحيين والدراميين في كافة أنحاء العالم، لدرجة أن صارت نموذجاً أكاديمياً في أسس البناء الدرامي للمسرحية الكلاسيكية وأساليب التأليف المسرحي فضلاً عن بقاء عناصرها إلى يومنا هذا فى الاثار المسرحية ، بيد أن ثمة أمر لابد من الإشارة إليه، وهو أن نظرية أرسطو طاليس في التراجيديا ترتكز في أصولها على فلسفة أرسطو طاليس، ودون فهم هذه الفلسفة لتعذر كذلك فهم نظريته في الدراما وبالتالي يتعذر تحليلالمسرحية الكلاسيكية بالتحديد التي تمثل جذر وأصل الظاهرة المسرحية.
1- التراجيديا عند أرسطو طاليس (Aristotle)* 384- 322 ق.م:
كلمة تراجيدي (Tragos) والتي تعني (أغاني الشاة أو العنز)، وهي أنواع من "التراتيل التي يرددها كهنة الإله (ديونيسوس) في أعياد الحصاد ويطلق على هذه التراتيل مجتمعة أغاني الديثرامب (Dithyramb) وهي نوع من الترانيم يرددها كهنة الإله ديونيسوس أحد آلهة الإغريق1" وقيل إن شاة تمنح كجائزة للفائز الأول في المنافسات بين الشعراء في ذلك العيد وبعضهم زعم أن الاسم انبثق من جلد العنز الذي يلبسه عبدة الإله ديونيسوس.لقد تطورت هذه الترانيم إلى الشكل المسرحي والتمثيلي على يد تيسبيس**(Thispis).
أستطاع أرسطو طاليس أن يؤسس بناءً نظرياً محكماً لفن كتابة التراجيديا (مأساة) جاعلاً من الفعل (Action) قاعدة وأساساً لذلك البناء، لكل ذلك سوف أتناول بعض آرائه وتعابيره بالتحليل بغية الوصول لفهم تلك الآراء.
يقول أرسو طالي في تعريفه للمأساة "المأساة هي محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزودة بألوان التزيين تختلف وفقاً لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة أشخاصيفعلون، لا بواسطة الحكاية وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من الانفعالات2".
شمل هذا التعريف المفاهيم والمفردات التالية:
أ/ المحاكاة (Imitation).
ب/ الفعل (Action).
ج/ الحكاية (Story).
د/ الشخصية (Character).
هـ/ الرحمة والخوف (Fear & Pity ).
و/ التطهير (Catharsis).
أ- المحاكاة:
يرى ارسطو طاليس ان المحاكاة مسألة غريزية لدى الإنسان وهي في نظره إحدى خصائصه ومميزاته الأساسية، ويقول في ذلك "الإنسان يختلف عن سائر الحيوان في كونه أكثرها استعداداً للمحاكاة وبالمحاكاة يكتسب معارفه الأولية، كما أن الناس يجدون لذة في المحاكاة[1]".
يرى العديد من النقاد والباحثين في الفلسفة أن المحاكاة عند أرسطو طاليس تختلف اختلافاً جوهرياً عن مفهوم المحاكاة عند إفلاطون (Plato)" إذ يحصر أرسطو المحاكاة في الفنون، سواء كانت فنوناً جميلة كالموسيقى والرسم والشعر، أم فنوناً عملية كفن البناء والنجارة مثلاً، على حين يعمم أفلاطون المحاكاة على الموجودات، ويعتبرها نوعاً من أنواع المعارف المختلفة[2]".
أما المحاكاة التي نحن بصددها هنا هي ما تختص بفن التراجيديا وهي مسألة أصيلة في الإنسان وفقاً لرؤية أرسطو الفلسفية في التعلم وإدراك الأشياء ومعرفتها، ويقول أرسطو طاليس: "وسبب آخر هو أن التعليم لذيذ لا الفلاسفة وحدهم بل وأيضا لسائر الناس، وإن لم يشارك هؤلاء فيه إلا بقدر يسير، فقد نسر برؤية الصور لأننا نفيد من مشاهدتها علماً ونستنبط ما تدل عليه، كأن نقول إن هذه صورة فلان. فإن لم نكن رأينا موضوعها من قبل، فإنها تسرنا لا بوصفها محاكاة ولكن لإتقان صناعتها أو لألوانها أو ما شاكل ذلك[3]".
ويرى أرسطو طاليس أن محاكاة نوع تختلف من محاكاة نوع آخر في الأشياء الثلاثة الآتية:
أ/ وسيلة المحاكاة.
ب/ موضوع المحاكاة.
ج/ طريقة المحاكاة.
ويقول في ذلك "الملحمة والمأساة، بل الملهاة، والديثرامبوس* وجل صناعة العزف بالناي والقيثارة هي كلها أنواع من المحاكاة في مجموعها، ولكنها فيما بينها تختلف على أنحاء ثلاثة لأنها تحاكي إما بوسائل مختلفة، أو موضوعات متباينة أو بأسلوب متميز[4]".
تتم المحاكاة في المأساة بواسطة أشخاص يفعلون، وهذه نقطة مهمة لابد من الوقوف عندها بغية فهم حديث أرسطو طاليس فيالمحاكاة، فوسيلة المحاكاة هنا هي الشخصيات وأفعالها، ولكأن أرسطو يقرر بأن المأساة تتم عندما يقوم نفر من الناس بمحاكاة قصة أو أسطورة بأفعالهم، فالقيام بمثل هذه الأفعال من قبل هذه الشخصيات بغية محاكاة قصة سابقة هو أمر كفيل بإنتاج المأساة. وهذا أمر يقودنا إلى البحث في مفهوم الفعل (Action) عند أرسطو طاليس.
ب- الفعل (Action):
الفعل هو حجر الزاوية في البناء الدرامي للتراجيديا، لدرجة أن اهتمام أرسطو طاليس بأمر الفعل جعل من النقاد المسرحيين ينظرون إليه بوصفه أول من قدم الفعل (Action) على الشخصية (Character) في البناء الدرامي للمسرحية ولبحث مفهوم الفعل الدرامي عند أرسطو نشير إلى تعريفه السابق "المأساة هي محاكاة فعل نبيل تام لها طول معلوم الخ[5]". ولنبحث أولاً في التعبيرين (تام) و(طول معلوم).
يقول أرسطو طاليس: "لأن الشيء يمكن أن يكون تاماً دون أن يكون له مدى والتام هو ماله بداية ووسط ونهاية[6]". إذ فالشيء التام عند أرسطو طاليس هو ماله (بداية) و(ووسط) و(نهاية)، لأن ارسطو طاليس يضع لنا في ملامح منهجه التجريبي في مفهومه للفعل لذلك يعرف المفاهيم (بداية) و(وسط) و(نهاية) فيقول. "والبداية هي ما لا يعقب بذاته وبالضرورة شيئاً آخر. ولكن شئ آخر يحدث بالطبيعة نفسها[7]" وما يهمنا هنا معرفته إن أرسطو طاليس أن بداية الأشياء أمر محدد وهي بداية الشيء ذاته التي تسبق كل شئ. تأتي أولاً ولا تعقب أي شئ لا بـ(الضرورة) ولا بـ(الاحتمال)، وهو يري أن مثل هذه البداية لابد من أن يعقبها شئ بالطبيعة. فهو أمر يبدو متفقاً عليه منطقياً فإذا ما كانت البداية هي ما يسبق كل شئ فبالضرورة أن ثمة أشياء أخرى سوف تحدث من بعدها.
ويعرف أرسطو طاليس نهاية الفعل قائلاً "النهاية على العكس من هذا وهي ما بذاته وبالطبيعة يعقب شيئاً آخر، ضرورة أو في معظم الأحيان، ولكن ليس بعده شئ[8]" أي أن النهاية بالضرورة أن تكون مسبوقة بشيء ولا يعقبها شئ أخر. ويختتم أرسطو طاليس حديثه عن الفعل عندما يعرف الوسط قائلاً " الوسط هو ما بذاته يعقب شيئاً آخر، ويعقبه شئ آخر[9]" أي أن الوسط هو ما يقع بين البداية والنهاية ، فيعقب البداية ويسبق النهاية ، وهذا شئ منطقي في وسط أي شئ يمكن تجريبه.
بالنظر إلى هذا الفعل الارسطي و فحصه وجدناه فعلاً تجريبياً محكوماً بمدى معلوم ومحدد، وهو أمر هدف إليه أرسطو طاليس حتى يتسنى له بناء أساس متين للتراجيديا، منبثقاً من فلسفته ورؤيته الكونية التي اعتمدت على المنطق الصوري والقياسي. فبالتالي ووفقاً لنظرية أرسطو في الدراما أن التراجيديا هي محاكاة مثل هذا النوع من الأفعال ذات (البداية والوسط والنهاية) أي أن ارسطو يرى ضرورة اتباع المنطق الطبيعي في فن كتابة المأساة كما يحدث في تكوين الأشياء والأحداث في الطبيعة دون خلل، لان كل الأشياء تبدأ بداية محددة ثم تنمو وتشب عن الطوق ثم تفني أو وما الأشياء إلا أفعال في نظر ارسطو طاليس- كما نرى لاحقاً أي أن أرسطو طاليس ينظر إلى المأساة مثل نظرته للكائنات العضوية، وفي ذلك تقول Phyllis Hartnoll" ينظر ارسطو طاليس إلى المأساة مثل نظرته إلى الكائنات العضوية التي تتطور حتى تحقق شكلها الطبيعي ثم تموت أو تنتهي[10]"8
ومن الواضح أن حديث أرسطو طاليس عن (الشيء التام) كما لاحظنا ليس قاصراً على (التراجيديا) وحدها بل شمل مفهومه للشيء الجميل ويقول في هذا الصدد:" الجميل سواء كان كائناً أم شيئاً مكوناً من أجزاء بالضرورة ينطوي على نظام يقوم أجزائه هذه وله عظم يخضع لشروط معلومة فالجمال يقوم على العظم والنظام ولهذا فان الكائن العضوي الحي إذا كان صغيرا جداً لا يمكن أن يكون جميلاً، لأن إدراكنا يصبح غامضاً وكأنه يقع في برهة لا يمكن إدراكها، كذلك إن كان عظيماً جداً، بأن يكون طوله عشرة آلاف ميدان مثلاً، إذ في هذا الحالة لا يمكن أن يحيط به النظر، بل تند الوحدة والمجموع عن نظر الناظر. فإذا ما تقرر هذا، فانه كما أن الأجسام والأحياء يجب أن يكون لها عظم يمكن تناوله بالإدراك كذلك الأمر في (الخرافات*). يجب أن يكون لها من الامتداد ما تقوى الذاكرة على وعيه بسهولة[11]أي أن أرسطو طاليس يرى بأهمية التناسق من حيث البعد المادى والزمنى فى جمال الأشياء. إذن مفهوم (الطول المعلوم) ينطبق أيضا على الخرافة (القصة) التي تدور حولها الأحداث، والأفعال ولابد من أن تكون بطول يمكن إدراكه والإلمام به ويقول أرسطو طاليس في هذا: "وإنما الحد المتفق مع طبيعة الأشياء هو انه كلما طالت الخرافة بشرط إمكان إدراك مجموعها جملة ازداد جمالها الناشئ عن عظمها، ولو وضع قاعدة عامة في هذا نقول إن الطول الكافي هو الذي يسمح لسلسلة من الأحداث، التي تتوالي وفقاً للاحتمال والضرورة، أن تنتقل بالبطل من الشقاوة إلى النعيم إلى الشقاوة[12]وهكذا تتضح رؤية أرسطوطاليس وتحديده للفعل بـ(بداية ووسط ونهاية) هو في الأصل تحديد لطول زمن الأحداث الداخلية والأفعال التي تمكن الشخصيات من التحول الدرامي المطلوب من حال إلى حال من النعيم الى الشقاء على سبيل المثال، وهذا أمر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بوحدة البناء الداخلي للتراجيديا.هنا نعنى الزمن الداخلى للمسرحية الذى يشكل مكنيزمات التقليد والمحاكاة التى تتم بمنطق الضرورة أو الأحتمال كأن يجلس المشاعد فترة ثلاة ساعات لكنه يرى أحداث يوم كامل دون أن يحس خللا فى الترتيب الزمانى أو المكانى.
ج- الشخصية (Character)
اهتم أرسطو طاليس بسلوك الشخصية وأفعالها، فهو في ذلك لا يرى في الشخصية اكثر من أفعالها وسلوكها، كما عزى نجاح وفشل الشخصية إلى طبيعة أفعالها ويقول في ذلك "ومن ناحية أخرى، لما كان الأمر أمر محاكاة فعل والفعل يفترض وجود أشخاص يفعلون، لما كان الأمر أمر محاكاة فعل والفعل يفترض وجود أشخاص يفعلون، لهم بالضرورة أخلاق أو فكار خاصة أن الأفعال الإنسانية تتميز بمراعاة هذه الفوارق، فان ثمة علتين طبيعيتين تحددان الأفعال وأعنى بهما: الفكر والخلق والأفعال هي التي تجعلنا ننجح أو نخفق[13].
10
ويرى أرسطو طاليس أن الخرافة (القصة) في المسرحية الواحدة هي مجموع ما تقوم به الشخصيات من أفعال ويقول في ذلك "الخرافة هي محاكاة الفعل ولأنني اعني: بالخرافة تركيب الأفعال المنجزة[14]وهنا يبدو واضحاً أن أرسطو طاليس ينظر باهتمام إلى الفعل بحكم أنه الجانب المرئي وهو الجزء القابل للتحقق طالما أننا لا نقوى على الحكم على الشخصية إلا من خلال أفعالها المرئية والمحسوسة فقط، لأن أرسطو طاليس ينظر إلى البعد المادي للشخصية، وهذا الجزء المحسوس و الأنطلوجي للشخصية ليس سوى جسد ينطبق عليه منطقة الصورى يرى أرسطو أن الصورة مبدأ أولى للموجود الطبيعي لأنها فعل، أما الهيولي فهي قوة، والفعل متقدم على القوة إذ أن الفعل تمام الصورة وكمالها والقوة نقص بالنسبة للفعل[15].
وهنالك مسألة جوهرية في رؤية أرسطو طاليس للشخصية وعلاقتها بالسعادة أو الشقاء، فهو بعد أن قرر – كما لاحظنا – أن أخلاق الناس هي التي تكسبهم الخصائص السلوكية، يحدد بعد ذلك أمراً آخر فيما يختص بسعادتهم أو شقائهم إذ يقول: "فالناس هم ما هم بسبب أخلاقهم، لكنهم يكونون سعداء أو غير سعداء بسبب أفعالهم[16]وهذا الجانب مهم في نظرية أرسطو طاليس في الدراما، فهو يرى أن الشخصية تكون مأساوية أو سعيدة بأفعالها، وبالتالي إن الشخصية داخل البناء الدرامي للمسرحية تظل بلا معنى إن لم تفعل فعلاً واضحاً محدداً لمصيرها وهذه نقطة جوهرية يعززها أرسطو طاليس بقوله "وغاية الحياة كيفية عمل لا كيفية وجود[17] أي أن الشخصية الدرامية تستطيع تحقيق غايتها، ليس بوجودها لأن وجود الأشياء كما – يرى أرسطو – دون الأفعال وجود ناقص، فإن لم تفعل الشخصية المسرحية فعلاً واضحاً يحدد غايتها فقدت المسرحية أهم خصائصها، وفي ذلك يقول "فإن الأفعال والخرافة هما الغاية في المأساة، والغاية في كل شئ أهم ما فيه[18]"
ويمكننا القول في هذا إن أرسطو طاليس حصر الشخصية في بعدها المادي والتجريبي بغية القياس وهذه أهم خصائص المسرحية الكلاسيكية كما سنرى لاحقاً في هذا البحث.
د- الخرافة أو قصة المسرحية (Story)
يعني أرسطو طاليس بالخرافة قصة المسرحية والتي تشكل موضوعها وتدور حولها أحداث المسرحية، فهي قصة واحدة وإن جاءت نتيجة لجملة من الأفعال، ويرى أرسطو أن الخرافة هي محاكاة الفعل وقصة المسرحية هي الأساس في بناء المسرحية في رأي أرسطو طاليس، وبالتالي تكون المأساة ذات شأن عظيم إذا ما اهتم مؤلفها بعلاقة الأفعال وبنائها وحذق قصتها التي تدور حولها حياة كل شخصيات المسرحية، لذلك أهتم أرسطو بالقصة أكثر من الفكرة التي ترمي إليها ويقول في ذلك "ولو برع المرء في تأليف أقوال تكشف عن الأخلاق وجلالة الفكرة، لما بلغ المراد من المأساة، إنما يبلغه حقاً بمأساة أضعف عبارة وفكرة ولكنها ذات خرافة وتركيب أفعال أضف إلى هذا أن مصدر اللذة الحقيقي لنفس المشاهد للمأساة إنما هو في أجزاء الخرافة، أعني التحولات[19]" ويعني أرسطو أن المشاهد يجد نفسه أكثر استمتاعاً عندما يشاهد تحولات الشخصيات ويرى الأفعال التي أدت إلى هذه التحولات والتي من شأنها أن تحدث تحولاً في حظ الشخصية وقدرها فتصير من الشقاء إلى السعادة أو العكس.
هـ - الوحدة (Unity):
12
مفهوم الوحدة العضوية في المسرحية من اهم المفاهيم التي نادت بها الكلاسيكية في المسرح، ويعتبر الفيلسوف أرسطوطاليس أول من دعي لمفهوم (الوحدة) فهو يرى الأشياء ممكنة: إما بحسب الاحتمال، أو بحسب الضرورة[20] أما بخصوص الوحدة العضوية في المسرحية فهي أمر هام، إذ دون البناء العضوي الواحد للقصة تفتقر المسرحية لخاصية ربط وتسلسل الأحداث والأفعال لتصير جسماً واحداً، ويرى أرسطوطاليس أن الشاعر* يروي لنا أحداثاً تتجاوز الواقع الآتي إلى المستقبل في ضوء (الاحتمال) أو (الضرورة) ويقول في ذلك: "وواضح كذلك مما قلناه أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلاً، بل رواية ما يمكن أن يقع.... ذلك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بكون أحدهما يروي الأحداث شعراً والآخر يرويها نثراً، وإنما يتميزان من حيث أن أحدهما يروي الأحداث التي وقعت فعلاً، بينما الآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع[21]" ولقد نظر أرسطوطاليس من هذا الجانب إلى المسرحية والشعر عامة بصفتها أرقى درجة من التاريخ ويقول في ذلك: "الشعر أوفر حظاً من الفلسفة وأسمى مقاماً من التاريخ[22]" لأنه يرى أن "الشعر يروي الكلي بينما التاريخ يروي الجزئي وأعني بالكلي أن هذا الرجل أو ذاك سيفعل هذه الأشياء أو تلك على وجه الاحتمال أو على وجه الضرورة، وإلى هذا التصوير يرمي الشعر، الجزئي هو ما فعله البيادس أو ما جرى له[23]".
وفضلاً عن ارتباط أحداث المسرحية بمفهومي الضرورة والاحتمال وفقاً لرؤية أرسطوطاليس لابد من أن تلتزم بالوحدة (Unity)، هو ذات الشيء الذي يقود إلى وحدة القصة (Plot Unity) وهذا التوحد المتصاعد والمتطور من البداية إلى النهاية مروراً بالوسط كفيل بدفع أحداث المسرحية إلى القمة أو الذروة (Climax) في البناء الدرامي للمسرحية. لكن بالضرورة أن نفهم بأن أرسطوطاليس يؤكد لنا بأن الوحدة في الفعل لا تشترط أن وحدة الشخصية "إن وحدة الخرافة لا تنشأ، كما يزعم البعض، عن كون موضوعها شخصاً واحداً لأن حياة الشخص الواحد تنطوي على ما لا حد له من الأحداث التي تكون وحدة، لذلك الشخص الواحد يمكن أن ينجز أفعالاً لا تكون فعلاً واحداً[24]" إن وحدة الفعل أمر جوهري في البناء الدرامي للمسرحية الكلاسيكية التي اتخذت من قوانين أرسطوطاليس قاعدة لها، لأن الانتقال من مرحلة إلى أخرى وفقاً لهذه المنظومة يوفر إمكانية أكبر لدى المشاهد لمتابعة مصير الشخصيات وتطورها من أسوأ إلى أفضل (من الشقاء إلى السعادة) أو العكس من (السعادة إلى الشقاء).
– الذروة: (Climax):
14
إن تطور الفعل أو الحدث من البداية إلى النهاية، لابد له من ذروة أو قمة ينحدر بعدها الفعل إلى اتجاه الحل بعد إحداث تحول معرفي في طبيعة الشخصيات ثم ينحرف الفعل في اتجاه النهاية و "التحول هو انقلاب الفعل إلى ضده كما قلنا وهذا يقع أيضاً تبعاً للاحتمال والضرورة[25]"، وهذا الحل يتم للعقدة التي انبنت عليها قصة الشخصيات نفسها، لأنها ستكون على معرفة وإدراك بما حدث لها الأمر الذي يجعلها تعدل من أفعالها بالتالي من حظها، فيتغير مصيرها هو الآخر محدثة انقلاباً كاملاً تاماً واتجاهاً معاكساً لخط سير الحدث، ويقول أرسطو في ذلك: "والتعرف كما يدل عليه اسمه انتقال من الجهل إلى المعرفة يؤدي إلى الانتقال أما من الكراهية إلى المحبة أو من المحبة إلى الكراهية عند الأشخاص المقدر لهم السعادة أو الشقاء، وأجمل أنواع التعرف المصحوب بالتحول من نوع ما نجده في مسرحية اديفوس*[26]" ويضرب مثلاً بمسرحية (Oedipus The King) لسوفكليس والتي سوف نورد لها تحليلاً في آخر هذا الفصل.
– الرحمة والخوف: (Fear):
17
يرى أرسطوطاليس أن الهدف من عقدة المسرحية وحلها هو إما الرحمة أو الخوف وهي جميعها أشياء من شأنها إثارة (التطهير) (Catharsia) لدى المشاهد، ويقول في هذا الصدد "في كل مأساة جزء يسمى العقدة، وجزء آخر هو الحل، والوقائع الخارجة عن المأساة وكذلك بعض الأحداث الداخلة فيها تكون غالباً العقدة أما الحل فيشمل ما عدا ذلك. وأعني بالعقدة ذلك القسم من المأساة الذي يبدأ ببدايتها ويستمر حتى الجزء الأخير الذي منه يصدر التحول: إما إلى السعادة أو إلى الشقاوة. وأعني بالحل ذلك القسم من المأساة المبتدئ من بداية هذا التحول حتى النهاية[27]" ومن الواضح أن أرسطوطاليس يربط العمل الفني في تقييمه في بنائه ومحتواه بفلسفته في مجال الأخلاق حيث يجعل السعادة هي الغاية لكل نشاط. ويقول أرسطو: "إن الحكاية يجب أن تؤلف على نحو يجعل من يسمع وقائعها يفزع منها وتأخذه الرحمة بصراعها وإن لم يشهده[28]".
ح – التطهير Catharsis:
التطهير هو الهدف النهائي الذي تحققه التراجيدبا لدى المشاهد. وهو من الواضح مفهوم له علاقة برؤية أرسطوطاليس لأمزجة النفس البشرية، لأن أرسطو يرى أن الأحداث التي تثير الرحمة والخوف وتؤدي إلى التطهير هي من تلك الأحداث التي تقع بين الأصدقاء "كأن يقتل أخ أخاه أو يوشك أن يقتله، أو يرتكب في حقه شناعة من هذا النوع، وكمثل ولد يرتكب الإثم في حق أبيه أو الأم في حق أبنها، أو الابن في حق أمه، نقول مثل هذه الأحوال هي التي يجب البحث عنها[29]" والتطهير بهذا المعنى الذي هدف أرسطوطاليس هو الأصل في التراجيديا اليونانية، ولقد دار نقاش طويل بين الدراميين والنقاد ومفسري أرسطوطاليس حول التعبيـر ( تطهير) (Ctharsia)* لكن من الواضح أنه يعني التعاطف الوجداني الذي يصيب المشاهد اليوناني وتأثره بالأحداث التي تحدث للشخصية المحددة في العرض المسرحي.
وبحديثنا عن التطهير نكون قد أشرنا إلى العناصر الأساسية في نظرية أرسطوطاليس في المسرحية التراجيدية، وهي كما ذكرنا في صدر هذا الفصل ذات أثر كبير وفاعل على الفكر الدرامي ونظريات النقد المسرحي إلى يومنا هذا، فالتفسير الكلاسيكي للمسرحية في الأصل نظام وأثر كلاسيكي وبالتالي فإن أي تحليل لهذا النظام أو الأثر لابد من أن يكون من بوابة المفاهيم الكلاسيكية نفسها، وسوف نفرد ما تبقى من هذا الفصل لأثر أرسطو على كل من خلفوه.
2- أتباع أرسطوطاليس
ورثت الإمبراطورية الرومانية الحضارة اليونانية بما في ذلك فن المسرح ، وما الملهاة الرومانية إلا ظلاً لأنماط الملاهي اليونانية وامتداد لتلك الملاهي ولم يدخل عليها إلا القليل فقط من العناصر المحلية. لكن أهم ما في الأمر أن نشأة الملهاة في روما هي نشأة دينية كما هو الحال في نشأة المسرح اليوناني، وأشهر كتاب الدراما اليونانية هما بلوتوس (Titua Maccus Plautus) 254- 184 ق. م. والكاتب الثاني هو تيرانس "بيبليوس ترنتيوي أفر تيرانس Publius Terentiud Afer أحد أهالي قرطاجنة، والذي ولد قبيل وفاة بلوتوس بسنين قلائل وهو الذي كان يذكر إلى جانب بلوتوس كلما أثنى الناس على مؤلفي الملاهي الرومانيين[30]" أما على مستوى الفكر الدرامي يعتبر الفيلسوف والناقد الروماني (هوراس) خليفة لأرسطوطاليس في الإمبراطورية الرومانية، حيث جاء كتابه (فن الشعر) محتوياً على عدد كبير من تعاليم (فن الشعر) لأرسطوطاليس.
أ/ هوراس Horace
كتب هوراس Horace مؤلفه (فن الشعر) في عام 224 ق. م. وهو عبارة عن خطاب أو مجموعة نصائح لولده ولقد التزم هوراس بتعاليم أرسطوطاليس في الشعر عامة والدراما على وجه الخصوص، وكتابه أقل وأقصر بكثير من كتاب (فن الشعر) لأرسطو طاليس لكنه كفيل بتوفير رؤية هوراس للجمال وعلاقة ذلك بالأخلاق والدراما. ويفتتح هوراس رسالته عن فن الشعر بحديث قصير عن الوحدة الفنية فيقول: "لنفرض أن رساماً وضع رأساً آدمياً على عنق حصان .. أو جسم امرأة جميلة علي ذيل سمكة .. ألا تثير مثل هذه الرسومات ضحكنا؟ إن أي كتاب لابد أن يحدث في نفوسنا مثل هذا الأثر ... وقد نقول إن الشعراء يتمتعون بحريات كثيرة وهو صحيح ولكن ليس إلى الحد الذي يستباح لهم بأن يقرنوا الأفاعي بالطيور والحمل بالنمر[31]".
ولقد وضع هوراس نصائح تفيد الكاتب المسرحي "إذا شئت أن تكون كاتباً يجب أن تختار موضوعاً فوق طاقتك .. والرجل الذي يختار موضوعاً يلائم قدراته لن تخذله الكلمات وأفكاره ستكون واضحة[32]".
كما اهتم هوراس بالشخصية قائلاً: "إذا كنت تريد مستمعاً ينتظر مسرحيتك إلى أن ينزل عليها الستار يجب أن تلاحظ سلوك الناس في مختلف مراحل العمر وأن تخصص لكل مرحلة ولكل مزاج صفات مميزة للشخصية[33]" وهذا الحديث يظهر تأثر هوراس بأرسطوطاليس، لأن ملاحظة سلوك الناس ومراحل مزاجهم أمران يتربطان بالتطور الطبيعي للشخصية وهو ما سعى إليه أرسطوطاليس في حديثه عن التحول في الشخصية وعلاقة كل لذلك بالفعل.
المسرح في العصور الوسطى:
لم تخلف لنا العصور الوسطى مسرحاً (Theater) كما هو الحال في المسرح اليوناني أو الروماني. في ذلك العصر خرج الإنسان الغربي من عهد الوثنية إلى المسيحية. كما تخلص المجتمع حينها من سلطان الملك الواحد ثم بدأت المؤسسة الاجتماعية تأخذ هيبتها بالتدرج لقد كانت الصناعة تزداد أهمية، والتجارة في طريقها إلى التطور، والنقد في ذلك الوقت قي أيدي الصيارفة وأصحاب البنوك بعد أن "كان في كنوز الملوك[34]". إن العصور الوسطى تمثل مرحلة أساسية في التطور الاجتماعي في الغرب الأوروبي وهي فترة أعقبت القرون المظلمة التي لا زالت تمثل حلقة مفقودة في تاريخ أوروبا، لكن القرون الوسطى أخرجت الإنسان الأوروبي من عهد تعدد الآلهة والملوك و(أنصاف الآلهة) إلى عهد عبادة دين توحيدي وهو الدين المسيحي.
الكنيسة والمسرح:
إذا نظرنا إلى المجتمع اليوناني القديم في شكله الميثولوجي نجد أن المسرحية فيه جاءت تطوراً تاريخياً لأناشيد (الديثرامبوس*) التي هي أصلاً تراتيل يؤديها كهنة الإله ديوينسوس كما ذكرنا سالفاً، كذلك لقد اتجهت الدراما عامة والمسرحية على وجه الخصوص إلى الدين المسيحي، حيث لعب القساوسة المسيحيون دوراً كبيراً في نقل المسرحية إلى داخل الكنيسة وأصبح عامة الشعب يتلقون التعاليم من هؤلاء الكهنة "وكانوا يشجعون على الإيمان بأن هذه الحياة ليست إلا مجرد ممر قصير وسط واد من الدموع يجب على الإنسان خلاله أن يستعد لما هو بالمكان الأعظم نت حيث الأهمية, ألا وهو الحياة ما بعد الموت[35]".
وهكذا دخل المسرح الكنيسة كوسيلة دعوة للمسيحية وأداة بيد القساوسة والكهنة المسيحيين، يعرضون بواسطته قصص الكتاب المقدس، ويشخصون الأعياد المتعددة، ولقد أفاد المسرح كثيراً في تخليص ذلك المجتمع من عبادة الأوثان إن هؤلاء المتفرجين في أول الطريق إلى الهرب من الوثنيين المخلصين الذين لا أحلام لهم. لقد كانت العذراء مريم كلما ظهرت على منصة هذا الرصيف إذا هم تأخذهم موجة من الاحترام والاستثارة . وكانوا يصلون على أنفسهم في خشوع وورع عند هذه الحادثة أو ذلك الإيهام. وكانوا يتقبلون في إجلال إكراماً لما يتلى عليهم من حادث محبوب من حوادث الكتاب المقدس[36]" وهكذا تخلصت المسرحية من الأسطورة اليونانية، كما كانت عند (اسخيلوس*) أو سوفيلكس .. الخ واتخذت من قصص الكتاب المقدس والشعائر الكنسية موضوعاً لها، فظهرت أربعة أنواع من المسرحية:
أ/ مسرحيات الخوارق.
ب/ مسرحيات الحمقى.
ج/ المسرحية الأخلاقية.
د/ مسرحية الفواصل.
لكن حتى الآن لا يمكننا التعرف على الطريقة التي كانت تكتب بها تلك المسرحيات وبنائها الدرامي، ويقول شلدوني تشينى في هذا الصدد "إننا لا نستطيع فهم مسرحية الخوارق ومسرحية الحمقى والمسرحية الأخلاقية ومسرحية الفواصل إلا بالوقوف على ما كانت تعج به الحياة في ذلك الوقت من متناقضات: بين البلاهة والأمعية وبين العزيمة والتصميم الجديد على التعلم بين التفكير الخرافي والتفكير الحر المستقل والتهتك[37]" لكن هناك (مسرحيات الأسرار*) التي زودت الباحثين بالشذرات المكتوبة.
ويمكننا القول أخيراً في هذا الصدد إن المسرح في العصور الوسطى كان مسرحاً كنسياً، وإن الكنيسة الأوروبية استفادت من الشكل المسرحي في إيصال العديد من المفاهيم والشعائر المسيحية. إذن فالدين المسيحي هو الفكر الأساسي الذي أنبنت عليه المسرحية الكنسية في العصور الوسطى في القرن الثاني والثالث وحتى الرابع الميلادي، ولقد ظلت روح الكنيسة سائدة في العديد من المسرحيات حتى عصر النهضة الإيطالي "ففي مدينة لوسرن وفي سنة 1584 عرضت تمثيلية عيد الفصح (عيد القيامة أو العيد الكبير)، في ميدان السوق، وقد أقاموا الجنة (والسماء) في احدى جوانب الميدان وكانت أشبه بقصر محصن ذي أبراج، كما أقاموا الهيكل[38]".
أبضاً حفلت عديد من المؤلفات بشخصيات ومفاهيم المسرح الكنسي مثل تصوير شخصية الشيطان كما في مسرحية فاوست (Foust) لمارلو *(Marllowo).
ج- الكلاسيكية العائدة 1560- 1700( NEO-CLASSICAL )
نظرية الدراما 1560- 1770م:
كان لاكتشاف كتاب (فن الشعر) لأرسطو وترجمته عام 1498 أثراً بالغاً على النقد الدرامي وفن كتابة المسرحية في تلك الفترة، فنتج عن ذلك تيار (الكلاسيكية العائدة) تيمناً بأرسطوطاليس وإتباعاً لنظرتيه الكلاسيكية، وعلى الرغم من بوادر حركة التنوير في في أول الطريق إلى الهرب من الوثنيين المخلصين الذين لا أحلام لهم. لقد كانت العذراء مريم كلما ظهرت على منصة هذا الرصيف إذا هم تأخذهم موجة من الاحترام والاستثارة . وكانوا يصلون على أنفسهم في خشوع وورع عند هذه الحادثة أو ذلك الإيهام. وكانوا يتقبلون في إجلال إكراماً لما يتلى عليهم من حادث محبوب من حوادث الكتاب المقدس[39]" وهكذا تخلصت المسرحية من الأسطورة اليونانية، كما كانت عند (اسخيلوس*) أو سوفيلكس .. الخ واتخذت من قصص الكتاب المقدس والشعائر الكنسية موضوعاً لها، فظهرت أربعة أنواع من المسرحية:
أ/ مسرحيات الخوارق.
ب/ مسرحيات الحمقى.
ج/ المسرحية الأخلاقية.
د/ مسرحية الفواصل.
لكن حتى الآن لا يمكننا التعرف على الطريقة التي كانت تكتب بها تلك المسرحيات وبنائها الدرامي، ويقول شلدوني تشينى في هذا الصدد "إننا لا نستطيع فهم مسرحية الخوارق ومسرحية الحمقى والمسرحية الأخلاقية ومسرحية الفواصل إلا بالوقوف على ما كانت تعج به الحياة في ذلك الوقت من متناقضات: بين البلاهة والأمعية وبين العزيمة والتصميم الجديد على التعلم بين التفكير الخرافي والتفكير الحر المستقل والتهتك[40]" لكن هناك (مسرحيات الأسرار*) التي زودت الباحثين بالشذرات المكتوبة.
ويمكننا القول أخيراً في هذا الصدد إن المسرح في العصور الوسطى كان مسرحاً كنسياً، وإن الكنيسة الأوروبية استفادت من الشكل المسرحي في إيصال العديد من المفاهيم والشعائر المسيحية. إذن فالدين المسيحي هو الفكر الأساسي الذي أنبنت عليه المسرحية الكنسية في العصور الوسطى في القرن الثاني والثالث وحتى الرابع الميلادي، ولقد ظلت روح الكنيسة سائدة في العديد من المسرحيات حتى عصر النهضة الإيطالي "ففي مدينة لوسرن وفي سنة 1584 عرضت تمثيلية عيد الفصح (عيد القيامة أو العيد الكبير)، في ميدان السوق، وقد أقاموا الجنة (والسماء) في احدى جوانب الميدان وكانت أشبه بقصر محصن ذي أبراج، كما أقاموا الهيكل[41]".
أبضاً حفلت عديد من المؤلفات بشخصيات ومفاهيم المسرح الكنسي مثل تصوير شخصية الشيطان كما في مسرحية فاوست (Foust) لمارلو *(Marllowo).
ج-الكلاسيكية العائدة 1560-1700(NEO-CLASSICA).
نظرية الدراما 1560- 1770م:
كان لاكتشاف كتاب (فن الشعر) لأرسطو وترجمته عام 1498 أثراً بالغاً على النقد الدرامي وفن كتابة المسرحية في تلك الفترة، فنتج عن ذلك تيار (الكلاسيكية العائدة) تيمناً بأرسطوطاليس وإتباعاً لنظرتيه الكلاسيكية، وعلى الرغم من بوادر حركة التنوير في العلوم المختلفة إلا أن المسرح وجد في ألأدب اليوناني القديم ضالته المنشودة، وفي انجلترا وحدها ارتبطت أسماء أربعة من الكتاب المسرحيين بتيار (الكلاسيكية العائدة)، فحذوا حذو أرسطوطاليس في البناء الدرامي، ودعوا إلى كتابة المسرحية التراجيدية على النمط السوفوكليسي ذي البناء الأرسطي، فإذا ما استثنينا (شكسبير 1564- 1661م) والذي يعتبر حلقة الوصل بين الكلاسيكية والرومانسية، نجد ان كل من بن جنسون (Ben Janson) 1972- 1637 وروبرت قرين (Robert Green) 1560- 1592م و(كريستوفر مارليو Christopher Marlowe) 1568- 1593م قد كتبوا مسرحياتهم اعتماداً على قوانين أرسطوطاليس هذا بالطبع في إنجلترا وحدها، أما في إيطاليا وفرنسا وبقية أوربا فقد كان أثر أرسطوطاليس هو الآخر كبيراً. ولقد ظهر عدد من النقاد في تلك الحقبة دعوا إلى عودة الكلاسيكية واشتهروا كرواد لما أطلق عليه اسم الكلاسيكية العائدة وأشهرهم:
كاستلفترو LudovicCastelvatro 1505- 1571م:
22
نشر كاستلفترو (إيطالي) ترجمته وتعليقه على كتاب (فن الشعر) عام 1570م، ومن أهم أركان دعوته، الوحدات الثلاثة، وحدة الفعل وحدة الزمان ووحدة المكان مرتكزاً على رأس أرسطوطاليس فهو يرى من الضروري وجود (وحدتي الزمان والمكان) في الدراما، وألا ينتقل المنظر من مكان إلى مكان آخر كما أن الزمن الذي تدور فيه الأحداث ينبغي أن يكون متصلاً وبعبارة أخرى فإن هذه القواعد تحظر وقوع الفصل الثاني كما في المسرحية الحديثة بعد خمس سنوات، أو في مكان مختلف تماماً من مكان الفعل الأول، ولو إحترمت الحديث وحدتي الزمان والمكان، لكان من الضروري، في رأي كاستلفترو أن تترتب عليها وحدة الحوادث. ذلك لأن أحداث المسرحية ينبغي عندئذ أن تكون متصلة ومترابطة، وهذه الوحدات –وحدة الزمان، المكان، والحدث- ظلت جميعها تسود قدراً كبيراً من الدراما الأوروبية طوال ما يزيد على قرنين من الزمان، وفي حديثه عن وحدة الزمان يقول كاستلفترو: "إن الزمن الذي يتناسب وطبيعة المشاهدين وهم على مقاعدهم ليس بالضروري أن يكون دورة شمسية كاملة كما قال أرسطوطاليس، لأن ذلك يعادل إثنتي عشر ساعة، ولأنه بالرجوع إلى احتياجاتهم الجسدية من مأكل ومشرب وقضاء حاجاتهم ... الخ لا يمكن للمشاهدين البقاء داخل المسرح كل تلك المدة المذكورة[42]".
كما اتفق كاستلفترو مع أرسطوطاليس حول وحدة الفعل وهو ما يهمنا في هذا الفصل بالتحديد إذ يعزى اهتمام أرسطوطاليس بوحدة الفعل، أراد بها أن تكون (العقدة Plot واحدة في حكاية واحدة) لكن أرطوطاليس قد ركز بشدة على ضرورة أن تأتي القصة في كل من التراجيديا والكوميديا على حدث أو فعل واحد وأن تكون عن شخص واحد وليس عن كل الناس، هذا ليس لعدم مقدرة احتواء القصة الواحدة على أكثر من فعل واحد، بل "لأن الزمان الأثنى عشر ساعة التي يتم فيها تصوير الفعل أو الحدث، لا يسع خليطاً من الأفعال ولا حتى أسرة واحدة ولا حتى يكفي لفعل كامل[43]".
2- توماس ريمر (Thomas Rymer)
25
إلا أن الكلاسيكية العائدة شهدت نقاداً بلغوا درجة من التعصب لمذهب أرسطوطاليس لم يسبق له مثيل، وهو ما فعله توماس ريمر (إنجليزي)، الذي جعل من نظرية أرسطوطاليس في الدراما قالباً مسرحياً، فإذا لم تتوافق معه المسرحية نظر إلى تلك المسرحية على أساس أنها لا تشبه المسرح في شيء!! وتوماس ريمر نموذج حقيقي لما يطلق عليهم أنصار (النقد القواعدي) وهو نوع من النقد الذي يهتم بالقاعدة أكثر من الأثر الإبداعي نفسه فيه تعصب للمنهج أكثر من الموضوع نفسه وهو ما فعله توماس ريمر الذي عاش في أواخر القرن السابع عشر في مؤلفه (نظرة قصيرة إلى التراجيديا)، جاعلاً نقده مرتكزاً على كتاب الشعر لأرسطو. فتحدث عن أعظم الشعراء الإنجليز الذين كانوا غير موفقين .. نتيجة للجهل بتلك القواعد والقوانين الأساسية التي وضعها أرسطو أو تجاهلهم لها. وقد استخدم ريمر هذه القواعد، كما فهمها، في نقد شكسبير، وهكذا طبق قاعدة النمط النفسي وهي الصيغ التي عبرت بها الحركة الكلاسيكية الجديدة عن فكرة الشمول عند أرسطو على مسرحية عطيل. "فهاجم المسرحية هحوماً كان عنيفاً أشد العنف، وزعم أن (ياجو*) لا يتماشى مع النمط إذ أن (ياجو) جندي، والجنود دائماً يتمتعون بقلوب مفتوحة، وبسطاء في معاملتهم، وبالمثل فقد كان من المستحيل أن تتزوج (ديمونة*) رجلاً أسوداً"، كما كان من المستحيل أن يكون (عطيل) قائداً في (البندقية) وهكذا أن شكسبير لا يعرف قاعدة النمط لأنه يدخل ترويجاً هزلياً وسط التراجيديا ومن الواضح أنه لا يحترم الوحدات الدرامية أي أن الأحداث تنتقل من مكان إلى آخر، لهذه الأسباب كلها انتهى ريمر إلى "أن شكسبير حين كتب التراجيديا، يبدو بعيداً عن مستواه تماماً، فذهنه معوج، وهو يهذي دون أي ترابط[44]".
لقد كانت الكلاسيكية العائدة ترى في الفكر اليوناني نبراساً مقدساً، وتعتبر قضايا المسرح اليوناني هي العصر الذهبي للمسرح في نظر الناقد وهو ما نجده في مسرحيات كل من (كريستوفر مارلو) و(روبرت قرين) و(بن جونسون) ويجد القارئ لمسرحية (فاوست) لمارلو أثر القرون الوسطى ومسرحيات الأسرار خاصة. لذلك عندما اتجه ويليام شكسبير إلى تصوير الشخصية بدلاً عن دور الفعل الذي تكرس له المسرحية الكلاسيكية ثار عليه النقاد واعتبروه خارجاً عن العرف، ومتمرداً على القاعدة الأرسطية (من أرسطوطاليس)، أو وصفه بالجهل وعدم الدراية، وهو ما لمسناه في حديث توماس رايمر.
3- جون دريدن John Dryden 1731- 1700م
27
26
على الرغم من الطبيعة الكلاسيكية لجون داردن التي ناصر فيها النظرية الأرسطية، إلا أنه أحدث تميزاً بين نظرائه من نقاد الكلاسيكية العائدة "لا يكفي أن أرسطو قال كل ذلك لأن أرسطو استمد نماذج التراجيديا من سوفكليس ويوربيدس* ولو كان شاهد تراجيديتنا الحالية، لكان من الجائز أن يغير رأيه[45]" يبدو واضحاً مؤشر الخروج على أرسطو في حديث جون دريدن. وهو ما حاول إثباته في مؤلفاته والتي أبرز فيها دوراً كبيراً للشخصية ذات الشيء الذي نجده عند ويليام شكسبير. وفي الحقيقة أن جون دريدن على نقيض توماس رايمر تماماً حيث أكد على أثر الطبيعة والعصر على المسرحية. ويعتبر نقطة فارقة في الكلاسيكية العائدة وبداية الخروج عن سلطة أرسطوطاليس. وخلفه في ذلك الكسندر بوب (A. Pope) الذي أعد كتاباً أطلق عليه اسم دراسة النقد عام (1711م)، "ويرى فيه ضرورة كسر قواعد أرسطوطاليس حتى يصل العمل شغاف القلب، كما أنه كان يؤمن (بالغاية) الجمالية فيقول "فالعمل يكون قد حقق هدفه عندما يبعث صورة من الانفعال والحرارة في الذهن[46]".
4- أرسطوطاليس والفلاسفة المسلمين:
عرف العرب والفلاسفة الفيلسوف أرسطوطاليس وترجموا كتبه عامة وكتابه (فن الشعر) خاصة. ومن أهم الترجمات العربية ترجمة الفيلسوف الإسلامي (ابن رشد) والتي جاءت بعنوان (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر) وهي ترجمة وافية وتحليلية مزودة بأنواع من الشروح والمقارنات "الغرض في هذا القول تلخيص ما في كتاب أرسطوطاليس في الشعر من القوانين الكلية والمشتركة لجميع الأمم، وللأكثر، إذ كثيراً مما فيه هي قوانين خاصة بأشعارهم، وعاداتهم فيها أما أن تكون نسباً موجودة في غيرهم من الألسنة[47]"
وفي شرحه لعبارة أرسطوطاليس (التراجيديا محاكاة فعل نبيل تام ... الخ) في تعريفه للتراجيديا يقول ابن رشد: "نقول أنه يجب أن تكون صناعة المديح مستوفية لغايات فعلها من التشبيه ومحاكاة الغاية التي في طباعها أن تبلغه. وذلك يكون بأشياء: أحدهما أن يكون للقصيدة عظم ما محدود وتكون به كلا وكاملة[48]" ومن الملاحظ لم يترجم ابن رشد كتاب (فن الشعر) ترجمة حرفية بل سعى لترجمة المفاهيم والمضامين ولقد تأثر النقد الأدبي العربي بأرسطوطاليس تأثراً كبيراً خاصة فيمايتعلق بمفهوم الوحدة العضوية للقصيدة" ومن ذلك اتجاه قدامة إلى دراسة الأجناس الأدبية تبعاً لنظرة أرسطوطاليس في النظر إلى العمل الأدبي بوصفه كلاً ذا وحدة في حدود مافهم قدامة ومن سايروه[49]"
وبنهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، لحقت النظرية الدرامية والنقد المسرحي بركب العلوم الأخرى التي تأثرت بالفلسفة الوضعية التي أشعلها (فرانسيس بيكون) فبدأ واضحاً مؤشر الخروج من المسرحية اليونانية والنمط السوفكلي- من سوفكليس- والبناء الأرسطي. لكن قد حدث هذا التحول تدريجياً، وفي مرحلة متقدمة من القرن الثامن عشر، وبعد إزدهار العلوم الإنسانية المختلفة مثل علم الاجتماع وعام النفس وظهور تيارات فكرية متعددة، أكدت أهمية التجربة الإنسانية انتقال النص المسرحي إلى مرحلة جديدة ومذهب آخر وهو المذهب الرومانسي. وفيما يلي وفي خاتمة هذا الفصل أقدم تحليلاً لمسرحية الملك أوديب.
تحليل فلسفي لمسرحية الملك أوديب اعتماداً على نظريةارسطوطاليس الكلاسيكية:
سوفكليس Sophocles (496- 406 ق.م)
كتب سوفكليس مجموعة من المسرحيات لم يبق منها غير ثماني مسرحية هي أجاكس، أنتيجون، أوديب ملكاً، وأوديب في مدينة كولون. أسهم إسهاماً كبيراً في تطوير شكل ومضمون المسرحية اليونانية.
قصة المسرحية كما هي في الأسطورة:
تقول الأسطورة اليونانية إن لعنة أصابت أسرة (كدموس) حيث أخبرت الإله الملك (لايوس) ملك (ثيبية*) بأن ابناً من صلبه سيقتله ويتزوج زوجته وسينجب منها أبناءً من أمه وأخواناً له. أمر الملك لايوس أحد الخدم بأن يأخذ ابنه (أوديب) بعد ولادته مباشرة ويتركه عند الغابة لتفترسه الوحوش. لكن الخادم لم يفعل ما أمر به لا يوس. فشب الابن في مدينة أخرى، ثم يستشير الآلهة فتأمره بالعودة والبحث عن أسرته وفي الطريق التقى برجل شيخ مع حرسه فوقع بينهم شجار فقتل أوديب الشيخ. ومضى في طريقه حتى وصل إلى مدينة ثيبة. وإذا حيوان غريب قد قام على صخرة قريباً من المدينة يلقي على كل من مر به لغزاً فإن لم يحله افترسه. وكان أهل (ثيبة) قد علموا بموت ملكهم الشيخ في طريقه، ولم يعرفوا قاتله وكان الهلع قد ملأ قلوبهم لمكان هذا الحيوان من مدينتهم وسوء أثره فيهم. فأعلن (كريون) الوصي على الملك في المدينة أن أي الناس استطاع أن يخلص المدينة من هذا البلاء فله عرشها، وله أن يتزوج الملكة فلما مر أوديب على الحيوان طرح عليه الحيوان السؤال فأجابه فخر ميتاً، فآل الملك لأوديب وتزوج الملكة جوكستا (Jocsta) وولد منها ابناء. ثم أصاب الطاعون مدينة (ثيبة) فما كان من الرعية إلا أن اتجهوا لملكهم (أوديب) لإنقاذ مدينتهم كما أنقذهم من الوحش.
شخصيات المسرحية:
أوديب ملك طيبة
جوكستا زوجة أوديب
كريون أخ جوكستا
تريزياس عراف ضرير
كاهن
رسول
راعى
حضور
كورس طيبة
مجلس الملك
مجلس الملكة
مواطنو طيبة
تهدف هذه الدراسة إلى إجراء تطبيقات معتمدة على آراء أرسطوطاليس ونظريته في المأساة. وهي بالتالي تنتمي إلى التحليل والنقد الفلسفي للمسرحية كما تسعى الدراسة إلى إبراز الأبعاد والأصول الفلسفية للنظرية معتمدة على تقصي (نوع الفعل) و(الشخصيات) و(تطور الفعل)، والحل. وهي بالتالي مكملة للفصل الأول من هذا الباب. وقبل كل شيء لا بد من أن أشير على الآتي:
1/ ان سوفكليس Sophecles بدأ المسرحية – وهي بداية الفعل مؤخرا بعد أن نزل وباء الطاعون علي المدينة والملك (ثينة) وهو ما نجده في المنظر الأول من الفصل الأول (أمام قصر الملك علي المدرجات يجلس في شكل مناحة عدد من مواطني المدينة علي الأرض وحول الهيكل).
بداية الفعل:
يبدأ الفعل في مسرحية (الملك أوديب) عندما اشتد الوباء، وحينها كان أوديب ملكاً، وهذه نقطة جوهرية، فالبداية هنا مؤشر إلى تصاعد الفعل نحو الذروة. ويجد القارئ للمسرحية وفقاً للأسطورة أن البداية الحقيقية بالضرورة أن تبدأ حيث بدأ سوفكليس، فهي أعقبت سلسلة من الأحداث الهامشية مثل بحث أوديب عن أسرته، نشأته، حل اللغز... الخ، لكن نجد (بداية العقدة) عندما يأتي المواطنون والكهنة إلى الملك كي ينقذهم من الوباء والطاعون الذي ألم بمدينتهم، فهو صاحب المعرفة والحكمة والدراية، فبالضرورة أن يكتشف سبب الوباء ويعرفه. حيث يقول الكاهن معبراً عن رغبة الشعب ومتحدثاً إنابة عنه:
الكاهن: (أي مليك وطني أوديبوس أترى إلينا كيف اجتمعنا هنا حول المذبح، أترى إلى أعمارنا، منا من لا يزال ضعيفاً لم يشب، ولم يستطيع أن يبعد عن المدينة، ومنا من ثقلت به ألسن فهو لا يستطيع انتقالاً، ومنا كهنة (زيوس*) أمثالي، ومنا هؤلاء صفوة الشباب وسائر الشعب وقد اتخذوا أكاليل من الغار، وأحاطوا بمعبد (يلاس) قريباً من الرماد المقدس لموقد (أبولون). هذه (ثيبة) كما ترى تهز هزاً عنيفاً وقد أخطرت إلى هوة عميقة، فهي لا تستطيع أن ترفع رأسها، وقد أحدقت بها الأخطار الدامية من كل مكان، هلم يا أحكم الناس أصلح أمر مدينتنا، فكر في شهرتك وما ينبغي لك من حسن الأحدوثة. إن هذا البلد يسميك اليوم منقذه بما قدمت إليه فيما مضى. فأحرص على أن لا تذكر في يوم من الأيام أنك أنقذتنا مرة لنهوي في المكروه مرة أخرى، بل أنقذ وطننا وأرفع أمره لقد أرشدك الإله إلى إنقاذنا فيما مضى فكن اليوم كما كنت أمس. فقد أرى أنه إذا أتيح لك أن تحكم هذه الأرض فالخير في أن تحكمها معمورة لا مقفرة. ما قيمة الأسوار، ما قيمة السفن والأسوار إذا خلت ولم يوجد من يلوذ بها).
كان هذا البيان الذي قدمه الكاهن نيابة عن الشعب بمثابة مطالبة قوية وكبيرة للملك أوديب، وفيه برع الكاتب سوفكليس في إيجاد شرط كافي يجعل من أوديب الملك أمام سؤال صعب يحتاج لإجابة، ومعضلة كبيرة يستوجب كشفها، وهو أيضاً بيان يوضح لنا مدى المحنة التي وقع فيها الملك أوديب، لتشكل بداية حقيقية للفعل.. إن مطلب الشعب واحد وهو (معرفة سبب الطاعون الذي ألم بالبلاد)، ولما كان أوديب قد استطاع أن يحل ألغازاً كثيرة بحكمته ودرايته ومعرفته فواجبه اليوم معرفة السبب وهكذا نكتشف أن الملك أوديب لا مفر له من الإجابة على هذا السؤال، والسعي إلى إيجاد الإجابة الناجعة يجعله في مجمل أفعال تؤدي إلى تصاعد الحدث، وهو ما أشار إليه أرسطوطاليس في كتابه (فن الشعر) استطاع سوفكليس أن يرسم لنا شخصية أوديب منذ البداية، بأنها على غير علم بأخطائها، وبالتالي كلما مضى الحدث أو الفعل إلى الأمام تجاه المعرفة أدى إلى تصاعد آخر حتى إذا اكتملت المعرفة وتم (التعرف) انقلب الفعل تماماً إلى العكس وحدث التحول لأوديب من السعادة إلى الشقاء.
لكن الفعل يقودنا إلى حيث إمتحان أوديب العسير الذي يجعله أكثر استعداداً للمضي قدماً لمعرفة الحل، وهو ما أراد تصويره سوفكليس، لأن أدويب بعد أن اشتد به الأمر، أرسل وزيره كريون (Crion) إلى الآلهة، لمعرفة الإجابة على السؤال، لكن رد الآلهة هو بمثابة إضافة سؤال آخر، حيث أمرت الملك أوديب بمعرفة قاتل (لايوس) الملك السابق ثم نفيه أو الاقتصاص منه ليجد أوديب نفسه أمام شعبه أكثر حماساً للقيام بالمهمة فلطالما عرفه الناس بحكمته وقوة جبروته.
أوديبوس: (أيها الابناء إنكم الخليقون بالإشفاق إن تطلبونه ليس غريباً بالقياس إلى فإني أعرفه، نعم أعرفه حق المعرفة، لست أجهل أنكم تألمون جميعاً، ولكن ثقوا بأن ليس منكم من يألم ألمي.
كل واحد منكم يألم لنفسه لا يجاوزه الألم إلى غيره، أما أنا فإني آلم لـ (ثيبة)، وآلم لكم وآلم لنفسي، وإذن فإنكم لا توقظون بهذا الحديث مني رجلاً نائماً، تعلمون إني رزقت كثيراً من الدمع وإني فكرت في كثير من الوسائل إلى النجاة فلم أجد إلا وسيلة واحدة ظفرت بها بعد طول تفكير، فلم أتردد في الإلتجاء إليها. فقد أرسلت كريون (ابن منيسوس) إلى معبد (أبولون)، ليعلم لي من الإله ما ينبغي أن أصنع وقد طالت غيبته وإذا عاد فحق علي أن أمضي كل ما يأمر به الإله وأنا آثم إن قصرت في بعض ذلك).
الكاهن: حقاً لقد تكلمت فالوقت ملائم فهؤلاء ينبئوني بمقدم كريون. (يرى كريون مقبلاً من شمال المسرح وعلى رأسه تاج).
اديبيوس: أي أبولون أن يكون ما يحل إلينا من أمرك مشرقاً كهذا الإشراق الذي يرى وجهك.
الكاهن: نعم يخيل إلى أن أنباءً سارة وإلا لما أقبل مبتهجاً قد توج رأسه بإكليل (الغار).
كل ذلك يوضح لنا مدى أثر إجابة كريون في دفع اتجاه الفعل Action إلى الأمام. فإذا افترضنا أن الآلهة كشفت الحل أبانت سبب الوباء لانتهى كل شيء عند هذه النقطة، لكنها آثرت أن تجعل الإجابة في اتجاه بناء الفعل نحو التصاعد، وهذا ما يحقق لنا معنى (Drama) حيث تزداد العقدة المحمولة بواسطة الفعل تعقيداً وتتوالد الأحداث بعضها عن بعض بانتخاب طبيعي درامي وفقاً لنظرية أرسطوطاليس في التراجيديا ثم يلح أدويب في السؤال.
أوديب: سنعلم جلية ذلك فإنه قد صار قريباً منا –أيها الأمير يا ابن منيسيوس، أي جواب تحمل إلينا من الإله؟
كربون: جواب ميمون فأني أري أن الأحداث السيئة نفسها خيراً أكانت عاقبتها خيراً.
أوديبوس: ولكن ما جواب الآلهة فأنه لا يذيع في قلبي خوفاً؟.
إن حديث أوديب فيه تطلع عظيم لمعرفة الإجابة ، حتى يقوى على الحل ، فهو حديث فيه تسرع واضح . يريد إجابة شافية.
كريون: ( مشيراً إلى أهل المدينة الجاثين) إن شئت أن تسمح لي أمامهم تكلمت كما أنني أستطيع أن انتظر حتى ندخل القصر.
أوديبوس: تكلم أمامهم جمعياً ، الأمر أخطر من أن يمسني وحدي.
كريون: سأقول إذا ما سمعته من الآلة . إن الملك ( أبولون) يأمرنا أن ننقذ هذا الوطن من رجس ألم به ،وألا نسمح لهذا الرجس بأن يبغي حتى ينمو ويصبح شفاؤه عسيراً.
أوديبوس: بأي نوع من أنواع الطهر ؟ والي أي نوع من أنواع الشر يشير الآلة.
كريون: أن نقتص من القاتل بالقتل فأن الإجرام والقتل هما أصل الشرفي (ثيب).أيها الملك لقد حكم هذه المدينة لا يوس قبل أن يصير أمرها إليك.
أوديبوس: أعرف ذلك أنبئت به ولكني لم أر هذا الملك قط.
كريون: أما وقد قتل فان الأله يأمر بعقاب قاتليه مهما يكونوا.
أوديبوس:أين هم ؟كيف نقص آثار هذه الجريمة.
كريون: قال الإله إنهم في هذا الوطن ، من بحث عن شئ وجده ، ومن أهمل شيئاً أفلت من يده ( أوديبوس يفكر قليلاً).
34
يتضح من هذا الحوار أن الفعل في تصاعد مستمر ، حيث نكتشف تلك المساحة و التصاعد فى الفعل الدرامى بعد عودة كريون تفتح مجالاً أخرا ومساحة أخرى للسؤال . فيزداد حماس أوديب لمعرفة الحل وعقاب الآثمين ، ويعلن عن جائزة لمن يدله عل القتل.
أدويب : فأني أعلن إليكم أيها المواطنون أني آمركم من عرف قاتل لا يوس بن لا يدكوس بأن يدلني عليه ، حتى وإن أشفق من ذلك وإن كان هو القاتل. فإن أقصي ما يتعرض له إن دل على نفسه هو أن ينفي من الأرض دون أن تتعرض حياته لخطر.
وهكذا يبدأ أوديب في التعرف ، وكل خطوة تقوده الي خطوة أخرى ويزداد الفعل في التصاعد نحو الذروة بمنطق الضرورة أوالاحتمال .. إذا لا بد من شخص ما يدرى بالأمر فيأتي دور الكاهن ( تريزياس ) ويدور حوار يدفع بعجلة الفعل الدرامي بصورة تصاعدية بدأ بتضرع أوديب للكاهن تريزياس وينتهي بتهديد الكاهن.
هذه هى خاصية الفعل الأوديب الذى يبدأ بسؤال بسيط لينتهى بسؤال كبير. يبدأ بالتعرف على الجهل لينتهى بالتعرف على الخطأ
أدويبوس: بحق الاله لا تعرض عنا انبئنا بما تعلم ، ها نحن جميعاً نتوسل إليك ضارعين .
تريزياس : ذلك لأنكم جمعياً حمقى ، أما أنا فلن أعلن مصائبي وأخزاني ، بل مصائبك أنت وأحزانك.
أوديبوس: ما ذا تقول؟ إنك تعرف الحق ثم لا تعلنه أنت تفكر في أن تخزلنا وتهلك المدينة.
يستمر حوار الملك أوديب مع الكاهن تريزياس طالباً منه النطق بالسر ، وتزداد شكوكه فى نوايا الكاهن ثم يبدأ أوديب في توجيه أوديب:لو أنك كنت بصيراً لما ترددت في أؤكد أنك وحدك القاتل.
تريزياس: أحق هذا ؟ أني إذن أكلفك أن تنفذ الأمر إلى أصدرته وألا تتحدث منذ اليوم إلى أحد لا إلى ولا إلى هؤلاء فأنت الرجس الذي يدنس المدينة.
وعندما يزداد إصرار أوديب يصرح له الكاهن بكل الحقيقة.
تريزياس: أؤكد لك أنك قاتل هذا الرجل الذي تبحث عمن أورده الموت.
وعندما يعلم أوديب كل ذلك لا يصدقه ، يبدأ رحله أخرى من الإستكشاف تبدأ بشكه في وزيره كريون ، زاعماً أن كريون حرض عليه ذلك الكاهن طمعاً في الحكم.
كريون: ما الذي طوع لأوديبوس أن يظن أن الكاهن إنما أعلن ما أعلن الكذب متأثراً بتحريض له؟
رئيس الجوقة: لا أدري فان عيني لا تنفذ أعمال السادة ولكن ها هو ذا يخرج من القصر.
( يدخل أوديبوس فجأة).
أدويبوس: هاأنت ذا ، ماذا تصنع هنا؟ أتبلغ بك الجرأة أن تأتي إلي هذا المكان وأنت حريص على أن تهلكني وتنتزع مني السلطان؟
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، حيث يتجه أوديب إلى المكلة جوكستا ويواصل مشواراً آخر من البحث ، في سبيل التوصل إلى الحقيقة والمعرفة ، وفي حواره مع أمه – زوجته يبدأ أوديب في التعرف ويزداد الشك أكثر عند وصفها للملك ، وعدد أتباعه ، ثم يطلب إحضار الراعي وهو الشخص الوحيد الذي نجأ من حادث اغتيال الملك لايوس.
أوديبوس: سأنبئك بذلك لأني أكبرك أيتها المرأة أكثر مما يكبرك هؤلاء الناس ، وإنما دفعني إلى هذا الغضب كريون وإئتماره بى.
جوكستا: احقاً ما ترمية به من الخيانة.
أوديبوس: يزعم أني قاتل لايوس.
ويستمر الحوار في تسلسل تطلعه فيه الملكة أوديب بتفاصيل حادث قتل الملك في طريقة ذات ثلاث شعب ، فيبدأ الرعب في وجه أوديب حيث يتعرف على أول الخيط ويساوره الشك في شخصه.
أوديب: أيتها المرأة ما اشد ما تثير هذه القصة في نفسى من الشك والإضراب.
جوكستا: ما هذا الخوف الذي تثيره في نفسك رجوعك اليها.
أوديبوس: أظني سمعتك تقولين إن لا يوس قد قتل في طريق ذات شعب ثلاث.
جوكستا: قيل ذلك وما زال يقال.
أوديبوس: وفي أي مكان وقع هذا الحدث المنكر؟
جوكستا: في بلاد (الفوكيين) حيث تلتقي الطريقان الآتيان من (دلف) و( رولس).
اوديبوس: وكم مضي على هذا الحدث من الزمن ؟
جوكستا: أزيع نبأه في المدينة قبل أن ترقي إلى عرشها بزمن قليل.
أوديبوس: أي زيوس ماذا أردت أن تصنع بي؟
جوكستا: ما ذا يا أوديديبوس؟ ما اذ يدفعك إلى هذا القلق؟
أوديبوس: لا تسأليني ،كيف كان لا يوس؟ وماذا كانت سنة؟
جوكستا: كان رجلاً طويلاً قد خط الشيب رأسه وكانت فيه ملامحك.
وكلما تعقد الأمر إزداد قلق الملك أوديب ، وإزدات هواجسه ثم إزداد إصراره على معرفة الحقيقة فيستنجد برسول آخر جاء بخبره بموت الرجل الذي رعاه ، ولكأن الأخبار والأحدث تساق بطريقة قدريه لتوقع أدويب أما هذا الرسول ، الذي يدله هو الآخر على الراعي الذي حمله إلى ذلك الملك العقيم الذي تبناه.
الرسول: أنباء سارة اليك وزوجك أيتها المرأة.
جوكستا: ماذا تعني ؟ ومن أين أقبلت؟
******
وعلى الرغم من ذلك يخبر الرسول أوديب أن الرجل الذي مات ليس أباه.
الرسول: أتعلم أن خوفك لا أساس له .
اوديبوس: كيف ذلك إذا كنت أنا ابن هذين الشخصين؟
الرسول: لأن بوليبوس لم تكن بينه وبينك صلة لنسب.
أوديبوس: ماذا تقول؟ ألم يكن بوليبوس أبي؟
الرسول: لم يكن أباك كما أني لست أباك.
أدويبوس: وأنت اشتريتني أم التقطتني حيث أهديتني إليه؟
الرسول: إلتقطك في واد من تلك الوديان؟
أوديبوس: كنت راعياً إذن تهيم لحساب غيرك؟
الرسول: وكنت في ذلك الوقت منقذك يابني.
وهنا يصل أوديب للنقطة الأخيرة في رحلة البحث عن الحقيقة ، والمعرفة وهي حضور الخام الذي كلف بتركه في العراء ويدور حوار آخر اشد حده ، تتخلله عبارات الوعيد من أوديب للخادم ، مكرهاً له على ذكر كل التفاصيل.
الخادم: حقاً ولكن بعيد العهد .
الرسول: والآن أتذكر أنك دفعت إلى صبياً لأربيه كما لو كان أبني؟
الخادم: ماذا تقول؟ لم هذا السؤال؟
الرسول: ها هو ذا ايها الصديق ذلك الذي كان صبياً حينذاك.
الخادم : لتهكك الآله ، ألا تؤثر الصمت .
أوديبوس: لا تغضب عليه ايها الشيخ فأن الفاظك أنت هي الخليقة أن ثير الغضب لا الفاظة.
الخادم: أي خطيئة اقترفت يا خير السادة.
الرسول: خطيئتك أنك لا تجيب بشئ عن أمر الطفل الذي يسألك عنه.
أوديبوس: ألا تريدون أن تسرعوا فتجمعوا يديه خلف ظهره؟
الخادم: ما أشقاني فيم هذا لعذاب؟ ماذا تريد أن تعلم؟
أوديبوس : هذا الصبي الذي يتحدث عنه هل دفعته إليه؟
الخادم: نعم وددت لو مت في ذلك اليوم.
اوديبوس: سينزل بك الموت إن لم تقل ما يجب أن تقول.
ويزداد وعيد أوديب وكل مرة يكتشف أن القاتل والجاني هو نفسه لكنه مدفوع إلى معرفة كل شئ.
الخادم: واحسرتاه هذا ما يفظعني أن أقوله.
أوديبوس: ويفظعني أن أسمعه ، ومع ذلك يجب أن تتكلم.
الخادم: كان قال أنه ابن الملك ، ولكن في القصر امرأتك تستطيع أن تنبئك بجليه الأمر.
أوديبوس: أهي التي دفعته إليك؟
الخادم: نعم أيها الملك.
أدويبوس: لماذا؟
الخادم: لأهلكه.
أوديبوس: أم تقدم على ذلك ؟ ما أشقاها.
الخادم: خوفاً من وصي مشئوم.
أوديبوس: أي وصي؟
الخادم: كان يقال أن هذا الصبي لو عاش لقتل أبويه.
أوديبوس: ولما دفعته إلى هذا الشيخ؟
الخادم: أشفاقاً عليه يا مولاي ، قدرت أنه سيحل إلى بلد آخر حيث يعيش هو ومن أنقذ حياته فكان ذلك مصدر شقاء عظيم.
أوديبوس: واحسرتاه.. واحسرتاه لقد استبان كل شئ.
هكذا يتعرف أوديب على الحقيقة الكاملة بأنه قاتل ابيه وزوج أمه ، وتتحول شخصيته من ملك سعيد إلى شقي أعمي بعد أن فقاً عينيه وهام حزناً في البلاد . أما جوكستا ( الملكة ) لم تتوان لحظة في أن تشنق نفسها
تمثل مسرحية ( الملك ادويب) نموذجاً ً لنظرية أرسطوطاليس في بناء المسرحية ، وهي كما أشرنا سابقاً منطومة متماسكة ، وانعكاس لفلسفة أرسطوطاليس ،وتطبيق لمفهوم الفعل الذي يبني تطوره وانتقالاته الدرامية وفقاً لمبدأ الضرورة الاحتمال . ويرى أرسطوطاليس أن مأساة ( الملك أدويب) هي إحدى النماذج المأساوية التي تناسب مع رؤيته وبها نوع من أنواع الاخطاء التي ترتكبها الشخصيات فتقود إلى المأساة يقول في ذلك " ويمكن ان يرتكب الاشخاص المنكر ، لكنهم يرتكبونه وهم لايعملون ثم يعرفون ، وجه القرابة فيما بعد ، مثل الذي وقع في ادوبيوس[50].
فى الجزء القادم سانتقل الى مدرسة أخرى وتيار آخر من تيارات المسرح الغربى ، وهو تيار ومذهب الرومانسية الذى يشكل مرحلة هامة فى مراحل تطور الدراما الرغبية وتطور ابعادها المعرفية ومرتكزاتها الفكرية والفلسفية التي قادت الى بروزها كتيار من تيارات النقد وهو تيار الرومانسية .
(الكلاسيكية ، الرومانسية ، الواقعية ، التعبيرية)
************
تأليف الدكتور / ابوالقاسم قور حامد
المقدمة
يتناول هذا الكتاب بالدراسة والتحليل والنقد أثر الفلسفة الغربية علي المسرح الغربي منذ نشأته بداية بنظرية (التطهير) لأرسطو طاليس (584 ـ522ق .م ) نهاية برؤية جان بول سارتر في مسرح (العدم ) واوجين يونسكو في مسرح (اللامعقول ) في نهاية القرن الماضي . فهو كتاب فى أمر الدراما الغربية وتحولاتها ذات الاصول الفلسفية منذ أن بدأ المسرح بحثه عن الحياة وتقليدها كما هو الحال فى الكلاسيكية والواقعية نهاية ببحث المسرح عن ذاته وهروبه عن الحياة كما هو فى تيارات مسرح العدم ، وتيارات العبث واللامعقول في نهاية القرن العشرين ومطلع هذا القرن الحادى والعشرين .هذا الكتاب في النقد الفلسفي (Philosophical Criticism) للمسرحية الغربية /الأوربية بوصفه أحد روافد النقد المسرحي مثل النقد التاريخي للمسرحية ( Historical Criticism ) والنقد الأدبي للمسرحية ((Literary Criticism..
تناولت في هذا الكتاب الأصول الفكرية والمرتكزات الفلسفية للدراما الغربية European Drama)) عامة والمسرحية الأوربية (European Play ) خاصة وشكل بنائها الدرامي , كل ذلك يشكل في رؤيتي حجر الزاوية في فهم المسرحية الغربية لان فهمنا لهذه الشروط الفلسفية والتاريخية والأدبية مجتمعة بوضح لنا مدى إرتباط الإدب المسرحي الغربي بعناصر الثقافة والفكر والحضارة الغربية.
أري هذا كتاب به منفعة لطلاب النقد المسرحي من غير الأوربين عامة وطلاب الدراما في السودان خاصة وطلاب كلية الموسيقي والمسرح علي وجه الخصوص الذين لمست فيهم حاجة لمثل هذا المرجع وأستشعرت بهم ضرورة لمثل هذا السفر . فإذا ما استذكر الطلاب هذا الكتاب لوجدوا فيه فائد ة تعينهم على المام ببعض تأثر المسرحية الأوربية الغربية المتعددة , وامتياحها من مشارب الثقافة والفلسفة الأوربية مثل الفلسفة اليونانية والفلسفةالارسطوطالية علي المسرحية الكلاسيكية (Greece Drama) والترانسنتدالية (Transcendentalism ) علي المسر حية الرومانسية والفلسفة الوضعية المنطقية (Positivism ) والفلسفة الواقعية (Realism) علي المسرحية الواقعية , وكذلك أثر الوجودية ( Existentialism) على المسرحية التعبيرية والعبثية ومسرح اللامعقول ومسرح العدم .
هذا كتاب يستفيد منه طلاب النقد المسرحى والمهتمون بأمر الدراما الغربية وتأثرها بالفلسفة الغربية ويقع فى خمس فصول
الفصل الأول : يتناول الكتاب نظرية الفيلسوف اليونانى أرسطو طاليس في التراجيديا التي وردت في كتابة فن الشعرPoetica) ) ثم تتبعت أثر نظريته فى الشعر على المسرحية حتى الكلاسيكة العائدة على يد كل من النقاد الدرامين كاستلفتر ( Ludovic Caselvetro) 1505 ـ1571 ج. درايــدن (John Dayden)1631ـ 1700 في القرن السـابع عشر، فضلأ عن إفـراد حيزمختصر للمسرح الروماني هوراس (Horace) نموذجآ والمسرح الكنسي في العصور الوسطى. كما تعرضت لترجمة الفيلسوف والمفكر الإسلامي أبن رشد لكتاب فن الشعر فضلاً عن إفراد مساحة حللت فيها مسرحية الملك أوديب لكاتبها اليونانى سوفوكليس . هذا ولقد تناولت في هذا الباب بعض عبارات أرسطوطاليس وكاستلفترو و ج درايدن بالتحليل .
الفصل الثاني : يناقش الكتاب أثر الفلسفة المثالية عند كل من كانط (Kant).1724ـ1804م وهيجل (Hegel) . 1770ـ1831م على كل من الكاتب الفيلسوفي الفرنسي دينيس ديدرو (Diderot) 1713 - 1784م والكاتب الدرامي والشاعر الانجليزي كلوردج (Samual tayior Coleridge) م ومن ثم استعراض الخطوط الرئيسة لنظريته الدرامية (الإيهام الدرامي).
الفصل الثالث : يتناول هذا الفصل الفلسفة الوضعية وأثرها على المذهب الواقعى فى المسرحية واقعية من أمثال سان سيمون( 1760 –1825م) وكذلك جوزيف برودون Joseph Broudon ( 1809 –1865م) والذي يري أن العدالة ما هي رؤية مثاليــة صنعها الإنسان لنفسه لكنها وليدة المجتمع .كما تم استعراض مسرح رائد الواقعية هنريك ابسن
الفصل الرابع : تناولت فى هذا الفصل أثر الفلسفة الوجودية (Existentialism )عند جان بول سارتر(Jean-Paul Sartre) والعدم عند البير كامي(Albert camus) 1913-1960م والعبثية (Absurd ) لدى صمويل بيكت واللامعقول لدى اوجين يونسكو (Eugene Ionesco ) 1912ـ1995 م كل ذلك في إطار تيار التعبيرية .
الفصل الخامس : تم افراد هذا الفصل لنقد نظرية الدراما الغربية وارساء قواعد رؤية جديدة بعنوان نظرية الدراما من التطهير الى التحمل. عشمي أن يضيف هذا الكتاب شيئاً مفيداً للقارئ الكريم في هذا المجال فإني أرى أن درباً طويلاَ قد بدأته بخطوة ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوقفنا في إكمال هذا الدرب فهو درب كثرت شعابه ودروبه
الفصل الأول
المذهب الكلاسيكي (384 ق.م – 1750م)
يعتبرالمذهب الكلاسيكي من أضخم التيارات المسرحية، أكبرها أثراً على نظريات النقد المسرحي ، البناء الدرامي والتأليف المسرحى ويمثل تيار الكلاسيكية النشأة الحقيقية للظاهرة المسرحية إذ لا زالت التراجيديا اليونانية تمثل العصر الذهبي لدي عديد من النقاد المسرحيين، لكل ذلك أفردت له هذا الفصل من البحث لتيار الكلاسيكية ، باحثاً فيها ومقتفياً اثر نظرية أرسطو طاليس (Aristotle) على من بعده من نقاد مسرحيين مثل هوراس Horace ورواد الكلاسيكية الجديدة (Neo -Classicism) بالاضافة الى إفراد مساحة لطبيعة الفكر الدرامي في فترة القرون الوسطى.
لقد مضى حتى اليوم نحو من ثلاثة وعشرين قرن على نظرية الفيلسوف اليونانى أرسطو طاليس في المأساة (Tragedy) والتي وردت في كتابه الشهير فن الشعر (Poetica) ولازالت هذه النظرية تحظى باهتمام النقاد المسرحيين والدراميين في كافة أنحاء العالم، لدرجة أن صارت نموذجاً أكاديمياً في أسس البناء الدرامي للمسرحية الكلاسيكية وأساليب التأليف المسرحي فضلاً عن بقاء عناصرها إلى يومنا هذا فى الاثار المسرحية ، بيد أن ثمة أمر لابد من الإشارة إليه، وهو أن نظرية أرسطو طاليس في التراجيديا ترتكز في أصولها على فلسفة أرسطو طاليس، ودون فهم هذه الفلسفة لتعذر كذلك فهم نظريته في الدراما وبالتالي يتعذر تحليلالمسرحية الكلاسيكية بالتحديد التي تمثل جذر وأصل الظاهرة المسرحية.
1- التراجيديا عند أرسطو طاليس (Aristotle)* 384- 322 ق.م:
كلمة تراجيدي (Tragos) والتي تعني (أغاني الشاة أو العنز)، وهي أنواع من "التراتيل التي يرددها كهنة الإله (ديونيسوس) في أعياد الحصاد ويطلق على هذه التراتيل مجتمعة أغاني الديثرامب (Dithyramb) وهي نوع من الترانيم يرددها كهنة الإله ديونيسوس أحد آلهة الإغريق1" وقيل إن شاة تمنح كجائزة للفائز الأول في المنافسات بين الشعراء في ذلك العيد وبعضهم زعم أن الاسم انبثق من جلد العنز الذي يلبسه عبدة الإله ديونيسوس.لقد تطورت هذه الترانيم إلى الشكل المسرحي والتمثيلي على يد تيسبيس**(Thispis).
أستطاع أرسطو طاليس أن يؤسس بناءً نظرياً محكماً لفن كتابة التراجيديا (مأساة) جاعلاً من الفعل (Action) قاعدة وأساساً لذلك البناء، لكل ذلك سوف أتناول بعض آرائه وتعابيره بالتحليل بغية الوصول لفهم تلك الآراء.
يقول أرسو طالي في تعريفه للمأساة "المأساة هي محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزودة بألوان التزيين تختلف وفقاً لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة أشخاصيفعلون، لا بواسطة الحكاية وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من الانفعالات2".
شمل هذا التعريف المفاهيم والمفردات التالية:
أ/ المحاكاة (Imitation).
ب/ الفعل (Action).
ج/ الحكاية (Story).
د/ الشخصية (Character).
هـ/ الرحمة والخوف (Fear & Pity ).
و/ التطهير (Catharsis).
أ- المحاكاة:
يرى ارسطو طاليس ان المحاكاة مسألة غريزية لدى الإنسان وهي في نظره إحدى خصائصه ومميزاته الأساسية، ويقول في ذلك "الإنسان يختلف عن سائر الحيوان في كونه أكثرها استعداداً للمحاكاة وبالمحاكاة يكتسب معارفه الأولية، كما أن الناس يجدون لذة في المحاكاة[1]".
يرى العديد من النقاد والباحثين في الفلسفة أن المحاكاة عند أرسطو طاليس تختلف اختلافاً جوهرياً عن مفهوم المحاكاة عند إفلاطون (Plato)" إذ يحصر أرسطو المحاكاة في الفنون، سواء كانت فنوناً جميلة كالموسيقى والرسم والشعر، أم فنوناً عملية كفن البناء والنجارة مثلاً، على حين يعمم أفلاطون المحاكاة على الموجودات، ويعتبرها نوعاً من أنواع المعارف المختلفة[2]".
أما المحاكاة التي نحن بصددها هنا هي ما تختص بفن التراجيديا وهي مسألة أصيلة في الإنسان وفقاً لرؤية أرسطو الفلسفية في التعلم وإدراك الأشياء ومعرفتها، ويقول أرسطو طاليس: "وسبب آخر هو أن التعليم لذيذ لا الفلاسفة وحدهم بل وأيضا لسائر الناس، وإن لم يشارك هؤلاء فيه إلا بقدر يسير، فقد نسر برؤية الصور لأننا نفيد من مشاهدتها علماً ونستنبط ما تدل عليه، كأن نقول إن هذه صورة فلان. فإن لم نكن رأينا موضوعها من قبل، فإنها تسرنا لا بوصفها محاكاة ولكن لإتقان صناعتها أو لألوانها أو ما شاكل ذلك[3]".
ويرى أرسطو طاليس أن محاكاة نوع تختلف من محاكاة نوع آخر في الأشياء الثلاثة الآتية:
أ/ وسيلة المحاكاة.
ب/ موضوع المحاكاة.
ج/ طريقة المحاكاة.
ويقول في ذلك "الملحمة والمأساة، بل الملهاة، والديثرامبوس* وجل صناعة العزف بالناي والقيثارة هي كلها أنواع من المحاكاة في مجموعها، ولكنها فيما بينها تختلف على أنحاء ثلاثة لأنها تحاكي إما بوسائل مختلفة، أو موضوعات متباينة أو بأسلوب متميز[4]".
تتم المحاكاة في المأساة بواسطة أشخاص يفعلون، وهذه نقطة مهمة لابد من الوقوف عندها بغية فهم حديث أرسطو طاليس فيالمحاكاة، فوسيلة المحاكاة هنا هي الشخصيات وأفعالها، ولكأن أرسطو يقرر بأن المأساة تتم عندما يقوم نفر من الناس بمحاكاة قصة أو أسطورة بأفعالهم، فالقيام بمثل هذه الأفعال من قبل هذه الشخصيات بغية محاكاة قصة سابقة هو أمر كفيل بإنتاج المأساة. وهذا أمر يقودنا إلى البحث في مفهوم الفعل (Action) عند أرسطو طاليس.
ب- الفعل (Action):
الفعل هو حجر الزاوية في البناء الدرامي للتراجيديا، لدرجة أن اهتمام أرسطو طاليس بأمر الفعل جعل من النقاد المسرحيين ينظرون إليه بوصفه أول من قدم الفعل (Action) على الشخصية (Character) في البناء الدرامي للمسرحية ولبحث مفهوم الفعل الدرامي عند أرسطو نشير إلى تعريفه السابق "المأساة هي محاكاة فعل نبيل تام لها طول معلوم الخ[5]". ولنبحث أولاً في التعبيرين (تام) و(طول معلوم).
يقول أرسطو طاليس: "لأن الشيء يمكن أن يكون تاماً دون أن يكون له مدى والتام هو ماله بداية ووسط ونهاية[6]". إذ فالشيء التام عند أرسطو طاليس هو ماله (بداية) و(ووسط) و(نهاية)، لأن ارسطو طاليس يضع لنا في ملامح منهجه التجريبي في مفهومه للفعل لذلك يعرف المفاهيم (بداية) و(وسط) و(نهاية) فيقول. "والبداية هي ما لا يعقب بذاته وبالضرورة شيئاً آخر. ولكن شئ آخر يحدث بالطبيعة نفسها[7]" وما يهمنا هنا معرفته إن أرسطو طاليس أن بداية الأشياء أمر محدد وهي بداية الشيء ذاته التي تسبق كل شئ. تأتي أولاً ولا تعقب أي شئ لا بـ(الضرورة) ولا بـ(الاحتمال)، وهو يري أن مثل هذه البداية لابد من أن يعقبها شئ بالطبيعة. فهو أمر يبدو متفقاً عليه منطقياً فإذا ما كانت البداية هي ما يسبق كل شئ فبالضرورة أن ثمة أشياء أخرى سوف تحدث من بعدها.
ويعرف أرسطو طاليس نهاية الفعل قائلاً "النهاية على العكس من هذا وهي ما بذاته وبالطبيعة يعقب شيئاً آخر، ضرورة أو في معظم الأحيان، ولكن ليس بعده شئ[8]" أي أن النهاية بالضرورة أن تكون مسبوقة بشيء ولا يعقبها شئ أخر. ويختتم أرسطو طاليس حديثه عن الفعل عندما يعرف الوسط قائلاً " الوسط هو ما بذاته يعقب شيئاً آخر، ويعقبه شئ آخر[9]" أي أن الوسط هو ما يقع بين البداية والنهاية ، فيعقب البداية ويسبق النهاية ، وهذا شئ منطقي في وسط أي شئ يمكن تجريبه.
بالنظر إلى هذا الفعل الارسطي و فحصه وجدناه فعلاً تجريبياً محكوماً بمدى معلوم ومحدد، وهو أمر هدف إليه أرسطو طاليس حتى يتسنى له بناء أساس متين للتراجيديا، منبثقاً من فلسفته ورؤيته الكونية التي اعتمدت على المنطق الصوري والقياسي. فبالتالي ووفقاً لنظرية أرسطو في الدراما أن التراجيديا هي محاكاة مثل هذا النوع من الأفعال ذات (البداية والوسط والنهاية) أي أن ارسطو يرى ضرورة اتباع المنطق الطبيعي في فن كتابة المأساة كما يحدث في تكوين الأشياء والأحداث في الطبيعة دون خلل، لان كل الأشياء تبدأ بداية محددة ثم تنمو وتشب عن الطوق ثم تفني أو وما الأشياء إلا أفعال في نظر ارسطو طاليس- كما نرى لاحقاً أي أن أرسطو طاليس ينظر إلى المأساة مثل نظرته للكائنات العضوية، وفي ذلك تقول Phyllis Hartnoll" ينظر ارسطو طاليس إلى المأساة مثل نظرته إلى الكائنات العضوية التي تتطور حتى تحقق شكلها الطبيعي ثم تموت أو تنتهي[10]"8
ومن الواضح أن حديث أرسطو طاليس عن (الشيء التام) كما لاحظنا ليس قاصراً على (التراجيديا) وحدها بل شمل مفهومه للشيء الجميل ويقول في هذا الصدد:" الجميل سواء كان كائناً أم شيئاً مكوناً من أجزاء بالضرورة ينطوي على نظام يقوم أجزائه هذه وله عظم يخضع لشروط معلومة فالجمال يقوم على العظم والنظام ولهذا فان الكائن العضوي الحي إذا كان صغيرا جداً لا يمكن أن يكون جميلاً، لأن إدراكنا يصبح غامضاً وكأنه يقع في برهة لا يمكن إدراكها، كذلك إن كان عظيماً جداً، بأن يكون طوله عشرة آلاف ميدان مثلاً، إذ في هذا الحالة لا يمكن أن يحيط به النظر، بل تند الوحدة والمجموع عن نظر الناظر. فإذا ما تقرر هذا، فانه كما أن الأجسام والأحياء يجب أن يكون لها عظم يمكن تناوله بالإدراك كذلك الأمر في (الخرافات*). يجب أن يكون لها من الامتداد ما تقوى الذاكرة على وعيه بسهولة[11]أي أن أرسطو طاليس يرى بأهمية التناسق من حيث البعد المادى والزمنى فى جمال الأشياء. إذن مفهوم (الطول المعلوم) ينطبق أيضا على الخرافة (القصة) التي تدور حولها الأحداث، والأفعال ولابد من أن تكون بطول يمكن إدراكه والإلمام به ويقول أرسطو طاليس في هذا: "وإنما الحد المتفق مع طبيعة الأشياء هو انه كلما طالت الخرافة بشرط إمكان إدراك مجموعها جملة ازداد جمالها الناشئ عن عظمها، ولو وضع قاعدة عامة في هذا نقول إن الطول الكافي هو الذي يسمح لسلسلة من الأحداث، التي تتوالي وفقاً للاحتمال والضرورة، أن تنتقل بالبطل من الشقاوة إلى النعيم إلى الشقاوة[12]وهكذا تتضح رؤية أرسطوطاليس وتحديده للفعل بـ(بداية ووسط ونهاية) هو في الأصل تحديد لطول زمن الأحداث الداخلية والأفعال التي تمكن الشخصيات من التحول الدرامي المطلوب من حال إلى حال من النعيم الى الشقاء على سبيل المثال، وهذا أمر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بوحدة البناء الداخلي للتراجيديا.هنا نعنى الزمن الداخلى للمسرحية الذى يشكل مكنيزمات التقليد والمحاكاة التى تتم بمنطق الضرورة أو الأحتمال كأن يجلس المشاعد فترة ثلاة ساعات لكنه يرى أحداث يوم كامل دون أن يحس خللا فى الترتيب الزمانى أو المكانى.
ج- الشخصية (Character)
اهتم أرسطو طاليس بسلوك الشخصية وأفعالها، فهو في ذلك لا يرى في الشخصية اكثر من أفعالها وسلوكها، كما عزى نجاح وفشل الشخصية إلى طبيعة أفعالها ويقول في ذلك "ومن ناحية أخرى، لما كان الأمر أمر محاكاة فعل والفعل يفترض وجود أشخاص يفعلون، لما كان الأمر أمر محاكاة فعل والفعل يفترض وجود أشخاص يفعلون، لهم بالضرورة أخلاق أو فكار خاصة أن الأفعال الإنسانية تتميز بمراعاة هذه الفوارق، فان ثمة علتين طبيعيتين تحددان الأفعال وأعنى بهما: الفكر والخلق والأفعال هي التي تجعلنا ننجح أو نخفق[13].
10
ويرى أرسطو طاليس أن الخرافة (القصة) في المسرحية الواحدة هي مجموع ما تقوم به الشخصيات من أفعال ويقول في ذلك "الخرافة هي محاكاة الفعل ولأنني اعني: بالخرافة تركيب الأفعال المنجزة[14]وهنا يبدو واضحاً أن أرسطو طاليس ينظر باهتمام إلى الفعل بحكم أنه الجانب المرئي وهو الجزء القابل للتحقق طالما أننا لا نقوى على الحكم على الشخصية إلا من خلال أفعالها المرئية والمحسوسة فقط، لأن أرسطو طاليس ينظر إلى البعد المادي للشخصية، وهذا الجزء المحسوس و الأنطلوجي للشخصية ليس سوى جسد ينطبق عليه منطقة الصورى يرى أرسطو أن الصورة مبدأ أولى للموجود الطبيعي لأنها فعل، أما الهيولي فهي قوة، والفعل متقدم على القوة إذ أن الفعل تمام الصورة وكمالها والقوة نقص بالنسبة للفعل[15].
وهنالك مسألة جوهرية في رؤية أرسطو طاليس للشخصية وعلاقتها بالسعادة أو الشقاء، فهو بعد أن قرر – كما لاحظنا – أن أخلاق الناس هي التي تكسبهم الخصائص السلوكية، يحدد بعد ذلك أمراً آخر فيما يختص بسعادتهم أو شقائهم إذ يقول: "فالناس هم ما هم بسبب أخلاقهم، لكنهم يكونون سعداء أو غير سعداء بسبب أفعالهم[16]وهذا الجانب مهم في نظرية أرسطو طاليس في الدراما، فهو يرى أن الشخصية تكون مأساوية أو سعيدة بأفعالها، وبالتالي إن الشخصية داخل البناء الدرامي للمسرحية تظل بلا معنى إن لم تفعل فعلاً واضحاً محدداً لمصيرها وهذه نقطة جوهرية يعززها أرسطو طاليس بقوله "وغاية الحياة كيفية عمل لا كيفية وجود[17] أي أن الشخصية الدرامية تستطيع تحقيق غايتها، ليس بوجودها لأن وجود الأشياء كما – يرى أرسطو – دون الأفعال وجود ناقص، فإن لم تفعل الشخصية المسرحية فعلاً واضحاً يحدد غايتها فقدت المسرحية أهم خصائصها، وفي ذلك يقول "فإن الأفعال والخرافة هما الغاية في المأساة، والغاية في كل شئ أهم ما فيه[18]"
ويمكننا القول في هذا إن أرسطو طاليس حصر الشخصية في بعدها المادي والتجريبي بغية القياس وهذه أهم خصائص المسرحية الكلاسيكية كما سنرى لاحقاً في هذا البحث.
د- الخرافة أو قصة المسرحية (Story)
يعني أرسطو طاليس بالخرافة قصة المسرحية والتي تشكل موضوعها وتدور حولها أحداث المسرحية، فهي قصة واحدة وإن جاءت نتيجة لجملة من الأفعال، ويرى أرسطو أن الخرافة هي محاكاة الفعل وقصة المسرحية هي الأساس في بناء المسرحية في رأي أرسطو طاليس، وبالتالي تكون المأساة ذات شأن عظيم إذا ما اهتم مؤلفها بعلاقة الأفعال وبنائها وحذق قصتها التي تدور حولها حياة كل شخصيات المسرحية، لذلك أهتم أرسطو بالقصة أكثر من الفكرة التي ترمي إليها ويقول في ذلك "ولو برع المرء في تأليف أقوال تكشف عن الأخلاق وجلالة الفكرة، لما بلغ المراد من المأساة، إنما يبلغه حقاً بمأساة أضعف عبارة وفكرة ولكنها ذات خرافة وتركيب أفعال أضف إلى هذا أن مصدر اللذة الحقيقي لنفس المشاهد للمأساة إنما هو في أجزاء الخرافة، أعني التحولات[19]" ويعني أرسطو أن المشاهد يجد نفسه أكثر استمتاعاً عندما يشاهد تحولات الشخصيات ويرى الأفعال التي أدت إلى هذه التحولات والتي من شأنها أن تحدث تحولاً في حظ الشخصية وقدرها فتصير من الشقاء إلى السعادة أو العكس.
هـ - الوحدة (Unity):
12
مفهوم الوحدة العضوية في المسرحية من اهم المفاهيم التي نادت بها الكلاسيكية في المسرح، ويعتبر الفيلسوف أرسطوطاليس أول من دعي لمفهوم (الوحدة) فهو يرى الأشياء ممكنة: إما بحسب الاحتمال، أو بحسب الضرورة[20] أما بخصوص الوحدة العضوية في المسرحية فهي أمر هام، إذ دون البناء العضوي الواحد للقصة تفتقر المسرحية لخاصية ربط وتسلسل الأحداث والأفعال لتصير جسماً واحداً، ويرى أرسطوطاليس أن الشاعر* يروي لنا أحداثاً تتجاوز الواقع الآتي إلى المستقبل في ضوء (الاحتمال) أو (الضرورة) ويقول في ذلك: "وواضح كذلك مما قلناه أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلاً، بل رواية ما يمكن أن يقع.... ذلك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بكون أحدهما يروي الأحداث شعراً والآخر يرويها نثراً، وإنما يتميزان من حيث أن أحدهما يروي الأحداث التي وقعت فعلاً، بينما الآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع[21]" ولقد نظر أرسطوطاليس من هذا الجانب إلى المسرحية والشعر عامة بصفتها أرقى درجة من التاريخ ويقول في ذلك: "الشعر أوفر حظاً من الفلسفة وأسمى مقاماً من التاريخ[22]" لأنه يرى أن "الشعر يروي الكلي بينما التاريخ يروي الجزئي وأعني بالكلي أن هذا الرجل أو ذاك سيفعل هذه الأشياء أو تلك على وجه الاحتمال أو على وجه الضرورة، وإلى هذا التصوير يرمي الشعر، الجزئي هو ما فعله البيادس أو ما جرى له[23]".
وفضلاً عن ارتباط أحداث المسرحية بمفهومي الضرورة والاحتمال وفقاً لرؤية أرسطوطاليس لابد من أن تلتزم بالوحدة (Unity)، هو ذات الشيء الذي يقود إلى وحدة القصة (Plot Unity) وهذا التوحد المتصاعد والمتطور من البداية إلى النهاية مروراً بالوسط كفيل بدفع أحداث المسرحية إلى القمة أو الذروة (Climax) في البناء الدرامي للمسرحية. لكن بالضرورة أن نفهم بأن أرسطوطاليس يؤكد لنا بأن الوحدة في الفعل لا تشترط أن وحدة الشخصية "إن وحدة الخرافة لا تنشأ، كما يزعم البعض، عن كون موضوعها شخصاً واحداً لأن حياة الشخص الواحد تنطوي على ما لا حد له من الأحداث التي تكون وحدة، لذلك الشخص الواحد يمكن أن ينجز أفعالاً لا تكون فعلاً واحداً[24]" إن وحدة الفعل أمر جوهري في البناء الدرامي للمسرحية الكلاسيكية التي اتخذت من قوانين أرسطوطاليس قاعدة لها، لأن الانتقال من مرحلة إلى أخرى وفقاً لهذه المنظومة يوفر إمكانية أكبر لدى المشاهد لمتابعة مصير الشخصيات وتطورها من أسوأ إلى أفضل (من الشقاء إلى السعادة) أو العكس من (السعادة إلى الشقاء).
– الذروة: (Climax):
14
إن تطور الفعل أو الحدث من البداية إلى النهاية، لابد له من ذروة أو قمة ينحدر بعدها الفعل إلى اتجاه الحل بعد إحداث تحول معرفي في طبيعة الشخصيات ثم ينحرف الفعل في اتجاه النهاية و "التحول هو انقلاب الفعل إلى ضده كما قلنا وهذا يقع أيضاً تبعاً للاحتمال والضرورة[25]"، وهذا الحل يتم للعقدة التي انبنت عليها قصة الشخصيات نفسها، لأنها ستكون على معرفة وإدراك بما حدث لها الأمر الذي يجعلها تعدل من أفعالها بالتالي من حظها، فيتغير مصيرها هو الآخر محدثة انقلاباً كاملاً تاماً واتجاهاً معاكساً لخط سير الحدث، ويقول أرسطو في ذلك: "والتعرف كما يدل عليه اسمه انتقال من الجهل إلى المعرفة يؤدي إلى الانتقال أما من الكراهية إلى المحبة أو من المحبة إلى الكراهية عند الأشخاص المقدر لهم السعادة أو الشقاء، وأجمل أنواع التعرف المصحوب بالتحول من نوع ما نجده في مسرحية اديفوس*[26]" ويضرب مثلاً بمسرحية (Oedipus The King) لسوفكليس والتي سوف نورد لها تحليلاً في آخر هذا الفصل.
– الرحمة والخوف: (Fear):
17
يرى أرسطوطاليس أن الهدف من عقدة المسرحية وحلها هو إما الرحمة أو الخوف وهي جميعها أشياء من شأنها إثارة (التطهير) (Catharsia) لدى المشاهد، ويقول في هذا الصدد "في كل مأساة جزء يسمى العقدة، وجزء آخر هو الحل، والوقائع الخارجة عن المأساة وكذلك بعض الأحداث الداخلة فيها تكون غالباً العقدة أما الحل فيشمل ما عدا ذلك. وأعني بالعقدة ذلك القسم من المأساة الذي يبدأ ببدايتها ويستمر حتى الجزء الأخير الذي منه يصدر التحول: إما إلى السعادة أو إلى الشقاوة. وأعني بالحل ذلك القسم من المأساة المبتدئ من بداية هذا التحول حتى النهاية[27]" ومن الواضح أن أرسطوطاليس يربط العمل الفني في تقييمه في بنائه ومحتواه بفلسفته في مجال الأخلاق حيث يجعل السعادة هي الغاية لكل نشاط. ويقول أرسطو: "إن الحكاية يجب أن تؤلف على نحو يجعل من يسمع وقائعها يفزع منها وتأخذه الرحمة بصراعها وإن لم يشهده[28]".
ح – التطهير Catharsis:
التطهير هو الهدف النهائي الذي تحققه التراجيدبا لدى المشاهد. وهو من الواضح مفهوم له علاقة برؤية أرسطوطاليس لأمزجة النفس البشرية، لأن أرسطو يرى أن الأحداث التي تثير الرحمة والخوف وتؤدي إلى التطهير هي من تلك الأحداث التي تقع بين الأصدقاء "كأن يقتل أخ أخاه أو يوشك أن يقتله، أو يرتكب في حقه شناعة من هذا النوع، وكمثل ولد يرتكب الإثم في حق أبيه أو الأم في حق أبنها، أو الابن في حق أمه، نقول مثل هذه الأحوال هي التي يجب البحث عنها[29]" والتطهير بهذا المعنى الذي هدف أرسطوطاليس هو الأصل في التراجيديا اليونانية، ولقد دار نقاش طويل بين الدراميين والنقاد ومفسري أرسطوطاليس حول التعبيـر ( تطهير) (Ctharsia)* لكن من الواضح أنه يعني التعاطف الوجداني الذي يصيب المشاهد اليوناني وتأثره بالأحداث التي تحدث للشخصية المحددة في العرض المسرحي.
وبحديثنا عن التطهير نكون قد أشرنا إلى العناصر الأساسية في نظرية أرسطوطاليس في المسرحية التراجيدية، وهي كما ذكرنا في صدر هذا الفصل ذات أثر كبير وفاعل على الفكر الدرامي ونظريات النقد المسرحي إلى يومنا هذا، فالتفسير الكلاسيكي للمسرحية في الأصل نظام وأثر كلاسيكي وبالتالي فإن أي تحليل لهذا النظام أو الأثر لابد من أن يكون من بوابة المفاهيم الكلاسيكية نفسها، وسوف نفرد ما تبقى من هذا الفصل لأثر أرسطو على كل من خلفوه.
2- أتباع أرسطوطاليس
ورثت الإمبراطورية الرومانية الحضارة اليونانية بما في ذلك فن المسرح ، وما الملهاة الرومانية إلا ظلاً لأنماط الملاهي اليونانية وامتداد لتلك الملاهي ولم يدخل عليها إلا القليل فقط من العناصر المحلية. لكن أهم ما في الأمر أن نشأة الملهاة في روما هي نشأة دينية كما هو الحال في نشأة المسرح اليوناني، وأشهر كتاب الدراما اليونانية هما بلوتوس (Titua Maccus Plautus) 254- 184 ق. م. والكاتب الثاني هو تيرانس "بيبليوس ترنتيوي أفر تيرانس Publius Terentiud Afer أحد أهالي قرطاجنة، والذي ولد قبيل وفاة بلوتوس بسنين قلائل وهو الذي كان يذكر إلى جانب بلوتوس كلما أثنى الناس على مؤلفي الملاهي الرومانيين[30]" أما على مستوى الفكر الدرامي يعتبر الفيلسوف والناقد الروماني (هوراس) خليفة لأرسطوطاليس في الإمبراطورية الرومانية، حيث جاء كتابه (فن الشعر) محتوياً على عدد كبير من تعاليم (فن الشعر) لأرسطوطاليس.
أ/ هوراس Horace
كتب هوراس Horace مؤلفه (فن الشعر) في عام 224 ق. م. وهو عبارة عن خطاب أو مجموعة نصائح لولده ولقد التزم هوراس بتعاليم أرسطوطاليس في الشعر عامة والدراما على وجه الخصوص، وكتابه أقل وأقصر بكثير من كتاب (فن الشعر) لأرسطو طاليس لكنه كفيل بتوفير رؤية هوراس للجمال وعلاقة ذلك بالأخلاق والدراما. ويفتتح هوراس رسالته عن فن الشعر بحديث قصير عن الوحدة الفنية فيقول: "لنفرض أن رساماً وضع رأساً آدمياً على عنق حصان .. أو جسم امرأة جميلة علي ذيل سمكة .. ألا تثير مثل هذه الرسومات ضحكنا؟ إن أي كتاب لابد أن يحدث في نفوسنا مثل هذا الأثر ... وقد نقول إن الشعراء يتمتعون بحريات كثيرة وهو صحيح ولكن ليس إلى الحد الذي يستباح لهم بأن يقرنوا الأفاعي بالطيور والحمل بالنمر[31]".
ولقد وضع هوراس نصائح تفيد الكاتب المسرحي "إذا شئت أن تكون كاتباً يجب أن تختار موضوعاً فوق طاقتك .. والرجل الذي يختار موضوعاً يلائم قدراته لن تخذله الكلمات وأفكاره ستكون واضحة[32]".
كما اهتم هوراس بالشخصية قائلاً: "إذا كنت تريد مستمعاً ينتظر مسرحيتك إلى أن ينزل عليها الستار يجب أن تلاحظ سلوك الناس في مختلف مراحل العمر وأن تخصص لكل مرحلة ولكل مزاج صفات مميزة للشخصية[33]" وهذا الحديث يظهر تأثر هوراس بأرسطوطاليس، لأن ملاحظة سلوك الناس ومراحل مزاجهم أمران يتربطان بالتطور الطبيعي للشخصية وهو ما سعى إليه أرسطوطاليس في حديثه عن التحول في الشخصية وعلاقة كل لذلك بالفعل.
المسرح في العصور الوسطى:
لم تخلف لنا العصور الوسطى مسرحاً (Theater) كما هو الحال في المسرح اليوناني أو الروماني. في ذلك العصر خرج الإنسان الغربي من عهد الوثنية إلى المسيحية. كما تخلص المجتمع حينها من سلطان الملك الواحد ثم بدأت المؤسسة الاجتماعية تأخذ هيبتها بالتدرج لقد كانت الصناعة تزداد أهمية، والتجارة في طريقها إلى التطور، والنقد في ذلك الوقت قي أيدي الصيارفة وأصحاب البنوك بعد أن "كان في كنوز الملوك[34]". إن العصور الوسطى تمثل مرحلة أساسية في التطور الاجتماعي في الغرب الأوروبي وهي فترة أعقبت القرون المظلمة التي لا زالت تمثل حلقة مفقودة في تاريخ أوروبا، لكن القرون الوسطى أخرجت الإنسان الأوروبي من عهد تعدد الآلهة والملوك و(أنصاف الآلهة) إلى عهد عبادة دين توحيدي وهو الدين المسيحي.
الكنيسة والمسرح:
إذا نظرنا إلى المجتمع اليوناني القديم في شكله الميثولوجي نجد أن المسرحية فيه جاءت تطوراً تاريخياً لأناشيد (الديثرامبوس*) التي هي أصلاً تراتيل يؤديها كهنة الإله ديوينسوس كما ذكرنا سالفاً، كذلك لقد اتجهت الدراما عامة والمسرحية على وجه الخصوص إلى الدين المسيحي، حيث لعب القساوسة المسيحيون دوراً كبيراً في نقل المسرحية إلى داخل الكنيسة وأصبح عامة الشعب يتلقون التعاليم من هؤلاء الكهنة "وكانوا يشجعون على الإيمان بأن هذه الحياة ليست إلا مجرد ممر قصير وسط واد من الدموع يجب على الإنسان خلاله أن يستعد لما هو بالمكان الأعظم نت حيث الأهمية, ألا وهو الحياة ما بعد الموت[35]".
وهكذا دخل المسرح الكنيسة كوسيلة دعوة للمسيحية وأداة بيد القساوسة والكهنة المسيحيين، يعرضون بواسطته قصص الكتاب المقدس، ويشخصون الأعياد المتعددة، ولقد أفاد المسرح كثيراً في تخليص ذلك المجتمع من عبادة الأوثان إن هؤلاء المتفرجين في أول الطريق إلى الهرب من الوثنيين المخلصين الذين لا أحلام لهم. لقد كانت العذراء مريم كلما ظهرت على منصة هذا الرصيف إذا هم تأخذهم موجة من الاحترام والاستثارة . وكانوا يصلون على أنفسهم في خشوع وورع عند هذه الحادثة أو ذلك الإيهام. وكانوا يتقبلون في إجلال إكراماً لما يتلى عليهم من حادث محبوب من حوادث الكتاب المقدس[36]" وهكذا تخلصت المسرحية من الأسطورة اليونانية، كما كانت عند (اسخيلوس*) أو سوفيلكس .. الخ واتخذت من قصص الكتاب المقدس والشعائر الكنسية موضوعاً لها، فظهرت أربعة أنواع من المسرحية:
أ/ مسرحيات الخوارق.
ب/ مسرحيات الحمقى.
ج/ المسرحية الأخلاقية.
د/ مسرحية الفواصل.
لكن حتى الآن لا يمكننا التعرف على الطريقة التي كانت تكتب بها تلك المسرحيات وبنائها الدرامي، ويقول شلدوني تشينى في هذا الصدد "إننا لا نستطيع فهم مسرحية الخوارق ومسرحية الحمقى والمسرحية الأخلاقية ومسرحية الفواصل إلا بالوقوف على ما كانت تعج به الحياة في ذلك الوقت من متناقضات: بين البلاهة والأمعية وبين العزيمة والتصميم الجديد على التعلم بين التفكير الخرافي والتفكير الحر المستقل والتهتك[37]" لكن هناك (مسرحيات الأسرار*) التي زودت الباحثين بالشذرات المكتوبة.
ويمكننا القول أخيراً في هذا الصدد إن المسرح في العصور الوسطى كان مسرحاً كنسياً، وإن الكنيسة الأوروبية استفادت من الشكل المسرحي في إيصال العديد من المفاهيم والشعائر المسيحية. إذن فالدين المسيحي هو الفكر الأساسي الذي أنبنت عليه المسرحية الكنسية في العصور الوسطى في القرن الثاني والثالث وحتى الرابع الميلادي، ولقد ظلت روح الكنيسة سائدة في العديد من المسرحيات حتى عصر النهضة الإيطالي "ففي مدينة لوسرن وفي سنة 1584 عرضت تمثيلية عيد الفصح (عيد القيامة أو العيد الكبير)، في ميدان السوق، وقد أقاموا الجنة (والسماء) في احدى جوانب الميدان وكانت أشبه بقصر محصن ذي أبراج، كما أقاموا الهيكل[38]".
أبضاً حفلت عديد من المؤلفات بشخصيات ومفاهيم المسرح الكنسي مثل تصوير شخصية الشيطان كما في مسرحية فاوست (Foust) لمارلو *(Marllowo).
ج- الكلاسيكية العائدة 1560- 1700( NEO-CLASSICAL )
نظرية الدراما 1560- 1770م:
كان لاكتشاف كتاب (فن الشعر) لأرسطو وترجمته عام 1498 أثراً بالغاً على النقد الدرامي وفن كتابة المسرحية في تلك الفترة، فنتج عن ذلك تيار (الكلاسيكية العائدة) تيمناً بأرسطوطاليس وإتباعاً لنظرتيه الكلاسيكية، وعلى الرغم من بوادر حركة التنوير في في أول الطريق إلى الهرب من الوثنيين المخلصين الذين لا أحلام لهم. لقد كانت العذراء مريم كلما ظهرت على منصة هذا الرصيف إذا هم تأخذهم موجة من الاحترام والاستثارة . وكانوا يصلون على أنفسهم في خشوع وورع عند هذه الحادثة أو ذلك الإيهام. وكانوا يتقبلون في إجلال إكراماً لما يتلى عليهم من حادث محبوب من حوادث الكتاب المقدس[39]" وهكذا تخلصت المسرحية من الأسطورة اليونانية، كما كانت عند (اسخيلوس*) أو سوفيلكس .. الخ واتخذت من قصص الكتاب المقدس والشعائر الكنسية موضوعاً لها، فظهرت أربعة أنواع من المسرحية:
أ/ مسرحيات الخوارق.
ب/ مسرحيات الحمقى.
ج/ المسرحية الأخلاقية.
د/ مسرحية الفواصل.
لكن حتى الآن لا يمكننا التعرف على الطريقة التي كانت تكتب بها تلك المسرحيات وبنائها الدرامي، ويقول شلدوني تشينى في هذا الصدد "إننا لا نستطيع فهم مسرحية الخوارق ومسرحية الحمقى والمسرحية الأخلاقية ومسرحية الفواصل إلا بالوقوف على ما كانت تعج به الحياة في ذلك الوقت من متناقضات: بين البلاهة والأمعية وبين العزيمة والتصميم الجديد على التعلم بين التفكير الخرافي والتفكير الحر المستقل والتهتك[40]" لكن هناك (مسرحيات الأسرار*) التي زودت الباحثين بالشذرات المكتوبة.
ويمكننا القول أخيراً في هذا الصدد إن المسرح في العصور الوسطى كان مسرحاً كنسياً، وإن الكنيسة الأوروبية استفادت من الشكل المسرحي في إيصال العديد من المفاهيم والشعائر المسيحية. إذن فالدين المسيحي هو الفكر الأساسي الذي أنبنت عليه المسرحية الكنسية في العصور الوسطى في القرن الثاني والثالث وحتى الرابع الميلادي، ولقد ظلت روح الكنيسة سائدة في العديد من المسرحيات حتى عصر النهضة الإيطالي "ففي مدينة لوسرن وفي سنة 1584 عرضت تمثيلية عيد الفصح (عيد القيامة أو العيد الكبير)، في ميدان السوق، وقد أقاموا الجنة (والسماء) في احدى جوانب الميدان وكانت أشبه بقصر محصن ذي أبراج، كما أقاموا الهيكل[41]".
أبضاً حفلت عديد من المؤلفات بشخصيات ومفاهيم المسرح الكنسي مثل تصوير شخصية الشيطان كما في مسرحية فاوست (Foust) لمارلو *(Marllowo).
ج-الكلاسيكية العائدة 1560-1700(NEO-CLASSICA).
نظرية الدراما 1560- 1770م:
كان لاكتشاف كتاب (فن الشعر) لأرسطو وترجمته عام 1498 أثراً بالغاً على النقد الدرامي وفن كتابة المسرحية في تلك الفترة، فنتج عن ذلك تيار (الكلاسيكية العائدة) تيمناً بأرسطوطاليس وإتباعاً لنظرتيه الكلاسيكية، وعلى الرغم من بوادر حركة التنوير في العلوم المختلفة إلا أن المسرح وجد في ألأدب اليوناني القديم ضالته المنشودة، وفي انجلترا وحدها ارتبطت أسماء أربعة من الكتاب المسرحيين بتيار (الكلاسيكية العائدة)، فحذوا حذو أرسطوطاليس في البناء الدرامي، ودعوا إلى كتابة المسرحية التراجيدية على النمط السوفوكليسي ذي البناء الأرسطي، فإذا ما استثنينا (شكسبير 1564- 1661م) والذي يعتبر حلقة الوصل بين الكلاسيكية والرومانسية، نجد ان كل من بن جنسون (Ben Janson) 1972- 1637 وروبرت قرين (Robert Green) 1560- 1592م و(كريستوفر مارليو Christopher Marlowe) 1568- 1593م قد كتبوا مسرحياتهم اعتماداً على قوانين أرسطوطاليس هذا بالطبع في إنجلترا وحدها، أما في إيطاليا وفرنسا وبقية أوربا فقد كان أثر أرسطوطاليس هو الآخر كبيراً. ولقد ظهر عدد من النقاد في تلك الحقبة دعوا إلى عودة الكلاسيكية واشتهروا كرواد لما أطلق عليه اسم الكلاسيكية العائدة وأشهرهم:
كاستلفترو LudovicCastelvatro 1505- 1571م:
22
نشر كاستلفترو (إيطالي) ترجمته وتعليقه على كتاب (فن الشعر) عام 1570م، ومن أهم أركان دعوته، الوحدات الثلاثة، وحدة الفعل وحدة الزمان ووحدة المكان مرتكزاً على رأس أرسطوطاليس فهو يرى من الضروري وجود (وحدتي الزمان والمكان) في الدراما، وألا ينتقل المنظر من مكان إلى مكان آخر كما أن الزمن الذي تدور فيه الأحداث ينبغي أن يكون متصلاً وبعبارة أخرى فإن هذه القواعد تحظر وقوع الفصل الثاني كما في المسرحية الحديثة بعد خمس سنوات، أو في مكان مختلف تماماً من مكان الفعل الأول، ولو إحترمت الحديث وحدتي الزمان والمكان، لكان من الضروري، في رأي كاستلفترو أن تترتب عليها وحدة الحوادث. ذلك لأن أحداث المسرحية ينبغي عندئذ أن تكون متصلة ومترابطة، وهذه الوحدات –وحدة الزمان، المكان، والحدث- ظلت جميعها تسود قدراً كبيراً من الدراما الأوروبية طوال ما يزيد على قرنين من الزمان، وفي حديثه عن وحدة الزمان يقول كاستلفترو: "إن الزمن الذي يتناسب وطبيعة المشاهدين وهم على مقاعدهم ليس بالضروري أن يكون دورة شمسية كاملة كما قال أرسطوطاليس، لأن ذلك يعادل إثنتي عشر ساعة، ولأنه بالرجوع إلى احتياجاتهم الجسدية من مأكل ومشرب وقضاء حاجاتهم ... الخ لا يمكن للمشاهدين البقاء داخل المسرح كل تلك المدة المذكورة[42]".
كما اتفق كاستلفترو مع أرسطوطاليس حول وحدة الفعل وهو ما يهمنا في هذا الفصل بالتحديد إذ يعزى اهتمام أرسطوطاليس بوحدة الفعل، أراد بها أن تكون (العقدة Plot واحدة في حكاية واحدة) لكن أرطوطاليس قد ركز بشدة على ضرورة أن تأتي القصة في كل من التراجيديا والكوميديا على حدث أو فعل واحد وأن تكون عن شخص واحد وليس عن كل الناس، هذا ليس لعدم مقدرة احتواء القصة الواحدة على أكثر من فعل واحد، بل "لأن الزمان الأثنى عشر ساعة التي يتم فيها تصوير الفعل أو الحدث، لا يسع خليطاً من الأفعال ولا حتى أسرة واحدة ولا حتى يكفي لفعل كامل[43]".
2- توماس ريمر (Thomas Rymer)
25
إلا أن الكلاسيكية العائدة شهدت نقاداً بلغوا درجة من التعصب لمذهب أرسطوطاليس لم يسبق له مثيل، وهو ما فعله توماس ريمر (إنجليزي)، الذي جعل من نظرية أرسطوطاليس في الدراما قالباً مسرحياً، فإذا لم تتوافق معه المسرحية نظر إلى تلك المسرحية على أساس أنها لا تشبه المسرح في شيء!! وتوماس ريمر نموذج حقيقي لما يطلق عليهم أنصار (النقد القواعدي) وهو نوع من النقد الذي يهتم بالقاعدة أكثر من الأثر الإبداعي نفسه فيه تعصب للمنهج أكثر من الموضوع نفسه وهو ما فعله توماس ريمر الذي عاش في أواخر القرن السابع عشر في مؤلفه (نظرة قصيرة إلى التراجيديا)، جاعلاً نقده مرتكزاً على كتاب الشعر لأرسطو. فتحدث عن أعظم الشعراء الإنجليز الذين كانوا غير موفقين .. نتيجة للجهل بتلك القواعد والقوانين الأساسية التي وضعها أرسطو أو تجاهلهم لها. وقد استخدم ريمر هذه القواعد، كما فهمها، في نقد شكسبير، وهكذا طبق قاعدة النمط النفسي وهي الصيغ التي عبرت بها الحركة الكلاسيكية الجديدة عن فكرة الشمول عند أرسطو على مسرحية عطيل. "فهاجم المسرحية هحوماً كان عنيفاً أشد العنف، وزعم أن (ياجو*) لا يتماشى مع النمط إذ أن (ياجو) جندي، والجنود دائماً يتمتعون بقلوب مفتوحة، وبسطاء في معاملتهم، وبالمثل فقد كان من المستحيل أن تتزوج (ديمونة*) رجلاً أسوداً"، كما كان من المستحيل أن يكون (عطيل) قائداً في (البندقية) وهكذا أن شكسبير لا يعرف قاعدة النمط لأنه يدخل ترويجاً هزلياً وسط التراجيديا ومن الواضح أنه لا يحترم الوحدات الدرامية أي أن الأحداث تنتقل من مكان إلى آخر، لهذه الأسباب كلها انتهى ريمر إلى "أن شكسبير حين كتب التراجيديا، يبدو بعيداً عن مستواه تماماً، فذهنه معوج، وهو يهذي دون أي ترابط[44]".
لقد كانت الكلاسيكية العائدة ترى في الفكر اليوناني نبراساً مقدساً، وتعتبر قضايا المسرح اليوناني هي العصر الذهبي للمسرح في نظر الناقد وهو ما نجده في مسرحيات كل من (كريستوفر مارلو) و(روبرت قرين) و(بن جونسون) ويجد القارئ لمسرحية (فاوست) لمارلو أثر القرون الوسطى ومسرحيات الأسرار خاصة. لذلك عندما اتجه ويليام شكسبير إلى تصوير الشخصية بدلاً عن دور الفعل الذي تكرس له المسرحية الكلاسيكية ثار عليه النقاد واعتبروه خارجاً عن العرف، ومتمرداً على القاعدة الأرسطية (من أرسطوطاليس)، أو وصفه بالجهل وعدم الدراية، وهو ما لمسناه في حديث توماس رايمر.
3- جون دريدن John Dryden 1731- 1700م
27
26
على الرغم من الطبيعة الكلاسيكية لجون داردن التي ناصر فيها النظرية الأرسطية، إلا أنه أحدث تميزاً بين نظرائه من نقاد الكلاسيكية العائدة "لا يكفي أن أرسطو قال كل ذلك لأن أرسطو استمد نماذج التراجيديا من سوفكليس ويوربيدس* ولو كان شاهد تراجيديتنا الحالية، لكان من الجائز أن يغير رأيه[45]" يبدو واضحاً مؤشر الخروج على أرسطو في حديث جون دريدن. وهو ما حاول إثباته في مؤلفاته والتي أبرز فيها دوراً كبيراً للشخصية ذات الشيء الذي نجده عند ويليام شكسبير. وفي الحقيقة أن جون دريدن على نقيض توماس رايمر تماماً حيث أكد على أثر الطبيعة والعصر على المسرحية. ويعتبر نقطة فارقة في الكلاسيكية العائدة وبداية الخروج عن سلطة أرسطوطاليس. وخلفه في ذلك الكسندر بوب (A. Pope) الذي أعد كتاباً أطلق عليه اسم دراسة النقد عام (1711م)، "ويرى فيه ضرورة كسر قواعد أرسطوطاليس حتى يصل العمل شغاف القلب، كما أنه كان يؤمن (بالغاية) الجمالية فيقول "فالعمل يكون قد حقق هدفه عندما يبعث صورة من الانفعال والحرارة في الذهن[46]".
4- أرسطوطاليس والفلاسفة المسلمين:
عرف العرب والفلاسفة الفيلسوف أرسطوطاليس وترجموا كتبه عامة وكتابه (فن الشعر) خاصة. ومن أهم الترجمات العربية ترجمة الفيلسوف الإسلامي (ابن رشد) والتي جاءت بعنوان (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر) وهي ترجمة وافية وتحليلية مزودة بأنواع من الشروح والمقارنات "الغرض في هذا القول تلخيص ما في كتاب أرسطوطاليس في الشعر من القوانين الكلية والمشتركة لجميع الأمم، وللأكثر، إذ كثيراً مما فيه هي قوانين خاصة بأشعارهم، وعاداتهم فيها أما أن تكون نسباً موجودة في غيرهم من الألسنة[47]"
وفي شرحه لعبارة أرسطوطاليس (التراجيديا محاكاة فعل نبيل تام ... الخ) في تعريفه للتراجيديا يقول ابن رشد: "نقول أنه يجب أن تكون صناعة المديح مستوفية لغايات فعلها من التشبيه ومحاكاة الغاية التي في طباعها أن تبلغه. وذلك يكون بأشياء: أحدهما أن يكون للقصيدة عظم ما محدود وتكون به كلا وكاملة[48]" ومن الملاحظ لم يترجم ابن رشد كتاب (فن الشعر) ترجمة حرفية بل سعى لترجمة المفاهيم والمضامين ولقد تأثر النقد الأدبي العربي بأرسطوطاليس تأثراً كبيراً خاصة فيمايتعلق بمفهوم الوحدة العضوية للقصيدة" ومن ذلك اتجاه قدامة إلى دراسة الأجناس الأدبية تبعاً لنظرة أرسطوطاليس في النظر إلى العمل الأدبي بوصفه كلاً ذا وحدة في حدود مافهم قدامة ومن سايروه[49]"
وبنهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، لحقت النظرية الدرامية والنقد المسرحي بركب العلوم الأخرى التي تأثرت بالفلسفة الوضعية التي أشعلها (فرانسيس بيكون) فبدأ واضحاً مؤشر الخروج من المسرحية اليونانية والنمط السوفكلي- من سوفكليس- والبناء الأرسطي. لكن قد حدث هذا التحول تدريجياً، وفي مرحلة متقدمة من القرن الثامن عشر، وبعد إزدهار العلوم الإنسانية المختلفة مثل علم الاجتماع وعام النفس وظهور تيارات فكرية متعددة، أكدت أهمية التجربة الإنسانية انتقال النص المسرحي إلى مرحلة جديدة ومذهب آخر وهو المذهب الرومانسي. وفيما يلي وفي خاتمة هذا الفصل أقدم تحليلاً لمسرحية الملك أوديب.
تحليل فلسفي لمسرحية الملك أوديب اعتماداً على نظريةارسطوطاليس الكلاسيكية:
سوفكليس Sophocles (496- 406 ق.م)
كتب سوفكليس مجموعة من المسرحيات لم يبق منها غير ثماني مسرحية هي أجاكس، أنتيجون، أوديب ملكاً، وأوديب في مدينة كولون. أسهم إسهاماً كبيراً في تطوير شكل ومضمون المسرحية اليونانية.
قصة المسرحية كما هي في الأسطورة:
تقول الأسطورة اليونانية إن لعنة أصابت أسرة (كدموس) حيث أخبرت الإله الملك (لايوس) ملك (ثيبية*) بأن ابناً من صلبه سيقتله ويتزوج زوجته وسينجب منها أبناءً من أمه وأخواناً له. أمر الملك لايوس أحد الخدم بأن يأخذ ابنه (أوديب) بعد ولادته مباشرة ويتركه عند الغابة لتفترسه الوحوش. لكن الخادم لم يفعل ما أمر به لا يوس. فشب الابن في مدينة أخرى، ثم يستشير الآلهة فتأمره بالعودة والبحث عن أسرته وفي الطريق التقى برجل شيخ مع حرسه فوقع بينهم شجار فقتل أوديب الشيخ. ومضى في طريقه حتى وصل إلى مدينة ثيبة. وإذا حيوان غريب قد قام على صخرة قريباً من المدينة يلقي على كل من مر به لغزاً فإن لم يحله افترسه. وكان أهل (ثيبة) قد علموا بموت ملكهم الشيخ في طريقه، ولم يعرفوا قاتله وكان الهلع قد ملأ قلوبهم لمكان هذا الحيوان من مدينتهم وسوء أثره فيهم. فأعلن (كريون) الوصي على الملك في المدينة أن أي الناس استطاع أن يخلص المدينة من هذا البلاء فله عرشها، وله أن يتزوج الملكة فلما مر أوديب على الحيوان طرح عليه الحيوان السؤال فأجابه فخر ميتاً، فآل الملك لأوديب وتزوج الملكة جوكستا (Jocsta) وولد منها ابناء. ثم أصاب الطاعون مدينة (ثيبة) فما كان من الرعية إلا أن اتجهوا لملكهم (أوديب) لإنقاذ مدينتهم كما أنقذهم من الوحش.
شخصيات المسرحية:
أوديب ملك طيبة
جوكستا زوجة أوديب
كريون أخ جوكستا
تريزياس عراف ضرير
كاهن
رسول
راعى
حضور
كورس طيبة
مجلس الملك
مجلس الملكة
مواطنو طيبة
تهدف هذه الدراسة إلى إجراء تطبيقات معتمدة على آراء أرسطوطاليس ونظريته في المأساة. وهي بالتالي تنتمي إلى التحليل والنقد الفلسفي للمسرحية كما تسعى الدراسة إلى إبراز الأبعاد والأصول الفلسفية للنظرية معتمدة على تقصي (نوع الفعل) و(الشخصيات) و(تطور الفعل)، والحل. وهي بالتالي مكملة للفصل الأول من هذا الباب. وقبل كل شيء لا بد من أن أشير على الآتي:
1/ ان سوفكليس Sophecles بدأ المسرحية – وهي بداية الفعل مؤخرا بعد أن نزل وباء الطاعون علي المدينة والملك (ثينة) وهو ما نجده في المنظر الأول من الفصل الأول (أمام قصر الملك علي المدرجات يجلس في شكل مناحة عدد من مواطني المدينة علي الأرض وحول الهيكل).
بداية الفعل:
يبدأ الفعل في مسرحية (الملك أوديب) عندما اشتد الوباء، وحينها كان أوديب ملكاً، وهذه نقطة جوهرية، فالبداية هنا مؤشر إلى تصاعد الفعل نحو الذروة. ويجد القارئ للمسرحية وفقاً للأسطورة أن البداية الحقيقية بالضرورة أن تبدأ حيث بدأ سوفكليس، فهي أعقبت سلسلة من الأحداث الهامشية مثل بحث أوديب عن أسرته، نشأته، حل اللغز... الخ، لكن نجد (بداية العقدة) عندما يأتي المواطنون والكهنة إلى الملك كي ينقذهم من الوباء والطاعون الذي ألم بمدينتهم، فهو صاحب المعرفة والحكمة والدراية، فبالضرورة أن يكتشف سبب الوباء ويعرفه. حيث يقول الكاهن معبراً عن رغبة الشعب ومتحدثاً إنابة عنه:
الكاهن: (أي مليك وطني أوديبوس أترى إلينا كيف اجتمعنا هنا حول المذبح، أترى إلى أعمارنا، منا من لا يزال ضعيفاً لم يشب، ولم يستطيع أن يبعد عن المدينة، ومنا من ثقلت به ألسن فهو لا يستطيع انتقالاً، ومنا كهنة (زيوس*) أمثالي، ومنا هؤلاء صفوة الشباب وسائر الشعب وقد اتخذوا أكاليل من الغار، وأحاطوا بمعبد (يلاس) قريباً من الرماد المقدس لموقد (أبولون). هذه (ثيبة) كما ترى تهز هزاً عنيفاً وقد أخطرت إلى هوة عميقة، فهي لا تستطيع أن ترفع رأسها، وقد أحدقت بها الأخطار الدامية من كل مكان، هلم يا أحكم الناس أصلح أمر مدينتنا، فكر في شهرتك وما ينبغي لك من حسن الأحدوثة. إن هذا البلد يسميك اليوم منقذه بما قدمت إليه فيما مضى. فأحرص على أن لا تذكر في يوم من الأيام أنك أنقذتنا مرة لنهوي في المكروه مرة أخرى، بل أنقذ وطننا وأرفع أمره لقد أرشدك الإله إلى إنقاذنا فيما مضى فكن اليوم كما كنت أمس. فقد أرى أنه إذا أتيح لك أن تحكم هذه الأرض فالخير في أن تحكمها معمورة لا مقفرة. ما قيمة الأسوار، ما قيمة السفن والأسوار إذا خلت ولم يوجد من يلوذ بها).
كان هذا البيان الذي قدمه الكاهن نيابة عن الشعب بمثابة مطالبة قوية وكبيرة للملك أوديب، وفيه برع الكاتب سوفكليس في إيجاد شرط كافي يجعل من أوديب الملك أمام سؤال صعب يحتاج لإجابة، ومعضلة كبيرة يستوجب كشفها، وهو أيضاً بيان يوضح لنا مدى المحنة التي وقع فيها الملك أوديب، لتشكل بداية حقيقية للفعل.. إن مطلب الشعب واحد وهو (معرفة سبب الطاعون الذي ألم بالبلاد)، ولما كان أوديب قد استطاع أن يحل ألغازاً كثيرة بحكمته ودرايته ومعرفته فواجبه اليوم معرفة السبب وهكذا نكتشف أن الملك أوديب لا مفر له من الإجابة على هذا السؤال، والسعي إلى إيجاد الإجابة الناجعة يجعله في مجمل أفعال تؤدي إلى تصاعد الحدث، وهو ما أشار إليه أرسطوطاليس في كتابه (فن الشعر) استطاع سوفكليس أن يرسم لنا شخصية أوديب منذ البداية، بأنها على غير علم بأخطائها، وبالتالي كلما مضى الحدث أو الفعل إلى الأمام تجاه المعرفة أدى إلى تصاعد آخر حتى إذا اكتملت المعرفة وتم (التعرف) انقلب الفعل تماماً إلى العكس وحدث التحول لأوديب من السعادة إلى الشقاء.
لكن الفعل يقودنا إلى حيث إمتحان أوديب العسير الذي يجعله أكثر استعداداً للمضي قدماً لمعرفة الحل، وهو ما أراد تصويره سوفكليس، لأن أدويب بعد أن اشتد به الأمر، أرسل وزيره كريون (Crion) إلى الآلهة، لمعرفة الإجابة على السؤال، لكن رد الآلهة هو بمثابة إضافة سؤال آخر، حيث أمرت الملك أوديب بمعرفة قاتل (لايوس) الملك السابق ثم نفيه أو الاقتصاص منه ليجد أوديب نفسه أمام شعبه أكثر حماساً للقيام بالمهمة فلطالما عرفه الناس بحكمته وقوة جبروته.
أوديبوس: (أيها الابناء إنكم الخليقون بالإشفاق إن تطلبونه ليس غريباً بالقياس إلى فإني أعرفه، نعم أعرفه حق المعرفة، لست أجهل أنكم تألمون جميعاً، ولكن ثقوا بأن ليس منكم من يألم ألمي.
كل واحد منكم يألم لنفسه لا يجاوزه الألم إلى غيره، أما أنا فإني آلم لـ (ثيبة)، وآلم لكم وآلم لنفسي، وإذن فإنكم لا توقظون بهذا الحديث مني رجلاً نائماً، تعلمون إني رزقت كثيراً من الدمع وإني فكرت في كثير من الوسائل إلى النجاة فلم أجد إلا وسيلة واحدة ظفرت بها بعد طول تفكير، فلم أتردد في الإلتجاء إليها. فقد أرسلت كريون (ابن منيسوس) إلى معبد (أبولون)، ليعلم لي من الإله ما ينبغي أن أصنع وقد طالت غيبته وإذا عاد فحق علي أن أمضي كل ما يأمر به الإله وأنا آثم إن قصرت في بعض ذلك).
الكاهن: حقاً لقد تكلمت فالوقت ملائم فهؤلاء ينبئوني بمقدم كريون. (يرى كريون مقبلاً من شمال المسرح وعلى رأسه تاج).
اديبيوس: أي أبولون أن يكون ما يحل إلينا من أمرك مشرقاً كهذا الإشراق الذي يرى وجهك.
الكاهن: نعم يخيل إلى أن أنباءً سارة وإلا لما أقبل مبتهجاً قد توج رأسه بإكليل (الغار).
كل ذلك يوضح لنا مدى أثر إجابة كريون في دفع اتجاه الفعل Action إلى الأمام. فإذا افترضنا أن الآلهة كشفت الحل أبانت سبب الوباء لانتهى كل شيء عند هذه النقطة، لكنها آثرت أن تجعل الإجابة في اتجاه بناء الفعل نحو التصاعد، وهذا ما يحقق لنا معنى (Drama) حيث تزداد العقدة المحمولة بواسطة الفعل تعقيداً وتتوالد الأحداث بعضها عن بعض بانتخاب طبيعي درامي وفقاً لنظرية أرسطوطاليس في التراجيديا ثم يلح أدويب في السؤال.
أوديب: سنعلم جلية ذلك فإنه قد صار قريباً منا –أيها الأمير يا ابن منيسيوس، أي جواب تحمل إلينا من الإله؟
كربون: جواب ميمون فأني أري أن الأحداث السيئة نفسها خيراً أكانت عاقبتها خيراً.
أوديبوس: ولكن ما جواب الآلهة فأنه لا يذيع في قلبي خوفاً؟.
إن حديث أوديب فيه تطلع عظيم لمعرفة الإجابة ، حتى يقوى على الحل ، فهو حديث فيه تسرع واضح . يريد إجابة شافية.
كريون: ( مشيراً إلى أهل المدينة الجاثين) إن شئت أن تسمح لي أمامهم تكلمت كما أنني أستطيع أن انتظر حتى ندخل القصر.
أوديبوس: تكلم أمامهم جمعياً ، الأمر أخطر من أن يمسني وحدي.
كريون: سأقول إذا ما سمعته من الآلة . إن الملك ( أبولون) يأمرنا أن ننقذ هذا الوطن من رجس ألم به ،وألا نسمح لهذا الرجس بأن يبغي حتى ينمو ويصبح شفاؤه عسيراً.
أوديبوس: بأي نوع من أنواع الطهر ؟ والي أي نوع من أنواع الشر يشير الآلة.
كريون: أن نقتص من القاتل بالقتل فأن الإجرام والقتل هما أصل الشرفي (ثيب).أيها الملك لقد حكم هذه المدينة لا يوس قبل أن يصير أمرها إليك.
أوديبوس: أعرف ذلك أنبئت به ولكني لم أر هذا الملك قط.
كريون: أما وقد قتل فان الأله يأمر بعقاب قاتليه مهما يكونوا.
أوديبوس:أين هم ؟كيف نقص آثار هذه الجريمة.
كريون: قال الإله إنهم في هذا الوطن ، من بحث عن شئ وجده ، ومن أهمل شيئاً أفلت من يده ( أوديبوس يفكر قليلاً).
34
يتضح من هذا الحوار أن الفعل في تصاعد مستمر ، حيث نكتشف تلك المساحة و التصاعد فى الفعل الدرامى بعد عودة كريون تفتح مجالاً أخرا ومساحة أخرى للسؤال . فيزداد حماس أوديب لمعرفة الحل وعقاب الآثمين ، ويعلن عن جائزة لمن يدله عل القتل.
أدويب : فأني أعلن إليكم أيها المواطنون أني آمركم من عرف قاتل لا يوس بن لا يدكوس بأن يدلني عليه ، حتى وإن أشفق من ذلك وإن كان هو القاتل. فإن أقصي ما يتعرض له إن دل على نفسه هو أن ينفي من الأرض دون أن تتعرض حياته لخطر.
وهكذا يبدأ أوديب في التعرف ، وكل خطوة تقوده الي خطوة أخرى ويزداد الفعل في التصاعد نحو الذروة بمنطق الضرورة أوالاحتمال .. إذا لا بد من شخص ما يدرى بالأمر فيأتي دور الكاهن ( تريزياس ) ويدور حوار يدفع بعجلة الفعل الدرامي بصورة تصاعدية بدأ بتضرع أوديب للكاهن تريزياس وينتهي بتهديد الكاهن.
هذه هى خاصية الفعل الأوديب الذى يبدأ بسؤال بسيط لينتهى بسؤال كبير. يبدأ بالتعرف على الجهل لينتهى بالتعرف على الخطأ
أدويبوس: بحق الاله لا تعرض عنا انبئنا بما تعلم ، ها نحن جميعاً نتوسل إليك ضارعين .
تريزياس : ذلك لأنكم جمعياً حمقى ، أما أنا فلن أعلن مصائبي وأخزاني ، بل مصائبك أنت وأحزانك.
أوديبوس: ما ذا تقول؟ إنك تعرف الحق ثم لا تعلنه أنت تفكر في أن تخزلنا وتهلك المدينة.
يستمر حوار الملك أوديب مع الكاهن تريزياس طالباً منه النطق بالسر ، وتزداد شكوكه فى نوايا الكاهن ثم يبدأ أوديب في توجيه أوديب:لو أنك كنت بصيراً لما ترددت في أؤكد أنك وحدك القاتل.
تريزياس: أحق هذا ؟ أني إذن أكلفك أن تنفذ الأمر إلى أصدرته وألا تتحدث منذ اليوم إلى أحد لا إلى ولا إلى هؤلاء فأنت الرجس الذي يدنس المدينة.
وعندما يزداد إصرار أوديب يصرح له الكاهن بكل الحقيقة.
تريزياس: أؤكد لك أنك قاتل هذا الرجل الذي تبحث عمن أورده الموت.
وعندما يعلم أوديب كل ذلك لا يصدقه ، يبدأ رحله أخرى من الإستكشاف تبدأ بشكه في وزيره كريون ، زاعماً أن كريون حرض عليه ذلك الكاهن طمعاً في الحكم.
كريون: ما الذي طوع لأوديبوس أن يظن أن الكاهن إنما أعلن ما أعلن الكذب متأثراً بتحريض له؟
رئيس الجوقة: لا أدري فان عيني لا تنفذ أعمال السادة ولكن ها هو ذا يخرج من القصر.
( يدخل أوديبوس فجأة).
أدويبوس: هاأنت ذا ، ماذا تصنع هنا؟ أتبلغ بك الجرأة أن تأتي إلي هذا المكان وأنت حريص على أن تهلكني وتنتزع مني السلطان؟
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، حيث يتجه أوديب إلى المكلة جوكستا ويواصل مشواراً آخر من البحث ، في سبيل التوصل إلى الحقيقة والمعرفة ، وفي حواره مع أمه – زوجته يبدأ أوديب في التعرف ويزداد الشك أكثر عند وصفها للملك ، وعدد أتباعه ، ثم يطلب إحضار الراعي وهو الشخص الوحيد الذي نجأ من حادث اغتيال الملك لايوس.
أوديبوس: سأنبئك بذلك لأني أكبرك أيتها المرأة أكثر مما يكبرك هؤلاء الناس ، وإنما دفعني إلى هذا الغضب كريون وإئتماره بى.
جوكستا: احقاً ما ترمية به من الخيانة.
أوديبوس: يزعم أني قاتل لايوس.
ويستمر الحوار في تسلسل تطلعه فيه الملكة أوديب بتفاصيل حادث قتل الملك في طريقة ذات ثلاث شعب ، فيبدأ الرعب في وجه أوديب حيث يتعرف على أول الخيط ويساوره الشك في شخصه.
أوديب: أيتها المرأة ما اشد ما تثير هذه القصة في نفسى من الشك والإضراب.
جوكستا: ما هذا الخوف الذي تثيره في نفسك رجوعك اليها.
أوديبوس: أظني سمعتك تقولين إن لا يوس قد قتل في طريق ذات شعب ثلاث.
جوكستا: قيل ذلك وما زال يقال.
أوديبوس: وفي أي مكان وقع هذا الحدث المنكر؟
جوكستا: في بلاد (الفوكيين) حيث تلتقي الطريقان الآتيان من (دلف) و( رولس).
اوديبوس: وكم مضي على هذا الحدث من الزمن ؟
جوكستا: أزيع نبأه في المدينة قبل أن ترقي إلى عرشها بزمن قليل.
أوديبوس: أي زيوس ماذا أردت أن تصنع بي؟
جوكستا: ما ذا يا أوديديبوس؟ ما اذ يدفعك إلى هذا القلق؟
أوديبوس: لا تسأليني ،كيف كان لا يوس؟ وماذا كانت سنة؟
جوكستا: كان رجلاً طويلاً قد خط الشيب رأسه وكانت فيه ملامحك.
وكلما تعقد الأمر إزداد قلق الملك أوديب ، وإزدات هواجسه ثم إزداد إصراره على معرفة الحقيقة فيستنجد برسول آخر جاء بخبره بموت الرجل الذي رعاه ، ولكأن الأخبار والأحدث تساق بطريقة قدريه لتوقع أدويب أما هذا الرسول ، الذي يدله هو الآخر على الراعي الذي حمله إلى ذلك الملك العقيم الذي تبناه.
الرسول: أنباء سارة اليك وزوجك أيتها المرأة.
جوكستا: ماذا تعني ؟ ومن أين أقبلت؟
******
وعلى الرغم من ذلك يخبر الرسول أوديب أن الرجل الذي مات ليس أباه.
الرسول: أتعلم أن خوفك لا أساس له .
اوديبوس: كيف ذلك إذا كنت أنا ابن هذين الشخصين؟
الرسول: لأن بوليبوس لم تكن بينه وبينك صلة لنسب.
أوديبوس: ماذا تقول؟ ألم يكن بوليبوس أبي؟
الرسول: لم يكن أباك كما أني لست أباك.
أدويبوس: وأنت اشتريتني أم التقطتني حيث أهديتني إليه؟
الرسول: إلتقطك في واد من تلك الوديان؟
أوديبوس: كنت راعياً إذن تهيم لحساب غيرك؟
الرسول: وكنت في ذلك الوقت منقذك يابني.
وهنا يصل أوديب للنقطة الأخيرة في رحلة البحث عن الحقيقة ، والمعرفة وهي حضور الخام الذي كلف بتركه في العراء ويدور حوار آخر اشد حده ، تتخلله عبارات الوعيد من أوديب للخادم ، مكرهاً له على ذكر كل التفاصيل.
الخادم: حقاً ولكن بعيد العهد .
الرسول: والآن أتذكر أنك دفعت إلى صبياً لأربيه كما لو كان أبني؟
الخادم: ماذا تقول؟ لم هذا السؤال؟
الرسول: ها هو ذا ايها الصديق ذلك الذي كان صبياً حينذاك.
الخادم : لتهكك الآله ، ألا تؤثر الصمت .
أوديبوس: لا تغضب عليه ايها الشيخ فأن الفاظك أنت هي الخليقة أن ثير الغضب لا الفاظة.
الخادم: أي خطيئة اقترفت يا خير السادة.
الرسول: خطيئتك أنك لا تجيب بشئ عن أمر الطفل الذي يسألك عنه.
أوديبوس: ألا تريدون أن تسرعوا فتجمعوا يديه خلف ظهره؟
الخادم: ما أشقاني فيم هذا لعذاب؟ ماذا تريد أن تعلم؟
أوديبوس : هذا الصبي الذي يتحدث عنه هل دفعته إليه؟
الخادم: نعم وددت لو مت في ذلك اليوم.
اوديبوس: سينزل بك الموت إن لم تقل ما يجب أن تقول.
ويزداد وعيد أوديب وكل مرة يكتشف أن القاتل والجاني هو نفسه لكنه مدفوع إلى معرفة كل شئ.
الخادم: واحسرتاه هذا ما يفظعني أن أقوله.
أوديبوس: ويفظعني أن أسمعه ، ومع ذلك يجب أن تتكلم.
الخادم: كان قال أنه ابن الملك ، ولكن في القصر امرأتك تستطيع أن تنبئك بجليه الأمر.
أوديبوس: أهي التي دفعته إليك؟
الخادم: نعم أيها الملك.
أدويبوس: لماذا؟
الخادم: لأهلكه.
أوديبوس: أم تقدم على ذلك ؟ ما أشقاها.
الخادم: خوفاً من وصي مشئوم.
أوديبوس: أي وصي؟
الخادم: كان يقال أن هذا الصبي لو عاش لقتل أبويه.
أوديبوس: ولما دفعته إلى هذا الشيخ؟
الخادم: أشفاقاً عليه يا مولاي ، قدرت أنه سيحل إلى بلد آخر حيث يعيش هو ومن أنقذ حياته فكان ذلك مصدر شقاء عظيم.
أوديبوس: واحسرتاه.. واحسرتاه لقد استبان كل شئ.
هكذا يتعرف أوديب على الحقيقة الكاملة بأنه قاتل ابيه وزوج أمه ، وتتحول شخصيته من ملك سعيد إلى شقي أعمي بعد أن فقاً عينيه وهام حزناً في البلاد . أما جوكستا ( الملكة ) لم تتوان لحظة في أن تشنق نفسها
تمثل مسرحية ( الملك ادويب) نموذجاً ً لنظرية أرسطوطاليس في بناء المسرحية ، وهي كما أشرنا سابقاً منطومة متماسكة ، وانعكاس لفلسفة أرسطوطاليس ،وتطبيق لمفهوم الفعل الذي يبني تطوره وانتقالاته الدرامية وفقاً لمبدأ الضرورة الاحتمال . ويرى أرسطوطاليس أن مأساة ( الملك أدويب) هي إحدى النماذج المأساوية التي تناسب مع رؤيته وبها نوع من أنواع الاخطاء التي ترتكبها الشخصيات فتقود إلى المأساة يقول في ذلك " ويمكن ان يرتكب الاشخاص المنكر ، لكنهم يرتكبونه وهم لايعملون ثم يعرفون ، وجه القرابة فيما بعد ، مثل الذي وقع في ادوبيوس[50].
فى الجزء القادم سانتقل الى مدرسة أخرى وتيار آخر من تيارات المسرح الغربى ، وهو تيار ومذهب الرومانسية الذى يشكل مرحلة هامة فى مراحل تطور الدراما الرغبية وتطور ابعادها المعرفية ومرتكزاتها الفكرية والفلسفية التي قادت الى بروزها كتيار من تيارات النقد وهو تيار الرومانسية .