حسين مردان (1927- 1972) شاعر متمرد وحالم كبير، مهووس بشخصه، مهووس بشعره، تلبّسَ في الخمسينيات من القرن الماضي، معطف “الوجودية” ووجد فيها، على وفق فهمه الخاص، “محميَّته” للبوح الصادم بما يكتب من شعر ونثر مركّز ومقالات، وعلّق على شمّاعة “الوجودية” ما يخفف من التزامه ببعض الأعراف الاجتماعية السائدة، وكان لهذا ولغيره من الأسباب مسّوغاً لتقديمه إلى المحكمة، والحكم عليه بالسجن عاماً واحداً في 1952، كتب “وفي سجن الكوت الرهيب بدأ التحّول الكبير في مجرى حياتي الأدبية، فقد أقسمت ُ مع نفسي على السير في خدمة الشعب، والعمل على قلب ذلك النظام الذي يستلّ شوق الأنسان للحرية بالسجن والحراب”.
أخبرني رشدي العامل، صادقا أو مداعباً، أن حسين مردان طلب منه، ومن عدد من أصدقائه، أن يدعو أدباء بغداد ومثقفيها، إلى التبرع ببعض المال استعداداً لاستضافة الكاتب الفرنسي وفيلسوف الوجودية (جان بول سارتر)، وكان سارتر، في نهاية الستينيات من القرن الماضي، في زيارة لمصر، فليس من اللياقة – في منطق حسين مردان طبعا- ألاّ يُدعى سارتر إلى بغداد، وفيها عدد من أقرانه الوجوديين، وأبرزهم حسين مردان. يا لطرافة الخيال!.
“الوجودية”، في الخمسينيات، “صرعة” فكرية سائدة، وكانت الماركسية والوجودية تتنازعان ثقافة معظم الأدباء الشباب في تلك الحقبة. كنا نتحلّى بالوجودية مظهرا ً وجدالاً، في نوادي كلياتنا، وفي المقاهي وفي الحانات.أحاديثنا خليط عجيب مما كنا نفهمه من الوجودية، وما كنا نلتزم به منhussein mardan 4 الفكر الماركسي، حتى بلغت الحال أن كانت تلك المساجلات الوديّة والبريئة، سبباً في تأخير تعيين عدد منّا في الوظائف الحكومية، وقد حال دون تعييني شخصياً، تقرير أمني وصفني بـ”الشيوعي – الوجودي” كيف اتفق النقيضان!. وهكذا كان فهم الوجودية ملتبساً علينا، نحن الشباب، وملتبساً على الدوائر الأمنية أيضاً، في ذلك الوقت!.
كان يتناوب على زيارتي في البصرة حسين مردان ويحيى فائق المخرج التلفزيوني والسينمائي المعروف، جاءني حسين مردان بعد ثورة 14 تموز، وهو يتكئ على كتفيّ نزار عباس ورشدي العامل، يعاني وجعاً حاداً في ساقيه، بادرني بصوته الميكرفوني:” محمود، صار عندي داء الملوك/النقرس، إبّعَهدْ جمهوري!”.
كتب لي في إحدى المرات وأنا في البصرة، يطلب نوعاً من الصابون المستورد، إن بشرته لا تتحمل الرغوة الواخزة للصابون المحليّ!.
كتابات حسين مردان حادّة إلى درجة الاشتعال، هو شاعر النثر المركّز، حسيّ في كلماته وصوره الفنية، تكاد تلمس حوافّ كلماته بأصابعك، ولشدة اعتداده بشخصه، لا يرتضي أن يوصف بالشاعر: “إني اعتبر نفسي فيلسوفاً أكثر مما أعتبر نفسي شاعراً”. في كتابه (الأوراق تزهر داخل الصاعقة) ثمان وسبعون مقالة قصيرةً ومتنوعةً في موضوعاتها. إحدى تلك المقالات كانت بعنوان(المقاهي الأدبية) يذكر فيها انتقالاته بين مقاهي بغداد: مقهى حسن عجمي، ومقهى البلدية، ومقهى الدفاع، ومقهى الصباح في باب المعظم، ومقهى الرشيد في الحيدرخانة، ومقهى البرازيلية الذي انضممنا إليه: سعدي يوسف وماجد العامل وأنا. وينهي حسين مردان مقالته بما يشبه الطرفة: “عندما انبثقت ثورة 14 تموز عاد الجميع إلى أعمالهم، والتحق بعضهم بوظائف جديدة، وبقيت وحدي أنظر إلى أحذية شركة (باتا) المواجهة للمقهى وأفكر بطريقة لتأميمها”.
(المقاهي الأدبية) لحسين مردان، نص راصد واستذكاري، ووثيقة تأريخية مهمة عن التجمعات الأدبية والثقافية، قبل تأسيس إتحاد الأدباء العراقيين، وهي من بواكير المقالات التي أشارت إلى المقهى مَعْلماً من معالم المكان الثقافي، تناولت رواد الكتابة الآبداعية في نقاشاتهم واختلافاتهم وخصوماتهم.
تنفتح المقالة، على حسّ”مديني” تَشرَّب بفضاء حضاري، والتصق بمباهج المكان الأليف: الجلوس على كراسي الخيزران والتحديق إلى الشارع من خلال زجاج المقهى، والانتظار الحميمي للأصدقاء، والحوارات الصافية، المهذبة والصاخبة أحياناً، ومتابعة الجديد من المنجز الثقافي والخبر اليومي. كان حسين مردان، في الخمسينيات حتى رحيله، جزءاً عضوياً من البنية الثقافية، والمشهد الإبداعي في العراق، لا يمكن تجاوزه حينما يُكتب التأريخ الثقافي لتلك الحقبة، فهو أحد مبدعيها في الكتابة الأدبية والصحافية، وأحد المتطلعين إلى “التحديث” وأحد ظرفائها الكبار، إلتفَّ حوله الكثير من الأدباء والمثقفين لطيبته، وعذوبة جلساته.
أخبرني رشدي العامل، صادقا أو مداعباً، أن حسين مردان طلب منه، ومن عدد من أصدقائه، أن يدعو أدباء بغداد ومثقفيها، إلى التبرع ببعض المال استعداداً لاستضافة الكاتب الفرنسي وفيلسوف الوجودية (جان بول سارتر)، وكان سارتر، في نهاية الستينيات من القرن الماضي، في زيارة لمصر، فليس من اللياقة – في منطق حسين مردان طبعا- ألاّ يُدعى سارتر إلى بغداد، وفيها عدد من أقرانه الوجوديين، وأبرزهم حسين مردان. يا لطرافة الخيال!.
“الوجودية”، في الخمسينيات، “صرعة” فكرية سائدة، وكانت الماركسية والوجودية تتنازعان ثقافة معظم الأدباء الشباب في تلك الحقبة. كنا نتحلّى بالوجودية مظهرا ً وجدالاً، في نوادي كلياتنا، وفي المقاهي وفي الحانات.أحاديثنا خليط عجيب مما كنا نفهمه من الوجودية، وما كنا نلتزم به منhussein mardan 4 الفكر الماركسي، حتى بلغت الحال أن كانت تلك المساجلات الوديّة والبريئة، سبباً في تأخير تعيين عدد منّا في الوظائف الحكومية، وقد حال دون تعييني شخصياً، تقرير أمني وصفني بـ”الشيوعي – الوجودي” كيف اتفق النقيضان!. وهكذا كان فهم الوجودية ملتبساً علينا، نحن الشباب، وملتبساً على الدوائر الأمنية أيضاً، في ذلك الوقت!.
كان يتناوب على زيارتي في البصرة حسين مردان ويحيى فائق المخرج التلفزيوني والسينمائي المعروف، جاءني حسين مردان بعد ثورة 14 تموز، وهو يتكئ على كتفيّ نزار عباس ورشدي العامل، يعاني وجعاً حاداً في ساقيه، بادرني بصوته الميكرفوني:” محمود، صار عندي داء الملوك/النقرس، إبّعَهدْ جمهوري!”.
كتب لي في إحدى المرات وأنا في البصرة، يطلب نوعاً من الصابون المستورد، إن بشرته لا تتحمل الرغوة الواخزة للصابون المحليّ!.
كتابات حسين مردان حادّة إلى درجة الاشتعال، هو شاعر النثر المركّز، حسيّ في كلماته وصوره الفنية، تكاد تلمس حوافّ كلماته بأصابعك، ولشدة اعتداده بشخصه، لا يرتضي أن يوصف بالشاعر: “إني اعتبر نفسي فيلسوفاً أكثر مما أعتبر نفسي شاعراً”. في كتابه (الأوراق تزهر داخل الصاعقة) ثمان وسبعون مقالة قصيرةً ومتنوعةً في موضوعاتها. إحدى تلك المقالات كانت بعنوان(المقاهي الأدبية) يذكر فيها انتقالاته بين مقاهي بغداد: مقهى حسن عجمي، ومقهى البلدية، ومقهى الدفاع، ومقهى الصباح في باب المعظم، ومقهى الرشيد في الحيدرخانة، ومقهى البرازيلية الذي انضممنا إليه: سعدي يوسف وماجد العامل وأنا. وينهي حسين مردان مقالته بما يشبه الطرفة: “عندما انبثقت ثورة 14 تموز عاد الجميع إلى أعمالهم، والتحق بعضهم بوظائف جديدة، وبقيت وحدي أنظر إلى أحذية شركة (باتا) المواجهة للمقهى وأفكر بطريقة لتأميمها”.
(المقاهي الأدبية) لحسين مردان، نص راصد واستذكاري، ووثيقة تأريخية مهمة عن التجمعات الأدبية والثقافية، قبل تأسيس إتحاد الأدباء العراقيين، وهي من بواكير المقالات التي أشارت إلى المقهى مَعْلماً من معالم المكان الثقافي، تناولت رواد الكتابة الآبداعية في نقاشاتهم واختلافاتهم وخصوماتهم.
تنفتح المقالة، على حسّ”مديني” تَشرَّب بفضاء حضاري، والتصق بمباهج المكان الأليف: الجلوس على كراسي الخيزران والتحديق إلى الشارع من خلال زجاج المقهى، والانتظار الحميمي للأصدقاء، والحوارات الصافية، المهذبة والصاخبة أحياناً، ومتابعة الجديد من المنجز الثقافي والخبر اليومي. كان حسين مردان، في الخمسينيات حتى رحيله، جزءاً عضوياً من البنية الثقافية، والمشهد الإبداعي في العراق، لا يمكن تجاوزه حينما يُكتب التأريخ الثقافي لتلك الحقبة، فهو أحد مبدعيها في الكتابة الأدبية والصحافية، وأحد المتطلعين إلى “التحديث” وأحد ظرفائها الكبار، إلتفَّ حوله الكثير من الأدباء والمثقفين لطيبته، وعذوبة جلساته.