عبدالرزاق دحنون - فكرة الدستور

"عندما تفقد الكلمة معناها سوف يفقد الناس حريتهم"

كونفوشيوس

يجاذب نفسي, دوماً, شعور غريب, فيما أنا أفكر في تلك الهبة العظيمة, تلك الكلمات المقدسة, الناموس, أو الدستور, أو الوجدان, وجدان الأمة الجمعي الذي يتمثَّل في نصِّ مكتوب. بهذه الهبة تتوازن الأضداد, ويُعاد إنتاج الحياة الكونية ويسود العدل بين البشر ويجد كل امرئ مكانه ووظيفته في المجتمع. وحتى الحيوانات البريّة والمستأنسة يطيب عيشها في ظلِّ الدستور.

ظلُّ الدستور واسع الطيف يشمل كل الكائنات , لذلك أتساءل- بالسين والهمزة لا بالثاء والقاف- مع الفيلسوف الفرنسي موريس غودولييه هل يمكن تخيل طفل يتعاقد مع والديه ليولد؟ وهل يمكن لهذا الطفل أن يختار مكان وزمان وطريقة ولادته؟ إنها فكرة مُنافية للعقل. وتُبيّنُ منافاتها للعقل أن أول رابطة بين البشر, أي رابطة الولادة, غيرُ متعاقد عليها بين المعنيين بها. ومع ذلك, ينزع مجتمعنا إلى أن يضرب صفحاً عن مثل هذه الوقائع التي لا يمكن تفاديها.

ولادة الدستور في الأمة هو عملية معقدة وصعبة وخطيرة يُسهم فيها جميع أفراد الشعب بطريقة ما, الأحياء منهم و الأموات. هل يولد الدستور من رحم الأمة ولادة طبيعية , أم أن ولادته تحتاج إلى عملية قيصرية؟ وهل غياب أوكسجين الدستور-الديمقراطية- تجعل عملية ولادته أصعب؟ ولمن تعود ملكية الدستور بعد ولادته ؟ الدستور يؤسس للحقوق الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية, إنه يؤسس لها ويضع لها الحدود, ولا ينتمي إليها.

يُحاجج الفيلسوف الفرنسي موريس غودولييه في كتابه "لغز الهبة" بأن الدستور أو العقد الاجتماعي المبرم بين أفراد المجتمع الأحرار ليس ملكاً لأيّ فرد بحدّ ذاته. إنه ملك عام-وملكيته غير قابلة للنقل بالبيع والشراء- لجميع أولئك الذين يخضعون له لأنهم اختاروه وأقرّوه بالتصويت الحر. وليست هذه الحرية في الاختيار, كما قد تبدو من أصل الاسم, إعفاء من كل القيود, بل إنها في الواقع أكثر الاستخدامات فعالية لكل قيد عادل على كل أعضاء مجتمع حر, سواء كانوا حُكّاماً أم رعايا,و لكي يتم ذلك يجب أن يتصرفوا كأحرار, لا كرعايا خاضعين لسلطة فرد يكاد يتمتع بالحق الإلهي في الحكم. وتتشكل الهيئة المؤسسة - أي دعامة الدستور- من جميع المواطنين الأحياء منهم والأموات الذين توالوا على أرض الأمة منذ أن نصَّب الشعب نفسه للمرة الأولى سيّداً ومصدراً للقوانين.

برزت هذه الهيئة كما يؤكد موريس غودو لييه –على الأقل في وطنه- مع الثورة الفرنسية ومع تشكل أول مجلس تأسيسي. واستمر وجود هذه الهيئة منذئذ بشكل من الأشكال عند السواد الأعظم من أمم الأرض. وقد يتغير الدستور وتأخذ الدول أشكالاً متنوعة من الملكية الدستورية إلى الجمهورية. لكن تبقى الهيئة نفسها مستمرة خلف كل تغيّرات الدستور هذه. فالهيئة المؤسسة للدستور هي واقع جماعي غير قابل للتقسيم, واقع فكري ومادي يعبر الزمن, وهو لن يزول إلا إذا زالت الحرية و الديمقراطية لفترة طويلة. فالأمر لم يعد يختص بهيئة فرعونية أو هيئة إلهية وإنما بهيئة شعب سيّد ممثَّل ومتجسد بصورة مؤقتة في رئيس الدولة, مهما كان شكل هذه الدولة التي نصَّ عليها الدستور, قد تكون اتحادية, أو مَلكِيَّة, أو جمهورية, ويكون رئيس الدولة بعد أن تنتخبه الأغلبية من الأمة رثيساً لجميع المواطنين الأحرار في الدولة. ويصبح لبضع سنوات حامي الدستور ورمز الدولة. كما يضعه منصبه فوق الأحزاب والمنظمات وفوق النحل والطوائف والملل, فهو يجسد مؤقتاً وحدة وهوية الكل, الأمة التي تُعتبر الدولة أداة لها لا تجسيداً لها. إنه يصبح الوتد الذي تدور رحى الأمة حوله. وبعد برهة من الزمان يُستبدل هذا الوتد بوتد آخر لتستمر رحى الأمة في دورانها.

الدستور الذي يؤسس حقوق الأفراد جماعي بجوهره . إنه ملك عام لجميع أولئك الذين يعيشون تحت سيادة نفس الدستور ويسلّمون به كدستور لهم وكملكية غير قابلة للبيع أو الشراء. إنه هبة يقدّمها رجال ونساء أحرار لأنفسهم, وهو لا يؤسس علاقاتهم الحميمة وإنما علاقاتهم الاجتماعية العامة. لقد أصبحت الدساتير التي أعطتها الشعوب لأنفسها معادلة بشكل ما للأغراض المقدسة التي كان يعتقد البشر أنهم تلقّوها من الآلهة لتساعدهم على العيش معاً وبشكل جيد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى