عندما يفرض عليك منفى اجباري بسبب وضع ما فرض عليك فلا يسعك الا ان تبحث عن منفى خيالي ذهني يوازي او يعوض المكان الذي تركته قسراً.
كانت المره الاولى عندما تركنا البصرة اثناء الحرب الاولى وبعد اشتداد قصف المدن بين الطرفين فكانت مدينتي هي الضحية ،فلو ان حرباً اندلعت في ساحل العاج لكانت البصرة اولى المدن المتضررة (هذا ما كنّا نتندر به) .
كان حزننا على خسارة الاصدقاء والجيران والعاب الطفولة الموسمية وعشنا الاغتراب الاول باللهجة فاختلفت المسميات فالطاق يسمونة البغداديون توكي ولعبة الغميضان اصبحت ختيلان والكضه- كمشه والطاح-وكع والواجد هواية،والكثير من المفردات ومع مرور الايام ازداد وعينا بغربة المكان وحاولنا استيعاب فقدان الكورنيش وتمثال السياب والاثل ومتنزه الخوره وجاء التعويض كبيرا فهنا كورنيش الاعظمية والكريعات و شارع ابي نؤاس وهنا تمثال للرصافي والمتنبي وكهرمانه وابو جعفر المنصور وهنا متنزه الزوراء وجزيرة بغداد ومدينة الاعراس كان كل ذلك في ثمانينيات القرن الماضي .وجاءت فترة الوعي الكامل في الجامعة فكان القسم الداخلي في الكرنتينة وكان بديل جسر الخوره الحديدي بديل عملاق هو جسر الصرافية وكان امتداده داخل الوزيرية رابط حقيقي بين الارض و الماء وكانت لنا ذكريات قرب الجسر فاثناء الامتحانات كنا ننغص على العشاق خلوتهم ونفترش الارض بعد ان نزيل علب وزجاجات الجعة الفارغة وكان الجسر شاهدنا وقد شهدنا تقطيع اوصاله بعد رفع امتداداته داخل الارض ،وامتد التعويض الاهم فكانت الصلاة تعقد مرتين يوم الجمعة ، مره في الجامع و مرة في شارع المتنبي ، كان كل ذلك بعد الحرب الثانية في التسعينات من القرن الماضي .
................ ماذا تبقى من كل هذه الذكريات
الزمان 2007 بعد الحرب الثالثة .........المكان ........ لامكان..............
الجسر سقط ............ شارع المتنبي احترق........... ولامكان للصلاة .
حان الان الاستبدال القسري الجديد لمدينتي بعد ان احرقها هولاكو الجديد المستنسخ وراثياً والمعامل باحقر الجينات لاحقر اعداء الجمال في التاريخ.
بدأت رحلتي لعمان فلم اجد سوى اجيال شبه ضائعة فقدت علاقتها بالتاريخ ومكتبات فارغة من اهلها مكتضّه بالكتب وبعض الوجوه من مثقفي بلدي فكانت عزائي الوحيد.
ذهبت بعدها الى دمشق وقد كانت مدينة حقيقية لانها عريقة كبغدادي وتضم في مقبرة الغرباء شاعر العرب الاكبر الجواهري وشيخي هادي العلوي البغدادي وغيرهم من المريدين والابدال في معرة النعمان.
وقد وجدت عزائي الحقيقي بتسلقي جبل في قرية كسب التابعة لمحافظة اللاذقية بعد ان ضاقت علي جبال بلدي في كردستان لاني من الجنوب ولا امتلك كفيل يدخلني الى جزء يقال انه من بلدي..؟!
لم يكن التعويض كاملاً في دمشق لأستبدلها ببغداد ، ولا بد لي من البحث عن مدينة جديدة مدينة افتراضية ترجعني الى خيالاتي الماضية وتصبح منفاي الثقافي بعد ان فقدت شارع المتنبي وابتعدت عن مكتبتي الخاصة لان أعضم اغتراب انتابني هو حين احتاج الى كتاب من مكتبتي في لحظة ما لدعم فكرة او لأستشهاد بنص ولا اجده بقربي .وقد تعلمت من التاريخ ان المدن التي تدفن مكتباتها ستموت من الجهل وان لاشيء يصيب العقل بالجفاف مثل نفوره من القراءة.
.............وجدتها .....................وجدتها..................
انها القاهرة نعم انها من المدن القليلة التي تعاني من التخمة الحضارية والثقافية وبأمكانها ان تستوعب عطشي الفكري واغترابي ولن تجد لها منافس بعد ان احرقوا بغداد ........... نعم ..... هي القاهرة.... استطيع ان استبدل دجلة بالنيل والزوراء بحديقة الاندلس وشارع المتنبي بسور الازبكية والكرادة بشبرا والرصافي باحمد شوقي وجسر الصرافية باي كوبري يحمل صفاته وعريان السيد خلف بالابنودي وعلي الوردي بسيد عويس وفؤاد التكرلي بجمال الغيطاني وساحة التحرير بميدان التحرير ونصب الحرية بتمثال نهضة مصر .......ماذا..... نصب الحرية ...... جواد سليم .... انه كل ما تبقى لي من بغداد وان حدث له شيء واستهدفه اعداء الجمال فاني ادعو كل المثقفين بالتوقف عن الكتابة وترك المدينة بشكل جماعي .
سوف اواضب للوصول الى القاهرة واحاول تعويض ما خسرته في بلادي وسوف اهيء ذهني بقراءة جديدة لفؤاد حداد ويوسف ادريس ومحفوظ وفؤاد نجم ولا انسى الرائع صلاح جاهين ورباعياته العبقرية وها انا اسمعه يتلو شكوتي في غربتي :
ايديا في جيوبي وقلبي طِرب
ساكن بغربة بس مش مغترب
وحدي... لكن ونسان* وماشي كده
بابتعد ... مااعرفش ... او بأقترب
عجبي !!
هامش: ونسان* : اي باللهجه البصرية متونس.
فارس الكامل
كانت المره الاولى عندما تركنا البصرة اثناء الحرب الاولى وبعد اشتداد قصف المدن بين الطرفين فكانت مدينتي هي الضحية ،فلو ان حرباً اندلعت في ساحل العاج لكانت البصرة اولى المدن المتضررة (هذا ما كنّا نتندر به) .
كان حزننا على خسارة الاصدقاء والجيران والعاب الطفولة الموسمية وعشنا الاغتراب الاول باللهجة فاختلفت المسميات فالطاق يسمونة البغداديون توكي ولعبة الغميضان اصبحت ختيلان والكضه- كمشه والطاح-وكع والواجد هواية،والكثير من المفردات ومع مرور الايام ازداد وعينا بغربة المكان وحاولنا استيعاب فقدان الكورنيش وتمثال السياب والاثل ومتنزه الخوره وجاء التعويض كبيرا فهنا كورنيش الاعظمية والكريعات و شارع ابي نؤاس وهنا تمثال للرصافي والمتنبي وكهرمانه وابو جعفر المنصور وهنا متنزه الزوراء وجزيرة بغداد ومدينة الاعراس كان كل ذلك في ثمانينيات القرن الماضي .وجاءت فترة الوعي الكامل في الجامعة فكان القسم الداخلي في الكرنتينة وكان بديل جسر الخوره الحديدي بديل عملاق هو جسر الصرافية وكان امتداده داخل الوزيرية رابط حقيقي بين الارض و الماء وكانت لنا ذكريات قرب الجسر فاثناء الامتحانات كنا ننغص على العشاق خلوتهم ونفترش الارض بعد ان نزيل علب وزجاجات الجعة الفارغة وكان الجسر شاهدنا وقد شهدنا تقطيع اوصاله بعد رفع امتداداته داخل الارض ،وامتد التعويض الاهم فكانت الصلاة تعقد مرتين يوم الجمعة ، مره في الجامع و مرة في شارع المتنبي ، كان كل ذلك بعد الحرب الثانية في التسعينات من القرن الماضي .
................ ماذا تبقى من كل هذه الذكريات
الزمان 2007 بعد الحرب الثالثة .........المكان ........ لامكان..............
الجسر سقط ............ شارع المتنبي احترق........... ولامكان للصلاة .
حان الان الاستبدال القسري الجديد لمدينتي بعد ان احرقها هولاكو الجديد المستنسخ وراثياً والمعامل باحقر الجينات لاحقر اعداء الجمال في التاريخ.
بدأت رحلتي لعمان فلم اجد سوى اجيال شبه ضائعة فقدت علاقتها بالتاريخ ومكتبات فارغة من اهلها مكتضّه بالكتب وبعض الوجوه من مثقفي بلدي فكانت عزائي الوحيد.
ذهبت بعدها الى دمشق وقد كانت مدينة حقيقية لانها عريقة كبغدادي وتضم في مقبرة الغرباء شاعر العرب الاكبر الجواهري وشيخي هادي العلوي البغدادي وغيرهم من المريدين والابدال في معرة النعمان.
وقد وجدت عزائي الحقيقي بتسلقي جبل في قرية كسب التابعة لمحافظة اللاذقية بعد ان ضاقت علي جبال بلدي في كردستان لاني من الجنوب ولا امتلك كفيل يدخلني الى جزء يقال انه من بلدي..؟!
لم يكن التعويض كاملاً في دمشق لأستبدلها ببغداد ، ولا بد لي من البحث عن مدينة جديدة مدينة افتراضية ترجعني الى خيالاتي الماضية وتصبح منفاي الثقافي بعد ان فقدت شارع المتنبي وابتعدت عن مكتبتي الخاصة لان أعضم اغتراب انتابني هو حين احتاج الى كتاب من مكتبتي في لحظة ما لدعم فكرة او لأستشهاد بنص ولا اجده بقربي .وقد تعلمت من التاريخ ان المدن التي تدفن مكتباتها ستموت من الجهل وان لاشيء يصيب العقل بالجفاف مثل نفوره من القراءة.
.............وجدتها .....................وجدتها..................
انها القاهرة نعم انها من المدن القليلة التي تعاني من التخمة الحضارية والثقافية وبأمكانها ان تستوعب عطشي الفكري واغترابي ولن تجد لها منافس بعد ان احرقوا بغداد ........... نعم ..... هي القاهرة.... استطيع ان استبدل دجلة بالنيل والزوراء بحديقة الاندلس وشارع المتنبي بسور الازبكية والكرادة بشبرا والرصافي باحمد شوقي وجسر الصرافية باي كوبري يحمل صفاته وعريان السيد خلف بالابنودي وعلي الوردي بسيد عويس وفؤاد التكرلي بجمال الغيطاني وساحة التحرير بميدان التحرير ونصب الحرية بتمثال نهضة مصر .......ماذا..... نصب الحرية ...... جواد سليم .... انه كل ما تبقى لي من بغداد وان حدث له شيء واستهدفه اعداء الجمال فاني ادعو كل المثقفين بالتوقف عن الكتابة وترك المدينة بشكل جماعي .
سوف اواضب للوصول الى القاهرة واحاول تعويض ما خسرته في بلادي وسوف اهيء ذهني بقراءة جديدة لفؤاد حداد ويوسف ادريس ومحفوظ وفؤاد نجم ولا انسى الرائع صلاح جاهين ورباعياته العبقرية وها انا اسمعه يتلو شكوتي في غربتي :
ايديا في جيوبي وقلبي طِرب
ساكن بغربة بس مش مغترب
وحدي... لكن ونسان* وماشي كده
بابتعد ... مااعرفش ... او بأقترب
عجبي !!
هامش: ونسان* : اي باللهجه البصرية متونس.
فارس الكامل