قبل حوالى 700 عام من الآن كتب محمد بن أحمد بن بن جزي الكلبي الغرناطي كتابه الشهير القوانين الفقهية. وهذ استخدام قديم لكلمة قانون عند فقهاء المسلمين مع ملاحظة أن الكثير من الشيوخ المعاصرين رفضوا كلمة قانون واعتبروها تغريبا للإسلام واستبدلوها بمصطلح "الشريعة الإسلامية".
بحسب قراءاتي لأمهات الكتب الفقهية كالمغني لابن قدامة المقدسي او الموطأ لمالك أو المدونة لسحنون أو الدرر المختار للحصفكي او المهذب للشيرازي او الأم للشافعي أو المحلى لابن حزم..و غير ذلك لم التق باستخدام لمصطلح الشريعة الإسلامية. فهذا المصطلح حديث جدا لم يتقهقر عن حدود القرن العشرين..ثم شاع وانتشر حتى جهل مصدره. لقد قسم الفقهاء العلوم الاسلامية الى عدة علوم منها الفقه ومنها أصول الفقه بالاضافة لعلوم الحديث والقرآن وخلافه. والشاهد هنا هو أن استخدام مصطلح الشريعة ظهر على ما أعتقد مع تيارات الإسلام السياسي ولذلك فهو حمل مختلف المفاهيم التي تعطي هوية واحدة (ذات سند مطلق) وهو الإسلام. فالحديث عن تطبيق الفقه الاسلامي يمكن أن يواجه بأن الفقه هو اجتهاد بشري وكان من الواجب سد هذه الثغرة عبر مصطلح احتياطي إتقائي وتحذيري بحيث يقف إزاءه كل مصطلح آخر كعدو وكتعبير عن الكفر بالله وبالإسلام. لذلك اعتقد أن الإسلام السياسي قد نحت هذا المصطلح كمصد لأي نزوع نحو الهروب مما يسمى بالحاكمية.
فما المقصود من مصطلح فضفاض وواسع كالشريعة الإسلامية الذي لم يستخدم منذ الف وثلاثمائة عام تقريبا..ماهو مفهوم الشريعة؟
إن مفهوم الشريعة يمكن أن ينصرف الى عدة اتجاهات منفصلة عن بعضها:
- الشريعة هي الدين الإسلامي.
- الشريعة هي الأحكام الشرعية (تكليفية ووضعية).
- الشريعة هي مصادر الحكم الشرعي (القرآن والسنة). وأيضا المصادر محل الاختلاف كالاجماع والقياس ..الخ.
عندما يتحدث الاسلام السياسي عن تطبيق الشريعة إنما يرسل إشارات للعاطفة الدينية لدى العامة. هو هنا يعني الدين الإسلامي ، وهو هنا يحذر العامة من محاولات إطفاء نور الله. ومن اولئك الذين يحاولون إطفاء نور الله؟ إنهم الكافرون. وهكذا تتسلسل الرسائل لتصب في نهايتها في خانة التكفير الضمني لدى الإنسان المسلم العادي (العادي=الذي لا معرفة له إلا بأساسيات الإسلام).
لذلك لا يمكن أن يستخدم الاسلام السياسي خطابا مؤسسا على مصطلح كمصطلح (الفقه الإسلامي). لأن الفقه مندمج في ذات الفقيه فهو بشري ولا يمثل الطعن فيه طعنا في ذات الإسلام. فمن لم يأخذ بفقه الإمام مالك ليس بكافر إن أخذ بفقه الإمام الشافعي..وهكذا... لذلك فمصطلحات ك (الحكم الشرعي) ، (الفقه الآسلامي) ، (الاجتهاد)..الخ ليست بذات القوة والمعنى الشمولي الذان ينبثقان لدى ذهن المسلم حينما يسمع مصطلح (الشريعة الإسلامية).
لقد جاءت كلمة (شريعة من الأمر) ، (شرعة ومنهاجا).. في القرآن. ولكنها كانت في سياقاتها الخطابية تعني الإسلام بأركانه الخمسة الأساسية (الشهادة والصلاة والزكاة والصيام وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا) ، وهي بحفرية قصيرة تنحصر في (توحيد الله). أما الإسلام السياسي فقد اقتطعها من هذا السياق ودمجها في موضوعات نسبية (كالفقه والاجتهاد) ليحصن العمل البشري نفسه من أي نقد وهكذا أصبح الفقه الإسلامي (ليس اجتهادا بشريا) ، بل جزءا لا يتجزأ من الإسلام وحصل على قداسة لا يجوز التعرض لها.
دعونا نحاول تطوير هذا الشرح قليلا ليخرج من بساطته التجريدية إلى إفهام تطبيقي ولنأخذ مثلا بحكم قرآني للسرقة:
قال تعالى:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
إن اسم الفاعل (سارق) من الفعل (سرق).. والسرق والسرقة تحتمل عدة معاني فهي على سبيل المثال لا الحصر:
- كل عدوان على حق مالي.
- أخذ مال بغير حق.
- أخذ مال خفية...الخ.
وهذا امر يعتمد على الثقافة التي نشأت فيها المفردة اللغوية. (عربية رومانية فارسية). واذا كانت عربية فحسب كل ثقافة فرعية حجازية او نجدية..الخ. وداخل كل قبيلة عربية ذات لسان يمتاز عن غيرها.
هنا نجد أن الفقهاءَ بحثو الأمر من زاويتين:
زاوية ثقافية واطلقوا عليها (المعنى اللغوي ؛ اي الفهم التوافقي الإجتماعي حول دلالة المفردة). والمعنى الشرعي: (وهو الدلالة المستنبطة من مجمل النصوص القرآنية والسنية). ومع ذلك فهم لم يتفقوا لا حول الدلالة اللغوية ولا الدلالة الشرعية وكان لكل مذهب وفقيه ومجتهد رأيه الخاص.
هذا تطبيق مختصر لنستطيع التمييز بين النص (المطلق) وهو آية السارق ، وفهم الفقه (النسبي) للنص المطلق. وسنرى ذات الأمر في دلالة مفردة (فاقطعوا) وغير ذلك من مفردات النص القرآني.
فعندما يتحدث الإسلام السياسي عن تطبيق الشريعة فإنه يقوم بتمويه مثل هذه التمييزات ليخلطوا الامر بين المطلق والنسبي فيكون أي مساس بالنسبي مساس بالمطلق..وهذه مخاتلة.
فلنعد إلى الشرح السابق لمفردة (السرقة) ، سنجد أن النص المطلق واسع بحيث يمكن أن تكون السرقة (كل مفهوم يجتبيه ولي الأمر (البرلمان)) ويقعده داخل تقنين جنائي مكتوب. ولن يكون هناك تثريب عليه إن فعل. ولكن حينما يتم (خلط المطلق بالنسبي) فإن الاسلام السياسي يطلب من البرلمان أن يأخذ برأي فقهي معين ومحدد وليكن مثلا رأي الإمام الشافعي الذي يرى ان السرقة أخذ مال خفية من حرز مثله (عليه حارس قوي يقظان) وأن يكون المال مالا منقولا مملوكا للغير.
فرغم ان للظاهرية والحنابلة والمالكية والأحناف آراء أخرى بل وداخل كل مذهب آراء مختلفة بدورها لكن الإسلام السياسي يرغب في تمويه القضية تمويها مضللا.
سنجد هذه المغالطة المخاتلة قد استخدمت في الدستور السوداني وفي القوانين ؛ ففي مراجعة الأحكام مثلا لا يمكن تشكيل دائرة لمراجعة الحكم إلا إن كان الحكم المطلوب مراجعته مخالفا للشريعة الإسلامية ولم يوضح قانون الإجرات مفهوم مصطلح الشريعة الإسلامية هنا. لقد سألت هذا السؤال عندما شرعت في كتابة طلب لمراجعة احد الأحكام ولما لم اجد تعريفا حاسما أخذت بالمصالح الخمس التي يجب أن يحميها ولي الأمر (الدين والنفس والعقل والمال والعرض). وهذا عام جدا بحيث يمكن أن يقدم طلب لمراجعة أي حكم صادر تأسيسا على هذه العموميات.
كما تثور اسئلة منبثقة عندما يطالب الإسلام السياسي بتطبيق الشريعة: ما المقصود بالشريعة؟
فالإسلام ليس كائنا يمشي على رجلين إنما هو مجموعة set من المفاهيم والدلالات تقبع داخل عقل كل مسلم ، فلكل مسلم إسلامه الخاص به بحسب تراكماته المعرفية وذكائه واجتهاده واحتياجاته واهتمامه. فهناك مسلم لا يعرف من الإسلام إلا توحيد الله وبعضهم لا يعلم منه إلا أركانه وفرائضه وبعضهم له باع في الاختلافات والمختلفين وبعضهم متشدد وبعضهم مرن وهذا كله يعطينا عدة إسلامات وليس إسلاما واحداً رغم ما يبدو عليه الأمر من وحدة ظاهرية نراها في صلاة الجماعة والحج وغير ذاك. لكن داخل عقل كل مسلم تصور ما عن الإسلام (الله والتوحيد والرسول والوحي والأحكام والتأويل وأولياء الله والكفار وأهل الكتاب...الخ). وهكذا عندما يسأل الإسلام السياسي عن تطبيق الشريعة فبأي فهم للمصطلح وبأي مذهب (شيعي ، سني ، وفي السني (حنفي حنبلي ..وهابي سلفي ، صوفي ، أم أشعري ، داعشي ...الخ)) يريد تطبيق الشريعة وهو عند هذا السؤال يجفل ويفل.
كل تلك مغالطات يسكت عنها الإسلام السياسي بل ويتجنبها تجنبا شديدا (عن وعي أو غير وعي). وهو يخاطب جموعا من البشر لديها تصور متوهم لوحدوية الإسلام لا تقبل أي تحد عقلاني أو منطقي لخلاف تصورها الراسخ هذا.