كان موقع مدرستي غريباً بعض الشيْ في منطقة الحيدرخانة، وهي ليست منطقة يهودية. الشوارع هناك ضاجة بالناس على الدوام، وعبر الطريق من "شمّاش" المدرسة ينتصب أضخم جوامع بغداد: جامع الحيدرخانة. صوت المؤذن في صلاة الظهيرة ينطلق عبر مكبرات صوت ضخمة ويصب في باحة مدرستنا، حتى ليمنعنا أحيانا من الحديث، أو من سماع صوت المحاضر. على مقربة يمتد سوق الصفافير بصوت مطارقة التي لا تنتهي. (ثمة حكاية تُروى عن العلامة الخليل بن أحمد الفراهيدي، أنه اكتشف أسرار بحور الشعر في زيارة منه لهذا السوق في بغداد.) وعلى مبعدة مئات الأمتار تنتصب بوابة منطقة العاهرات القانونية.
إلى جوار المدرسة مقهى صغير هادئ. زينها صاحبها حسن العجمي بصُفّة من سماور النحاس اللامعة على الرف، والبسط الفارسية على الجدران. كانت هذه المقهى المفضلة عند محمد مهدي الجواهري، أحد أهم الشعراء المحدثين المعاصرين. (توفي في 1997 وقد ناهز المئة.) عادة ما كنت أعبر المقهى وأرقب هذا الشخص النحيل، وهو مستغرق في كتابة قصائده، محرك شفتيه بصمت.
كان ذلك حوالى 1948. كنت اشتريت مجموعة الجواهري الشعرية وتوقفت ماخوذا بقصيدة له بعنوان "دجلة في الخريف". كنت أحببت إيقاعها المتواتر، والطريقة التي انصرف فيها الشاعر إلى تأمل النهر العظيم الذي يخترق مدينة مولدي. ولكن لغة القصيدة لم تكن يسيرة علي. كان الجواهري فارس الكلاسيكية المُحدثة في الشعر، وكثيراً ما يستخدم تعبيرات مولّدة من الشعر العربي القديم. ولذا لجأت إلى محمد شرارة (مدرس) من أجل دراسة هذه القصيدة. كان شرارة صديقاً للجواهري، فكلاهما ينتمي في النشأة إلى مدينة النجف، وإلى اليسار في الفكر. اقترح علي المدرس أن نذهب سوية لزيارة الشاعر في المقهى المجاور. كنت مصعوقاً. لقاء مع الشاعر الأسطورة؟ ما الذي يمكن أن نتحدث فيه؟ وما الذي سيقوله أبواي إذا ما عرفا بلقائي بهذا الشاعر الخطير؟ كانت تلك، كما أتذكر، سنوات ملاحقة ضد اليسار العراقي، وعلى اليهود، بشكل خاص، تجنب أية علاقات سياسية بسبب الحرب الملتهبة في فلسطين.
في احد الأيام، بعد المدرسة، وفرت الشجاعة الكافية لمصاحبة شرارة إلى مقهى حسن العجمي. كان الشاعر يجلس وحيداً، يحتسي شايه الغامق ويدخن. كنت في غاية التوتر والارتباك. حتى أني لا أذكر ما الذي تحدثت به، على أني أذكر أن "مسألة اليهود" قد تصدرت الحديث. حدثنا الجواهري كيف أنه دخل السجن مرة لأنه تجرأ فانتصر لفقراء اليهود. وهذا ما حدث:
في عام 1936حدث انقلاب عسكري بقيادة بكر صدقي. الجواهري، وكان حينها شاباً طموحاً لا مستقر له، أس جريدة يومية كانت مؤيدة لحكومة الانقلاب الجديد. ولكنه مع الوقت أصبح ناقداً محرضاً، مثيراً لغيظ السلطة الجديدة. في تلك الفترة أعترت اليهود البغداديين موجة غضب ضد زيادة في الضريبة على اللحم المخصص لهم في السوق. الجواهري نشر مقالة له على الصفحة الأولى، معبراً عن وقوفه مع الفقراء اليهود الذي رأوا زيادة الضريبة قاسية عليهم. ولكن السلطة، التي كانت تبحث عن ذريعة ضد الجواهري، قادته إلى القضاء بتهمة "بذر الفتنة الطائفية"، وزجت به في السجن لشهرين. في سجنه كتب قصيدة هجائية ساخرة تعرض فيها لأزمة ضريبة اللحم هذه:
يا عابثاً بسلامة العزيز، وبالأماني
ومفرّقاً زمر اليهود طوائفاً كلاً لشانِ
ما أنتَ و"الكاشير" و"الطاريف" من بقرٍ وضانِ
لقاء الجواهري أثار شهيتي الأدبية. فانغمست أكثر في قراءة الأدب العربي، خاصة الشعر، وبدأت أتعامل مع النفس باعتباري مشروع شاعر. ولقد شجعني مدرسي شرارة على ذلك. طلب مني أن أترجم بعض القصائد الإنكليزية إلى العربية، بنية نشر الترجمات في الجريدة التي ينشر بها هو. ولكني استثمرت الفرصة لكتابة قصائدي أنا، منتفعاً من البناء الشعري الكلاسيكي، ولكن بلغة أكثر بساطة، وأحياناً مضادة للغة الكلاسيكية. واحدة من هذه القصائد بعنوان "سيأتي الخريف"، نُشرت عام 1950 في الملحق الأدبي لجريدة الأخبار.
منذ ذلك الحين والأدب يستحوذ على حياتي كلها. صرت أقضي يومي موزعاً بين مقاهي شارع الرشيد، التي كانت ملتقى الكتاب والفنانين الشباب، الذي كانوا مسلمين، ويساريين في جملتهم، وأكبر مني سناً. شعرت أن عالم الثقافة يفتح ذراعيه لي. كانت بغداد في الأربعينيات تغلي ثقافة، وتسعى لأن تكون مركزاً أدبياً للعالم العربي. (كانت القيادة في هذا الحقل للقاهرة وبيروت) شعراء، كتاب قصة، رسامون، ونحاتون، جميعاً في العشرينات من العمر يعانقون بحرارة الرياح الجديدة الآتية من الغرب. يحاولون التقنيات الحديثة بلغة عربية مطواعة وذات حيوية.
بضعة يهود كانوا ناشطين داخل هذا الجيل. نعيم قطّان كان واحداً منهم. يهودي بغدادي ولد في أواخر العشرينيات ، وهو اليوم كاتب فرنسي ـ كندي معروف، يقيم في مونتريال. تخرج من مدرسة التضامن ببغداد، وكان من بين اليهود القلة التي يحسنون الإنكليزية والفرنسية. لا يني يفاجئ أصدقاءه من الكتاب المسلمين بالتطورات الأخيرة في الأدب الفرنسي، ولعل أسماء مثل ألبير كامو، بول إلوار، ولويس أراغون قد بلغت أسماعهم لول مرة عن طريقه هو. حين بدأت نشاطي الأدبي عام1949 بين مقاهي بغداد تلك، كان نعيم قطان قد غادر العراق إلى باريس، ولكن علاقته بأصدقائه من الأدباء لم تنقطع. ولقد أصدر ملحق الفيغارو الأدبي، كما أعتقد، عدداً خاصاً عن الكتاب الشباب في بغداد بفضل جهوده.
ولعل سنة 1950 تسجل بداية النهاية لأعرق جالية يهودية في العالم، ولكنها من وجهة نظري، كانت سنة يقظة أدبية. فقد نشرت عدداً من كتاباتي القصيرة في الصفحات الأدبية من جريدة النديم، وجريدة النبأ. بعض المحررين ما كان يرغب نشر اسمي اليهودي، لذا كنت أنشر بأسماء بديلة. ولكن اسمي الحقيقي ما كان ينقطع عن الظهور، الأمر الذي كان يُدهش بعض أصدقائي. (كان رئيس الجالية اليهودية آنذاك ساسون رابي ساسون خدوري، مسناً وملتحياً برداء وعمة تقليديين على الطراز اليهودي الشرقي. فمن يعرف لعل هذه الصورة هي التي كان يستحضرها بعض القراء حين يطلعون على اسمي آنذاك!) بعض الأصدقاء كان يحذرني من أن النشر قد يعرضني لبعض المخاطر. قد أُبوب في خانة الأدباء المعارضين للنظام، ِشأن الأدباء جميعاً، وقد تُفسر قصائدي التي لا شأن لها بالسياسة باعتبارها مجازات ذات معان خفية، كما حدث مع بعض قصائد الحب.
من بين الشعراء الذين التقيتهم في المقهى شعراء رواد في الحداثة، وقد أصبح ذوي شهرة فيما بعد. كان بدر شاكر السياب، القادم من البصرة في أواسط الأربعينات، أكثرهم بروزاً. بعد محاولات حب فاشلة انغمر السياب في النشاط السياسي اليساري، بالرغم من أنه كان كثير التقلب، حتى أصبح معاديا للشيوعية فيما بعد. في نهاية الخمسينيات، كتب سلسلة من المقالات يتهم فيها الشيوعيين العراقيين بأنهم وقعوا تحت تأثير الأعضاء اليهود الذين يتهمهم بأنهم صهاينة متنكرين. في مذكراته، يصف كيف أنه كان يتشهى شيوعية يهودية تُدعى مادلين، وكيف أنه ضرب معها موعداً طمعاً في النوم معها. ولكن مادلين لم تظهر، فقد أُلقي عليها القبض في يوم الموعد بتهمة الانتساب للحزب الشيوعي.
كانت موهبة السياب الشعرية واضحة وهو طالب في دار المعلمين ببغداد. مجموعته الثانية "أساطير" التي نشرت في أوائل الخمسينيات كان تحمل بذور ثورة شعرية، لا في حدود القوة اللغوية التعبيرية فقط، بل بالفتح الجديد في مجال بنية القصيدة ووزنها. لقد نجح السياب ( مع نازك الملائكة، التي كان مؤثرة في الوقت ذاته) في تجاوز طبيعي وعضوي للوزن الشعري الكلاسيكي، الذي ظل مهيمناً على الشعر العربي من 1500 سنة.
في ديوان "أساطير" حقق السياب حلاً يسيراً في تحرير الشعراء من بناء القصيدة الصارم دون أن يحطم كلياً الرابط بين الجديد والنظام الوزني القديم: تفعيلة واحدة تتكرر على امتداد البيت الشعري المتفاوت الطول الذي لا يعتمد قافية واحدة. هذا التحديث عورض بشدة من قبل المؤسسة الأدبية التقليدية ولكنه حقق استجابة متحمسة من قبل كثير من شعراء العالم العربي. في الستينيات والسبعينيات أصبح الشكل الجديد الذي صار يُسمى بالشعر الحر (بالرغم من أنه لم يكن حراً تماماً) الشكل السائد في الشعر العربي.
كان السياب قصيراً، بسيط المظهر، ولكنه يشف عن هالة مؤثرة. التقيته في نهاية 1949، بفترة قصيرة من وصوله بغداد ليتابع نشر كتابه، الذي كان يُطبع لسبب ما في مطابع النجف التقليدية. مرة، جاء إلى مقهانا، حاملاً برفات الكتاب. تناولت منه بروفة طويلة، ملاحظاً خطئين أو ثلاثة أخطاء مطبعية فاتته، فنبهته. فشكرني على انتباهتي مع ابتسامة صغيرة. وبعد أسابيع عدة أرسل لي نسخة من الكتاب مع صديق. وفيه تصحيحي الذي نبهته عليه. أي بهجة ألمت بي بسبب إسهامي المتواضع هذا في الأدب العربي.
* Baghdad Yesterday, Sasson Somekh, Ibis Edition, 2007
ينطلق عبر مكبرات صوت ضخمة ويصب في باحة مدرستنا.
إلى جوار المدرسة مقهى صغير هادئ. زينها صاحبها حسن العجمي بصُفّة من سماور النحاس اللامعة على الرف، والبسط الفارسية على الجدران. كانت هذه المقهى المفضلة عند محمد مهدي الجواهري، أحد أهم الشعراء المحدثين المعاصرين. (توفي في 1997 وقد ناهز المئة.) عادة ما كنت أعبر المقهى وأرقب هذا الشخص النحيل، وهو مستغرق في كتابة قصائده، محرك شفتيه بصمت.
كان ذلك حوالى 1948. كنت اشتريت مجموعة الجواهري الشعرية وتوقفت ماخوذا بقصيدة له بعنوان "دجلة في الخريف". كنت أحببت إيقاعها المتواتر، والطريقة التي انصرف فيها الشاعر إلى تأمل النهر العظيم الذي يخترق مدينة مولدي. ولكن لغة القصيدة لم تكن يسيرة علي. كان الجواهري فارس الكلاسيكية المُحدثة في الشعر، وكثيراً ما يستخدم تعبيرات مولّدة من الشعر العربي القديم. ولذا لجأت إلى محمد شرارة (مدرس) من أجل دراسة هذه القصيدة. كان شرارة صديقاً للجواهري، فكلاهما ينتمي في النشأة إلى مدينة النجف، وإلى اليسار في الفكر. اقترح علي المدرس أن نذهب سوية لزيارة الشاعر في المقهى المجاور. كنت مصعوقاً. لقاء مع الشاعر الأسطورة؟ ما الذي يمكن أن نتحدث فيه؟ وما الذي سيقوله أبواي إذا ما عرفا بلقائي بهذا الشاعر الخطير؟ كانت تلك، كما أتذكر، سنوات ملاحقة ضد اليسار العراقي، وعلى اليهود، بشكل خاص، تجنب أية علاقات سياسية بسبب الحرب الملتهبة في فلسطين.
في احد الأيام، بعد المدرسة، وفرت الشجاعة الكافية لمصاحبة شرارة إلى مقهى حسن العجمي. كان الشاعر يجلس وحيداً، يحتسي شايه الغامق ويدخن. كنت في غاية التوتر والارتباك. حتى أني لا أذكر ما الذي تحدثت به، على أني أذكر أن "مسألة اليهود" قد تصدرت الحديث. حدثنا الجواهري كيف أنه دخل السجن مرة لأنه تجرأ فانتصر لفقراء اليهود. وهذا ما حدث:
في عام 1936حدث انقلاب عسكري بقيادة بكر صدقي. الجواهري، وكان حينها شاباً طموحاً لا مستقر له، أس جريدة يومية كانت مؤيدة لحكومة الانقلاب الجديد. ولكنه مع الوقت أصبح ناقداً محرضاً، مثيراً لغيظ السلطة الجديدة. في تلك الفترة أعترت اليهود البغداديين موجة غضب ضد زيادة في الضريبة على اللحم المخصص لهم في السوق. الجواهري نشر مقالة له على الصفحة الأولى، معبراً عن وقوفه مع الفقراء اليهود الذي رأوا زيادة الضريبة قاسية عليهم. ولكن السلطة، التي كانت تبحث عن ذريعة ضد الجواهري، قادته إلى القضاء بتهمة "بذر الفتنة الطائفية"، وزجت به في السجن لشهرين. في سجنه كتب قصيدة هجائية ساخرة تعرض فيها لأزمة ضريبة اللحم هذه:
يا عابثاً بسلامة العزيز، وبالأماني
ومفرّقاً زمر اليهود طوائفاً كلاً لشانِ
ما أنتَ و"الكاشير" و"الطاريف" من بقرٍ وضانِ
لقاء الجواهري أثار شهيتي الأدبية. فانغمست أكثر في قراءة الأدب العربي، خاصة الشعر، وبدأت أتعامل مع النفس باعتباري مشروع شاعر. ولقد شجعني مدرسي شرارة على ذلك. طلب مني أن أترجم بعض القصائد الإنكليزية إلى العربية، بنية نشر الترجمات في الجريدة التي ينشر بها هو. ولكني استثمرت الفرصة لكتابة قصائدي أنا، منتفعاً من البناء الشعري الكلاسيكي، ولكن بلغة أكثر بساطة، وأحياناً مضادة للغة الكلاسيكية. واحدة من هذه القصائد بعنوان "سيأتي الخريف"، نُشرت عام 1950 في الملحق الأدبي لجريدة الأخبار.
منذ ذلك الحين والأدب يستحوذ على حياتي كلها. صرت أقضي يومي موزعاً بين مقاهي شارع الرشيد، التي كانت ملتقى الكتاب والفنانين الشباب، الذي كانوا مسلمين، ويساريين في جملتهم، وأكبر مني سناً. شعرت أن عالم الثقافة يفتح ذراعيه لي. كانت بغداد في الأربعينيات تغلي ثقافة، وتسعى لأن تكون مركزاً أدبياً للعالم العربي. (كانت القيادة في هذا الحقل للقاهرة وبيروت) شعراء، كتاب قصة، رسامون، ونحاتون، جميعاً في العشرينات من العمر يعانقون بحرارة الرياح الجديدة الآتية من الغرب. يحاولون التقنيات الحديثة بلغة عربية مطواعة وذات حيوية.
بضعة يهود كانوا ناشطين داخل هذا الجيل. نعيم قطّان كان واحداً منهم. يهودي بغدادي ولد في أواخر العشرينيات ، وهو اليوم كاتب فرنسي ـ كندي معروف، يقيم في مونتريال. تخرج من مدرسة التضامن ببغداد، وكان من بين اليهود القلة التي يحسنون الإنكليزية والفرنسية. لا يني يفاجئ أصدقاءه من الكتاب المسلمين بالتطورات الأخيرة في الأدب الفرنسي، ولعل أسماء مثل ألبير كامو، بول إلوار، ولويس أراغون قد بلغت أسماعهم لول مرة عن طريقه هو. حين بدأت نشاطي الأدبي عام1949 بين مقاهي بغداد تلك، كان نعيم قطان قد غادر العراق إلى باريس، ولكن علاقته بأصدقائه من الأدباء لم تنقطع. ولقد أصدر ملحق الفيغارو الأدبي، كما أعتقد، عدداً خاصاً عن الكتاب الشباب في بغداد بفضل جهوده.
ولعل سنة 1950 تسجل بداية النهاية لأعرق جالية يهودية في العالم، ولكنها من وجهة نظري، كانت سنة يقظة أدبية. فقد نشرت عدداً من كتاباتي القصيرة في الصفحات الأدبية من جريدة النديم، وجريدة النبأ. بعض المحررين ما كان يرغب نشر اسمي اليهودي، لذا كنت أنشر بأسماء بديلة. ولكن اسمي الحقيقي ما كان ينقطع عن الظهور، الأمر الذي كان يُدهش بعض أصدقائي. (كان رئيس الجالية اليهودية آنذاك ساسون رابي ساسون خدوري، مسناً وملتحياً برداء وعمة تقليديين على الطراز اليهودي الشرقي. فمن يعرف لعل هذه الصورة هي التي كان يستحضرها بعض القراء حين يطلعون على اسمي آنذاك!) بعض الأصدقاء كان يحذرني من أن النشر قد يعرضني لبعض المخاطر. قد أُبوب في خانة الأدباء المعارضين للنظام، ِشأن الأدباء جميعاً، وقد تُفسر قصائدي التي لا شأن لها بالسياسة باعتبارها مجازات ذات معان خفية، كما حدث مع بعض قصائد الحب.
من بين الشعراء الذين التقيتهم في المقهى شعراء رواد في الحداثة، وقد أصبح ذوي شهرة فيما بعد. كان بدر شاكر السياب، القادم من البصرة في أواسط الأربعينات، أكثرهم بروزاً. بعد محاولات حب فاشلة انغمر السياب في النشاط السياسي اليساري، بالرغم من أنه كان كثير التقلب، حتى أصبح معاديا للشيوعية فيما بعد. في نهاية الخمسينيات، كتب سلسلة من المقالات يتهم فيها الشيوعيين العراقيين بأنهم وقعوا تحت تأثير الأعضاء اليهود الذين يتهمهم بأنهم صهاينة متنكرين. في مذكراته، يصف كيف أنه كان يتشهى شيوعية يهودية تُدعى مادلين، وكيف أنه ضرب معها موعداً طمعاً في النوم معها. ولكن مادلين لم تظهر، فقد أُلقي عليها القبض في يوم الموعد بتهمة الانتساب للحزب الشيوعي.
كانت موهبة السياب الشعرية واضحة وهو طالب في دار المعلمين ببغداد. مجموعته الثانية "أساطير" التي نشرت في أوائل الخمسينيات كان تحمل بذور ثورة شعرية، لا في حدود القوة اللغوية التعبيرية فقط، بل بالفتح الجديد في مجال بنية القصيدة ووزنها. لقد نجح السياب ( مع نازك الملائكة، التي كان مؤثرة في الوقت ذاته) في تجاوز طبيعي وعضوي للوزن الشعري الكلاسيكي، الذي ظل مهيمناً على الشعر العربي من 1500 سنة.
في ديوان "أساطير" حقق السياب حلاً يسيراً في تحرير الشعراء من بناء القصيدة الصارم دون أن يحطم كلياً الرابط بين الجديد والنظام الوزني القديم: تفعيلة واحدة تتكرر على امتداد البيت الشعري المتفاوت الطول الذي لا يعتمد قافية واحدة. هذا التحديث عورض بشدة من قبل المؤسسة الأدبية التقليدية ولكنه حقق استجابة متحمسة من قبل كثير من شعراء العالم العربي. في الستينيات والسبعينيات أصبح الشكل الجديد الذي صار يُسمى بالشعر الحر (بالرغم من أنه لم يكن حراً تماماً) الشكل السائد في الشعر العربي.
كان السياب قصيراً، بسيط المظهر، ولكنه يشف عن هالة مؤثرة. التقيته في نهاية 1949، بفترة قصيرة من وصوله بغداد ليتابع نشر كتابه، الذي كان يُطبع لسبب ما في مطابع النجف التقليدية. مرة، جاء إلى مقهانا، حاملاً برفات الكتاب. تناولت منه بروفة طويلة، ملاحظاً خطئين أو ثلاثة أخطاء مطبعية فاتته، فنبهته. فشكرني على انتباهتي مع ابتسامة صغيرة. وبعد أسابيع عدة أرسل لي نسخة من الكتاب مع صديق. وفيه تصحيحي الذي نبهته عليه. أي بهجة ألمت بي بسبب إسهامي المتواضع هذا في الأدب العربي.
* Baghdad Yesterday, Sasson Somekh, Ibis Edition, 2007
ينطلق عبر مكبرات صوت ضخمة ويصب في باحة مدرستنا.