لكي تصل إلى «قهوة الفيشاوي» التي تجاوزت القرنين من العمر، لا بد أن تمرّ ببقية القرون المصرية: مباني الأزهر ومسجد الإمام الحسين، ومئات من مئات المصريين الذاهبين، لا أدري ولا يدرون، إلى أين. لكن هذا طقس مصري قديم: الناس رايحة جاية، وأم كلثوم تغني من محال الباعة وكأنها تستكمل حفلة جديدة، والرجّالة بالجلابية البنية القديمة التي أقسم الفاجومي أحمد فؤاد نجم ألا يخلعها لكي لا يبدو متنكراً بثياب الخواجات وأحوال البهوات.
كثير الخلق في القاهرة، خلافاً لأي عاصمة عربية. وقومها نموذج التنوع الذي منّ به الخالق على الكون. وأنا قادم إلى الفيشاوي، طبعاً لكي أزور الغرفة الخشبية السوداء التي كان يختلي فيها إلى نفسه وروائعه. ولولا أنه أعطى هذه القهوة اسمه، لكانت مجرد موقع عتيق في القاهرة التي يغطيها غبار السنين بفوضى وعشوائية، وأحياناً بأسى. لكن نجيب محفوظ منحها من اسمه ومن شهرته ومن عشقه لمصر، فأصبحت أثراً لا مثيل له في المقاهي. ولا يزال اسم القهوة القديم معلقاً داخل الممر الضيق، لكن أضيف إليه الآن، بالنيون الأزرق، اسم القهوة، خدمة للسياح والزوار العابرين، وهم كثيرون. ويجلسون على تكايات أو كراسي كما في الروايات. والجديد الآخر القهوة بالفناجين بدل الأقداح. لكن فقط لحديثي النعمة الذين لا يعرفون الأصول.
تقدم القاهرة للآخرين عرضاً رائعاً ومذهلاً «لقوتها الناعمة». تاريخها ورجالها، وهذه المشاهد للنيل في الليل التي تفتقد روعتها جميع الأنهر. وهي مأخوذة الآن بنجم عالمي تدللـه الصحف باسم «الفرعون»، وأحياناً تسميه مثلما يفعل الأجانب «مو». ومحمد صلاح يعدو في ملاعب العالم مسجلاً الأهداف بالبراعة التي كان عبد الوهاب يسجل أغانيه.
مصر تحيا. في هذه الطريق إلى الفيشاوي كان يمرّ نجيب محفوظ بأشخاصه وأبطاله؛ بسطاء مصر وفلاحيها القادمين من الأرياف، ومصليها رافضي التطرف، وعباءات نسائها المطرزة، والمناديل والملايات وجلابيات الفاجومي الذي وجد لنفسه مكاناً في الشعر الشعبي، بينما كانت مصر تحنّ إلى زمن بيرم وبقية السرب المتواري خلف أشجار البردي على الضفتين، تردّد أشعاره، حاكية حكايات مصر، التي لا يشيخ فيها إلا العماير والجدران.
تمنيت أن أدلي بشهادتي في غياب أحمد كمال أبو المجد. وخجلت من نفسي أمام كتابات الذين عرفوه حقاً، فاكتفيت بتقديم العزاء إلى زوج ابنته، الناشر الكبير، إبراهيم المعلم. وفي الطريق إلى الفيشاوي، لاحظت أن جميع الوجوه في هذا الازدحام الصاخب باسمة أو راضية. وتذكرت قول أبو المجد: الجنة لا تستقبل الوجوه المكفهرة.
إلى اللقاء...
سمير عطا الله
كثير الخلق في القاهرة، خلافاً لأي عاصمة عربية. وقومها نموذج التنوع الذي منّ به الخالق على الكون. وأنا قادم إلى الفيشاوي، طبعاً لكي أزور الغرفة الخشبية السوداء التي كان يختلي فيها إلى نفسه وروائعه. ولولا أنه أعطى هذه القهوة اسمه، لكانت مجرد موقع عتيق في القاهرة التي يغطيها غبار السنين بفوضى وعشوائية، وأحياناً بأسى. لكن نجيب محفوظ منحها من اسمه ومن شهرته ومن عشقه لمصر، فأصبحت أثراً لا مثيل له في المقاهي. ولا يزال اسم القهوة القديم معلقاً داخل الممر الضيق، لكن أضيف إليه الآن، بالنيون الأزرق، اسم القهوة، خدمة للسياح والزوار العابرين، وهم كثيرون. ويجلسون على تكايات أو كراسي كما في الروايات. والجديد الآخر القهوة بالفناجين بدل الأقداح. لكن فقط لحديثي النعمة الذين لا يعرفون الأصول.
تقدم القاهرة للآخرين عرضاً رائعاً ومذهلاً «لقوتها الناعمة». تاريخها ورجالها، وهذه المشاهد للنيل في الليل التي تفتقد روعتها جميع الأنهر. وهي مأخوذة الآن بنجم عالمي تدللـه الصحف باسم «الفرعون»، وأحياناً تسميه مثلما يفعل الأجانب «مو». ومحمد صلاح يعدو في ملاعب العالم مسجلاً الأهداف بالبراعة التي كان عبد الوهاب يسجل أغانيه.
مصر تحيا. في هذه الطريق إلى الفيشاوي كان يمرّ نجيب محفوظ بأشخاصه وأبطاله؛ بسطاء مصر وفلاحيها القادمين من الأرياف، ومصليها رافضي التطرف، وعباءات نسائها المطرزة، والمناديل والملايات وجلابيات الفاجومي الذي وجد لنفسه مكاناً في الشعر الشعبي، بينما كانت مصر تحنّ إلى زمن بيرم وبقية السرب المتواري خلف أشجار البردي على الضفتين، تردّد أشعاره، حاكية حكايات مصر، التي لا يشيخ فيها إلا العماير والجدران.
تمنيت أن أدلي بشهادتي في غياب أحمد كمال أبو المجد. وخجلت من نفسي أمام كتابات الذين عرفوه حقاً، فاكتفيت بتقديم العزاء إلى زوج ابنته، الناشر الكبير، إبراهيم المعلم. وفي الطريق إلى الفيشاوي، لاحظت أن جميع الوجوه في هذا الازدحام الصاخب باسمة أو راضية. وتذكرت قول أبو المجد: الجنة لا تستقبل الوجوه المكفهرة.
إلى اللقاء...
سمير عطا الله