يصدح أذان الفجر في فضاء القرية فتطير أسراب الدوري مذعورةً من ثغورها في جدران الورش تاركةً خلفها في الأعشاش فراخاً جائعة. تطير الدواري هاربةً إلى الأشجار الآمنة في الوادي السحيق، فتتلقّفها بنادق الصيّادين الرُعن. يخترق صوت المؤذّن بيوت البؤساء المتناثرة حول مسجد القرية القديم فيرتدّون عن أحلامهم ويشرّعون أجسادهم الدافئة لبرد الصباح، يتدثّرون بعباءاتهم ويخرجون في الظلام من بيوتهم إلى طرقاتهم الترابيّة. يلفح الهواء البارد وجوههم السمراء الخشنة، ويبلّل أقدامهم شبه العارية ندى الصباح العالق على جزر الأعشاب المشتّتة في الدرب. تدقّ أجراس الكنيسة، يحمل الهدوء صوتها من القرية المجاورة قاطعاً أحاديث الرّجال فيرفع أبو فادي يديه باتّجاه السماء مستعطفاً رحمة الربّ، ثمّ يأتيه صوت جاره من الخلف "صباح الخير، كيف حال طفلك؟".
يبطئ أبو فادي سيره ويجيب بصوتٍ خفيض "فادي على حاله، ان شالله خير، يقول الطبيب إنّه يحتاج إلى عمليّة في القريب العاجل... العمليّة مكلفة. البارحة جلبت له هرّة صغيرة ولدت حديثاً، ردّت إليه الروح وعندما ضحك ردّ الروح إليّ".
يتجهّم وجه الجار، بأسىً تخرج الكلمات من فمه:
- معتّر فادي، لا يستحقّ كلّ هذا المرض، كلّنا حزينون لأجله. ماذا ستفعل؟ ما الحلّ؟
يصمت أبو فادي مطرقاً، يهزّ يديه علامة الجهل:
- وعدونا خير، الشيخ حكى بالموضوع ووعدنا خير، أهل الخير كثر ورحمة الله واسعة. الليلة يا إبراهيم حلمت بامرأة بيضاء، بيضاء جداً، ترتدي ثوباً أسود، لا أدري لماذا. لن تصدّق يا إبراهيم، كان وجهها أبيض ويداها بيضاوين، اقتربت منّي، كادت تقول شيئاً ثمّ اختفت.
شعر إبراهيم باليأس المتسلّل إلى قلب جاره، فحاول تشجيعه "خير يا أبو فادي ان شالله خير، ليكن إيمانك بالله قويّاً، الله يشفيه..." قبل أن يكمل الجاران طريقهما بصمت إلى المسجد.
عند طرف القرية حيث تتبعثر المنازل مبتعدةً بعضها عن بعض يجلس شابٌّ حاملاً بندقيّة صيد، يدخّن سيجارة ويشرب فنجان قهوة، يتثاءب وينتظر منصتاً لأدنى حركة. أمس سرقت كلبة إحدى دجاجاته، فاستيقظ اليوم قبل طلوع الشمس عازماً على الانتقام. اجتازت الكلبة لاهثةً بيوت القرية النائمة، ركضت في طريق ترابي طويل، اشتمّت رائحة القنّ، علا صوت الدجاجات الخائفة، يتنبّه الشابّ المتثائب لصوت الكلبة تدخل الحديقة فينهض عن كرسيّه ثمّ يدوّي صوت طلق ناري. أطلق الشابّ النار على الكلبة فهربت مصابة خلف السياج، تاركة آثار دمائها على الطريق الترابي وعلى جدران المنازل النائمة. يضع الشاب بندقيّته على كتفه مبتسماً. يأخذ آخر مجّة من سيجارته قبل أن يرميها على الأرض فيتطاير منها الشرر. يلتفت إلى السماء مزهوّاً بانتصاره ويدير ظهره عائداً إلى دفء منزله.
يوقظ دويّ الرصاصة امرأة عجوزاً تعيش وحيدة، تنهض من فراشها متلمّسةً طريقها وسط الظلام، تعوقها آلام ظهرها وركبتيها. ماء الوضوء بارد، تسري القشعريرة في أنحاء جسدها المتهالك. تبحث العجوز عن سجّادة صلاتها في الظلام، تصلّي وتخرج إلى مصطبتها حيث تجلس بانتظار الشمس. الشروق هنا هادئ بعد أن رحل عن القرية أبناؤها تاركين لها ذكريات البيادر والأعراس والأيدي المتشابكة في حلقة رقص لا تنتهي قبل الصباح. كانت الأيدي قد تشابكت منذ ستّين عاماً للاحتفال بعرسها. تعود جليّة هذا الصباح ذكريات عازف الناي يتمايل على أنغام نايه وأقدام الرجال تضرب الأرض في الدبكة الشعبيّة، وزوجها ببذلته البيضاء بعد أن تخلّى عن ثياب الفلاحين الّتي أخذت لونها من تراب الحقول وشمسها.
كان ذلك منذ ستّين عاماً... أمّا اليوم فهي تصغي السمع لعلّها تلتقط من جديد زغاريد النساء، فلا تسمع سوى أصوات العصافير الهاربة نحو الأودية.
إنّه الفجر في المدينة أيضاً، الحانات تغلق أبوابها كما تفعل دائماً، تصمت الموسيقى فيتفرّق السكارى في الشوارع الساكنة إلى بيوتهم وتستعدّ المدينة لقيلولتها القصيرة. تطفئ حانة بيروت الّتي تقدّم لروّادها أغاني الستينيّات أضواءها الحمراء ويخرج شاب وسيم يعانق عشيقته مترنّحاً. تتشابك أيديهما، يسيران على رصيف الشارع على وقع كعبها العالي وتملأ ضحكاتهما الأزقّة. أمس كان قد رصّع عنقها الأبيض بعقد ذهبي ويدها بخاتم خطوبة، على شفتيها يضع آخر قبلةٍ مع الفجر، قبلةً مترنّحة، سكرى. عند زاوية الشارع يعانقها من جديد ويفتح لها باب سيّارته الفخمة. "إلى أين نذهب الآن؟" تسأل الفتاة الجميلة فيجيبها مبتسماً "إلى القرية، لن ننام اليوم، سأريكِ قريتي وأعرّفك إلى والدي. سيكون هذا اليوم متميّزاً جداً".
يصل البؤساء من أنحاء القرية، يتجمّعون في الباحة يتبادلون أخبارهم ثمّ يدخلون المسجد بهدوء، ينزعون أخفافهم فيضجّ المكان بصوت قباقيبهم متّجهين إلى الميضأة الّتي سترتجف أجسادهم بعد قليل لبرودة مياهها. يركن الشيخ سيّارته السوداء في الباحة يرافقه شابّ أسمر طويل بلحية قصيرة. تطلّ عمامته البيضاء. يؤمّ الصلاة ويقف خلفه البؤساء، ينحنون لانحنائه، يسجدون لسجوده، يغرقون الفضاء بهمهماتهم. ترتفع أيدي المصلّين منسجمة، تضطرب قلوبهم خافقة، تخشع، تناجي الإله ليسبغ عليها نعمه، ليشفي مرضاها، لينعم عليها بالسلام. تنتقل عينا أبي فادي بين عمامة الشيخ البيضاء وضوء الفجر المتسرّب من النافذة، خيطاً إلهيّاً أبيض باهتاً يبدأ من الله، يخترق النافذة وينتهي عند أبي فادي. كأنّ خيوط النور الضعيفة تصل مباشرة إلى الربّ، كأنّ الربّ هذا الصباح، ترك العالم وأصغى سمعه لصلاة البؤساء في تلك البقعة من العالم.
تركض الكلبة المصابة لاهثةً بين الزواريب الضيّقة، تقفز فوق الأسيجة وفي الحقول الخضراء المزروعة بشتلات الطماطم. تتعثّر بشريطٍ شائك، تسقط على الأرض مطلقةً عواءً أليماً متواصلاً، يلطّخ التراب جراحها فتلعقها ثمّ تنهض راكضةً من جديد. تتناثر دماؤها على حبّات الطماطم الخضراء الفجّة فتلمع حمراء تحت نور الفجر الباهت. تصل إلى كوخٍ خشبيٍّ مهجورٍ في آخر القرية يستعمله الفلّاحون مخزناً لشتلات التبغ في مواسم القطاف. تقفز من نافذةٍ كسرها أطفال مشاكسون أثناء اللعب. تجتمع حولها أربعة جراءٍ بيضاء صغيرة. ترقد بينها. تمدّ لسانها وتلعقها واحداً واحداً.
تجلس العجوز على مصطبتها متّكئةً على عكّازها الخشبي، تختبئ في تجاعيد وجهها حكايات تسعين عاماً مضت. من البعيد يأتيها عواء كلبةٍ متقطّع ويأتيها الفجر بأطيافهم، رجالاً يسيرون مع الصباح خلف قطعانهم، يمرّون أمام عتبة بابها، يرفعون أيديهم محيّين أهل الدار ويكملون الطريق إلى مراعٍ خضراء نديّة. كان والدها واحداً من رعيان الفجر وكانت هي واحدةً من صبايا يرفعن على رؤوسهنّ أحمال القمح بعد سلقه إلى السطوح لتجفّفه الشمس عند شروقها. عيناها الغائرتان تراقبان الساحة الخالية إلّا من شجرة سروٍ تتمايل بسبب الريح كفلّاح يصارع الكرى. تعود بالذكرى لأيّام رحلت سريعاً، كأنّ العمر مضى كيومٍ واحد. تمرّ أمام نظرها الشحيح أطياف الراحلين منذ أيّام الطفولة فتبتسم لهم وتنتظر...
تسير السيّارة مسرعةً بين أزقّة المدينة الضيّقة، تقطع الشوارع الصامتة، تخرج منها ضحكات حسناء فاتنة وعشيقها الّذي أصبح منذ أمس خطيبها. يصطدم ضوء الفجر الآتي من خلف الجبال البعيدة بالأبنية الضخمة، تنبسط ظلالها عملاقةً في الشوارع وعلى صفحة البحر. تتّكئ الفتاة على كتف حبيبها وتداعب أصابعه شعرها الناعم، تلامس شفتيه جبينها الأبيض وتمتدّ يده اللعوب إلى رقبتها، تبتعد عنه ضاحكة، يمسك بيدها، يقبّلها ويطلب منها الاقتراب ليقبّل شفتيها، تقترب الفتاة بغنج وتتلامس الشفاه. تترنّح السيّارة، تصطدم بشاحنة، تتشابك الأيدي وتتعانق الأرواح متسلّقةً حزام النور نحو السماء.
ينهي الشيخ صلاته، يتقدّم المصلّون طالبين دعاءہ وبركات الربّ، يسأله أحدهم "هل احتسبت ما يجب عليّ من الخمس؟" يفكّر الشيخ مطرقاً، يداعب حبّات سبحته بين أصابعه البيضاء، يملّس لحيته، تغرق فيها أصابعه القصيرة، يسوّي عمامته على رأسه ثمّ تنفرج شفتاه "ألفا دولار". "بارك الله فيك يا شيخ" يقول الرجل مطأطئاً رأسه وهو يلملم نفسه عائداً إلى منزله. يفتح المرافق الأسمر باب السيّارة استعداداً للرحيل. يحاول أبو فادي تخطّي الجمع الصغير للوصول إلى الشيخ الّذي يذهب حاملاً معه بركاته. تمرّ سيّارته على الطرقات الترابيّة، بين أكواخ البؤساء، تدوس دواليبها دماءً طازجةً لكلبةٍ مصابة، تجتاز بيت أبي فادي حيث خمدت فجر هذا اليوم شعلة الحياة في عيون طفلٍ صغير.
منتصف ليل أمس جلس كهلٌ أمام طاولته، في منزله الواقع على سفح الجبل، أمام نافذته المطلّة على منازل القرية ومسجدها القديم، كتب على ورقة: لكلٍّ منّا قصّة ولكلّ القصص نهاية واحدة. يأتيك الموت ضاحكاً، شابّاً تعانق حبيبتك، عجوزاً تعيش في ذكرياتك أو طفلاً تنتظر صباح اليوم التالي. هي قصّة مئة ألف عامٍ من عمر البشر، مئة ألف عامٍ من الحياة والموت، مئة ألف عامٍ من النهايات. شرب آخر كؤوس خمره الممزوجة بالسمّ وغفا فوق أوراقه المبعثرة، حلم بابنه الشاب وخطيبته الشقراء، بكلبته تلعق وجهه الضاحك، بأمّه العجوز تتلمّس سجّادة صلاتها في الظلام، بابن جاره يركض خلف دجاجةٍ في الدار. ليلاً، انهمر بعض المطر متقطّعاً، دقّ على زجاج نافذته، رنّ جرس الهاتف مع الفجر بعد صمت سنين، لكنّه لم يستيقظ.
* من مجموعة وجه مارغريت القبيح.. لقاسم مرواني
يبطئ أبو فادي سيره ويجيب بصوتٍ خفيض "فادي على حاله، ان شالله خير، يقول الطبيب إنّه يحتاج إلى عمليّة في القريب العاجل... العمليّة مكلفة. البارحة جلبت له هرّة صغيرة ولدت حديثاً، ردّت إليه الروح وعندما ضحك ردّ الروح إليّ".
يتجهّم وجه الجار، بأسىً تخرج الكلمات من فمه:
- معتّر فادي، لا يستحقّ كلّ هذا المرض، كلّنا حزينون لأجله. ماذا ستفعل؟ ما الحلّ؟
يصمت أبو فادي مطرقاً، يهزّ يديه علامة الجهل:
- وعدونا خير، الشيخ حكى بالموضوع ووعدنا خير، أهل الخير كثر ورحمة الله واسعة. الليلة يا إبراهيم حلمت بامرأة بيضاء، بيضاء جداً، ترتدي ثوباً أسود، لا أدري لماذا. لن تصدّق يا إبراهيم، كان وجهها أبيض ويداها بيضاوين، اقتربت منّي، كادت تقول شيئاً ثمّ اختفت.
شعر إبراهيم باليأس المتسلّل إلى قلب جاره، فحاول تشجيعه "خير يا أبو فادي ان شالله خير، ليكن إيمانك بالله قويّاً، الله يشفيه..." قبل أن يكمل الجاران طريقهما بصمت إلى المسجد.
عند طرف القرية حيث تتبعثر المنازل مبتعدةً بعضها عن بعض يجلس شابٌّ حاملاً بندقيّة صيد، يدخّن سيجارة ويشرب فنجان قهوة، يتثاءب وينتظر منصتاً لأدنى حركة. أمس سرقت كلبة إحدى دجاجاته، فاستيقظ اليوم قبل طلوع الشمس عازماً على الانتقام. اجتازت الكلبة لاهثةً بيوت القرية النائمة، ركضت في طريق ترابي طويل، اشتمّت رائحة القنّ، علا صوت الدجاجات الخائفة، يتنبّه الشابّ المتثائب لصوت الكلبة تدخل الحديقة فينهض عن كرسيّه ثمّ يدوّي صوت طلق ناري. أطلق الشابّ النار على الكلبة فهربت مصابة خلف السياج، تاركة آثار دمائها على الطريق الترابي وعلى جدران المنازل النائمة. يضع الشاب بندقيّته على كتفه مبتسماً. يأخذ آخر مجّة من سيجارته قبل أن يرميها على الأرض فيتطاير منها الشرر. يلتفت إلى السماء مزهوّاً بانتصاره ويدير ظهره عائداً إلى دفء منزله.
يوقظ دويّ الرصاصة امرأة عجوزاً تعيش وحيدة، تنهض من فراشها متلمّسةً طريقها وسط الظلام، تعوقها آلام ظهرها وركبتيها. ماء الوضوء بارد، تسري القشعريرة في أنحاء جسدها المتهالك. تبحث العجوز عن سجّادة صلاتها في الظلام، تصلّي وتخرج إلى مصطبتها حيث تجلس بانتظار الشمس. الشروق هنا هادئ بعد أن رحل عن القرية أبناؤها تاركين لها ذكريات البيادر والأعراس والأيدي المتشابكة في حلقة رقص لا تنتهي قبل الصباح. كانت الأيدي قد تشابكت منذ ستّين عاماً للاحتفال بعرسها. تعود جليّة هذا الصباح ذكريات عازف الناي يتمايل على أنغام نايه وأقدام الرجال تضرب الأرض في الدبكة الشعبيّة، وزوجها ببذلته البيضاء بعد أن تخلّى عن ثياب الفلاحين الّتي أخذت لونها من تراب الحقول وشمسها.
كان ذلك منذ ستّين عاماً... أمّا اليوم فهي تصغي السمع لعلّها تلتقط من جديد زغاريد النساء، فلا تسمع سوى أصوات العصافير الهاربة نحو الأودية.
إنّه الفجر في المدينة أيضاً، الحانات تغلق أبوابها كما تفعل دائماً، تصمت الموسيقى فيتفرّق السكارى في الشوارع الساكنة إلى بيوتهم وتستعدّ المدينة لقيلولتها القصيرة. تطفئ حانة بيروت الّتي تقدّم لروّادها أغاني الستينيّات أضواءها الحمراء ويخرج شاب وسيم يعانق عشيقته مترنّحاً. تتشابك أيديهما، يسيران على رصيف الشارع على وقع كعبها العالي وتملأ ضحكاتهما الأزقّة. أمس كان قد رصّع عنقها الأبيض بعقد ذهبي ويدها بخاتم خطوبة، على شفتيها يضع آخر قبلةٍ مع الفجر، قبلةً مترنّحة، سكرى. عند زاوية الشارع يعانقها من جديد ويفتح لها باب سيّارته الفخمة. "إلى أين نذهب الآن؟" تسأل الفتاة الجميلة فيجيبها مبتسماً "إلى القرية، لن ننام اليوم، سأريكِ قريتي وأعرّفك إلى والدي. سيكون هذا اليوم متميّزاً جداً".
يصل البؤساء من أنحاء القرية، يتجمّعون في الباحة يتبادلون أخبارهم ثمّ يدخلون المسجد بهدوء، ينزعون أخفافهم فيضجّ المكان بصوت قباقيبهم متّجهين إلى الميضأة الّتي سترتجف أجسادهم بعد قليل لبرودة مياهها. يركن الشيخ سيّارته السوداء في الباحة يرافقه شابّ أسمر طويل بلحية قصيرة. تطلّ عمامته البيضاء. يؤمّ الصلاة ويقف خلفه البؤساء، ينحنون لانحنائه، يسجدون لسجوده، يغرقون الفضاء بهمهماتهم. ترتفع أيدي المصلّين منسجمة، تضطرب قلوبهم خافقة، تخشع، تناجي الإله ليسبغ عليها نعمه، ليشفي مرضاها، لينعم عليها بالسلام. تنتقل عينا أبي فادي بين عمامة الشيخ البيضاء وضوء الفجر المتسرّب من النافذة، خيطاً إلهيّاً أبيض باهتاً يبدأ من الله، يخترق النافذة وينتهي عند أبي فادي. كأنّ خيوط النور الضعيفة تصل مباشرة إلى الربّ، كأنّ الربّ هذا الصباح، ترك العالم وأصغى سمعه لصلاة البؤساء في تلك البقعة من العالم.
تركض الكلبة المصابة لاهثةً بين الزواريب الضيّقة، تقفز فوق الأسيجة وفي الحقول الخضراء المزروعة بشتلات الطماطم. تتعثّر بشريطٍ شائك، تسقط على الأرض مطلقةً عواءً أليماً متواصلاً، يلطّخ التراب جراحها فتلعقها ثمّ تنهض راكضةً من جديد. تتناثر دماؤها على حبّات الطماطم الخضراء الفجّة فتلمع حمراء تحت نور الفجر الباهت. تصل إلى كوخٍ خشبيٍّ مهجورٍ في آخر القرية يستعمله الفلّاحون مخزناً لشتلات التبغ في مواسم القطاف. تقفز من نافذةٍ كسرها أطفال مشاكسون أثناء اللعب. تجتمع حولها أربعة جراءٍ بيضاء صغيرة. ترقد بينها. تمدّ لسانها وتلعقها واحداً واحداً.
تجلس العجوز على مصطبتها متّكئةً على عكّازها الخشبي، تختبئ في تجاعيد وجهها حكايات تسعين عاماً مضت. من البعيد يأتيها عواء كلبةٍ متقطّع ويأتيها الفجر بأطيافهم، رجالاً يسيرون مع الصباح خلف قطعانهم، يمرّون أمام عتبة بابها، يرفعون أيديهم محيّين أهل الدار ويكملون الطريق إلى مراعٍ خضراء نديّة. كان والدها واحداً من رعيان الفجر وكانت هي واحدةً من صبايا يرفعن على رؤوسهنّ أحمال القمح بعد سلقه إلى السطوح لتجفّفه الشمس عند شروقها. عيناها الغائرتان تراقبان الساحة الخالية إلّا من شجرة سروٍ تتمايل بسبب الريح كفلّاح يصارع الكرى. تعود بالذكرى لأيّام رحلت سريعاً، كأنّ العمر مضى كيومٍ واحد. تمرّ أمام نظرها الشحيح أطياف الراحلين منذ أيّام الطفولة فتبتسم لهم وتنتظر...
تسير السيّارة مسرعةً بين أزقّة المدينة الضيّقة، تقطع الشوارع الصامتة، تخرج منها ضحكات حسناء فاتنة وعشيقها الّذي أصبح منذ أمس خطيبها. يصطدم ضوء الفجر الآتي من خلف الجبال البعيدة بالأبنية الضخمة، تنبسط ظلالها عملاقةً في الشوارع وعلى صفحة البحر. تتّكئ الفتاة على كتف حبيبها وتداعب أصابعه شعرها الناعم، تلامس شفتيه جبينها الأبيض وتمتدّ يده اللعوب إلى رقبتها، تبتعد عنه ضاحكة، يمسك بيدها، يقبّلها ويطلب منها الاقتراب ليقبّل شفتيها، تقترب الفتاة بغنج وتتلامس الشفاه. تترنّح السيّارة، تصطدم بشاحنة، تتشابك الأيدي وتتعانق الأرواح متسلّقةً حزام النور نحو السماء.
ينهي الشيخ صلاته، يتقدّم المصلّون طالبين دعاءہ وبركات الربّ، يسأله أحدهم "هل احتسبت ما يجب عليّ من الخمس؟" يفكّر الشيخ مطرقاً، يداعب حبّات سبحته بين أصابعه البيضاء، يملّس لحيته، تغرق فيها أصابعه القصيرة، يسوّي عمامته على رأسه ثمّ تنفرج شفتاه "ألفا دولار". "بارك الله فيك يا شيخ" يقول الرجل مطأطئاً رأسه وهو يلملم نفسه عائداً إلى منزله. يفتح المرافق الأسمر باب السيّارة استعداداً للرحيل. يحاول أبو فادي تخطّي الجمع الصغير للوصول إلى الشيخ الّذي يذهب حاملاً معه بركاته. تمرّ سيّارته على الطرقات الترابيّة، بين أكواخ البؤساء، تدوس دواليبها دماءً طازجةً لكلبةٍ مصابة، تجتاز بيت أبي فادي حيث خمدت فجر هذا اليوم شعلة الحياة في عيون طفلٍ صغير.
منتصف ليل أمس جلس كهلٌ أمام طاولته، في منزله الواقع على سفح الجبل، أمام نافذته المطلّة على منازل القرية ومسجدها القديم، كتب على ورقة: لكلٍّ منّا قصّة ولكلّ القصص نهاية واحدة. يأتيك الموت ضاحكاً، شابّاً تعانق حبيبتك، عجوزاً تعيش في ذكرياتك أو طفلاً تنتظر صباح اليوم التالي. هي قصّة مئة ألف عامٍ من عمر البشر، مئة ألف عامٍ من الحياة والموت، مئة ألف عامٍ من النهايات. شرب آخر كؤوس خمره الممزوجة بالسمّ وغفا فوق أوراقه المبعثرة، حلم بابنه الشاب وخطيبته الشقراء، بكلبته تلعق وجهه الضاحك، بأمّه العجوز تتلمّس سجّادة صلاتها في الظلام، بابن جاره يركض خلف دجاجةٍ في الدار. ليلاً، انهمر بعض المطر متقطّعاً، دقّ على زجاج نافذته، رنّ جرس الهاتف مع الفجر بعد صمت سنين، لكنّه لم يستيقظ.
* من مجموعة وجه مارغريت القبيح.. لقاسم مرواني