سامي دقاقي - الكاتب «الكيتشيّ» على الطريقة المغربية..

في مقالة بليغة بعنوان «خداع» للفيلسوف المغربي عبد السلام بن عبد العالي في حق الكاتب القدير عبد الفتاح كليطو، (مجلة الدوحة في عددها الجديد 53 ، مارس 2012، ص 76) يرصد الكاتب تمظهرات «الكيتشية»(منطلقا من تعريف ميلان كونديرا لهذا المفهوم) لدى بعض المحسوبين على الثقافة، وذلك من خلال العمل الروائي الجديد لكليطو «أنبؤوني بالرؤيا»:
يقول ميلان كونديرا: «الكيتش هو شيء آخر مختلف عن مجرد عمل فنّي رديء، هناك الموقف- الكيتش، السلوك- الكيتش، إن حاجة الإنسان- الكيتش إلى الكيتش تعني حاجته إلى أن يرى نفسه في مرآة الكذب المجمّلة، وان يتعرف في هذه المرآة على نفسه برضا مؤثر».
ويضيف أيضا: «هو موقف ذاك الذي يودّ أن يجلب الأنظار وينال إعجاب أكبر عدد من الناس وبأي ثمن..إنه ترجمة بلاهة الأفكار الجاهزة إلى لغة الجمال والوجدان».
يصف عبد الفتاح كليطو(في كتابه «أنبئوني بالرؤيا») هذه الوضعية أحسن وصف عندما يتوقف عند حفل افتتاح أحد المعارض، حيث يتجمّع «طفيليو الثقافة» الذين يتكالبون على «تدشينات المعارض الفنية، والحفلات الموسيقية،والمحاضرات والندوات، الموائد المستديرة، والأيام الدراسية، حين يدخلون يتظاهرون بالنظر إلى اللوحات، ولأنهم يعرفون أنّ الآخرين يلحظونهم، يؤدون تمثيلية المبالغة في إبداء اهتمامهم، بعد تأدية هذا الواجب يبحثون عن معارفهم، المعرض بالنسبة لهم حدث اجتماعي، مكان للقاءات، لا يعبأون إطلاقا بالرسم».
يختتم عبد السلام بن عبد العالي مقالته الجميلة بخلاصة ذات دلالة:
في عالم يحكمه الكيتش، النص وحده لا يكفي للنجاح « هناك الشخصية، الصوت، الأناقة، الهيئة» وكلّ ما يؤثث المظهر، وما يسهّل الانخداع والخداع.
يا ترى كم من «كاتب - كيتش» أو كاتب «كيتشيّ» في مغربنا الثقافي؟ وهل يمكن أن نعتبر(حسب كيليطو) دائما أنّ المعارض والحفلات الموسيقية والمحاضرات والندوات والملتقيات وغيرها من أشكال الاحتفال الثقافي حدثا اجتماعيا ومكانا للقاءات؟ أم أن هذه الأفضية والأزمنة تصبح في كثير من الأحيان مناسبة لتفريغ أمراض هذا الكاتب أو ذلك، ومجالا لتصريف انحرافاتهم العصابية والجنسية على نحو رخيص وبذيء..الجميل في كتابنا المغاربة(الذين تنطبق عليهم هذه الصفة مطابقة «الحكّ والغطا» في ثقافتنا الشعبية) أنهم يبدعون في تنزيل هذه المفاهيم التي تستقدم من مناخات مغايرة، فمثلا «الكيتشية» التي تحدث عنها ميلان كونديرا تختلف عن «الكيتشية» في نموذجها المغربي الذي هو بكل تأكيد طبعة مزيدة ومنقحة..الكاتب المغربي الكيتشي لا يقبل مجالا، أو لا يُقبل على مجال إلا إذا «نرجسه»(بفتح الجيم والسين) narcissiser و «دارو فكرشو»، يذكرني هذا بقولة جميلة لأدونيس: «بعض الناس مثل الذئاب لا يقبلون أحدا إلاّ إذا التهموه».. فترى هذا الكاتب (المفجع وليس المبدع) يتحين الفرص والبياضات ليسحبك إلى عالم «الأنا المريضة» التي تسوقه بشكل غروتيسكي، ويغدو كثير الكلام عمّا يزعم أنها عوالمه، يدور ويجول ويطير، ويصارع كائنات وهمية، وأعداء محتملين ويتخيل معارك طاحنة(الدونكيخوطية) وقودها لغة مهترئة وأسلوب جليديّ، ثم يعود إلى القاعدة(الأنا) مثل (غريندايزر)..لا يفتأ يورد استشهادات من كتبه وأعماله، واستشهادات ل»حلاّقين» و»مزيّنين» عنه وعن «أعماله الكاملة» بنقصها، أحيانا يسألك مراوغة عن جديدك أو كتاباتك، أو حتى رأيك في قضية أو نص، وما يفعل ذلك إلاّ تمويها عمّا يصدّره من رغبة في محاولة فاشلة لإقناعك بأنه مهتّم بك وبما تفعله أو تكتبه، بينما هو في الواقع يخطط لجعلك «مرآة» له، أو رجعا لثقافته المهزوزة والضحلة..
أعتقد أن الكاتب الكيتشي أشبه بمريض نفسي يعيش حالة «نكوص» إلى سلوكات طفولية مغرقة في التهويمات والخيالات المريضة، أو بالأحرى يعيش في مرحلة «التثبت» fixation السيكولوجي بلغة التحليل النفسي داخل مرحلة طفلية لا يرغب في الخروج منها، بحيث تؤطر كل سلوكاته وأفعاله وكتاباته وأقواله، وحتى نظراته الفاضحة(التحنزيز) أو المسروقة(نص عين)..الفرق بين هذا «الكاتب الكيتشي» و»الطفل» يكمن أولا في «المرحلة الشرجية» بلغة «فرويد»، وهي المرحلة التي لم يخرج منها هذا الكاتب، ولم يدرك أنه لا يزال «مثبتا» فيها، مستلذا لمنتوجاتها.. ويكمن الفرق ثانيا في البراءة التي فقدها الأول منذ زمن بعيد ويحاول استردادها ب»كتابة» واهمة، إن اقتربت منها ب»نقد مبضعيّ» تكشفت لك عن شخصية هيستيرية مستعدة للجريمة.. فهل يعلم كاتبنا العميق عبد السلام بن عبد العالي أنّ من وصفهم ب «طفيليي الثقافة» (في معرض استحضاره لكلام كيليطو) قد تطوروا في سلّم «الكيتشية» وأصبحوا «مجرمي الثقافة»، بل من أخطر المجرمين على الإطلاق...؟


* نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 04 - 2012


  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى