المسرح:
"يمثل المسرح مكتبا طوليا عليه ثلاثة ادراج بمقاعدها ، هناك نافذة صغيرة على اليمين ومكيف ماء ، وفي الجدار المواجه للجمهور لافتة مكتوب عليها (اتحاد معاشيي الخدمة المدنية-إ م خ م) ، الجدار قديم وبه شقوق ودهانه مقشور في بضعة مناطق كما أن الادراج والمقاعد حديدية قديمة مدهونة بلون أزرق غامق. يجلس رجلان عجوزان وراء درجيهما ، أحدهما ذو صلعة وشعر قليل على جانبي الرأس ، وهو يلعب بطقم أسنانه حيث يغمسه في كوب ماء بشكل مستمر ، الآخر لا يختلف عنه كثيرا فهو اصلع أيضا ويرتدي نظارة سميكة العدسة وبإطار أسود من طراز قديم يضع جريدة امامه وينحني مقتربا منها بشدة ليتمكن من القراءة ".
الرجل الأول: بت أخلع كل شيء قبل أن اخلد للنوم ..ملابسي.. وطقم أسناني ونظارتي .. وسماعات الأذن....
الرجل الثاني: المدن؟ .. عن أي مدن تتحدث.. نحن نعيش في قرية نسميها مدينة لأننا لا نملك سواها ...حاول قراءة صحف اليوم والصحف قبل عشرين عاما.. ستجدها تكرر نفسها .. ومع ذلك فالمراهقون يسمون أنفسهم أبناء الحداثة.. أي حداثة هذي يا قوم..
الرجل الاول: النوم ؟ فعلا أنا مثلك .. أعاني من قلة النوم وقلة الأكل.. لماذا يحدث هذا لنا.. لماذا نتقوس لنتقوض...هذا محزن..
الرجل الثاني: لا أعرف محسن .. ربما تقصد ذلك الشاب الذي يرتدي ازياء النساء ويعتبر نفسه مطربا... لقد انحطت ذائقة هذا الشعب...لا أعرف لماذا هم مبتهجون هكذا؟ ألا يبدو لك ذلك الابتهاج غير طبيعي .. ألا تعتقد أن هذا من اثر تعاطي المخدرات..
الرجل الأول: لا يا زميلي.. النباتات تأكلها الابقار والخراف... كنت ألتهم اللحوم ومع ذلك لم أصب بأي مرض .. هل تعرف لماذا؟ لأنني كنت أمشي طويلا... أمشي مسافات لو مشاها هؤلاء المخنثون اليوم لتلاشو كالفكرة غير المنطقية... لا تنظر لي اليوم وأنا أدلف الى أعتاب الثمانين .. وكل عضو في جسدي صناعي كالروبوت..لا .. انظر لي قبل عشرين سنة فقط أو ثلاثين.. دعني أكون صريحا.. أو قبل خمسين سنة أي وانا في الثلاثين من عمري.. الثلاثون هي سنوات النقطة الحرجة.. حيث أنت في القمة وأنت أيضا على أعتاب السقوط...
الرجل الثاني: (يدور بمقعده مواجها الآخر بغضب) قوم لوط...كن حذرا في الفاظك.. لن أقبل اي اساءة وأنا في هذه السن أيها العجوز الخرف..
الرجل الأول: قرف.. هل تقول بأنك تشعر بالقرف .. تشعر بالقرف من حديثي بالتأكيد..لأنك كنت في ذلك الوقت منزويا في مكتب الإرشيف مع ذبابة يتيمة أوقعها حظها النحس في شرك مشاركتك مكانا واحدا .. بل أنا من أشعر بالقرف منك كلما نظرت إلى عينيك الباهتتين كعيني سمكة نافقة في شاطئ العدم..
الرجل الثاني: (يرفع صوته ويديه بغضب) بل أنت الوهم بعينه أيها العجوز من مجرة منقرضة...
الرجل الأول:(ينهض بظهر منحن وضعف وملامحه غاضبة ، فينهض الثاني بذات الوضع ويلصقا جبهتي رأسيهما بغضب استعدادا للشجار) تصر على قلة الأدب .. وسأعرف كيف أؤدبك لأن والديك لم يؤدباك في صغرك أيها المتنمر..
الرجل الثاني: (بهلع).. ماذا؟ .. ماذا تقول يا كلب .. أنا متخمر... وانت متعفن.. إن رائحة إبطيك بل وحتى سيقانك التي ترتجف كالعصيدة تفوح برائحة فطريات عفنة...حقير..
الرجل الأول: (يضحك ساخر) مدير؟ الآن بت تهددني بإخبار المدير... أين صوتك العالي وعضلاتك التي كنت تزعم أنك ستستخدمها لضربي...يا جبان..
(تدخل سيدة أربعينية مكتنزة الجسم قليلا وترتدي تنورة تبرز مؤخرة ضخمة .. ينظران نحوها ويرتبكان)
الرجل الأول: مرحبا مرحبا سيدتي .. لا تؤاخذينا فلقد كنا مختلفين حول مسائل إدارية...تعرفين أن المسؤوليات الضخمة الملقاة على عاتقنا تحتم علينا الحذر حد الغضب..
(تبتسم الأربعينية وتمد يدها لتصافح الرجل الأول)
السيدة: أشكرك يا عم...ااااا.. ما اسمك لو سمحت..
الرجل الأول: جمحت؟ لا لا صدقيني .. بل هو من جمح (أشار بسبابته للرجل الثاني) هو دائما جامح وغضوب.. (يربت على كتف الرجل الثاني ويبتسم ابتسامة مزيفة) هو طيب رغم كل شيء... (يرى الثاني ابتسامة الرجل الأول فيبتسم ابتسامة مزيفة مرتبكة ويشير للسيدة بالجلوس).
(تبحث السيدة عن كرسي فينهض الرجل الثاني بضعف وظهر مقوس محاولا أخذ كرسي الدرج الثالث الخالي)
السيدة: (تمد المرأة يدها لمنعه) لا تتعب نفسك عماه ..أنا سآتي به ..
الرجل الثاني: (بغضب) لماذا تمدين يدك لمنعي ألا ترينني ذاهب لآتيك بالكرسي..هل تعتقدين أنني عجوز إلى هذه الدرجة.. كل مافي الأمر أنني أصبت البارحة برطوبة مفاجئة نتيجة برودة الشتاء..
الرجل الأول: نساء؟ اللعنة .. بدأنا الكذب.. إن آخر أنثى امسكت مؤخرتها كانت كلبة الجيران..
الرجل الثاني: (يلتفت اليه بغضب باك) حيران؟ هل أبدو لك حيرانا .. أم هذه محاولة منك لاغتيالي معنويا أمام السيدة اللطيفة كما تفعل دائما .. لماذا تحاول سرقة كل شيء جميل مني.. لماذا لا تترك لي ولو لحظة واحدة سعيدة..
الرجل الأول: (بهلع)دماغي عنيدة؟ عدت مرة أخرى لقلة الأدب...
(تتدخل السيدة وتحاول مد يدها للحيلولة دون صدامهما)
السيدة: أرجوكما لا تتشاجرا .. أرجوكما ... (تشير بأصابع يدها اليمنى لصدرها) من أجلي انا .. أرجوكما .. احترما وجودي معكما...
(يحملقان فيها بفزع وخزي)
الرجل الأول: أنا آسف سيدتي..
الرجل الثاني: لا تؤاخذيني سيدتي كم نحن بلهاء... تفضلي تفضلي.. اجلسي خلف الدرج الثالث.
(تدور السيدة وتجلس خلف الدرج الثالث).
(يضع الرجلان سبابتيهما فوق شفتيهما)
الرجلان: هووووسسسس...
(يجلسان بصمت وهما يحدقان في المرأة التي تضع حقيبتها اليدوية الصغيرة على الدرج وتخرج منها كراسا وقلما)
السيدة: (تحدث نفسها) لم أكن أتوقع أن تكون المهمة صعبة هكذا.. يجب أن يكون التقرير الصحفي عن إتحاد المعاشيين جاهزا خلال يوم واحد فقط... قيل بأنها تجربة عبقرية من الحكومة حين انشأت هذا الاتحاد.. لكنني لا أر سوى عجوزين أصمين. ماذا سأكتب إذن..؟ يا إلهي .. إن خيالي ليس واسعا لكي أؤلف حوارا وهميا زائفا... (تنظر للرجلين بعينين خائبتين) يبدو أنني سأذهب ..
(تتبادل النظرات مع الرجلين بصمت)...حسنا سأذهب..
الرجل الأول: مقلب؟ لا لا يا سيدتي لسنا مهرجين لهذه الدرجة..(يلتفت للرجل الثاني)..هل رأيت كيف حولنا غباؤك لمهرجين.
الرجل الثاني: أنت من يتعاطى الهيروين وليس أنا.. (يوجه حديثه للسيدة) هذا العجوز يحاول اغتيالي معنويا أمامك.. لا تصدقيه.. لقد كنا ثلاثة في هذا المكتب الجميل.. للأسف قبل أسبوعين توفى زميلنا الثالث .. ولذلك زاد علينا ضغط العمل .. بات علينا ان نقوم بعمله.. ومع ذلك فهذا الأخرق لا يقاسمني الجهد المبذول بل يقضي يومه في اللعب بطقم أسنانه... تصوري أن فكيه يخلوان من سن واحدة.. هذا لأنه لم يكن نظيف الفم دائما.. لكن انظري (يفتح فمه ويقربه من وجهها فتبتعد بقرف) لدي ضرسان وثلاثة أسنان .. إثنان بالأعلى وواحد بالأسفل فأينا العجوز هنا...هذا دليل مادي مباشر وواضح ...
الرجل الأول: الفاضح هو فتح فمك العفن هذا في وجه السيدة الجميلة أيها المومياء المتفحمة...(يوجه حديثه للسيدة).. سيدتي .. لست مهرجا مثله.. أنا لا أعرف لماذا أصبح هذا الكائن غبيا لهذه الدرجة.. لقد كان وكيل وزارة من قبل .. لكنه انتكس .. أنظري إلى ملابسه إنها قديمة ومهلهلة .. أنظري لحذائه كيف هو متسخ ومرقع ولا يكلف نفسه انفاق بضعة جنيهات لتلميعه لأنه بخيل...
الرجل الثاني: أنت العميل.. من انت؟ لقد كنت تعمل مجرد سكرتير لمكتب الوزير وظللت عمرك كله تقوم بالأدوار القذرة .. تختلس أموال الدولة.. سوف لن اتكتم عليك بعد اليوم أبدا...أنت لص (يشير بأصبعه إلى الرجل الأول فيبدو الجزع بعيني الرجل الأول)..لص يأكل اموال الشعب الغلبان..
الرجل الأول: ليس زمان .. لا تكذب.. في الواقع حتى عندما كنت تعمل كسكرتير كنت ترتدي ملابس مهلهلة لأنك تبخل حتى على نفسك بانفاق القليل من المال لشراء ملابس جديدة..ظللت تشتري في الأراضي بثمن بخس عبر معارفك في الوزارات المختلفة.. ورغم أنني فقير لا زلت حتى اليوم أسكن بالايجار...
الرجل الثاني: أنا لا أشرب الكحول ولا ادخن السجار... ولست مثلك عندما كنت تجلس مع الوزراء والقضاة في منادمات الخمر لتتدهنس لهم كي تحصل على ترقية وفشلت في ذلك...كنت اكبر فاسد ولا زلت فاسدا حتى اليوم وبلا أخلاق ولا ضمير...
الرجل الأول: الحمير.... حسنا.. فليكن...أعرف انك ظللت شخصا ماديا تعتقد أن من لا يفسدون هم الحمير.. دعني أقول لك..انا أتفق معك... من لا يغتني من أموال الحكومة السائبة بل يخلص في عمله هو حمار بلا منازع...صحيح اكتشفت هذه الحكمة بعد أن أحالوني للمعاش لكنني نصحت بها كل من أعرفهم ..ولو كان لدي أبناء لما ترددت في تعليمهم كيف يأخذون حقوقهم من مال الحكومة الذي سيتم نهبه من التماسيح الكبار لا محالة..
الرجل الثاني: سفالة؟ تقول سفالة؟ لقد انتهى الكلام بيننا يا سيد.. لا أرغب في ضربك ضربا مبرحا حتى تتعلم الأدب..
(تنهض السيدة وتهم بالمغادرة فينزعج الرجلان)
الرجل الأول: كم نحن حمقى لقد ازعجناك يا سيدتي بالتأكيد..
السيدة: على العكس كان ذلك مسليا إلى حد ما..
الرجل الثاني: العمى يصيب من لا يقدس هذا الجمال يا سيدتي (يبتسم ببله فتبتسم السيدة بتكلف).. لكنني لم أعرف حتى الآن سبب زيارتك...
(تخرج السيدة كراسها وتكتب بخط عريض: أنا صحفية)
(يقرأ الرجلان الورقة والرجل الثاني يقرب وجهه من الورقة ليتمكن من القراءة)
(يتراجع الرجلان إلى مقعديهما ويصمتان وهما يحدقان في السقف)...
(يلتفتان لبعضهما ويقولان بصوت واحد)
- صحفية!!!
(يتمعنا بعضهما ثم ينفجران ضحكا)...
السيدة: (بحنق) هل هناك مشكلة..
(ينظران نحوها فتكتب)
"هل هناك مشكلة؟"
(يعيدان الإلتفات نحو بعضهما ثم ينفجران ضحكا)..
السيدة- (تكتب بسرعة وملامحها غاضبة وهي تنطق ما تكتب) هذه معاملة غير محترمة لسيدة.
(يصمت الرجلان ويبدآ في القراءة ، يقرب الرجل الثاني وجهه من الورقة.. ثم يتراجعا إلى مقعديهما صامتين..يبقيا كذلك لبرهة ثم ينظرا لبعضهما البعض .. وينفجرا ضاحكين.. تنهض السيدة وتغادر..فيواصلا الضحك قليلا ثم يصمتان).
الرجل الأول- لا شيء يبدو يقينيا أبدا...ولو تحذلقنا كالفلاسفة فلا يوجد شيء اسمه شيء أساسا...
الرجل الثاني: (يتأوه) هل تذكر زميلنا الثالث...كان فاسدا وجمع ثروة ضخمة.. تزوجته آخر صحفية زارتنا هنا.. وبعدها لم يعد مرة أخرى..صحفية شابة جميلة كهذه.
(تمد السيدة رأسها وتكتب وهي تنطق ما تكتب)
السيدة- ترك العمل؟
الرجل الأول-(يقرأ ما كتبته السيدة).. لا.. لقد مات بعد ثلاثة أيام من الزواج. وجدوه عاريا وقد أصابته ذبحة. (يلتفت للرجل الثاني ويخاطبه مشيرا إلى ملابسه) لقد وجدوه عاريا...
الرجل الثاني- (يلتفت للرجل الأول ويشير الى شفته) كان يحاول ويكفيه شرف المحاولة...
(يتبادى الرجلان التحديق ثم ينفجران ضحكا)
السيدة- (تمزق ورق الكراسة القديمة وتأتي بجديدة) انتما تستطيعان قراءة الشفاه؟ كنتما تخدعانني إذن؟
الرجل الأول: لا أعرف لماذا تتجلى لي صورته عاريا وهو ميت.. كان يبحث عن بطولته الأخيرة... كان يبحث عن معنى أخير لحياته بدلا عن المال...
الرجل الثاني: بل لديه عيال.. كان متزوجا من إحدى قريباته على ما أتذكر...وقد أنجب منها طفلا وطفلة... يقال أنهما كانا اشبه بمديره في الوزارة..لكنه قبل بذلك عن طيب خاطر... تبدو مؤسسة الزواج كذبة أكثر من كونها حقيقة.. ألا تعتقد ذلك يا عزيزي...إكراه على احتكار الجنس عبر ورقة يكتبها محام أو قاض أو مكلف من الحكومة...ما معنى ذلك؟ مالذي تصنعه مؤسسة الزواج..إنها تربي الأكاذيب...يحاول كل طرف خيانة ميثاق أجبر عليه...أعتقد أن الميثاق العاطفي هو الأكثر مصداقية..
الرجل الأول: ليست انسانية كما تعتقد .. لقد تزوجته لسرقة ثروته.. لم يكن فيه شيء جاذب.. كانت رائحته كرائحة الملتوف..ساقاه تصطكان ببعضهما من شدة الهزال.. لسانه يتدلى حين يحاول ادخال ملعقة الزبادي في فمه.. ألا يبدو لك ذلك مقرفا حين تقبل به سيدة جميلة.. هذا لم يكن عاديا ولقد مات عاريا وهو يكافح لحفظ ماء وجهه.. مات مكتنفا بالخزي والهزيمة بدلا عن البطولة...وهذا نتاج ضعف في قدراته العقلية... يا له من بؤس.
الرجل الثاني- لم أفهم ما تقصده .. ان كنت تقصد انها مؤسسة تجلب النحس فأنا أتفق ولا اتفق معك... كل ما يمكنني فهمه أنها مؤسسة تزرع البؤس في الانسان...والانسان يسعى لزراعة البؤس في حياته عبر تواجده مع كائن آخر لا يعرف عنه الكثير .. يقضيان سنوات عمرهما وهما يعانيان إما من تبادل سوء الفهم أو تبادل تجاهل أحدهما لمطالبه النفسية الخاصة بهدف الحفاظ على علاقة مصطنعة لا معنى لها. صحيح تنشأ رابطة معنوية ما..لكنها رابطة يخلقها شعور الذات باقتراب الفناء.. شعور بالوحشة.. اعتقد أن زميلنا الرجل الثالث كان يحاول هزيمة الحقيقة التي كانت تزداد تجليا أمام بصره الأعمش كلما استيقظ في الصباح...كان يرفض أن يتشتت ...
الرجل الأول- لم أتعنت .. لماذا تعتقد ذلك؟... نعم مات عاريا والعري ليس عيبا.. العري انتاج ما يسمى زورا بالتحضر...الانسان الأول هو من غطى اجهزته التناسلية ليس لأنها عيب ولكن لأنها كانت مقدسة في نظره...لأنها كانت تعطيه يدا عاملة..تزرع وترعى وتبني وتقاتل...لذلك غطى الآلهة خوفا من إيقاع السحر عليها من قبل الأعداء.. كان اللباس أول تميمة لحفظ الآلهة...ألا تعتقد صحة ما أقول؟ لماذا لم يتم تغطية الأنف او الأصابع لماذا اختار تلك المنطقة التي لا تحمل اي عنصر جمالي حقيقي..في الواقع إنها أقبح ما في جسد الانسان...لكنه رأى آلهته جميلة.. ألا تعتقد أن ذلك إيمانا بالذات بدلا عن الإيمان بما هو خارج عن الذات؟ ألا تعتقد ان ذلك كان أكثر تحضرا من اليوم؟
(تدخل السيدة وتقف أمام الرجلين فينظرا نحوها ويبتسمان..تخرج كراستها وتكتب وتردد ما تكتب)..
السيدة: ما رأيكما في فكرة انشاء اتحاد معاشيي الخدمة المدنية؟
الرجل الأول: من أي ناحية؟
السيدة: (تكتب وتقرأ)كفكرة.
الرجل الأول: (يرتدي طقم أسنانه ثم يخلعه وينظر للرجل الثاني) ما رأيك؟
الرجل الثاني: (يبسط يده فوق درج مكتبه ويتأمل الفراغ)..حقيقة لم أفكر يوما بهذا الشكل. لم أطرح هذا السؤال على نفسي...ماذا يمكنه أن يمثل اتحاد لمن أعلن العالم أنهم لم يعودوا صالحين للحياة في نظرك يا سيدتي؟ تخيلي أنني كنت أجري عمليات حسابية لمدة أيام والآن يستطيع طفل إجراء نفس العمليات بحاسب آلى خلال ثوان... هل تعلمين ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أننا لم نعد فقط غير صالحين للحياة بل نحن مسبقا خارج الحياة. إننا حتى لم نعد نضحك للنكات لأننا مررنا بآلاف المواقف الأكثر سخرية وكانت حقيقية في نفس الوقت. ربما يكون هذا الاتحاد هو مقبرتنا الأخيرة .. (يلتفت للرجل الأول) أليس كذلك؟
الرجل الأول: الجيد في هذا الاتحاد أنه غير قابل للقفل...غير قابل للانتهاء ما دام هناك بشر.. والجيد أن الموظفين جميعهم سيضعون هذا الاتحاد في الاعتبار لأنه مستقبلهم الحتمي...صحيح .. في البداية يحجمون عن الاعتراف به لأنه يمثل اعترافا بالخروج من دائرة الحياة لكن كل يوم تترسخ تلك الحتمية لديهم ..
الرجل الثاني: (يضحك) الشباب يزوروننا... لقد باتوا يزوروننا.. (ينظر للرجل الأول ويمط شفتيه وهو يحيطهما بأصابع يديه) الشباب يزوروننا .. يزوروننا.. (يرفع صوته)..
الرجل الأول: لا داعي لأن ترفع صوتك..إنني أسمعك ولكنك تبدو أخرسا بشكل مثير للملل...
الرجل الثاني:(يكرر الأمر) الشباب يزوروننا ... اقرأ شفتي.. (يمد أصابعه ويلوي شفاه الرجل الأول الذي يبعد رأسه منتفضا).
الرجل الأول: لا تلمسني بيدك المتعفنة هذه..كدت أن اتقيأ منهما.. أنك تدخل أصابعك في أنفك وتفرك بها منخريك لتخرج قشور المخاط الجاف .. لا تقرب أصابعك من فمي...هل فهمت..
الرجل الثاني: لم أندم لأنني عملت هنا .. من قال انني ندمت؟ أنت تتوهم كالعادة...تحاول إغتيالي أدبيا أمام السيدة... كنت موظفا من الدرجة الأولى أو ربما الثالثة..لا أتذكر حقا هل تمت ترقيتي أم لا؟ لكنني كنت موظفا كفئا... الشباب يزوروننا...لكن ليس بحسن نية.. هم يحسبون أننا بلهاء..يأتون بمشاريع وهمية ويطلبون منا مخاطبة الحكومة لدعم مشاريعهم .. نحن لسنا بنكا ولا جهة خيرية...إنهم يعكسون تردي وضع الدولة بشكل حاسم..أليس كذلك..
السيدة: (يبدو عليها القلق ..تكتب وتقرأ) لم أفهم؟ ماذا تقصد أنهم يرغبون في تمويل مشروعاتهم؟ هل هم شباب وليسوا معاشيين..لماذا يأتون إليكم.
الرجل الأول: (يقرأ كتابة السيدة وعيناه تتسعان بجزع ثم يمد يده مطبقا على فم الرجل الثاني) ماذا قلت يا أحمق..هذه اسرار .. ستوقع بنا بلسانك الخفيف هذا.. عليك اللعنة..
الرجل الثاني: (يحاول التملص من يد الرجل الأول وينجح أخيرا في ذلك) لو كررت هذا الفعل الشنيع فسوق أضربك علقة ساخنة.. هل تفهم..أنا أحذرك...
الرجل الأول:(يأخذ الكراس من السيدة ويكتب وهو يقرأ) لا تتحدث عن أسرار العمل عليك اللعنة.. ستوقعنا في ورطة...هذه صحفية ..تذكر هذا الأمر..
الرجل الثاني: (يتراجع مستندا على مقعده بخوف) اللعنة .. لقد نسيت ذلك تماما... لقد انجرفت كعادتي وراء الحديث غير الموزون.
السيدة: (تبدو عليها علامات الاهتمام وتأخذ الكراسة من الرجل الأول وتكتب) هل هناك فساد في هذه المؤسسة؟
الرجل الأول: (يتحدث بجزع) لا يوجد فساد يا سيدتي..لماذا نفسد...لم يعد لدينا ما نصبوا إليه في هذه الحياة سوى أن نمضيها بسلام. (ينظر للرجل الثاني بعينين واسعتين ثم يغمز له بجدية)..
الرجل الثاني: (يحاول التماسك) القضية ليست فسادا يا سيدتي..
السيدة: (تكتب وتقرأ) ما قصة تمويل المشاريع هذي؟
(ينظر الرجلان نحو الفراغ بأعين ناعسة ويصمتان)
السيدة: (تزداد انفعالا وهي تكتب).. عليكما أن تتحدثا .. هل أنتما خائفان؟ هل هناك من يهددكما؟.
(يظل الرجلان في موضعهما)..
السيدة: إن لم تخبرانني فسأطالب بلجنة مراجعة وتحقيق.
(يظل الرجلان في وضعهما)..
السيدة: أنتما لا تفهمان أنني صحفية... هل تعلمان ماذا أعني بصحفية؟ أنا لا ألعب.
(يصدر شخير من الرجل الثاني فتنظر له السيدة باستغراب ، ثم يتلوه شخير الرجل الأول فتنظر إليه أيضا باستغراب .. يسقط رأسيهما على صدريهما وهما نائمين).
السيدة: تتظاهران بالنوم...حسنا سأكتب تقريرا بالفساد الذي ينخر اتحاد المعاشيين هذا... صدقاني..
(تخرج غاضبة)...
(يفتح الرجل الثاني عينا واحدة ، ثم يتبعها بالعين الثانية ، بفعل الرجل الأول ذات الأمر.. يظلا صامتين قليلا ثم ينظرا لبعضيهما.. ينفجران بالضحك ، يمد الرجل الثاني كفه فيصفقها الرجل الأول بكفه أيضا علامة على النصر).
الرجل الأول: سنكون محط الأنظار لأسبوعين أو ثلاثة..
الرجل الثاني: صحيح...كيف واتتك الفكرة الأخيرة بهذه السرعة؟
الرجل الأول: كان كل شيء يصب في هذه النهاية...
الرجل الثاني: كان هذا يوم عمل شيق...
الرجل الأول: نعم هو كذلك.. يبدو لي أن العالم الخارجي لازال مستمرا في أوهامه... لا زال مؤمنا بالصراع على نحو ما....
الرجل الثاني: يبحثون عن الدهشة...
الرجل الأول: الحمقى وحدهم من يندهشون في هذا العالم..
الرجل الثاني: صدقت..الحمقى ومنعدمي التجارب من الأطفال...
(يعود الرجل الأول لغمس طقم اسنانه في كوب الماء ويعود الرجل الثاني للقراءة من الصحيفة وهو يقرب وجهه من ورقها بعينين ضيقتين).
(ستار)
"يمثل المسرح مكتبا طوليا عليه ثلاثة ادراج بمقاعدها ، هناك نافذة صغيرة على اليمين ومكيف ماء ، وفي الجدار المواجه للجمهور لافتة مكتوب عليها (اتحاد معاشيي الخدمة المدنية-إ م خ م) ، الجدار قديم وبه شقوق ودهانه مقشور في بضعة مناطق كما أن الادراج والمقاعد حديدية قديمة مدهونة بلون أزرق غامق. يجلس رجلان عجوزان وراء درجيهما ، أحدهما ذو صلعة وشعر قليل على جانبي الرأس ، وهو يلعب بطقم أسنانه حيث يغمسه في كوب ماء بشكل مستمر ، الآخر لا يختلف عنه كثيرا فهو اصلع أيضا ويرتدي نظارة سميكة العدسة وبإطار أسود من طراز قديم يضع جريدة امامه وينحني مقتربا منها بشدة ليتمكن من القراءة ".
الرجل الأول: بت أخلع كل شيء قبل أن اخلد للنوم ..ملابسي.. وطقم أسناني ونظارتي .. وسماعات الأذن....
الرجل الثاني: المدن؟ .. عن أي مدن تتحدث.. نحن نعيش في قرية نسميها مدينة لأننا لا نملك سواها ...حاول قراءة صحف اليوم والصحف قبل عشرين عاما.. ستجدها تكرر نفسها .. ومع ذلك فالمراهقون يسمون أنفسهم أبناء الحداثة.. أي حداثة هذي يا قوم..
الرجل الاول: النوم ؟ فعلا أنا مثلك .. أعاني من قلة النوم وقلة الأكل.. لماذا يحدث هذا لنا.. لماذا نتقوس لنتقوض...هذا محزن..
الرجل الثاني: لا أعرف محسن .. ربما تقصد ذلك الشاب الذي يرتدي ازياء النساء ويعتبر نفسه مطربا... لقد انحطت ذائقة هذا الشعب...لا أعرف لماذا هم مبتهجون هكذا؟ ألا يبدو لك ذلك الابتهاج غير طبيعي .. ألا تعتقد أن هذا من اثر تعاطي المخدرات..
الرجل الأول: لا يا زميلي.. النباتات تأكلها الابقار والخراف... كنت ألتهم اللحوم ومع ذلك لم أصب بأي مرض .. هل تعرف لماذا؟ لأنني كنت أمشي طويلا... أمشي مسافات لو مشاها هؤلاء المخنثون اليوم لتلاشو كالفكرة غير المنطقية... لا تنظر لي اليوم وأنا أدلف الى أعتاب الثمانين .. وكل عضو في جسدي صناعي كالروبوت..لا .. انظر لي قبل عشرين سنة فقط أو ثلاثين.. دعني أكون صريحا.. أو قبل خمسين سنة أي وانا في الثلاثين من عمري.. الثلاثون هي سنوات النقطة الحرجة.. حيث أنت في القمة وأنت أيضا على أعتاب السقوط...
الرجل الثاني: (يدور بمقعده مواجها الآخر بغضب) قوم لوط...كن حذرا في الفاظك.. لن أقبل اي اساءة وأنا في هذه السن أيها العجوز الخرف..
الرجل الأول: قرف.. هل تقول بأنك تشعر بالقرف .. تشعر بالقرف من حديثي بالتأكيد..لأنك كنت في ذلك الوقت منزويا في مكتب الإرشيف مع ذبابة يتيمة أوقعها حظها النحس في شرك مشاركتك مكانا واحدا .. بل أنا من أشعر بالقرف منك كلما نظرت إلى عينيك الباهتتين كعيني سمكة نافقة في شاطئ العدم..
الرجل الثاني: (يرفع صوته ويديه بغضب) بل أنت الوهم بعينه أيها العجوز من مجرة منقرضة...
الرجل الأول:(ينهض بظهر منحن وضعف وملامحه غاضبة ، فينهض الثاني بذات الوضع ويلصقا جبهتي رأسيهما بغضب استعدادا للشجار) تصر على قلة الأدب .. وسأعرف كيف أؤدبك لأن والديك لم يؤدباك في صغرك أيها المتنمر..
الرجل الثاني: (بهلع).. ماذا؟ .. ماذا تقول يا كلب .. أنا متخمر... وانت متعفن.. إن رائحة إبطيك بل وحتى سيقانك التي ترتجف كالعصيدة تفوح برائحة فطريات عفنة...حقير..
الرجل الأول: (يضحك ساخر) مدير؟ الآن بت تهددني بإخبار المدير... أين صوتك العالي وعضلاتك التي كنت تزعم أنك ستستخدمها لضربي...يا جبان..
(تدخل سيدة أربعينية مكتنزة الجسم قليلا وترتدي تنورة تبرز مؤخرة ضخمة .. ينظران نحوها ويرتبكان)
الرجل الأول: مرحبا مرحبا سيدتي .. لا تؤاخذينا فلقد كنا مختلفين حول مسائل إدارية...تعرفين أن المسؤوليات الضخمة الملقاة على عاتقنا تحتم علينا الحذر حد الغضب..
(تبتسم الأربعينية وتمد يدها لتصافح الرجل الأول)
السيدة: أشكرك يا عم...ااااا.. ما اسمك لو سمحت..
الرجل الأول: جمحت؟ لا لا صدقيني .. بل هو من جمح (أشار بسبابته للرجل الثاني) هو دائما جامح وغضوب.. (يربت على كتف الرجل الثاني ويبتسم ابتسامة مزيفة) هو طيب رغم كل شيء... (يرى الثاني ابتسامة الرجل الأول فيبتسم ابتسامة مزيفة مرتبكة ويشير للسيدة بالجلوس).
(تبحث السيدة عن كرسي فينهض الرجل الثاني بضعف وظهر مقوس محاولا أخذ كرسي الدرج الثالث الخالي)
السيدة: (تمد المرأة يدها لمنعه) لا تتعب نفسك عماه ..أنا سآتي به ..
الرجل الثاني: (بغضب) لماذا تمدين يدك لمنعي ألا ترينني ذاهب لآتيك بالكرسي..هل تعتقدين أنني عجوز إلى هذه الدرجة.. كل مافي الأمر أنني أصبت البارحة برطوبة مفاجئة نتيجة برودة الشتاء..
الرجل الأول: نساء؟ اللعنة .. بدأنا الكذب.. إن آخر أنثى امسكت مؤخرتها كانت كلبة الجيران..
الرجل الثاني: (يلتفت اليه بغضب باك) حيران؟ هل أبدو لك حيرانا .. أم هذه محاولة منك لاغتيالي معنويا أمام السيدة اللطيفة كما تفعل دائما .. لماذا تحاول سرقة كل شيء جميل مني.. لماذا لا تترك لي ولو لحظة واحدة سعيدة..
الرجل الأول: (بهلع)دماغي عنيدة؟ عدت مرة أخرى لقلة الأدب...
(تتدخل السيدة وتحاول مد يدها للحيلولة دون صدامهما)
السيدة: أرجوكما لا تتشاجرا .. أرجوكما ... (تشير بأصابع يدها اليمنى لصدرها) من أجلي انا .. أرجوكما .. احترما وجودي معكما...
(يحملقان فيها بفزع وخزي)
الرجل الأول: أنا آسف سيدتي..
الرجل الثاني: لا تؤاخذيني سيدتي كم نحن بلهاء... تفضلي تفضلي.. اجلسي خلف الدرج الثالث.
(تدور السيدة وتجلس خلف الدرج الثالث).
(يضع الرجلان سبابتيهما فوق شفتيهما)
الرجلان: هووووسسسس...
(يجلسان بصمت وهما يحدقان في المرأة التي تضع حقيبتها اليدوية الصغيرة على الدرج وتخرج منها كراسا وقلما)
السيدة: (تحدث نفسها) لم أكن أتوقع أن تكون المهمة صعبة هكذا.. يجب أن يكون التقرير الصحفي عن إتحاد المعاشيين جاهزا خلال يوم واحد فقط... قيل بأنها تجربة عبقرية من الحكومة حين انشأت هذا الاتحاد.. لكنني لا أر سوى عجوزين أصمين. ماذا سأكتب إذن..؟ يا إلهي .. إن خيالي ليس واسعا لكي أؤلف حوارا وهميا زائفا... (تنظر للرجلين بعينين خائبتين) يبدو أنني سأذهب ..
(تتبادل النظرات مع الرجلين بصمت)...حسنا سأذهب..
الرجل الأول: مقلب؟ لا لا يا سيدتي لسنا مهرجين لهذه الدرجة..(يلتفت للرجل الثاني)..هل رأيت كيف حولنا غباؤك لمهرجين.
الرجل الثاني: أنت من يتعاطى الهيروين وليس أنا.. (يوجه حديثه للسيدة) هذا العجوز يحاول اغتيالي معنويا أمامك.. لا تصدقيه.. لقد كنا ثلاثة في هذا المكتب الجميل.. للأسف قبل أسبوعين توفى زميلنا الثالث .. ولذلك زاد علينا ضغط العمل .. بات علينا ان نقوم بعمله.. ومع ذلك فهذا الأخرق لا يقاسمني الجهد المبذول بل يقضي يومه في اللعب بطقم أسنانه... تصوري أن فكيه يخلوان من سن واحدة.. هذا لأنه لم يكن نظيف الفم دائما.. لكن انظري (يفتح فمه ويقربه من وجهها فتبتعد بقرف) لدي ضرسان وثلاثة أسنان .. إثنان بالأعلى وواحد بالأسفل فأينا العجوز هنا...هذا دليل مادي مباشر وواضح ...
الرجل الأول: الفاضح هو فتح فمك العفن هذا في وجه السيدة الجميلة أيها المومياء المتفحمة...(يوجه حديثه للسيدة).. سيدتي .. لست مهرجا مثله.. أنا لا أعرف لماذا أصبح هذا الكائن غبيا لهذه الدرجة.. لقد كان وكيل وزارة من قبل .. لكنه انتكس .. أنظري إلى ملابسه إنها قديمة ومهلهلة .. أنظري لحذائه كيف هو متسخ ومرقع ولا يكلف نفسه انفاق بضعة جنيهات لتلميعه لأنه بخيل...
الرجل الثاني: أنت العميل.. من انت؟ لقد كنت تعمل مجرد سكرتير لمكتب الوزير وظللت عمرك كله تقوم بالأدوار القذرة .. تختلس أموال الدولة.. سوف لن اتكتم عليك بعد اليوم أبدا...أنت لص (يشير بأصبعه إلى الرجل الأول فيبدو الجزع بعيني الرجل الأول)..لص يأكل اموال الشعب الغلبان..
الرجل الأول: ليس زمان .. لا تكذب.. في الواقع حتى عندما كنت تعمل كسكرتير كنت ترتدي ملابس مهلهلة لأنك تبخل حتى على نفسك بانفاق القليل من المال لشراء ملابس جديدة..ظللت تشتري في الأراضي بثمن بخس عبر معارفك في الوزارات المختلفة.. ورغم أنني فقير لا زلت حتى اليوم أسكن بالايجار...
الرجل الثاني: أنا لا أشرب الكحول ولا ادخن السجار... ولست مثلك عندما كنت تجلس مع الوزراء والقضاة في منادمات الخمر لتتدهنس لهم كي تحصل على ترقية وفشلت في ذلك...كنت اكبر فاسد ولا زلت فاسدا حتى اليوم وبلا أخلاق ولا ضمير...
الرجل الأول: الحمير.... حسنا.. فليكن...أعرف انك ظللت شخصا ماديا تعتقد أن من لا يفسدون هم الحمير.. دعني أقول لك..انا أتفق معك... من لا يغتني من أموال الحكومة السائبة بل يخلص في عمله هو حمار بلا منازع...صحيح اكتشفت هذه الحكمة بعد أن أحالوني للمعاش لكنني نصحت بها كل من أعرفهم ..ولو كان لدي أبناء لما ترددت في تعليمهم كيف يأخذون حقوقهم من مال الحكومة الذي سيتم نهبه من التماسيح الكبار لا محالة..
الرجل الثاني: سفالة؟ تقول سفالة؟ لقد انتهى الكلام بيننا يا سيد.. لا أرغب في ضربك ضربا مبرحا حتى تتعلم الأدب..
(تنهض السيدة وتهم بالمغادرة فينزعج الرجلان)
الرجل الأول: كم نحن حمقى لقد ازعجناك يا سيدتي بالتأكيد..
السيدة: على العكس كان ذلك مسليا إلى حد ما..
الرجل الثاني: العمى يصيب من لا يقدس هذا الجمال يا سيدتي (يبتسم ببله فتبتسم السيدة بتكلف).. لكنني لم أعرف حتى الآن سبب زيارتك...
(تخرج السيدة كراسها وتكتب بخط عريض: أنا صحفية)
(يقرأ الرجلان الورقة والرجل الثاني يقرب وجهه من الورقة ليتمكن من القراءة)
(يتراجع الرجلان إلى مقعديهما ويصمتان وهما يحدقان في السقف)...
(يلتفتان لبعضهما ويقولان بصوت واحد)
- صحفية!!!
(يتمعنا بعضهما ثم ينفجران ضحكا)...
السيدة: (بحنق) هل هناك مشكلة..
(ينظران نحوها فتكتب)
"هل هناك مشكلة؟"
(يعيدان الإلتفات نحو بعضهما ثم ينفجران ضحكا)..
السيدة- (تكتب بسرعة وملامحها غاضبة وهي تنطق ما تكتب) هذه معاملة غير محترمة لسيدة.
(يصمت الرجلان ويبدآ في القراءة ، يقرب الرجل الثاني وجهه من الورقة.. ثم يتراجعا إلى مقعديهما صامتين..يبقيا كذلك لبرهة ثم ينظرا لبعضهما البعض .. وينفجرا ضاحكين.. تنهض السيدة وتغادر..فيواصلا الضحك قليلا ثم يصمتان).
الرجل الأول- لا شيء يبدو يقينيا أبدا...ولو تحذلقنا كالفلاسفة فلا يوجد شيء اسمه شيء أساسا...
الرجل الثاني: (يتأوه) هل تذكر زميلنا الثالث...كان فاسدا وجمع ثروة ضخمة.. تزوجته آخر صحفية زارتنا هنا.. وبعدها لم يعد مرة أخرى..صحفية شابة جميلة كهذه.
(تمد السيدة رأسها وتكتب وهي تنطق ما تكتب)
السيدة- ترك العمل؟
الرجل الأول-(يقرأ ما كتبته السيدة).. لا.. لقد مات بعد ثلاثة أيام من الزواج. وجدوه عاريا وقد أصابته ذبحة. (يلتفت للرجل الثاني ويخاطبه مشيرا إلى ملابسه) لقد وجدوه عاريا...
الرجل الثاني- (يلتفت للرجل الأول ويشير الى شفته) كان يحاول ويكفيه شرف المحاولة...
(يتبادى الرجلان التحديق ثم ينفجران ضحكا)
السيدة- (تمزق ورق الكراسة القديمة وتأتي بجديدة) انتما تستطيعان قراءة الشفاه؟ كنتما تخدعانني إذن؟
الرجل الأول: لا أعرف لماذا تتجلى لي صورته عاريا وهو ميت.. كان يبحث عن بطولته الأخيرة... كان يبحث عن معنى أخير لحياته بدلا عن المال...
الرجل الثاني: بل لديه عيال.. كان متزوجا من إحدى قريباته على ما أتذكر...وقد أنجب منها طفلا وطفلة... يقال أنهما كانا اشبه بمديره في الوزارة..لكنه قبل بذلك عن طيب خاطر... تبدو مؤسسة الزواج كذبة أكثر من كونها حقيقة.. ألا تعتقد ذلك يا عزيزي...إكراه على احتكار الجنس عبر ورقة يكتبها محام أو قاض أو مكلف من الحكومة...ما معنى ذلك؟ مالذي تصنعه مؤسسة الزواج..إنها تربي الأكاذيب...يحاول كل طرف خيانة ميثاق أجبر عليه...أعتقد أن الميثاق العاطفي هو الأكثر مصداقية..
الرجل الأول: ليست انسانية كما تعتقد .. لقد تزوجته لسرقة ثروته.. لم يكن فيه شيء جاذب.. كانت رائحته كرائحة الملتوف..ساقاه تصطكان ببعضهما من شدة الهزال.. لسانه يتدلى حين يحاول ادخال ملعقة الزبادي في فمه.. ألا يبدو لك ذلك مقرفا حين تقبل به سيدة جميلة.. هذا لم يكن عاديا ولقد مات عاريا وهو يكافح لحفظ ماء وجهه.. مات مكتنفا بالخزي والهزيمة بدلا عن البطولة...وهذا نتاج ضعف في قدراته العقلية... يا له من بؤس.
الرجل الثاني- لم أفهم ما تقصده .. ان كنت تقصد انها مؤسسة تجلب النحس فأنا أتفق ولا اتفق معك... كل ما يمكنني فهمه أنها مؤسسة تزرع البؤس في الانسان...والانسان يسعى لزراعة البؤس في حياته عبر تواجده مع كائن آخر لا يعرف عنه الكثير .. يقضيان سنوات عمرهما وهما يعانيان إما من تبادل سوء الفهم أو تبادل تجاهل أحدهما لمطالبه النفسية الخاصة بهدف الحفاظ على علاقة مصطنعة لا معنى لها. صحيح تنشأ رابطة معنوية ما..لكنها رابطة يخلقها شعور الذات باقتراب الفناء.. شعور بالوحشة.. اعتقد أن زميلنا الرجل الثالث كان يحاول هزيمة الحقيقة التي كانت تزداد تجليا أمام بصره الأعمش كلما استيقظ في الصباح...كان يرفض أن يتشتت ...
الرجل الأول- لم أتعنت .. لماذا تعتقد ذلك؟... نعم مات عاريا والعري ليس عيبا.. العري انتاج ما يسمى زورا بالتحضر...الانسان الأول هو من غطى اجهزته التناسلية ليس لأنها عيب ولكن لأنها كانت مقدسة في نظره...لأنها كانت تعطيه يدا عاملة..تزرع وترعى وتبني وتقاتل...لذلك غطى الآلهة خوفا من إيقاع السحر عليها من قبل الأعداء.. كان اللباس أول تميمة لحفظ الآلهة...ألا تعتقد صحة ما أقول؟ لماذا لم يتم تغطية الأنف او الأصابع لماذا اختار تلك المنطقة التي لا تحمل اي عنصر جمالي حقيقي..في الواقع إنها أقبح ما في جسد الانسان...لكنه رأى آلهته جميلة.. ألا تعتقد أن ذلك إيمانا بالذات بدلا عن الإيمان بما هو خارج عن الذات؟ ألا تعتقد ان ذلك كان أكثر تحضرا من اليوم؟
(تدخل السيدة وتقف أمام الرجلين فينظرا نحوها ويبتسمان..تخرج كراستها وتكتب وتردد ما تكتب)..
السيدة: ما رأيكما في فكرة انشاء اتحاد معاشيي الخدمة المدنية؟
الرجل الأول: من أي ناحية؟
السيدة: (تكتب وتقرأ)كفكرة.
الرجل الأول: (يرتدي طقم أسنانه ثم يخلعه وينظر للرجل الثاني) ما رأيك؟
الرجل الثاني: (يبسط يده فوق درج مكتبه ويتأمل الفراغ)..حقيقة لم أفكر يوما بهذا الشكل. لم أطرح هذا السؤال على نفسي...ماذا يمكنه أن يمثل اتحاد لمن أعلن العالم أنهم لم يعودوا صالحين للحياة في نظرك يا سيدتي؟ تخيلي أنني كنت أجري عمليات حسابية لمدة أيام والآن يستطيع طفل إجراء نفس العمليات بحاسب آلى خلال ثوان... هل تعلمين ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أننا لم نعد فقط غير صالحين للحياة بل نحن مسبقا خارج الحياة. إننا حتى لم نعد نضحك للنكات لأننا مررنا بآلاف المواقف الأكثر سخرية وكانت حقيقية في نفس الوقت. ربما يكون هذا الاتحاد هو مقبرتنا الأخيرة .. (يلتفت للرجل الأول) أليس كذلك؟
الرجل الأول: الجيد في هذا الاتحاد أنه غير قابل للقفل...غير قابل للانتهاء ما دام هناك بشر.. والجيد أن الموظفين جميعهم سيضعون هذا الاتحاد في الاعتبار لأنه مستقبلهم الحتمي...صحيح .. في البداية يحجمون عن الاعتراف به لأنه يمثل اعترافا بالخروج من دائرة الحياة لكن كل يوم تترسخ تلك الحتمية لديهم ..
الرجل الثاني: (يضحك) الشباب يزوروننا... لقد باتوا يزوروننا.. (ينظر للرجل الأول ويمط شفتيه وهو يحيطهما بأصابع يديه) الشباب يزوروننا .. يزوروننا.. (يرفع صوته)..
الرجل الأول: لا داعي لأن ترفع صوتك..إنني أسمعك ولكنك تبدو أخرسا بشكل مثير للملل...
الرجل الثاني:(يكرر الأمر) الشباب يزوروننا ... اقرأ شفتي.. (يمد أصابعه ويلوي شفاه الرجل الأول الذي يبعد رأسه منتفضا).
الرجل الأول: لا تلمسني بيدك المتعفنة هذه..كدت أن اتقيأ منهما.. أنك تدخل أصابعك في أنفك وتفرك بها منخريك لتخرج قشور المخاط الجاف .. لا تقرب أصابعك من فمي...هل فهمت..
الرجل الثاني: لم أندم لأنني عملت هنا .. من قال انني ندمت؟ أنت تتوهم كالعادة...تحاول إغتيالي أدبيا أمام السيدة... كنت موظفا من الدرجة الأولى أو ربما الثالثة..لا أتذكر حقا هل تمت ترقيتي أم لا؟ لكنني كنت موظفا كفئا... الشباب يزوروننا...لكن ليس بحسن نية.. هم يحسبون أننا بلهاء..يأتون بمشاريع وهمية ويطلبون منا مخاطبة الحكومة لدعم مشاريعهم .. نحن لسنا بنكا ولا جهة خيرية...إنهم يعكسون تردي وضع الدولة بشكل حاسم..أليس كذلك..
السيدة: (يبدو عليها القلق ..تكتب وتقرأ) لم أفهم؟ ماذا تقصد أنهم يرغبون في تمويل مشروعاتهم؟ هل هم شباب وليسوا معاشيين..لماذا يأتون إليكم.
الرجل الأول: (يقرأ كتابة السيدة وعيناه تتسعان بجزع ثم يمد يده مطبقا على فم الرجل الثاني) ماذا قلت يا أحمق..هذه اسرار .. ستوقع بنا بلسانك الخفيف هذا.. عليك اللعنة..
الرجل الثاني: (يحاول التملص من يد الرجل الأول وينجح أخيرا في ذلك) لو كررت هذا الفعل الشنيع فسوق أضربك علقة ساخنة.. هل تفهم..أنا أحذرك...
الرجل الأول:(يأخذ الكراس من السيدة ويكتب وهو يقرأ) لا تتحدث عن أسرار العمل عليك اللعنة.. ستوقعنا في ورطة...هذه صحفية ..تذكر هذا الأمر..
الرجل الثاني: (يتراجع مستندا على مقعده بخوف) اللعنة .. لقد نسيت ذلك تماما... لقد انجرفت كعادتي وراء الحديث غير الموزون.
السيدة: (تبدو عليها علامات الاهتمام وتأخذ الكراسة من الرجل الأول وتكتب) هل هناك فساد في هذه المؤسسة؟
الرجل الأول: (يتحدث بجزع) لا يوجد فساد يا سيدتي..لماذا نفسد...لم يعد لدينا ما نصبوا إليه في هذه الحياة سوى أن نمضيها بسلام. (ينظر للرجل الثاني بعينين واسعتين ثم يغمز له بجدية)..
الرجل الثاني: (يحاول التماسك) القضية ليست فسادا يا سيدتي..
السيدة: (تكتب وتقرأ) ما قصة تمويل المشاريع هذي؟
(ينظر الرجلان نحو الفراغ بأعين ناعسة ويصمتان)
السيدة: (تزداد انفعالا وهي تكتب).. عليكما أن تتحدثا .. هل أنتما خائفان؟ هل هناك من يهددكما؟.
(يظل الرجلان في موضعهما)..
السيدة: إن لم تخبرانني فسأطالب بلجنة مراجعة وتحقيق.
(يظل الرجلان في وضعهما)..
السيدة: أنتما لا تفهمان أنني صحفية... هل تعلمان ماذا أعني بصحفية؟ أنا لا ألعب.
(يصدر شخير من الرجل الثاني فتنظر له السيدة باستغراب ، ثم يتلوه شخير الرجل الأول فتنظر إليه أيضا باستغراب .. يسقط رأسيهما على صدريهما وهما نائمين).
السيدة: تتظاهران بالنوم...حسنا سأكتب تقريرا بالفساد الذي ينخر اتحاد المعاشيين هذا... صدقاني..
(تخرج غاضبة)...
(يفتح الرجل الثاني عينا واحدة ، ثم يتبعها بالعين الثانية ، بفعل الرجل الأول ذات الأمر.. يظلا صامتين قليلا ثم ينظرا لبعضيهما.. ينفجران بالضحك ، يمد الرجل الثاني كفه فيصفقها الرجل الأول بكفه أيضا علامة على النصر).
الرجل الأول: سنكون محط الأنظار لأسبوعين أو ثلاثة..
الرجل الثاني: صحيح...كيف واتتك الفكرة الأخيرة بهذه السرعة؟
الرجل الأول: كان كل شيء يصب في هذه النهاية...
الرجل الثاني: كان هذا يوم عمل شيق...
الرجل الأول: نعم هو كذلك.. يبدو لي أن العالم الخارجي لازال مستمرا في أوهامه... لا زال مؤمنا بالصراع على نحو ما....
الرجل الثاني: يبحثون عن الدهشة...
الرجل الأول: الحمقى وحدهم من يندهشون في هذا العالم..
الرجل الثاني: صدقت..الحمقى ومنعدمي التجارب من الأطفال...
(يعود الرجل الأول لغمس طقم اسنانه في كوب الماء ويعود الرجل الثاني للقراءة من الصحيفة وهو يقرب وجهه من ورقها بعينين ضيقتين).
(ستار)