مجلّة الدوحة واحدة من المجلات الثقافية الشهرية المهمة في الوطن العربي، والتي تهتمّ بالأدب والثقافة وتعمل على تقديم محتوى أدبي مميز للمواطن العربي بين دفتيها، كما تعمل على تقديم بعض الكُتّاب والأعمال الأدبية المهمة من خلال كتابها المجاني الشهري.
العدد الصادر بشهر يوليو قدّم بكتابه المجانيّ واحدًا من الأُدباء المؤسسين للأدب الحديث بالوطن العربي، وهو معاوية محمد نور، من خلال كِتاب جمع بين مقالات وقصص قصيرة كتبها معاوية، تحت عنوان”بين ثقافتين”.
معاوية محمد واحد من الكُتّاب الذين قلّما تسمع عنهم حاليًا بين القُراء رغم أهميته ورغم مقالاته المتناوِلة للأدب بأنواعه وآرائه المختلفة حوله.
هو كاتب سوداني قَدِم إلى مصر مع بداية الحركات التي كانت تسعى إلى إحياء الأدب من جديد، ولكلٍ طريقته، وأخذ معاوية جانبًا واحدًا من التيارات الأدبية المتواجدة حينها، وقدّم أفكاره ونقده لعدد من الأدباء والشعراء.
كان واحدًا من المؤسسين لجماعة الأدب القومي، بسبب إخلاصه الشديد له، والتي كان يرأسها الدكتور هيكل، وكان له دور في تكوين جمعية العشرين.
فكان يرى مهمة الأدب القومي -كما يذكر بمقاله الأدب القومي– الحفاظ على عبقريات الأمم وخصائصها الشعورية والفكرية، فيقول: “مهمة الأدب القومي تسجيل هذه العبقريات وهذه الخصائص وألوان المزاج وطرق التفكير وصنوف الإحساس، فعبقرية الأدب الروسي مثلًا هي في إنسانيته الواسعة وصراحته البسيطة.”
يذكر أنور الجندي بمقال له بمجلة الأديب، الذي يمثّل المقدمة الثانية للكتاب، بأنّ معاوية محمد تخرج من كلية غرودن بالخرطوم، وكان يسعى لإكمال مشواره الدراسي بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ولكن لم يتم له ذلك، فأرسله الأمير عمر طوسون، لإكمال دراسته بالجامعة الأمريكية ببيروت على نفقته الخاصة، وعاد من بعدها ليمارس دوره الصحفي وليلتحق ببعض الصحف والمجلات المصرية.
كتب معاوية لعدد من الدوريات المصرية مثل الهلال، السياسة الأسبوعية، والمقتطف وجريدة الجهاد، وعمل محررًا صحفيًا ب”الإيجيبشان غازيت الإنجليزية”. وعُين سكرتيرًا للغرفة التجارية بالخرطوم.
يهتم معاوية بقصصه بالسودان والتعريف بها وبتفاصيلها وبالنيل وبعض الصور حوله، ففي واحدة من قصصِه التي تحمل عنوان “في الخرطوم خواطر وذكريات محزونة” يقول: “والنيل ينساب في مشيته هادئًا كأنه صفحة المرآة المجلوة وعلى يميني في النهر بضع سفن بخارية وأمامي “الخرطوم بحري” وجزيرة “توتي” وعلى شمالي مدينة أم درمان، يخيّم عليها الصمت، ويكسوها الليل ثوبًا رقيقًا، ويخيل إلي أن ذلك الشجر الحاني بعضه على بعض والذي يظلل شارع الشاطئ، وذلك النهر الهادئ بما فيه من قنطرة وأمامه من مدينة وجزيرة، وما فوقه من سماء تحسبها لشدة زرقتها وانكفائها على حدود النيل أن السماء نيل وأن النيل سماء، وأن الكل صورة يمكن أخذها ووضعها في إطار للتفرج عليها واستلهام الوحي منها”.
ويظهر دور ورغبة معاوية في التجديد في مقدمة أحد قصصه الواردة للكتاب، حيث أدخل عالمًا أو نوعًا جديدًا من القصص على القراء في حينها وعلى الأدب العربي وعلى حد وصفه على الأدب الأوروبي أيضًا، في قصته التي تحمل اسم “المكان” يوضّح ويقول: “حينما فرغت من كتابة هذه القصة رأيت واجبًا عليّ أن أُعين القارئ العربي على فهمها، لأن هذا الضرب من التأليف القصصي حديث العهد في أوروبا نفسها، وهو آخر طور من تطورات القصة التحليلية، وفيه ولا شك صعوبة للقارئ، خاصة إذا لم يكن ذلك القارئ واقفًا على هذا اللون من الآداب الحديثة”.. ويستكمل ويشرح طبيعة هذا النوع الجديد من القصص؛ كي يكون القارئ ملمًّا به ولديه القدرة على فهم القصة التي بين يديه.
وطرقِه هذا النوع الجديد من القصص، يعتبر واحدًا من الأمثلة التي تدلل على رغبته في تطوير الأدب والعمل على إحيائه ونشره بشكل كبير بين الناس، ورغبته في الحفاظ عليه والإتيان بالجديد الذي يساعد ويعمل على تقوية الأدب العربي، وعلى دوره الرائد في الأدب العربي.
على قِصر حياته التي امتدت بين عامي 1909 إلي 1941 -والتي يذكر أنور الجندي بمقاله الذي أشرناه إليه سبب نهاية حياته المبكر، وهو وقوع فاجعة أدت إلى اختلال قواه العقلية- يظهر للقارئ بشكل واضح اطّلاعه الواسع على الآداب والثقافات المختلفة، ففي كلّ مقال قد لا يخلو اقتباس من كُتّاب كبار منهم من كان يعاصره حينها ومنهم من كان سابقًا له، وتمثل مقالاته التي بين أيدينا بالكتاب آراءه في مجموعة من القضايا المهمة التي كانت تشغل الوسط الثقافي والأدبي حينها، ولايزال الكثير منها يشغله حتى الآن، فكانت المقالات:
ركود الأدب العربي المعاصر
الذوق الأدبي
فتور الأدب القصصي
الأدب القومي
معنى الثقافة
الأدب الرفيع
العلم والأخلاق
فلسفة الأسلوب
كيف نقرأ
كيف نفكر
ويختتم الكتاب (قبل أن يبدأ بالجزء الخاص بالقصص) بمقال معاوية عن الكتب تحت عنوان” أنا والكتب أو الكتب وأنا”؛ حيث يوضّح به علاقته بالكتب وهيامه بها فيقول: “وقد أكون مفلسًا فلا أشتري كتابًا واحدًا، ولكنني أزور المكاتب العمومية كل يوم إلى أن يضجّ أصحابها مني، ومن إفلاسي، ولكنني لا أفتأ أزورها؛ لذلك لأن لمرأى الكتب عندي سحرًا خاصًا يزري بكل سحر، ولطلعتها البهية فتنة تفوق فتنة الغيد الحسان، ولرائحتها الزكية وهي تخرج من المطبعة أريجًا يزري بأريج الياسمين!”
يعتبر الكِتاب إشارة لكاتب وأديب لا يلقى اهتمامًا كبيرًا بيننا الآن وقد لا يعرفه إلا القليل، فيسلط الضوء عليه ببعض المقالات والقصص التي سطّرها وتوضح جانبًا من أفكاره؛ لذلك يُعتبر بداية للبحث وراء باقي آثار معاوية محمد نور والاطلاع عليه، وتسليط الضوء عليه وعلى غيره من الكُتّاب والأدباء المهمين الذين لا ينالون حظًا من الصيت بين القراء حاليًا يناله آخرون لا يستحقونه!
10 أكتوبر 2018
المصدر
الدوحة تبعث معاوية محمد نور من جديد من خلال إصدار كتاب "بين ثقافتين" - المحطة
العدد الصادر بشهر يوليو قدّم بكتابه المجانيّ واحدًا من الأُدباء المؤسسين للأدب الحديث بالوطن العربي، وهو معاوية محمد نور، من خلال كِتاب جمع بين مقالات وقصص قصيرة كتبها معاوية، تحت عنوان”بين ثقافتين”.
معاوية محمد واحد من الكُتّاب الذين قلّما تسمع عنهم حاليًا بين القُراء رغم أهميته ورغم مقالاته المتناوِلة للأدب بأنواعه وآرائه المختلفة حوله.
هو كاتب سوداني قَدِم إلى مصر مع بداية الحركات التي كانت تسعى إلى إحياء الأدب من جديد، ولكلٍ طريقته، وأخذ معاوية جانبًا واحدًا من التيارات الأدبية المتواجدة حينها، وقدّم أفكاره ونقده لعدد من الأدباء والشعراء.
كان واحدًا من المؤسسين لجماعة الأدب القومي، بسبب إخلاصه الشديد له، والتي كان يرأسها الدكتور هيكل، وكان له دور في تكوين جمعية العشرين.
فكان يرى مهمة الأدب القومي -كما يذكر بمقاله الأدب القومي– الحفاظ على عبقريات الأمم وخصائصها الشعورية والفكرية، فيقول: “مهمة الأدب القومي تسجيل هذه العبقريات وهذه الخصائص وألوان المزاج وطرق التفكير وصنوف الإحساس، فعبقرية الأدب الروسي مثلًا هي في إنسانيته الواسعة وصراحته البسيطة.”
يذكر أنور الجندي بمقال له بمجلة الأديب، الذي يمثّل المقدمة الثانية للكتاب، بأنّ معاوية محمد تخرج من كلية غرودن بالخرطوم، وكان يسعى لإكمال مشواره الدراسي بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ولكن لم يتم له ذلك، فأرسله الأمير عمر طوسون، لإكمال دراسته بالجامعة الأمريكية ببيروت على نفقته الخاصة، وعاد من بعدها ليمارس دوره الصحفي وليلتحق ببعض الصحف والمجلات المصرية.
كتب معاوية لعدد من الدوريات المصرية مثل الهلال، السياسة الأسبوعية، والمقتطف وجريدة الجهاد، وعمل محررًا صحفيًا ب”الإيجيبشان غازيت الإنجليزية”. وعُين سكرتيرًا للغرفة التجارية بالخرطوم.
يهتم معاوية بقصصه بالسودان والتعريف بها وبتفاصيلها وبالنيل وبعض الصور حوله، ففي واحدة من قصصِه التي تحمل عنوان “في الخرطوم خواطر وذكريات محزونة” يقول: “والنيل ينساب في مشيته هادئًا كأنه صفحة المرآة المجلوة وعلى يميني في النهر بضع سفن بخارية وأمامي “الخرطوم بحري” وجزيرة “توتي” وعلى شمالي مدينة أم درمان، يخيّم عليها الصمت، ويكسوها الليل ثوبًا رقيقًا، ويخيل إلي أن ذلك الشجر الحاني بعضه على بعض والذي يظلل شارع الشاطئ، وذلك النهر الهادئ بما فيه من قنطرة وأمامه من مدينة وجزيرة، وما فوقه من سماء تحسبها لشدة زرقتها وانكفائها على حدود النيل أن السماء نيل وأن النيل سماء، وأن الكل صورة يمكن أخذها ووضعها في إطار للتفرج عليها واستلهام الوحي منها”.
ويظهر دور ورغبة معاوية في التجديد في مقدمة أحد قصصه الواردة للكتاب، حيث أدخل عالمًا أو نوعًا جديدًا من القصص على القراء في حينها وعلى الأدب العربي وعلى حد وصفه على الأدب الأوروبي أيضًا، في قصته التي تحمل اسم “المكان” يوضّح ويقول: “حينما فرغت من كتابة هذه القصة رأيت واجبًا عليّ أن أُعين القارئ العربي على فهمها، لأن هذا الضرب من التأليف القصصي حديث العهد في أوروبا نفسها، وهو آخر طور من تطورات القصة التحليلية، وفيه ولا شك صعوبة للقارئ، خاصة إذا لم يكن ذلك القارئ واقفًا على هذا اللون من الآداب الحديثة”.. ويستكمل ويشرح طبيعة هذا النوع الجديد من القصص؛ كي يكون القارئ ملمًّا به ولديه القدرة على فهم القصة التي بين يديه.
وطرقِه هذا النوع الجديد من القصص، يعتبر واحدًا من الأمثلة التي تدلل على رغبته في تطوير الأدب والعمل على إحيائه ونشره بشكل كبير بين الناس، ورغبته في الحفاظ عليه والإتيان بالجديد الذي يساعد ويعمل على تقوية الأدب العربي، وعلى دوره الرائد في الأدب العربي.
على قِصر حياته التي امتدت بين عامي 1909 إلي 1941 -والتي يذكر أنور الجندي بمقاله الذي أشرناه إليه سبب نهاية حياته المبكر، وهو وقوع فاجعة أدت إلى اختلال قواه العقلية- يظهر للقارئ بشكل واضح اطّلاعه الواسع على الآداب والثقافات المختلفة، ففي كلّ مقال قد لا يخلو اقتباس من كُتّاب كبار منهم من كان يعاصره حينها ومنهم من كان سابقًا له، وتمثل مقالاته التي بين أيدينا بالكتاب آراءه في مجموعة من القضايا المهمة التي كانت تشغل الوسط الثقافي والأدبي حينها، ولايزال الكثير منها يشغله حتى الآن، فكانت المقالات:
ركود الأدب العربي المعاصر
الذوق الأدبي
فتور الأدب القصصي
الأدب القومي
معنى الثقافة
الأدب الرفيع
العلم والأخلاق
فلسفة الأسلوب
كيف نقرأ
كيف نفكر
ويختتم الكتاب (قبل أن يبدأ بالجزء الخاص بالقصص) بمقال معاوية عن الكتب تحت عنوان” أنا والكتب أو الكتب وأنا”؛ حيث يوضّح به علاقته بالكتب وهيامه بها فيقول: “وقد أكون مفلسًا فلا أشتري كتابًا واحدًا، ولكنني أزور المكاتب العمومية كل يوم إلى أن يضجّ أصحابها مني، ومن إفلاسي، ولكنني لا أفتأ أزورها؛ لذلك لأن لمرأى الكتب عندي سحرًا خاصًا يزري بكل سحر، ولطلعتها البهية فتنة تفوق فتنة الغيد الحسان، ولرائحتها الزكية وهي تخرج من المطبعة أريجًا يزري بأريج الياسمين!”
يعتبر الكِتاب إشارة لكاتب وأديب لا يلقى اهتمامًا كبيرًا بيننا الآن وقد لا يعرفه إلا القليل، فيسلط الضوء عليه ببعض المقالات والقصص التي سطّرها وتوضح جانبًا من أفكاره؛ لذلك يُعتبر بداية للبحث وراء باقي آثار معاوية محمد نور والاطلاع عليه، وتسليط الضوء عليه وعلى غيره من الكُتّاب والأدباء المهمين الذين لا ينالون حظًا من الصيت بين القراء حاليًا يناله آخرون لا يستحقونه!
10 أكتوبر 2018
المصدر
الدوحة تبعث معاوية محمد نور من جديد من خلال إصدار كتاب "بين ثقافتين" - المحطة