لعل من نافلة القول ان نقرر بان العلاقات بين علم اصول الفقه والدرس اللغوي هي علاقة قديمة قدم علم اصول الفقه نفسه، بل ان اللغة العربية لغة " القران الكريم" هي وعاء العلوم الاسلامية كلها، فلا يوجد علم الا ولها في عنقه منة ، فمنها ينطلق وبالفاظها يبني اصوله ونظرياته ومناهجه ، وعلى اساسها يضع مفاهيمه ومصللحاته ، وان كان اللغويون انفسهم قد استفادوا من بعض العلوم الاسلامية الاخرى خاصة على مستوى المناهج.(1)
غير ان اثر اللغة العربية وقواعدها في علم أصول الفقه جعلته يستمد منها أكثر مما يمدها، حيث طبعت مباحثه بطابعها ووسمت مناهجه بقواعدها كما سنرى فيما بعد
1-حاجة علم أصول الفقه إلى اللغة:
وتزداد هذه العلاقة وضوحا اذا علمنا ان موضوع علم اصول الفقه" هو الادلة الشرعية الكلية من حيث يثبت بها من الاحكام الكلية، والاحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالادلة "، (2) وهذه الادلة والاحكام بنما مدارها على اصلين اساسين هما: القران الكريم واحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وان القران الكريم انزله الله سبحانه وتعالى بلسان عربي مبين يقول عز وجل: (لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) "، (3)وبهذا اللسان ايضا نطق الرسول مشرعا عن طريق السنة.
وبدون معرفة اللغة العربية والالمام بقواعدها والاحاطة بأساليب العرب في كلامها، لا يمكن التوصل إلى معرفة معاني القرآن الكريم والسنة النبوية معرفة كاملة، فضلا عن الوقوف على دلالات الألفاظ ومقاصدها واستنباط الأحكام منها.
وان كان ذلك ممكنا في حق جيل الصحابة رضي الله عنهم ومن عاصر التنزيل، بحكم تمكنهم من العربية ونزول القران على لسانها وعدم حاجتهم إلى قواعد ضابطة يعتمدون عليها لفهم الكلام كما سيظهر فيما بعد، بدايو مع الإمام " محمد بن إدريس الشافعي المطلبي "(ت:204هـ) ومع من جاء بعده ممن اهتم بعلم أصول الفقه، غير ان هذا العلم باعتباره قواعد ونظريات وكيفية استنباط الأحكام من الأدلة بوجه عام، نشأ في عصر الصحابة رضي الله عنهم حيث كان مصاحبا للفقه، فان من الصحابة من كان ينصدر للفتيا والقضاء بين الناس " كعمر بن الخطاب" " وابن مسعـــــود"و" علي بن أبي طالب" وغيرهم، وكانوا على دراية تامة بقواعد اللغة العربية التي نزل بها القران الكريم، وبأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام، والخاص وسائر المباحث التي تكفل ببيانها علم أصول الفقه فيما بعد، (4) ولقد اكد هذه الحقيقة " الامام تاج الدين السبكي " وهو يتحدث عن شروط المجتهد حيث قال:" واعلم ان كمال رتبة الاجتهاد تتوقف على ثلاثة أشياء: احدهما التأليف في العلوم التي يتهذب بها الذهن كالعربية وأصول الفقه وما يحتاج إليه من العلوم العقلية في صيانة الذهن عن الخطأ، بحيث تصير هذه العلوم ملكة الشخص فاذ ذاك يثق بفهمه لدلالات الألفاظ من حيث هي، وتحريره تصحيح الأدلة من فاسدها، والذي نشير اليه من العربية وأصول الفقه كانت الصحابة اعلم به منا من غير تعلم، وغاية المتعلم ان يصل إلى بعض فهمهم وقد يخطئ أو يصيب "(5)
لكنت ما جاء بعد جيل الصحابة (رضي الله عنهم كان أحوج الى هذه القواعد والضوابط، سواء منها ما تعلق بالعربية نفسها او يعلم أصول الفقه او غيرها من العلوم الإسلامية الأخرى.
ومن ثم استمدت " العربية" شرفها وقدسيتها من انتسابها للوحي، يقول " ابن فارس": " لما خص جل ثناؤه اللسان العربي بالبيان علم ان سائر اللغات قاصرة عنه وواقفة دونه".(6)
وعن " علي" (كرم الله وجهه) قال: " كلام العرب كالميزان الذي يعرف به الزيادة والنقصان، وهو أعذب من الماء وارق من الهواء، فان فسرته بذاته استصعب، وان فسرته بغير معناه استحال، فالعرب أشجار وكلامهم ثمار، يثمرون والناس يجتنون، يقولون والى عملهم يصيرون ".(7)
وان معرفة فضل العربية وقيمتها كان مرتبطا بفهم فضل القران الكريم الذي انزله الله تعالى بلسان عربي، وكذا معرفة كلام العرب ومختلف اسليبهم في التعبير، يقول " ابن قتيبة": " وانما يعرف فضل القران من كثر نظره واتساع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب "، (8) فتعلم العربية وإتقانها يبقى أمرا لا محيد عنه لفهم القران الكريم والسنة النبوية، يقول الإمام " محمد ابن إدريس الشافعي "(ت: 204هـ):" وإنما بدأت بما وصفت من أن القران نزل بلسان العرب دون غيره، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب احد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها".(9)
فالتوسع في معرفة اللسان هو احد الركائز الرئيسة لفهم جمله واستنباط أحكامه، وكذلك كان هذا اللسان بالنسبة للعلوم الإسلامية الأخرى، إذ أنها نمت مع نمو شجرة الإسلام المباركة، وقامت على أساس القران الكريم والسنة النبوية المطهرة وان جميع العلوم التي نقلت فيما بعد إنما كانت بباعث ديني، وهي تهدف جميعها خدمة اصلي الإسلام:"القران الكريم والسنة المطهرة"والحفاظ عليها،(10) وهذه العلوم كلها قائمة على العربية والتضلع فيها، يقول"الزمخشري":"ذلك أنهم لا يجدون علما من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها،وعلمي تفسيرها واخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بين لا يدفع ومكشوف لا يتقنع".(11) لذلك كان كل مشتغل بهذه العلوم التي تدور في فلك القران الكريم والسنة النبوية المطهرة أحوج مايكون إلى تعلم اللغة العربية، يقول "ابن فارس:"إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقران والسنة".(12)
ولقد قرر اللغويون ان سبب الخطأ في الشرعية وعدم إدراك معاني الوحي إنما يرجع إلى ضعف الاهتمام باللغة العربية والقصور عن امتلاك ناصيتها، يقول " ابن جني":
"وذلك ان اكثر من ضل من اهل الشريعة عن القصد فيها وحادعن الطريقة المثلى اليها، فانما استهواه واستخلف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة"(13) فالذي لا يعرف اللغة لا يستطيع استخراج الاحكام واستنباطها من القران الكريم والسنة النبوية، يقول " الشيخ عبد القادر بدران الدمشقي"في شرحه على " روضة الناظر":" اعلم ان هذه التقاسيم –أي تقاسيم الكلام والاسماء –هي المدخل في اصول الفقه من جهة انه احد مفردات مادته وهي الكلام والعربية، وتصور الاحكام الشرعية، فاصول الفقه متوقفة على معرفة اللغة لورود الكتاب والسنة بهما، اللذين هما اصول الفقه وادلته ،فمن لم يعرف اللغة لا يمكنه استخراج الاحكام من الكتاب والسنة".(14)
وتزداد العلاقة بين علم اصول الفقه والدرس اللغوي تداخلا لتصل الى ابعد مداها، حيث اعتبر بعض الأصوليين من اللغويين الكبار الذين يوقف عند كلامهم ويحتج بلغتهم، وهذا ما تحقق بامتياز في الإمام المطلبي "محمد بن إدريس الشافعي " واضع علم أصول الفقه، يقول عنه"عبد الملك بن هشام النحوي" صاحب "السيرة": طالت مجالستنا للشافعي،فما سمعت منه لحنة قط، ولاكلمة غيرها أحسن منها"،(15) وقال عنه يضا:"الشافعي كلامه لغة يحتج بها"، (16) وقال "عبد الرحمان بن مهدي :"لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح ،فاني لأكثر الدعاء له".(17)
وصدق "ابن دريد" حيث قال(18)
فمن يك علم الشافعي امامه
فمرتعه في باحة العلم واسع
واذا كان علم اصول الفقه احوج الى اللغة وقواعدها من اللغة اليه، فان علاقة الامداد بين الدرس اللغوي والدرس الاصولي اضحت امرا ملحوظا، يقف عليه كل من له ادنى صلة بكتب اصول الفقه ومصادره، حيث استفاد الدرس الاصولي في صياغة مناهجه ووضع قواعده بناء على اللغة وقواعدها،فدرس الالفاظ وبين اوجه دلالاتها،الى درجة ان كثيرا من مباحث علم اصول الفقه هي في طبيعتها مباحث لغوية محضة تجدها منثورة في ثنايا كتب اللغة والنحو والبلاغة .
2-تجليات التاثير اللغوي على الدرس الاصولي:
إن التأثير اللغوي على الدرس الأصولي يظهر على مستويات متعددة من البحث الأصولي، ضل فيها هذا الأخير يمتاح من اللغة ومباحثها مضيفا عليها خصوصياته ومناهجه.
ففيما يتعلق بالألفاظ ودلالاتها تكلم الاصوليون عن مايسمى بدلالة المطابقة والتضمين والالتزام، فإذا كان اللفظ يدل على جزئه سمى:"تضمنا"،واذا دل على لازمه الذهني سمي:"التزاما"(19) يقول "الامام الغزالي":"ويتضح المقصود منه (أي من الفصل الأول في دلالة الألفاظ على المعاني) بتقسيمات :التقسيم الأول أن دلالة اللفظ على المعنى تنحصر في ثلاثة أوجه وهي المطابقة والتضمن والالتزام ،فان لفظ البيت يدل على معنى البيت بطريق المطابقة ويدل على السقف وحده بطريق التضمن لان البيت يتضمن السقف لان البيت عبارة عن السقف والحيطان...وأما طريق الالتزام فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط فانه غير موضوع للحائط وضع لفظ الحائط للحائط حتى يكون مطابقا فانه غير موضوع للحائط، وضع لفظ الحائط جزءا من السقف كما كان السقف جزءا من نفس البيت...لكنه كالرفيق الملازم الخارج عن ذات السقف".(20) فالذي لا يدرك اللغة جيدا لا يستطيع الوقوف على هذه الدلالات.وقسموا اللفظ ايضا باعتبار الافراد والتركيب، (21) يقول الإمام "السبكي":وتقسيم الفرد يقع من وجوه:منها ماهو باعتبار انواعه وهو تقسيمه إلى الاسم والفعل والحرف ،ووجه انحصاره في هذه الثلاثة ان اللفظ المفرد اما الا يستقل بالمفهومية فهو الحرف اويستقل، فاما ان يدل بهيئته أي بحالته التصريفية على احد الأزمنة الثلاثة:"الماضي"و"الحال"و"الاستقبال" فهو الفعل،أو لا يدل فهو الاسم سواء لم يدل على زمان اصلا كالسماء والارض وزيدا او دل لكن لابهيئة بل بذاته كالصبوح والغبوق وامس والان والمستقبل ".(22)
ولقد ناقش الاصوليون في بحوثهم جملة من القضايا اللغوية ذات العلاقة بالالفاظ ودلالاتها، فتكلموا عن التباين والفاظه وهي الالفاظ المختلفة الموضوعة لمعان مختلفة، يقول "الامام ":"فاما ان يمتنع اجتماعها... اولا يمتنع بان يكون بعضها اسما للذات اذا اتصفت بصفة خاصة كالسيف والصارم فان السيف اسم للذات والصارم لسيف القاطع –يقول السبكي-كما قال الجوهري في الصحاح وغيـــــــــره".(23)
فهو يعتمد كلام اللغويين كما نلاظ واذا تتبعنا كتب الاصوليين فانا نجدهم يتكلمون عن المترادف والمشترك والمجمل والظاهر والمؤول، ثم تكلموا عن مدلول اللفظ اما معنى او لفظ مفرد او مركب ، وقسموا المركب إلى استفهام وامر والتماس ،(24) وعبروا عن ذلك أصوليا،يقول"الإمام السبكي":"فان كان الطلب ...طلب ذكر ماهية الشيء فهو الاستفهام، كقوللك ماهذا ومن هذا، وان كان لتحصيل امر مامن الأمور فان كان مع الاستعلاء فأمر كقول المتعاظم المستعلي لآخر (افعل كذا)...وان كان مع التساوي كقول القائل لمماثله( افعل كذا) فهو التماس...وان كان من التسفل كقول من يجعل نفسه دون المطلوب منه فهو سؤال..."(25)
وتكلم الاصوليون ايضا عن الخبر المحتمل للصدق والكذب، والخير من الناحية اللغوية يشمل أي نوع من الخبر ولكنه عند الأصوليين يخص ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من اوامر او نواهي.(26)
وقد تكلم الاصوليون ايضا في الالفاظ عن تقاسيم الاسماء فهي اما وضعية او عرفية او شرعية او مجاز مطلق،"فالوضعية هي الثابتة بالوضع ...بحيث اذا اطلق ذلك اللفظ فهم منه ذلك المسمى،كما اذا اطلق لفظ الاسد فهمتنا منه حد الحيوان الخاص المفترس، والعرفية أي ما ثبت بالعرف، وهو اصطلاح المتخاطبين، والشرعية ما ثبت بوضع الشرع للمعاني الشرعية او استعماله فيه".(27) وهي الاسماء المنقولة من اللغة الى الشرع كالصلاة والصيام والزكاة، وان كان الاصوليون قد ناقشوا هذه الالفاظ التي استفيدت منها المعاني الشرعية، هل خرج بها الشارع عن وضع اهل اللغة باستعمالها في غير موضوعهم ؟ مثاله ان اهل اللغة وضعوا لفظ الصلاة لدعاء والزكاة للطهارة او النماء والحج للقصد وفي الشرع الصلاة والحج لافعاله مخصوصة ذات شروط واركان...-يخبرنا شارح " الروضة "(28) ان اللغويين انفسهم ناقشوا هذا الاشكال، ومن بينهم ابن فارس في كتابه " فقه اللغة".(29)
وفي معرض حديث الاصوليين عن الالفاظ ودلالاتها وقفوا عند الكلام ودرسوا معناه عندهم، حيث ذكروا فصلا خاصا عن "الكلام "الذي هو الاصوات المسموعة
والحروف المؤلفة، فالكلام عندهم ينقسم الى مفيد وغير مفيد، والذي يقصده الاصوليون هو الكلام المفيد تماما كما يخص اهل العربية الكلام بما كان مفيـــــــــدا.(30)
وهذا الكلام المفيد عند الأصوليين ينقسم الى ثلاثة أقسام، وهي ما اسموه بالنص والظاهر والمجمل، فاللفظ عند الأصوليين اما ان يحتمل معنى واحدا فقط، او يحتمل اكثر من معنى واحد، والأول النص، والثاني اما ان يترجح في احد معنييه او معانيه وهو الظاهر، او لا يترجح وهو المجمل.(31)
واذا تفحصنا هذه المصطلحات جيدا سنلاحظ ثنائية النسبة فيها للأصول من جهة، وللغة من جهة ثانية، يقول شارح الروضة:" وهذه التقاسيم شانها في العادة ان تذكر في الاصول، وان كان موضوعها الألفاظ فهي كأنها ذات وجهين: من جهة العادة أصولية، ومن جهة التحقيق لغوية".(32)
فجانب اللغة يبقى متداخلا الى حد بعيد بما هو أصولي، ويظهر ذلك ايضا في مناقشة الاصوليين للعموم والخصوص، يقول " الامام الشافعي " رادا على احد المعترضين عليه:" قلت له لسان العرب واسع، وقد تنطق بالشيء عاما تريد به الخاص... ولست اصير في ذلك بخبر الا بخبر لازم، وكذلك انزل في القران، فبين في القران مرة وفي السنة اخرى، قال فاذكر منها شيئا قال الله عز وجل:" الله خالق كل شيء"، (33) فكان مخرجا بالقول عاما يراد به العام ن وقال " انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، ان أكرمكم عند الله اتقاكم"(34) فكل نفس مخلوقة من ذكر وانثى فهذا عام يراد به العام، وفي الخصوص وقال:" ان أكرمكم عند الله اتقاكم" (35) فالتقوى وخلافها لا تكون إلا للمبالغين غير المغلوبين على عقولهم".(36)
ويقول في الرسالة في باب بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص، قال في قوله تعالى: " با ايها الناس شرب مثل فاستمعوا له" (37) قــــــال " فمخرج اللفظ عام على الناس كلهم وبين عند اهل العلم بلسان العرب منهم انه انما يراد بهذا اللفظ العام المخرج بعض الناس دون بعض لانه لا يخاطب بهذا الا من يدعو من دون الله الاها تعالى عما يقولون علوا كبيرا، لان فيهم من المؤمنين المغلوبين على عقولهم وغير البالغين ممن لا يدعو معه الاها".(38)
فهذه المعاني والدلالات المستفادة من الكلام يصعب على من لا يمتلك ناصية اللغة أن يتوصل إليها، ونماذج أخرى ذكرها " الإمام الشافعي" في باب ( الصنف الذي يبين سياقه معناه) (39)حيث يفهم معنى الكلام انطلاقا من سياقه فيتوصل الى ادراك دلالته الخفية، ومما يدخل في هذا الاطار ايضا مباحث الحقيقة والمجاز التي أوردها الاصوليون في كتبهم، حيث جاء خطاب الشارع ينضح بها في " القران الكريم" و" السنة النبوية"، وان عدم ادراك الكلام والتمييز بين حقيقته ومجازه سيؤدي حتما الى الفهم الخاطئ، يقول " الامام الغزالي": " الفاظ العرب تشتمل على الحقيقة والمجاز...فالقران يشتمل على المجاز خلافا لبعضهم، فنقول المجاز اسمن مشترك قد يطلق على الباطل الذي لا حقيقة له، والاقران منزه عن ذلك...وقد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضوعه وذلك لا ينكر في القران الكريم مع قوله تعالى:" وسئل القرية التي كنا فيها والعير" (40) وقوله:" جدارا يريد ان ينقــــــض" (41)، (42)، ويقول " الدكتور يوسف القرضاوي":ومما لا شك فيه ان الاصل هو حمل الكلام على معناه الظاهر، اذ هو ما تدل عليه اللغة باصل وضعها، وما يفهم من اللفظ من أول وهلة، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر الى غيره الا لدليل يصرف عن ذلك... فالاصل في الكلام الحقيقة، ولا يعدل عنها الى المجاز الا لقرينة ودليل، والاصل بقاء العام على عمومه حتى يظهر ما يخصصه، وبقاء المطلق على اطلاقه حتى يرد ما يقيده".(43)
واذا كانت معرفة الحقيقة والمجاز تزيل كثيرا من الغموض عن الكلام فان كثيرا ما تبقى المعاني خفية تحتاج الى الاستنباط للوقوف على دلالات الالفاظ، ومعرفة الاحكام الواردة فيها، كل هذا جعل الاصلوليين يذكرون الاجتهاد وشروطه وضوابطه، حيث يحتاج المجتهد من بين ما يحتاج الى اللغة التي لا غنى عنها لتحقيق الاستنباط السليم، يقول الامام " سعد الدين التفتازني" (ت792 هـ) " قوله ( باب الاجتهاد) – أي قول الامام صدر الشريعة " عبيد الله بن مسعود البخاري" (ت: 747 هـ)-لما كان بحث الاصول عن الادلة من حيث انه يستنبط منها الأحكام وطريق ذلك هو الاجتهاد ختم مباحث الادلة بباب الاجتهاد، وهو في اللغة تحمل الجهد أي المشقة، وفي الاصطلاح استفراغ الفقيه الواسع لتحصيل ظن بحكم شرعي... وشرط الاجتهاد ان يجمع العلم بأمور ثلاثة: الأول الكتاب أي القران بان يعرفه بمعانيه لغة وشريعة، اما لغة فبأن يعرف معاني المفردات والمركبات وخصوصا في الإفادة، فيفتقر الى اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان، اللهم الا ان يعرف ذلك بحسب السليقة، وأما شريعة فبان يعرف المعاني المؤثرة في الأحكــــــام ".(44)
والحديث عن الاجتهاد يجرنا للكلام عن التأويل (45) الذي هو عين الاجتهاد حيث كان منهجا سلك سبيله الاصوليون في تعاملهم مع نصوص الشريعة المبنية على اللغة التي كثيرا ما كانت لا تفصح عن قصد الشارع، يقول " فتحي الدريني": ب: ان الشريعة الإسلامية قرانا وسنة بما هي نصوص تحتكم الى منطق اللغة في الدلالة على مرا الشارع منها مبدئيا، لكن ظواهر هذه النصوص من المعاني المتبادرة من الصيغة قد لا تحدد ذلك المراد، فوجب الاجتهاد في تبينه، وهذه مرحلة بعدية قوامها الرأي وبذل الجهد العقلي لتبين قصد المشرع الذي يعول عليه في الحكم... هذا والتأويل من صميم الاجتهاد بالرأي المستند الى المناهج الأصولية، وهو صرف المعنى اللغوي الظاهر المتبادر إلى معنى آخر، بالاستناد الى دليل من نص قاعدة عامة او من حكمة التشريع، يجعل المعنى المؤول راجحا بالدليل، والتأويل من صلب الاجتهاد بالرأي في نطاق النص".(46)
وهذا الاجتهاد نفسه لا يمكن ان يقوم به كل من وهب وذب، ولا يجوز بلا قيد ولا شرط كما يتوهم الجاهلون والمتلاعبون.
ان التداخل بين الدرسين اللغوي والأصولي جعل الوقوف عند الألفاظ العربية ومعرفة دلالاتها ومعانيها للاهتداء الى قصد الشارع فيها، مسألة أساسية عند الفقيه والأصولي، وإنما نقصد بالألفاظ العربية، الألفاظ التي جاء بها خطاب الشارع، ولا شك ان تغيير الألفاظ وتبديلها قد يؤدي إلى تغيير معانيها ومقاصدها، واذا كانت هذا التغيير غير منصور فيما يتعلق بنصوص القران الكريم وآياته لخصوصية هذا النص الديني وطبيعة نقله، فان احتمال حصول التغيير في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نتيجة الرواية أمر مسلم به بسبب الرواية بالمعنى وعدم الاقتصار على لفظه، وهذه الرواية القائمة على المعنى دون اللفظ تفاوت فيها الرواة ما بين مصيب للمعنى الذي قصد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخطأ، مما كان ذلك محط نقد الرجال وتجريحهم والكلام في ضبطهم، ولهذا انعقد الإجماع بين العلماء على ان الراوي الذي يروي بالمعنى لا تقبل روايته إلا إذا كان علما بتغيير المعاني وحيولها، والعلم بتغيير المعاني هو العلم بألفاظ الحديث ولغته، يقول " ابن الصلاح": اجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على انه يشترط فيمن يحتج بروايته ان يكون عدلا ضابطا لما يرويه... متيقظا غير مغفل، حافظا ان حدث من حفظه، ضابطا لكتابه ان حدث من كتابه، وان كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك ان يكون عالما بما يحيل المعاني والله اعلم".(47) فانه لا يجوز ابدا لمن لا يعرف الألفاظ ويعلم مقاصدها ان يروي بالمعنى انما سبيله الأوحد هو أن يروي باللفظ لقصوره عن الإطاحة باللغة والاهتداء إلى معاني الكلام، ويقول " ابن الصلاح " عن الراوي بالمعنى:" إذا أراد رواية ما سمعه على معناه دون لفظه، فان لم يكن عالما عارفا بالألفاظ ومقاصدها خبيرا بما يحيل معانيها، بصيرا بمقادير التفاوت بينهما، فلا خلاف انه لا يجوز له ذلك، ولا عليه إلا يروي ما سمعه الا على اللفظ الذي سمعه من غير تغيير".(48)
واذا كان المحدثون قد تناولوا قضية الرواية بالمعنى حيث ان هذا الموضوع الصق بمباحثهم، لارتكازه على النقل والرواية، فان الأصوليين أيضا لم يغفلوا هذا المبحث لتعلقه ايضا بمجالهم، حيث ينظرون في الألفاظ ومعانيها واوجه دلالتها المختلفة، وكل ذلك انما يتم انطلاقا من لغة النص وألفاظه، لذلك فان أي تغيير وتبديل في اللفظ شيؤدي حتما الى تغيير دلالته، فحكم الاصوليون بالحرمة على ان يفعل ذلك في غياب الشروط اللازمة لهذا النقل، يقول " الإمام الغزالي": نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ، أما العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل، والظاهر والأظهر والعام والأعم فقد جوز له الشافعي و" مالك" و" أبو حنيفة" وجماهير الفقهاء ان ينقله على المعنى اذا فهمه، وقال فريق لا يجوز له إلا الإبدال اللفظ بما يرادفه ويساويه في المعنى، كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة...وسائر ما لا يشك فيه، وعلى الجملة ما لا يتطرق الهي تفاوت بالاستنباط والفهم وانما ذلك فيما فهمه قطعا، لا فيما فهمه فهمه بنوع استدلال يختلف فيه الناظرون".(49)
ومن هنا تظهر أهمية الاحاطة باللغة، والعلم بمواقع الخطاب واثر ذلك في توجيه الفهم السليم للنص، ويظهر كذلك عمق نظر الأصوليين الذين تلمسنا من خلال مناهجهم في الدرس الأصولي متانة الرباط بين اصول الفقه وقواعد اللغة.
والملاحظ انه كلما بعد الزمان عن القرون المتقدمة حيث كان اللسان سليما وكان التمكن من اللغة هو السمة المميزة لاهل تلك القرون، كما ظهرت الحاجة إلى الاهتمام باللغة ووضع قواعدها وضوابطها حيث قام بذلك اللغويون خير قيام، وكان لهذا الفرق بين المتقدمين ولامتأخرين اثره على مستوى المصنفات الأصولية لعلاقة الدرس الأصولي باللغوي كما رأينا، فان مقارنة بسيطة بين كتابي: " الرسالة" للإمام الشافعي (ت:204 هـ) وبين " شرح التلويح على التوضيح" للتفتازني( ت:792 هـ) او بين الرسالة وبين الابهاج في شرح المنهاج للسبكي " علي ابن عبد الكافي"(ت:756 هـ)وولده تاج الدين (771) تبين أن المتأخرين كان يغلب على منهجهم في التصنيف طابع التفريع اللغوي (50) الى جانب البحث الأصولي.
وختاما اشير الى انه مهما يكن من تأثير للبحث اللغوي على الدرس الأصولي، فان الاصوليين فاقوا النحاة واللغويين في استنباطهم المعاني الدقيقة التي تحتملها الالفاظ، والتي لا يستطيع ان يدركها إلا الأصولي، يقول الامام " السبكي "بان " الأصوليين دققوا في فهم اشياء من كلام العرب لم يصل اليها النحاة ولا اللغويون، وان كلام العرب متسع جدا، والنظر فيه متشعب، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي تحتاج الى نظر الاصولي واستقراء زائد على استقراء اللغوي، (51) ويضيف قائلا:" ودلالة صيغة (افعل) على الوجوب ولا تفعل ) على التحريم، وكون (كل وأخواتها للعموم ) وما اشبه ذلك مما ذكر السائل انه من اللغة، لو فتشت كتب اللغة لم تجد فيها شفاء في ذلك ولا تعرضا لما ذكر الاصوليون، وكذلك كتب النحو، ولو طلبت معنى الاستثناء وان الإخراج هل هو قبل الحكم او بعد الحكم ونحو ذلك من الدقائق التي تعرض لها الاصوليون وأخذوها باستقراء خاص من كلام العرب، وأدلة خاصة لا تقتضيها صناعة النحو، فهذا ونحوه مما تكفل به اصول الفقه، ولا ينكر ان له استمداد من تلك العلوم، ولكن تلك الأشياء التي استمدها منها لم تذكر فيه بالذات بل بالعرض، والمذكور فيه بالذات ما اشرنا اليه مما لا يوجد الا فيه..."(52)
فرغم تاثير اللغة في علم أصول الفقه، يبقى لهذا العلم تميزه المتفرد به، وخاصة فيما يتعلق بالغوص على المعاني الدقيقة، والنفاذ الى أسرار التشريع باستنطاق الألفاظ والعبارات، فكانت عناية علم أصول الفقه بما دق من معاني الألفاظ ومقاصدها الخفية مما لم تحم حومه مباحث اللغويين، قال " الإمام عبد الملك الجويني" متحدثا عن الأصوليين: " اعتنوا في فهم بما أغفله أئمة العربية وظهر مقصد الشرع فيه "(53) وهذه شهادة أخرى تؤكد مدى تميز مباحث الأصوليين عن اللغويين، وان كانت علاقة الإمداد والاستمداد ظلت قائمة بين الدرسين كنتيجة طبيعية لعلاقة اللغة بكثير من العلوم الإسلامية وتأثيرها فيها.
1 في استفادة اللغويين من مناهج المحدثين انظر مثلا " علوم الحديث مصطلحه" " لصبحي الصالح"ص: 321-322 طبعة دار العلم للملايين ، ط:15 ، يناير 1984 م، وانظر كذلك " المزهر في علوم اللغة وانواعها " " للسيوطي" ج :1/138، طبعة دار الفكر بدون تاريخ. وانظر : الخصائص " لابن جني" ، دار الكتا العربي –لبنان 1952.
2 انظر" اصول الفقه الاسلامي " " الوهبة الزحيلي" ج :1/27، ط: الالوى 1406 هـ/ 1986 م.
3 سورة الشعراء ، اية 194-195.
4 انظر هامش " الابهاج" –كلام المحقق –ج : 1/4 ط: دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الاولى 1404 هـ/1984 م.
5 انظر " الابهاج في شرح المنهاج " ج :1/8.
6 انظر " الصاحبي " في فقه اللغة وسنن العرب وكلامها " ص: 16 ،ط : دار احياء الكتب العربية بتحقيق " احمد صقر "، دون تاريخ.
7 انظر : كتاب " الزينة "ج: 1/61، ط : القاهرة 1957م.
8 انظر " تاويل مشكل القرىن " ص:12 ، ط : مكتبة المدينة المنورة ،الطبعة الثالثة 1981م.
9 "الرسالة"ص:50،ط:دار الفكر بتحقيق "احمد محمد شاكر "1309هـ.
10 "المنهج الاسلامي في الجرح والتعديل""الفاروق حمادة"ص: 25،ط:دار نشر المعرفة ، الطبعة الثانية 1409هـ/ 1989م.
11 انظر" المفصل"" للزمخشري"ج:1/8.
12 انظر"الصاحبي"،ص:50نشر الأستاذ المرحوم "محب الدين الخطيب"، وانظر"مسلك الدلالة بين اللغويين والاصوليين" لعبد الحميد العلمي"ص:6/7ط،الاولى 1421هـ/2000م انفوبريتت.
13 انظر"الخصائص" ج 3/245.
14 انظر "نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر وجنة المناظر"ج2/2 طبعة مكتبة المعارف،الرياض بدون تاريخ ، وفي هذا الباب أي (تقاسيم الكلام والاسماء) ناقشوا اللغة هل هي توقيفية ام اصطلاحية،وانظر في ذلك "المستصفي" "للغزالي" ج1/324،ط،دار الفكر بدون تاريخ وبهامشه "فواتح الرحموت"،حيث قرر "الامام الغزالي" "ان اللغة وضع كلها وتوقيف ليس فيها قياس اصلا"
15 انظر ما اورده محقق كتاب "الرسالة"عن "الإمام الشافعي"من أقوال العلماء فيه، ص: 3،ط ،دار الفكر بتحقيق "احمد محمد شاكر "،1309هـ.
16 انظر "الرسالة "للامام الشافعي "ص:3من مقدمة المحقق.
17 نفس المصدر والصفحة.
18 نفس المصدر والصفحة.
19 انظر "الابهاج في شرح المنهاج"ج1/204،دار الكتب العلمية بيروت ،لبنان ،ط، الاولى 1404 هـ/1984م.
20 انظر"المستصفى من علم الاصول"ج 1/30.
21 نفس المصدر ج1/209.
22 نفس المصدر والصفحة
23 نفس المصدر ج1/213
24 انظر هذه المباحث مثلا في " فهرس الابهاج"،اخر الجزء الثالث.
25 انظر " الابهاج"ج1/218.
26 نفس المصدر ج1/220.
27 انظر" نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر 2/8، بهامش روضة الناظر".
28 انظر نزهة الخاطر"ج2/11، وانظر ايضا" شرح التلويح على النوضيح"ج1/17ط.الكتب العلمية بيروت، بدون تاريخ .
29 "الصاحبي في فقه اللغة"ص:44-45،ط،"عيسى الحلبي".
30 انظر " شرح الاشموني لالفية ابن مالك"،المسمى" منهج السالك الى الفية ابن مالك" ج 1/23، ط ، المكتبة الازهرية للتراثبتحقيق " عبد الحميد السيد " محمد عبد الحميد"، يقول ابن مالك:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
واسم فعل ثم حرف الكلم
31 انظر" اصول الفقه الاسلامي" " الوهبة الزحيلي"ج1 /317-318-340.
32 " نزهة الخاطر العاطر"ج2/26
33 سورة الزمر، الاية: 62
34 سورة الحجرات ، الاية: 13.
35 نفس السورة والاية.
36 انظر" جماع العلم " ص:19ط، دار الكتب العلمية ، لبنان بتحقيق الاستاذ" محمد احمد عبد العزيز"، ط، الاولى.
37 سورة : الحج، اية:73.
38 انظر" الرسالة"، فقرة 203/ص:60، وانظر فقرة 173/ص:51-52.
39 " الرسالة" فقرة 209/ص:62.
40 سورة: يوسف، اية 82.
41 سورة الكهف،اية 77.
42 انظر "المستصفي"ج 1/105، وانظر كذلك ص: 341، وانظر بحث الحقيقة والمجاز في " شرح التلويح " ج1/69 وما بعدها، وانظر " اصول السرخسي"ج1/170ط، دار المعرفة لبنان " بتحقيق ابي الوفا الأفغاني".
43 انظر" المرجعية العليا في الاسلام للقران والسنة " للدكتور يوسف القرضاوي " ص301، مؤسسة الرسالة، ط، الثانية 1416هـ/1996.
44 " شرح التلويح على التوضيح" ج 2/117.
45 والمراد بالتاويل معناه الاصطلاحي ، وهو " صرف اللفظ عن معناه الظاهر الى معنى مرجوح يحتمله لدليل يصيره راجحا " انظر " ارشاد الفحول" للشوكاني" ج 2/44 ط، الاولى 1413 هـ/1992م.
46 انظر" المناهج الاصولية في الاجتهاد بالرأي فغي التشريع" ص:17-18، طبعة الشركة المتحدة للتوزيع ، الطبعة الثانية 1405 هـ/1985م.
47 انظر " مقدمة ابن الصلاح" ص:114 ،ط ، دار الحديث ، ط، الثانية :1405هـ/1984 م.
48 نفس المصدر ، ص:189.
49 انظر " المستضقى"ج1/168.
50 هذه المباحث اللغوية انما اوردها الاصوليون في اطار علم اصول الفقه ، وليس في اطار اللغة ، والا لكانت مصنفات اقرب الى اللغة منها الى علم الاصول.
51 انظر" الابهاج " ج 1/7.
52 نفس المصدر ج 1/7-8.
53 انظر " البرهان في اصول الفقه "، طبعة دار الانصار ، الطبعة الثانية 1400 هـ، بتحقيق " عبد العظيم الديب".
دعوة الحق - العدد 366 صفر 1423/ أبريل 2002
غير ان اثر اللغة العربية وقواعدها في علم أصول الفقه جعلته يستمد منها أكثر مما يمدها، حيث طبعت مباحثه بطابعها ووسمت مناهجه بقواعدها كما سنرى فيما بعد
1-حاجة علم أصول الفقه إلى اللغة:
وتزداد هذه العلاقة وضوحا اذا علمنا ان موضوع علم اصول الفقه" هو الادلة الشرعية الكلية من حيث يثبت بها من الاحكام الكلية، والاحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالادلة "، (2) وهذه الادلة والاحكام بنما مدارها على اصلين اساسين هما: القران الكريم واحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وان القران الكريم انزله الله سبحانه وتعالى بلسان عربي مبين يقول عز وجل: (لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) "، (3)وبهذا اللسان ايضا نطق الرسول مشرعا عن طريق السنة.
وبدون معرفة اللغة العربية والالمام بقواعدها والاحاطة بأساليب العرب في كلامها، لا يمكن التوصل إلى معرفة معاني القرآن الكريم والسنة النبوية معرفة كاملة، فضلا عن الوقوف على دلالات الألفاظ ومقاصدها واستنباط الأحكام منها.
وان كان ذلك ممكنا في حق جيل الصحابة رضي الله عنهم ومن عاصر التنزيل، بحكم تمكنهم من العربية ونزول القران على لسانها وعدم حاجتهم إلى قواعد ضابطة يعتمدون عليها لفهم الكلام كما سيظهر فيما بعد، بدايو مع الإمام " محمد بن إدريس الشافعي المطلبي "(ت:204هـ) ومع من جاء بعده ممن اهتم بعلم أصول الفقه، غير ان هذا العلم باعتباره قواعد ونظريات وكيفية استنباط الأحكام من الأدلة بوجه عام، نشأ في عصر الصحابة رضي الله عنهم حيث كان مصاحبا للفقه، فان من الصحابة من كان ينصدر للفتيا والقضاء بين الناس " كعمر بن الخطاب" " وابن مسعـــــود"و" علي بن أبي طالب" وغيرهم، وكانوا على دراية تامة بقواعد اللغة العربية التي نزل بها القران الكريم، وبأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام، والخاص وسائر المباحث التي تكفل ببيانها علم أصول الفقه فيما بعد، (4) ولقد اكد هذه الحقيقة " الامام تاج الدين السبكي " وهو يتحدث عن شروط المجتهد حيث قال:" واعلم ان كمال رتبة الاجتهاد تتوقف على ثلاثة أشياء: احدهما التأليف في العلوم التي يتهذب بها الذهن كالعربية وأصول الفقه وما يحتاج إليه من العلوم العقلية في صيانة الذهن عن الخطأ، بحيث تصير هذه العلوم ملكة الشخص فاذ ذاك يثق بفهمه لدلالات الألفاظ من حيث هي، وتحريره تصحيح الأدلة من فاسدها، والذي نشير اليه من العربية وأصول الفقه كانت الصحابة اعلم به منا من غير تعلم، وغاية المتعلم ان يصل إلى بعض فهمهم وقد يخطئ أو يصيب "(5)
لكنت ما جاء بعد جيل الصحابة (رضي الله عنهم كان أحوج الى هذه القواعد والضوابط، سواء منها ما تعلق بالعربية نفسها او يعلم أصول الفقه او غيرها من العلوم الإسلامية الأخرى.
ومن ثم استمدت " العربية" شرفها وقدسيتها من انتسابها للوحي، يقول " ابن فارس": " لما خص جل ثناؤه اللسان العربي بالبيان علم ان سائر اللغات قاصرة عنه وواقفة دونه".(6)
وعن " علي" (كرم الله وجهه) قال: " كلام العرب كالميزان الذي يعرف به الزيادة والنقصان، وهو أعذب من الماء وارق من الهواء، فان فسرته بذاته استصعب، وان فسرته بغير معناه استحال، فالعرب أشجار وكلامهم ثمار، يثمرون والناس يجتنون، يقولون والى عملهم يصيرون ".(7)
وان معرفة فضل العربية وقيمتها كان مرتبطا بفهم فضل القران الكريم الذي انزله الله تعالى بلسان عربي، وكذا معرفة كلام العرب ومختلف اسليبهم في التعبير، يقول " ابن قتيبة": " وانما يعرف فضل القران من كثر نظره واتساع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب "، (8) فتعلم العربية وإتقانها يبقى أمرا لا محيد عنه لفهم القران الكريم والسنة النبوية، يقول الإمام " محمد ابن إدريس الشافعي "(ت: 204هـ):" وإنما بدأت بما وصفت من أن القران نزل بلسان العرب دون غيره، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب احد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها".(9)
فالتوسع في معرفة اللسان هو احد الركائز الرئيسة لفهم جمله واستنباط أحكامه، وكذلك كان هذا اللسان بالنسبة للعلوم الإسلامية الأخرى، إذ أنها نمت مع نمو شجرة الإسلام المباركة، وقامت على أساس القران الكريم والسنة النبوية المطهرة وان جميع العلوم التي نقلت فيما بعد إنما كانت بباعث ديني، وهي تهدف جميعها خدمة اصلي الإسلام:"القران الكريم والسنة المطهرة"والحفاظ عليها،(10) وهذه العلوم كلها قائمة على العربية والتضلع فيها، يقول"الزمخشري":"ذلك أنهم لا يجدون علما من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها،وعلمي تفسيرها واخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بين لا يدفع ومكشوف لا يتقنع".(11) لذلك كان كل مشتغل بهذه العلوم التي تدور في فلك القران الكريم والسنة النبوية المطهرة أحوج مايكون إلى تعلم اللغة العربية، يقول "ابن فارس:"إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقران والسنة".(12)
ولقد قرر اللغويون ان سبب الخطأ في الشرعية وعدم إدراك معاني الوحي إنما يرجع إلى ضعف الاهتمام باللغة العربية والقصور عن امتلاك ناصيتها، يقول " ابن جني":
"وذلك ان اكثر من ضل من اهل الشريعة عن القصد فيها وحادعن الطريقة المثلى اليها، فانما استهواه واستخلف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة"(13) فالذي لا يعرف اللغة لا يستطيع استخراج الاحكام واستنباطها من القران الكريم والسنة النبوية، يقول " الشيخ عبد القادر بدران الدمشقي"في شرحه على " روضة الناظر":" اعلم ان هذه التقاسيم –أي تقاسيم الكلام والاسماء –هي المدخل في اصول الفقه من جهة انه احد مفردات مادته وهي الكلام والعربية، وتصور الاحكام الشرعية، فاصول الفقه متوقفة على معرفة اللغة لورود الكتاب والسنة بهما، اللذين هما اصول الفقه وادلته ،فمن لم يعرف اللغة لا يمكنه استخراج الاحكام من الكتاب والسنة".(14)
وتزداد العلاقة بين علم اصول الفقه والدرس اللغوي تداخلا لتصل الى ابعد مداها، حيث اعتبر بعض الأصوليين من اللغويين الكبار الذين يوقف عند كلامهم ويحتج بلغتهم، وهذا ما تحقق بامتياز في الإمام المطلبي "محمد بن إدريس الشافعي " واضع علم أصول الفقه، يقول عنه"عبد الملك بن هشام النحوي" صاحب "السيرة": طالت مجالستنا للشافعي،فما سمعت منه لحنة قط، ولاكلمة غيرها أحسن منها"،(15) وقال عنه يضا:"الشافعي كلامه لغة يحتج بها"، (16) وقال "عبد الرحمان بن مهدي :"لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح ،فاني لأكثر الدعاء له".(17)
وصدق "ابن دريد" حيث قال(18)
فمن يك علم الشافعي امامه
فمرتعه في باحة العلم واسع
واذا كان علم اصول الفقه احوج الى اللغة وقواعدها من اللغة اليه، فان علاقة الامداد بين الدرس اللغوي والدرس الاصولي اضحت امرا ملحوظا، يقف عليه كل من له ادنى صلة بكتب اصول الفقه ومصادره، حيث استفاد الدرس الاصولي في صياغة مناهجه ووضع قواعده بناء على اللغة وقواعدها،فدرس الالفاظ وبين اوجه دلالاتها،الى درجة ان كثيرا من مباحث علم اصول الفقه هي في طبيعتها مباحث لغوية محضة تجدها منثورة في ثنايا كتب اللغة والنحو والبلاغة .
2-تجليات التاثير اللغوي على الدرس الاصولي:
إن التأثير اللغوي على الدرس الأصولي يظهر على مستويات متعددة من البحث الأصولي، ضل فيها هذا الأخير يمتاح من اللغة ومباحثها مضيفا عليها خصوصياته ومناهجه.
ففيما يتعلق بالألفاظ ودلالاتها تكلم الاصوليون عن مايسمى بدلالة المطابقة والتضمين والالتزام، فإذا كان اللفظ يدل على جزئه سمى:"تضمنا"،واذا دل على لازمه الذهني سمي:"التزاما"(19) يقول "الامام الغزالي":"ويتضح المقصود منه (أي من الفصل الأول في دلالة الألفاظ على المعاني) بتقسيمات :التقسيم الأول أن دلالة اللفظ على المعنى تنحصر في ثلاثة أوجه وهي المطابقة والتضمن والالتزام ،فان لفظ البيت يدل على معنى البيت بطريق المطابقة ويدل على السقف وحده بطريق التضمن لان البيت يتضمن السقف لان البيت عبارة عن السقف والحيطان...وأما طريق الالتزام فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط فانه غير موضوع للحائط وضع لفظ الحائط للحائط حتى يكون مطابقا فانه غير موضوع للحائط، وضع لفظ الحائط جزءا من السقف كما كان السقف جزءا من نفس البيت...لكنه كالرفيق الملازم الخارج عن ذات السقف".(20) فالذي لا يدرك اللغة جيدا لا يستطيع الوقوف على هذه الدلالات.وقسموا اللفظ ايضا باعتبار الافراد والتركيب، (21) يقول الإمام "السبكي":وتقسيم الفرد يقع من وجوه:منها ماهو باعتبار انواعه وهو تقسيمه إلى الاسم والفعل والحرف ،ووجه انحصاره في هذه الثلاثة ان اللفظ المفرد اما الا يستقل بالمفهومية فهو الحرف اويستقل، فاما ان يدل بهيئته أي بحالته التصريفية على احد الأزمنة الثلاثة:"الماضي"و"الحال"و"الاستقبال" فهو الفعل،أو لا يدل فهو الاسم سواء لم يدل على زمان اصلا كالسماء والارض وزيدا او دل لكن لابهيئة بل بذاته كالصبوح والغبوق وامس والان والمستقبل ".(22)
ولقد ناقش الاصوليون في بحوثهم جملة من القضايا اللغوية ذات العلاقة بالالفاظ ودلالاتها، فتكلموا عن التباين والفاظه وهي الالفاظ المختلفة الموضوعة لمعان مختلفة، يقول "الامام ":"فاما ان يمتنع اجتماعها... اولا يمتنع بان يكون بعضها اسما للذات اذا اتصفت بصفة خاصة كالسيف والصارم فان السيف اسم للذات والصارم لسيف القاطع –يقول السبكي-كما قال الجوهري في الصحاح وغيـــــــــره".(23)
فهو يعتمد كلام اللغويين كما نلاظ واذا تتبعنا كتب الاصوليين فانا نجدهم يتكلمون عن المترادف والمشترك والمجمل والظاهر والمؤول، ثم تكلموا عن مدلول اللفظ اما معنى او لفظ مفرد او مركب ، وقسموا المركب إلى استفهام وامر والتماس ،(24) وعبروا عن ذلك أصوليا،يقول"الإمام السبكي":"فان كان الطلب ...طلب ذكر ماهية الشيء فهو الاستفهام، كقوللك ماهذا ومن هذا، وان كان لتحصيل امر مامن الأمور فان كان مع الاستعلاء فأمر كقول المتعاظم المستعلي لآخر (افعل كذا)...وان كان مع التساوي كقول القائل لمماثله( افعل كذا) فهو التماس...وان كان من التسفل كقول من يجعل نفسه دون المطلوب منه فهو سؤال..."(25)
وتكلم الاصوليون ايضا عن الخبر المحتمل للصدق والكذب، والخير من الناحية اللغوية يشمل أي نوع من الخبر ولكنه عند الأصوليين يخص ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من اوامر او نواهي.(26)
وقد تكلم الاصوليون ايضا في الالفاظ عن تقاسيم الاسماء فهي اما وضعية او عرفية او شرعية او مجاز مطلق،"فالوضعية هي الثابتة بالوضع ...بحيث اذا اطلق ذلك اللفظ فهم منه ذلك المسمى،كما اذا اطلق لفظ الاسد فهمتنا منه حد الحيوان الخاص المفترس، والعرفية أي ما ثبت بالعرف، وهو اصطلاح المتخاطبين، والشرعية ما ثبت بوضع الشرع للمعاني الشرعية او استعماله فيه".(27) وهي الاسماء المنقولة من اللغة الى الشرع كالصلاة والصيام والزكاة، وان كان الاصوليون قد ناقشوا هذه الالفاظ التي استفيدت منها المعاني الشرعية، هل خرج بها الشارع عن وضع اهل اللغة باستعمالها في غير موضوعهم ؟ مثاله ان اهل اللغة وضعوا لفظ الصلاة لدعاء والزكاة للطهارة او النماء والحج للقصد وفي الشرع الصلاة والحج لافعاله مخصوصة ذات شروط واركان...-يخبرنا شارح " الروضة "(28) ان اللغويين انفسهم ناقشوا هذا الاشكال، ومن بينهم ابن فارس في كتابه " فقه اللغة".(29)
وفي معرض حديث الاصوليين عن الالفاظ ودلالاتها وقفوا عند الكلام ودرسوا معناه عندهم، حيث ذكروا فصلا خاصا عن "الكلام "الذي هو الاصوات المسموعة
والحروف المؤلفة، فالكلام عندهم ينقسم الى مفيد وغير مفيد، والذي يقصده الاصوليون هو الكلام المفيد تماما كما يخص اهل العربية الكلام بما كان مفيـــــــــدا.(30)
وهذا الكلام المفيد عند الأصوليين ينقسم الى ثلاثة أقسام، وهي ما اسموه بالنص والظاهر والمجمل، فاللفظ عند الأصوليين اما ان يحتمل معنى واحدا فقط، او يحتمل اكثر من معنى واحد، والأول النص، والثاني اما ان يترجح في احد معنييه او معانيه وهو الظاهر، او لا يترجح وهو المجمل.(31)
واذا تفحصنا هذه المصطلحات جيدا سنلاحظ ثنائية النسبة فيها للأصول من جهة، وللغة من جهة ثانية، يقول شارح الروضة:" وهذه التقاسيم شانها في العادة ان تذكر في الاصول، وان كان موضوعها الألفاظ فهي كأنها ذات وجهين: من جهة العادة أصولية، ومن جهة التحقيق لغوية".(32)
فجانب اللغة يبقى متداخلا الى حد بعيد بما هو أصولي، ويظهر ذلك ايضا في مناقشة الاصوليين للعموم والخصوص، يقول " الامام الشافعي " رادا على احد المعترضين عليه:" قلت له لسان العرب واسع، وقد تنطق بالشيء عاما تريد به الخاص... ولست اصير في ذلك بخبر الا بخبر لازم، وكذلك انزل في القران، فبين في القران مرة وفي السنة اخرى، قال فاذكر منها شيئا قال الله عز وجل:" الله خالق كل شيء"، (33) فكان مخرجا بالقول عاما يراد به العام ن وقال " انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، ان أكرمكم عند الله اتقاكم"(34) فكل نفس مخلوقة من ذكر وانثى فهذا عام يراد به العام، وفي الخصوص وقال:" ان أكرمكم عند الله اتقاكم" (35) فالتقوى وخلافها لا تكون إلا للمبالغين غير المغلوبين على عقولهم".(36)
ويقول في الرسالة في باب بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص، قال في قوله تعالى: " با ايها الناس شرب مثل فاستمعوا له" (37) قــــــال " فمخرج اللفظ عام على الناس كلهم وبين عند اهل العلم بلسان العرب منهم انه انما يراد بهذا اللفظ العام المخرج بعض الناس دون بعض لانه لا يخاطب بهذا الا من يدعو من دون الله الاها تعالى عما يقولون علوا كبيرا، لان فيهم من المؤمنين المغلوبين على عقولهم وغير البالغين ممن لا يدعو معه الاها".(38)
فهذه المعاني والدلالات المستفادة من الكلام يصعب على من لا يمتلك ناصية اللغة أن يتوصل إليها، ونماذج أخرى ذكرها " الإمام الشافعي" في باب ( الصنف الذي يبين سياقه معناه) (39)حيث يفهم معنى الكلام انطلاقا من سياقه فيتوصل الى ادراك دلالته الخفية، ومما يدخل في هذا الاطار ايضا مباحث الحقيقة والمجاز التي أوردها الاصوليون في كتبهم، حيث جاء خطاب الشارع ينضح بها في " القران الكريم" و" السنة النبوية"، وان عدم ادراك الكلام والتمييز بين حقيقته ومجازه سيؤدي حتما الى الفهم الخاطئ، يقول " الامام الغزالي": " الفاظ العرب تشتمل على الحقيقة والمجاز...فالقران يشتمل على المجاز خلافا لبعضهم، فنقول المجاز اسمن مشترك قد يطلق على الباطل الذي لا حقيقة له، والاقران منزه عن ذلك...وقد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضوعه وذلك لا ينكر في القران الكريم مع قوله تعالى:" وسئل القرية التي كنا فيها والعير" (40) وقوله:" جدارا يريد ان ينقــــــض" (41)، (42)، ويقول " الدكتور يوسف القرضاوي":ومما لا شك فيه ان الاصل هو حمل الكلام على معناه الظاهر، اذ هو ما تدل عليه اللغة باصل وضعها، وما يفهم من اللفظ من أول وهلة، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر الى غيره الا لدليل يصرف عن ذلك... فالاصل في الكلام الحقيقة، ولا يعدل عنها الى المجاز الا لقرينة ودليل، والاصل بقاء العام على عمومه حتى يظهر ما يخصصه، وبقاء المطلق على اطلاقه حتى يرد ما يقيده".(43)
واذا كانت معرفة الحقيقة والمجاز تزيل كثيرا من الغموض عن الكلام فان كثيرا ما تبقى المعاني خفية تحتاج الى الاستنباط للوقوف على دلالات الالفاظ، ومعرفة الاحكام الواردة فيها، كل هذا جعل الاصلوليين يذكرون الاجتهاد وشروطه وضوابطه، حيث يحتاج المجتهد من بين ما يحتاج الى اللغة التي لا غنى عنها لتحقيق الاستنباط السليم، يقول الامام " سعد الدين التفتازني" (ت792 هـ) " قوله ( باب الاجتهاد) – أي قول الامام صدر الشريعة " عبيد الله بن مسعود البخاري" (ت: 747 هـ)-لما كان بحث الاصول عن الادلة من حيث انه يستنبط منها الأحكام وطريق ذلك هو الاجتهاد ختم مباحث الادلة بباب الاجتهاد، وهو في اللغة تحمل الجهد أي المشقة، وفي الاصطلاح استفراغ الفقيه الواسع لتحصيل ظن بحكم شرعي... وشرط الاجتهاد ان يجمع العلم بأمور ثلاثة: الأول الكتاب أي القران بان يعرفه بمعانيه لغة وشريعة، اما لغة فبأن يعرف معاني المفردات والمركبات وخصوصا في الإفادة، فيفتقر الى اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان، اللهم الا ان يعرف ذلك بحسب السليقة، وأما شريعة فبان يعرف المعاني المؤثرة في الأحكــــــام ".(44)
والحديث عن الاجتهاد يجرنا للكلام عن التأويل (45) الذي هو عين الاجتهاد حيث كان منهجا سلك سبيله الاصوليون في تعاملهم مع نصوص الشريعة المبنية على اللغة التي كثيرا ما كانت لا تفصح عن قصد الشارع، يقول " فتحي الدريني": ب: ان الشريعة الإسلامية قرانا وسنة بما هي نصوص تحتكم الى منطق اللغة في الدلالة على مرا الشارع منها مبدئيا، لكن ظواهر هذه النصوص من المعاني المتبادرة من الصيغة قد لا تحدد ذلك المراد، فوجب الاجتهاد في تبينه، وهذه مرحلة بعدية قوامها الرأي وبذل الجهد العقلي لتبين قصد المشرع الذي يعول عليه في الحكم... هذا والتأويل من صميم الاجتهاد بالرأي المستند الى المناهج الأصولية، وهو صرف المعنى اللغوي الظاهر المتبادر إلى معنى آخر، بالاستناد الى دليل من نص قاعدة عامة او من حكمة التشريع، يجعل المعنى المؤول راجحا بالدليل، والتأويل من صلب الاجتهاد بالرأي في نطاق النص".(46)
وهذا الاجتهاد نفسه لا يمكن ان يقوم به كل من وهب وذب، ولا يجوز بلا قيد ولا شرط كما يتوهم الجاهلون والمتلاعبون.
ان التداخل بين الدرسين اللغوي والأصولي جعل الوقوف عند الألفاظ العربية ومعرفة دلالاتها ومعانيها للاهتداء الى قصد الشارع فيها، مسألة أساسية عند الفقيه والأصولي، وإنما نقصد بالألفاظ العربية، الألفاظ التي جاء بها خطاب الشارع، ولا شك ان تغيير الألفاظ وتبديلها قد يؤدي إلى تغيير معانيها ومقاصدها، واذا كانت هذا التغيير غير منصور فيما يتعلق بنصوص القران الكريم وآياته لخصوصية هذا النص الديني وطبيعة نقله، فان احتمال حصول التغيير في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نتيجة الرواية أمر مسلم به بسبب الرواية بالمعنى وعدم الاقتصار على لفظه، وهذه الرواية القائمة على المعنى دون اللفظ تفاوت فيها الرواة ما بين مصيب للمعنى الذي قصد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخطأ، مما كان ذلك محط نقد الرجال وتجريحهم والكلام في ضبطهم، ولهذا انعقد الإجماع بين العلماء على ان الراوي الذي يروي بالمعنى لا تقبل روايته إلا إذا كان علما بتغيير المعاني وحيولها، والعلم بتغيير المعاني هو العلم بألفاظ الحديث ولغته، يقول " ابن الصلاح": اجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على انه يشترط فيمن يحتج بروايته ان يكون عدلا ضابطا لما يرويه... متيقظا غير مغفل، حافظا ان حدث من حفظه، ضابطا لكتابه ان حدث من كتابه، وان كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك ان يكون عالما بما يحيل المعاني والله اعلم".(47) فانه لا يجوز ابدا لمن لا يعرف الألفاظ ويعلم مقاصدها ان يروي بالمعنى انما سبيله الأوحد هو أن يروي باللفظ لقصوره عن الإطاحة باللغة والاهتداء إلى معاني الكلام، ويقول " ابن الصلاح " عن الراوي بالمعنى:" إذا أراد رواية ما سمعه على معناه دون لفظه، فان لم يكن عالما عارفا بالألفاظ ومقاصدها خبيرا بما يحيل معانيها، بصيرا بمقادير التفاوت بينهما، فلا خلاف انه لا يجوز له ذلك، ولا عليه إلا يروي ما سمعه الا على اللفظ الذي سمعه من غير تغيير".(48)
واذا كان المحدثون قد تناولوا قضية الرواية بالمعنى حيث ان هذا الموضوع الصق بمباحثهم، لارتكازه على النقل والرواية، فان الأصوليين أيضا لم يغفلوا هذا المبحث لتعلقه ايضا بمجالهم، حيث ينظرون في الألفاظ ومعانيها واوجه دلالتها المختلفة، وكل ذلك انما يتم انطلاقا من لغة النص وألفاظه، لذلك فان أي تغيير وتبديل في اللفظ شيؤدي حتما الى تغيير دلالته، فحكم الاصوليون بالحرمة على ان يفعل ذلك في غياب الشروط اللازمة لهذا النقل، يقول " الإمام الغزالي": نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ، أما العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل، والظاهر والأظهر والعام والأعم فقد جوز له الشافعي و" مالك" و" أبو حنيفة" وجماهير الفقهاء ان ينقله على المعنى اذا فهمه، وقال فريق لا يجوز له إلا الإبدال اللفظ بما يرادفه ويساويه في المعنى، كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة...وسائر ما لا يشك فيه، وعلى الجملة ما لا يتطرق الهي تفاوت بالاستنباط والفهم وانما ذلك فيما فهمه قطعا، لا فيما فهمه فهمه بنوع استدلال يختلف فيه الناظرون".(49)
ومن هنا تظهر أهمية الاحاطة باللغة، والعلم بمواقع الخطاب واثر ذلك في توجيه الفهم السليم للنص، ويظهر كذلك عمق نظر الأصوليين الذين تلمسنا من خلال مناهجهم في الدرس الأصولي متانة الرباط بين اصول الفقه وقواعد اللغة.
والملاحظ انه كلما بعد الزمان عن القرون المتقدمة حيث كان اللسان سليما وكان التمكن من اللغة هو السمة المميزة لاهل تلك القرون، كما ظهرت الحاجة إلى الاهتمام باللغة ووضع قواعدها وضوابطها حيث قام بذلك اللغويون خير قيام، وكان لهذا الفرق بين المتقدمين ولامتأخرين اثره على مستوى المصنفات الأصولية لعلاقة الدرس الأصولي باللغوي كما رأينا، فان مقارنة بسيطة بين كتابي: " الرسالة" للإمام الشافعي (ت:204 هـ) وبين " شرح التلويح على التوضيح" للتفتازني( ت:792 هـ) او بين الرسالة وبين الابهاج في شرح المنهاج للسبكي " علي ابن عبد الكافي"(ت:756 هـ)وولده تاج الدين (771) تبين أن المتأخرين كان يغلب على منهجهم في التصنيف طابع التفريع اللغوي (50) الى جانب البحث الأصولي.
وختاما اشير الى انه مهما يكن من تأثير للبحث اللغوي على الدرس الأصولي، فان الاصوليين فاقوا النحاة واللغويين في استنباطهم المعاني الدقيقة التي تحتملها الالفاظ، والتي لا يستطيع ان يدركها إلا الأصولي، يقول الامام " السبكي "بان " الأصوليين دققوا في فهم اشياء من كلام العرب لم يصل اليها النحاة ولا اللغويون، وان كلام العرب متسع جدا، والنظر فيه متشعب، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي تحتاج الى نظر الاصولي واستقراء زائد على استقراء اللغوي، (51) ويضيف قائلا:" ودلالة صيغة (افعل) على الوجوب ولا تفعل ) على التحريم، وكون (كل وأخواتها للعموم ) وما اشبه ذلك مما ذكر السائل انه من اللغة، لو فتشت كتب اللغة لم تجد فيها شفاء في ذلك ولا تعرضا لما ذكر الاصوليون، وكذلك كتب النحو، ولو طلبت معنى الاستثناء وان الإخراج هل هو قبل الحكم او بعد الحكم ونحو ذلك من الدقائق التي تعرض لها الاصوليون وأخذوها باستقراء خاص من كلام العرب، وأدلة خاصة لا تقتضيها صناعة النحو، فهذا ونحوه مما تكفل به اصول الفقه، ولا ينكر ان له استمداد من تلك العلوم، ولكن تلك الأشياء التي استمدها منها لم تذكر فيه بالذات بل بالعرض، والمذكور فيه بالذات ما اشرنا اليه مما لا يوجد الا فيه..."(52)
فرغم تاثير اللغة في علم أصول الفقه، يبقى لهذا العلم تميزه المتفرد به، وخاصة فيما يتعلق بالغوص على المعاني الدقيقة، والنفاذ الى أسرار التشريع باستنطاق الألفاظ والعبارات، فكانت عناية علم أصول الفقه بما دق من معاني الألفاظ ومقاصدها الخفية مما لم تحم حومه مباحث اللغويين، قال " الإمام عبد الملك الجويني" متحدثا عن الأصوليين: " اعتنوا في فهم بما أغفله أئمة العربية وظهر مقصد الشرع فيه "(53) وهذه شهادة أخرى تؤكد مدى تميز مباحث الأصوليين عن اللغويين، وان كانت علاقة الإمداد والاستمداد ظلت قائمة بين الدرسين كنتيجة طبيعية لعلاقة اللغة بكثير من العلوم الإسلامية وتأثيرها فيها.
1 في استفادة اللغويين من مناهج المحدثين انظر مثلا " علوم الحديث مصطلحه" " لصبحي الصالح"ص: 321-322 طبعة دار العلم للملايين ، ط:15 ، يناير 1984 م، وانظر كذلك " المزهر في علوم اللغة وانواعها " " للسيوطي" ج :1/138، طبعة دار الفكر بدون تاريخ. وانظر : الخصائص " لابن جني" ، دار الكتا العربي –لبنان 1952.
2 انظر" اصول الفقه الاسلامي " " الوهبة الزحيلي" ج :1/27، ط: الالوى 1406 هـ/ 1986 م.
3 سورة الشعراء ، اية 194-195.
4 انظر هامش " الابهاج" –كلام المحقق –ج : 1/4 ط: دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الاولى 1404 هـ/1984 م.
5 انظر " الابهاج في شرح المنهاج " ج :1/8.
6 انظر " الصاحبي " في فقه اللغة وسنن العرب وكلامها " ص: 16 ،ط : دار احياء الكتب العربية بتحقيق " احمد صقر "، دون تاريخ.
7 انظر : كتاب " الزينة "ج: 1/61، ط : القاهرة 1957م.
8 انظر " تاويل مشكل القرىن " ص:12 ، ط : مكتبة المدينة المنورة ،الطبعة الثالثة 1981م.
9 "الرسالة"ص:50،ط:دار الفكر بتحقيق "احمد محمد شاكر "1309هـ.
10 "المنهج الاسلامي في الجرح والتعديل""الفاروق حمادة"ص: 25،ط:دار نشر المعرفة ، الطبعة الثانية 1409هـ/ 1989م.
11 انظر" المفصل"" للزمخشري"ج:1/8.
12 انظر"الصاحبي"،ص:50نشر الأستاذ المرحوم "محب الدين الخطيب"، وانظر"مسلك الدلالة بين اللغويين والاصوليين" لعبد الحميد العلمي"ص:6/7ط،الاولى 1421هـ/2000م انفوبريتت.
13 انظر"الخصائص" ج 3/245.
14 انظر "نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر وجنة المناظر"ج2/2 طبعة مكتبة المعارف،الرياض بدون تاريخ ، وفي هذا الباب أي (تقاسيم الكلام والاسماء) ناقشوا اللغة هل هي توقيفية ام اصطلاحية،وانظر في ذلك "المستصفي" "للغزالي" ج1/324،ط،دار الفكر بدون تاريخ وبهامشه "فواتح الرحموت"،حيث قرر "الامام الغزالي" "ان اللغة وضع كلها وتوقيف ليس فيها قياس اصلا"
15 انظر ما اورده محقق كتاب "الرسالة"عن "الإمام الشافعي"من أقوال العلماء فيه، ص: 3،ط ،دار الفكر بتحقيق "احمد محمد شاكر "،1309هـ.
16 انظر "الرسالة "للامام الشافعي "ص:3من مقدمة المحقق.
17 نفس المصدر والصفحة.
18 نفس المصدر والصفحة.
19 انظر "الابهاج في شرح المنهاج"ج1/204،دار الكتب العلمية بيروت ،لبنان ،ط، الاولى 1404 هـ/1984م.
20 انظر"المستصفى من علم الاصول"ج 1/30.
21 نفس المصدر ج1/209.
22 نفس المصدر والصفحة
23 نفس المصدر ج1/213
24 انظر هذه المباحث مثلا في " فهرس الابهاج"،اخر الجزء الثالث.
25 انظر " الابهاج"ج1/218.
26 نفس المصدر ج1/220.
27 انظر" نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر 2/8، بهامش روضة الناظر".
28 انظر نزهة الخاطر"ج2/11، وانظر ايضا" شرح التلويح على النوضيح"ج1/17ط.الكتب العلمية بيروت، بدون تاريخ .
29 "الصاحبي في فقه اللغة"ص:44-45،ط،"عيسى الحلبي".
30 انظر " شرح الاشموني لالفية ابن مالك"،المسمى" منهج السالك الى الفية ابن مالك" ج 1/23، ط ، المكتبة الازهرية للتراثبتحقيق " عبد الحميد السيد " محمد عبد الحميد"، يقول ابن مالك:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
واسم فعل ثم حرف الكلم
31 انظر" اصول الفقه الاسلامي" " الوهبة الزحيلي"ج1 /317-318-340.
32 " نزهة الخاطر العاطر"ج2/26
33 سورة الزمر، الاية: 62
34 سورة الحجرات ، الاية: 13.
35 نفس السورة والاية.
36 انظر" جماع العلم " ص:19ط، دار الكتب العلمية ، لبنان بتحقيق الاستاذ" محمد احمد عبد العزيز"، ط، الاولى.
37 سورة : الحج، اية:73.
38 انظر" الرسالة"، فقرة 203/ص:60، وانظر فقرة 173/ص:51-52.
39 " الرسالة" فقرة 209/ص:62.
40 سورة: يوسف، اية 82.
41 سورة الكهف،اية 77.
42 انظر "المستصفي"ج 1/105، وانظر كذلك ص: 341، وانظر بحث الحقيقة والمجاز في " شرح التلويح " ج1/69 وما بعدها، وانظر " اصول السرخسي"ج1/170ط، دار المعرفة لبنان " بتحقيق ابي الوفا الأفغاني".
43 انظر" المرجعية العليا في الاسلام للقران والسنة " للدكتور يوسف القرضاوي " ص301، مؤسسة الرسالة، ط، الثانية 1416هـ/1996.
44 " شرح التلويح على التوضيح" ج 2/117.
45 والمراد بالتاويل معناه الاصطلاحي ، وهو " صرف اللفظ عن معناه الظاهر الى معنى مرجوح يحتمله لدليل يصيره راجحا " انظر " ارشاد الفحول" للشوكاني" ج 2/44 ط، الاولى 1413 هـ/1992م.
46 انظر" المناهج الاصولية في الاجتهاد بالرأي فغي التشريع" ص:17-18، طبعة الشركة المتحدة للتوزيع ، الطبعة الثانية 1405 هـ/1985م.
47 انظر " مقدمة ابن الصلاح" ص:114 ،ط ، دار الحديث ، ط، الثانية :1405هـ/1984 م.
48 نفس المصدر ، ص:189.
49 انظر " المستضقى"ج1/168.
50 هذه المباحث اللغوية انما اوردها الاصوليون في اطار علم اصول الفقه ، وليس في اطار اللغة ، والا لكانت مصنفات اقرب الى اللغة منها الى علم الاصول.
51 انظر" الابهاج " ج 1/7.
52 نفس المصدر ج 1/7-8.
53 انظر " البرهان في اصول الفقه "، طبعة دار الانصار ، الطبعة الثانية 1400 هـ، بتحقيق " عبد العظيم الديب".
دعوة الحق - العدد 366 صفر 1423/ أبريل 2002