ألف ليلة و ليلة عدنان حسين أحمد - الليالي العربية في الخطاب البصري الغربي

صدر عن دار ضفاف للنشر في "الشارقة - بغداد" كتاب "ألف ليلة وليلة في السينما والتلفزيون عند الغرب" للدكتور الناقد صالح الصحن، أستاذ مادة الإخراج التلفزيوني في كلية الفنون الجميلة ببغداد. وقد تضمّن الكتاب توطئة وأربعة فصول رئيسة إضافة الى المقدمة التي كتبها الروائي العراقي شوقي كريم حسن الذي ركزّ فيها على ثلاثة أركان أساسية يعتمد عليها الفن السينمائي وهي "القصة الجذّابة، والتصوير التقني، والمؤثرات الوجدانية". أما الباحث صالح الصحن فقد نوّه في مقدمته إلى الرواج الكبير الذي حظي به كتاب "ألف ليلة وليلة" وتأثيراته الكبيرة التي خلّفها على مجمل الفنون القولية وغير القولية في الغرب الأوروبي على وجه التحديد. ركز الباحث في كتابه على بضعة أهداف أساسية من بينها التعرّف على المنظور الفكري والجمالي الغربي في التعاطي مع كتاب "ألف ليلة وليلة" والكشف عن المعالجات الفنية للأعمال السينمائية والتلفزيونية التي اتخذت من هذا السِفر الخالد موضوعًا لها. وقد شدّد الباحث على مفهوم "المعالجة الفنية" من الناحية اللغوية والاصطلاحية التي تعني عالج الشيئ علاجًا ومعالجة، أي "زاوله وداواه" كما ورد في قاموس المحيط للفيروزي بمعنى تحسين الشيئ وتأهيله إلى حال أفضل من حالته الأولى.
لم ينحصر اهتمام الباحث على الشهرة الكبيرة التي نالتها "الليالي العربية" في الغرب بل تعداها إلى أشكال التناول والمقاربات المتنوعة لهذا المنْجم الثر الذي جمع بين دفتيه كل أشكال القصّ التاريخي، والرومانسي، والتراجيدي، والكوميدي، والفنتازي، والأسطوري، والتشويقي، والعجائبي، والغرائبي وما إلى ذلك.
تناول الباحث في الفصل الأول "حكايات ألف ليلة وليلة في السردية العربية". وقد استعان كثيرًا بآراء الناقد عبدالله إبراهيم المتخصص في السردية العربية والذي يعتبرها "المبحث النقدي الذي يُعنى بمظاهر الخطاب السردي أسلوبًا وبناءً ودلالة". وحكايات ألف ليلة وليلة هي خطاب سردي بامتياز ينطوي على المتعة والفائدة وفعل الإدهاش المتواصل. وقد أشارَ المسعودي إلى هذه الحكايات في مروج الذهب بأنها "أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة"، وهذا يعني أن وراءها صانع مبدع أجادت بها قريحته ولم يسْتَّلها من كتاب أو ينقلها عن أحد. لقد ظل مؤلف هذه الحكايات مجهولاً ومتواريًا عن الأنظار، فهو لم يبحث عن الشهرة ولم يلهث خلف الدوائر الضوئية لأنه همّه الأساسي كان مُنصبًا على خلق حكايات خرافية وقصص عجائبية تتخطى المألوف، وتتجاوز المُتعارَف عليه وتحقق في خاتمة المطاف عنصر الدهشة. لابد من الإشارة إلى أنّ تقنية الحكي في الليالي العربية تُستهل غالبًا بصيغة "يُحكى" التي تشير إلى الماضي البعيد من جهة، وتُحيل إلى فاعل مبني للمجهول من جهة أخرى قبل أن تستقر على اللازمة المكررة "بلغني أيها الملك السعيد" التي تقطع الشك باليقين بأن هناك منْ ينقل إليها هذه القصص والأخبار لكنها ترويها بحِرَفية قلّ نظيرها فلاغرابة أن تأخذ شهرزاد بتلابيب الملك وتُسقِطهُ في دائرة الفتنة والإبهار.
نال كتاب "الليالي العربية" إعجاب الكثير من الأدباء والمثقفين والفنانين في مختلف أرجاء العالم ويكفي أن نستشهد برمزين من رموز الثقافة العالمية وهما الشاعر والروائي السويسري هيرمان هيسه الذي قال عنه: "إنه كتاب لا يُستغنى عنه في مجموعة الأدب العالمي، وأنه مصدر للمتعة لا ينضب". فيما ذهب الروائي الفرنسي ستندال إلى القول: "أرجو من الله أن أُصاب بفقدان الذاكرة لأقرأ ألف ليلة وليلة من جديد فألتذّ به كما التذذت أول مرة". ويجب ألا نستغرب من العراقي ابن النديم، المُصنِّف، وكاتب السيرة، وجامع الفهارس حينما يرى في ألف ليلة وليلة "كتاب غثّ بارد الحديث"، فالأذواق مختلفة والتقييمات ليست منصفة على الدوام.
لا تخرج مكونات البنية السردية عن ثلاثة عناصر رئيسة وهي "الراوي والمروي والمروي له" وهي متوفرة في حكايات ألف ليلة وليلة. وبما أن هذه الحكايات تُسرد على الملك فلابد أن تتوفر على ثلاثة شروط أساسية وهي "الصدق والغرابة والمعرفة"وأكثر من ذلك قدرة الساردة على الإقناع. إن منْ يتمعن في دربة شهرزاد، وفراستها، وقدرتها على قراءة الأفكار سيكتشف أيضًا إلمامها بعناصر الشدّ والترقب والتشويق لأنها تصرّح دائمًا في حضرة الملك بأن "أفضل ما في حكايتي سيأتي بعد" الأمر الذي يمنح المتلقي مساحة واسعة للتأمل وإطالة النظر.
يُعدّ كتاب "ألف ليلة وليلة" من وجهة نظر الباحث صالح الصحن مصدرًا سرديًا متسلسلاً يمتلك مواصفات خاصة تجيز للكاتب أن يحولها إلى نص تلفزيوني متكامل ومشبع بعناصره الدرامية والجمالية التي تشدّ المتلقين في الجهات الأربع من كرتنا الأرضية التي كيّف مبدعوها هذا النص وأنجزوا منه العديد من الأفلام السينمائية المبهرة والمسلسلات التلفزيونية الناجحة.
يتمحور الفصل الثاني على تأثير "ألف ليلة وليلة" على الثقافة العالمية وقد بذل الباحث صالح الصحن جهدًا كبيرًا في تتبع هذه التأثيرات في المسرح والموسيقى والفنون التشكيلية والشعر والرواية ليثبت لنا بالأدلة القاطعة أن هذا التأثير كان واسعًا وعميقًا ولا يمكن تفاديه أو غض النظر عنه. فمنذ أن ترجم المستشرق الفرنسي أنطون غالاند "الليالي العربية" إلى الفرنسية عام 1704 بدأت الترجمة تأخذ طريقها إلى القرّاء الأوروبيين لكن تأثيرها الأكبر انعكس على الأدباء والفنانين والمثقفين قبل غيرهم حيث تأثر بها الشاعر والناثر والكاتب المسرحي والموسيقي والفنان التشكيلي. ولعلي لا أجانب الصواب إذا قلت بأن "الليالي العربية" قد غزت المخيلة العالمية وسحرتها، بل وأوقعتها في فتنة مستديمة.
ففي الحقل المسرحي تأثر بالليالي العربي أساطين الفن المسرحي وعلى رأسهم شكسبير الذي أفاد من تقنية الحكاية الإطارية في "ترويض النمرة". واتكأ في مسرحية "العاصفة" كثيرًا على قصة "جزيرة الكنوز" المكتظة بالسحرة والمرَدة والشياطين. كما أن الشبه واضح بين "تاجر البندقية" وقصة "مسرور التاجر وزين المواصف" في الليالي العربية وسواها من المؤثرات الكثيرة التي لا يسع المجال لذكرها جميعًا. وفي السياق ذاته قدّم أوغست سترندبيرغ مسرحية "أبو القاسم الطنبوري" المستوحاة من الليالي العربية، فيما كتب غوته "نزوة العاشق" و "فاوست" اللتين تحملان بصمات "ألف ليلة وليلة" بشكل واضح. وبما أن الكُتاب المسرحيين الذين تأثروا بالليالي العربية كثيرون جدًا ويصعب حصرهم لذلك سنكتفي بذكر البعض منهم أمثال جوتييه ودورونيه وبومارشيه وموليير وكالديرون دي لاباركا وليسنج وجيمس نورتي وأدغار ألن بو وغيرهم من كُتّاب المسرح المبدعين.
ويمكن أن نشير في حقل الموسيقى إلى سمفونية "شهرزاد" التي ألفها الموسيقار الروسي المبدع ريمسي كورساكوف، و"بحيرة البجع" و "الأميرة النائمة" لتشايكوفسكي اللتين تنطويان على مؤثرات شرقية واضحة مستمدة من "ألف ليلة وليلة".
توقف الباحث صالح الصحن عند فن العمارة العربي الذي ترك ملامحه الواضحة على العمران الأوروبي وهذا ما أكدته المستشرقة الألمانية المُنصفة زيغريد هونكة التي قالت: "إن التصميم ونوع الأقبية والعمد وخامات البناء والزينات في كل ما بناه فردريك الثاني لتنطق بأثر من البناء العربي بطريقة لا تقبل الشك ويزيد توكيد ذلك وجود أسماء العمال والفنيين العرب التي نُقشت على تلك الأعمال" (ص82). وفي موضع آخر تؤكد هونكة جهل الغربيين بالجهود الحضارية التي بذلها العرب والشرقيون عمومًا في نمو الحضارة الغربية وإثرائها. لابد من الإشارة إلى بعض الفنانين التشكيليين الغربيين الذين استوحوا أعمالهم الفنية من الشرق وعلى رأسهم ديلا كروا وقائمة طويلة من الفنانين التشكيليين الأوروبيين الذسن لم يجدوا ضيرًا في النهل من منابع الشرق البصرية على وجه التحديد.
حسنًا فعل الدكتور صالح الصحن حينما توقف عند الموشحات والزجل التي ابتكرها أهل الأندلس وتركت تأثيرًا قويًا على الشعر الأوروبي برمته فلم ينجُ لوركا من التأثر بالشعر والتراث الشرقيين. أما الشاعر الألماني كريستوف ماري فيلند فقد استمد قصائده من "الليالي العربية" وأفاد من أجوائها الفكرية ومناخاتها الشعرية. لم يجد شعراء البلاط الإنكليزي حرجًا في التأثر بقصص "ألف ليلة وليلة" والنسج على منوالها مثل الشاعر روبرت ساوذي وألفريد تنسون. وهذا الأمر ينسحب على شعراء من طراز السير وليم جونز الذي كتب "الينابيع السبعة" وجيفري تشوسر الذي دبّج "حكايات كانتربري" واللورد بايرون الذي تألق في مسرحيته الشعرية "دون جوان". ولا ننسى في هذا السياق شيلر ووليم ووردزوورث وقصائدهما المحملة بالصور والتضمينات الشعرية المستوحاة من الليالي العربية.
ربما تكون الرواية الأوروبية هي الأكثر استيحاء لأجواء "ألف ليلة وليلة" عن سائر الأجناس الأدبية والفنية فقد أورد الباحث صالح الصحن أكثر من ثلاثين عملاً روائيًا كتبها أصحابها على وفق التقنيات الواردة في "ألف ليلة وليلة" لعل أبرزها الحكاية الإطارية التي تتفرع عنها عشرات وربما مئات الحكايات الأخر التي تجمع بين ما هو غريب وعجيب، ومثير للدهشة، ولافت للأنظار. ولكي نحيط القارئ الكريم علمًا بالروائيين الأوروبيين الذين تأثروا بـ "ألف ليلة وليلة" نذكر منهم جيوفاني بوكاشيو، وجيفري تشوسر، وإمبرتو إيكو، وفولتير، وهانس كريستيان أندرسن، وتشالز ديكنز، وجيمس جويس، وأدغار ألن بو، وواشنطون أرفنج، وتوماس مور، وسرفانتس، وإيزابيل الليندي، وباولو كويلو، وماركيز وعشرات من الروائيين العالميين الكبار الذين استمدوا ثيماتهم من الليالي العربية وكتبوا رواياتهم على غرارها.

ألف ليلة وليلة في السينما والتلفزيون
ينوّه الباحث صالح الصحن في مستهل الفصل الثالث بأن مستويات تكييف الليالي العربية متنوعة ومختلفة عن بعضها بعضًا. فمهما بلغت درجة التزام المخرج بالنص الروائي فمن المستحيل أن تتطابق الكلمة مع الصورة ذلك لـ "أن الأفلمة في حدّ ذاتها، حتى في أكثر حالتها التزامًا أمينًا بالنص الروائي، تؤدي إلى خلق عمل جديد تمامًا"، (ص،139).
قدّم الباحث كشفًا بالأعمال السينمائية والتلفزيونية التي تناولت "ألف ليلة وليلة" في العالم للفترة المحصورة بين 1900 إلى 2005 وهي الحقبة الزمنية التي تناولها البحث فتبين أن هناك 32 عملاً سينمائيًا وتلفزيونياً ومسلسلاً تبدأ بفيلم"ألف ليلة ليلة وليلة" 1900 للمخرج الفرنسي جورج ميليه وتنتهي بـ "رحلات جليفر" 1960 للمخرج الأميركي جاك شير.
يؤكد الباحث أن المفردة الأساسية في لغة السينما والتلفزيون هي الصورة ومدى ارتباطها بالحركة وبما تشكل من قيمة جمالية وحمل للمضمون المنبثق من الموضوع أو الحكاية. كما يشير الباحث إلى أن ترجمة التعبير في النص السينمائي تكون ظاهرة على ثلاثة ركائز وهي "المرئي والمسموع والمتحرك" (ص،146). ولعل الفكرة الأهم التي يطرحها الباحث في هذا السياق هي "أن تحويل النص اللغوي إلى مرئي يخضع إلى تقنيات ووسائط مرئية تتجاوز أبعادها اللغوية لترتمي في الضوء واللون والحركة والانتقال والفعل وشحنات المشاعر والأحاسيس وغيرها من المؤثرات الصورية والصوتية" (ص، 146). ثم ينتقل إلى تنسيق الكودات فهو يرى أن كل خطاب لا يمكن وصفه إلا كعملية تنسيق وتركيب بين كودات، وبعض هذه الكودات لها دور كبير في تحويل الراويات أو أي نص أدبي آخر إلى أفلام. ويبرز في هذ السياق سؤال مهم مفاده: هل يمكن تحوبل أي عمل أدبي إلى فيلم سينمائي أو تلفازي؟ الجواب هو كلا ببساطة شديدة، فلقد فشل آزنشتاين في تحويل كتاب "رأس المال" إلى فيلم، ورفض ماركيز غير مرة تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية وحجته في ذلك أنه يرى في هذا النقل مصادرة لمخيلة القارئ، واستلاب لأدواته التعبيرية. يقول ألكسندر أرنو: "إن السينما لغة صور لها مفرداتها وبديعها وبيانها وقواعد نحوها" (ص، 150). فيما لا يعول أبيل جانس بالمطلق على الصورة حيث يقول بإصرار شديد: "ليست الصورة هي التي تصنع فيلمًا، بل روح المصور" (ص، 151).
يرى الباحث صالح الصحن أن أشكال تناول "ألف ليلة وليلة" تختلف من كاتب لآخر لكنها لا تخرج عن إطار التناص الذي يأخذ أشكالاً متعددة. فالنص المُتناص هو "الذي تقع فيه آثار نصوص أخرى أو أصداؤها"(ص، 155). وبحسب جيرار جينيت "ليس للنص أب واحد" (ص، 156). وعلى وفق هذه القراءة فإن هناك أعمالاً روائية وسينمائية تناصت مع "ألف ليلة وليلة" بأساليب مختلفة، وحدود متباينة، وقد اتخذ هذا التباين خمسة أشكال رئيسة وهي "الاستلهام، والإعداد والاقتباس، والاستدعاء، والتضمين والتحويل". فالاستلهام هو أن يسلتهم الكاتب أو المخرج طريقة في السرد تمامًا كما فعلت الروائية التشيلية إيزابيل الليندي حينما استلهمت شخصية سيليسيا من شخصية شهرزاد وطريقتها في الحكي بكل ما تنطوي عليه من خبرة، ودربة، وتشويق، وثقافة شاملة. أما الإعداد فهو ببساطة إعادة سبك عمل فني لكي يتفق مع وسط فني آخر. يتخذ الشكل الثالث طريقة الاستدعاء وهي جلب أو استحضار شخصية ما أو حدث ما من مرحلة زمنية إلى عمل آخر جديد وبدرجات متفاوتة كما فعل بعض الكتاب الغربيون حينما استدعوا شخصيات مثل هارون الرشيد، علي بابا، جُحا، السندباد، شهرزاد وغيرها من الشخصيات الراسخة في التراثين العربي والشرقي. أما الشكل الرابع فيتخذ صيغة التضمين التي تعني أخذ مادة أدبية أو مرئية وإدخالها في نص جديد لإجراء صلة معه. انضوى الشكل الخامس تحت باب التحويل الذي يعني انتقال الشيئ من حال إلى آخر، فقد يتحول خبر إلى قصيدة أو قصة أو لوحة أو تمثيلية وما إلى ذلك وهو يقترب كثيرًا من مفهوم التكييف.

التكييف ومستويات المعالجة
تأثرت الأعمال السينمائية والتلفزيونية بحكايات "ألف ليلة وليلة" على مستويات متباينة في معالجتها البصرية وقد توزعت مستويات التكييف على خمس محاور أساسية وهي "الشخصية، والحكاية الإطار، والسمة العجائبية، وموضوع الجنس، والأجواء الشرقية". وقبل الولوج في هذه المحاور الخمسة لابد من الإشارة إلى أن الروايات والأفلام والمسلسلات التلفزيونية لم تتخلَ عن فكرة الخيانة الزوجية لزوجتي الملك شهريار وأخيه شاه زمان أو "شاه زنان" والتي أصبحت الاستهلال الأمثل لتبرير ظهور شهرزاد ودورها الواضح والمهيمن في صنع القص وتوالده في ضوء تقنية الحكاية الإطار المفجرة لتدفق القصص.
يعتقد الباحث صالح الصحن أن شهرزاد قد تعرضت إلى محاولات مسخ وتحريف وتشويه بينما يراها هو شخصية عفيفة لم تخن زوجها مثل الزوجة الأولى لشهريار أو زوجه أخيه شاه زمان. وهي المرأة الأنموذج التي ردت للمرأة المسلمة اعتبارها وهو استنتاج منطقي لا يرقى إليه الشك. كما يعتقد الباحث أن بعض الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية قد غيّرت في شخصيات مثل علاء الدين، وعلي بابا، والسندباد، وشهرزاد وقدّمت رؤى متباينة من خلال الحذف، والإضافة، والتحوير، وملاءمة الآخر بفعل الحبكة التي يديرها الآخر بسبب الأهواء والثقافات المغايرة لثقافتنا العربية والإسلامية.
تعتبر الحكاية الإطار هي المنجز التقني الأبرز في الليالي العربية الذي يستدعي وجود شهرزاد أولاً ويمهد لها الطريق لأن تسرد حكاياتها التي تفوق الألف بحكاية واحدة، لكن هذه التقنية المتفردة لا تمنع إفادة الآخر من القصص العجائبية والغرائبية التي فتحت آفاقًا جديدة للخطاب البصري وأدهشت المتلقين في خاتمة المطاف.
توقف الباحث عند أشهر قصتين أوروبيتين اقتبستا تقنية الحكاية الإطار وهما "الديكاميرون" للكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو، و "حكايات كانتربري" للكاتب البريطاني جيفري تشوسر. ففي "الديكاميرون" كلف بوكاشيو عشرة رواة بدلاً من الراوية شهرزاد، ووضع فكرة الحكي مقابل الموت في بنائه السردي علمًا بأن الهروب هنا من الطاعون وهو لا يختلف كثيرًا عن الموت. أما تشوسر فقد وضع ثلاثين راويًا وأسند إليهم حجة الرحيل بحثًا عن الشفاء والحياة بدلاً من مرض الطاعون أو الموت. ويرى الباحث بأن قصص هذين الكاتبين قد أُشبعت بالمكيدة، والاحتيال، والخيانات الزوجية، والمشاهد الإيروسية.
لم يتوقف الباحث عند هذين العملين المهمين فقط وإنما تعداهما إلى أعمال أخرى تبنت تقنية الحكاية الإطار مثل رواية "دون كيشوت" لسرفانتس، و "حكايات إيفالونا" لإيزابيل الليندي، والملحمة الشعرية القصصية "لالاروخ" لتوماس مور، و "تقرير برودي وقصص أخرى" لبورخيس وأدغار ألن بو وغيرهم الكثير.
تزخر الأعمال السينمائية والتلفزيونية بالمنحى العجائبي الذي أثار إعجاب المتلقين في كل مكان من كرتنا الأرضية. والعجائبي بحسب تودوروف "هو التردد الذي يحسه كائن لا يعرف القوانين الطبيعية فيما يواجه حدثًا فوق طبيعي حسب الظاهر". بدأت التكييفات العجائبية في حقول الأدب قبل التلفزيون والسينما والملاحظ أن الآخر قد طور المفاهيم العجائبية ولم يلتزم بما ورد بألف ليلة وليلة من مظاهر عجائبية سحرت المتلقي الغربي وقذفته في دوائر الفتنة والذهول.
يشكِّل الجنس محورًا رئيسًا من محاور التكييف والمعالجة الأوروبية فهم لا يجدون حرجًا في تناول الموضوعات الإيروسية، بل أن المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني قد استثمر ثيمة الجنس في أفلامه الثلاثة وهي "الديكاميرون، وحكايات كانتربري، وزهرة ألف ليلة وليلة" وألغى جميع التحفظات والاعتبارات الاجتماعية والدينية وهو يعتقد أن تبنيه لهذا الأسلوب إنما يفضح المؤسسات الدينية والاجتماعية والسياسية في أوروبا آنذاك. طبعًا، لا يمكن القبول بفكرة "عدم وجود امرأة عفيفة في العالم" حتى ولو وردت على لسان لودوفيكو أريوستو في قصصه الذائعة "أورلاندو فوريوزو" أو على لسان الملك شهريار أو بعض محرّضيه.
أما المحور الخامس والأخير فهو الأجواء الشرقية التي تمثلت في ظهور المساجد الإسلامية، وقصور السلاطين، وعروشهم، وحريمهم وما إلى ذلك من أجواء مترفة. ومع ذلك فإن هذه الأجواء لم تسلم من عمليات الحذف والتعديل والتحوير بما يتناسب مع الذائقة الغربية.
بذل الباحث صالح الصحن جهدًا كبيرًا في فحص آلية تكييف عدد من الأفلام السينمائية التي تمحورت حول حكايات "ألف ليلة وليلة" وقد توصل إلى نتائج جديرة بالدراسة وأولها تكييف فيلم "الليالي العربية" الذي أخرجه الفرنسي جورج ميليه متناولاً فيه الإنسان العربي بوصفه "شخصية بشعة، تركب الجمل، تحمل خنجزًا يقتل به ليسطوا على قافلة، ويغتصب امرأة غيره" (ص، 184). لا شك في أن الباحث رافض لهذه الآراء المُشوِّهة ولكن علينا أن نصحح هذه الصورة النمطية ونمحوها من ذاكرة الغربيين.
لا يخرج فيلم "الليالي العربية" الذي أخرجه الأميركي جوان راولنز عن إطار فيلم "حرامي بغداد" الذي يتبنى هو الآخر تقديم الصورة النمطية السلبية التي تؤمن بنظرية المؤامرة، فالملك يعتقد أنه يفقد عرشه بسبب تآمر أخيه، وأنه مُحاط بالراقصات والأجساد البضة التي تُطوّقه من كل حدب وصوب
لم تنجُ الرسوم المتحركة مثل "علاء الدين"، "والمصباح السحري"، و "علي بابا والأربعون حرامي" من التنميط الغربي الذي أظهر الشخصية العربية والمسلمة بطريقة منفرة وأحاطتها بمهيمنات العنف والجنس والبلادة.
كُيفت أفلام هاري بوتر فبدلاً من العصا السحرية والبساط الطائر نجد هاري بوتر يركب سيارته المسحورة التي تعبر البحر، وتحلق في الفضاء. كما أن الإنسان يتحول إلى قطة أو ذئب أو نمر، وهذه التحولات برمتها مستمدة من حكايات "ألف ليلة وليلة" التي تتحول فيها الصبية إلى كلبة والفتى إلى نصف حمار!
توصل الباحث إلى جملة من المفاهيم التي أُعتمدت كأدوات لتحليل الأفلام السينمائية والتلفزيونية نذكر منها تنوع أشكال التناص والتناول لحكايات "ألف ليلة وليلة" بطرائق متعددة كالإعداد والتضمين والتحويل وغيرها من أساليب التكييف والاقتباس. والمعالجات الفنية التي تتعلق بالبنية الفنية والشخصيات والحكاية الإطارية وما إلى ذلك فإنها تنطوي على مقاصد وأهداف اجتماعية وثقافية وسياسية ودينية. وهذا يفضي في خاتمة المطاف إلى تقاطع تأويل بعض المضامين والأصول التاريخية للحكايات مع الثقافة العربية والإسلامية عند تحويلها إلى منجزات بصرية يتبناها مخرجون غربيون من مختلف المشارب والتوجهات والأهواء.
يتمحور الفصل الرابع والأخير من هذا الكتاب على تحليل لثلاثة أعمال منتقاة وهي فيلم "ألف ليلة وليلة" 1974 للمخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني، وسلسلة "الليالي العربية" 2000 للمخرج الآيرلندي ستيف بارون، والفيلم التلفازي "شهرزاد" 1990 للمخرج الفرنسي فيليب دي بروكا.
ثمة قصدية واضحة في اختيار الباحث صالح الصحن لهذه العيّنات الثلاث التي تجمع بين الفيلم السينمائي، والسلسلة التلفازية المصغرة، والفيلم التلفازي. وهذه العينات تستجيب لاشتراطات البحث وأهداف الدراسة التي رسمها الباحث في ذهنه قبل أن تجد طريقها إلى التنفيذ والتطبيق العمليين.
ورب سائل يسأل عن المسوّغات الرئيسة التي دفعت الباحث لتناول هذه الأعمال الثلاثة دون غيرها، وحجته في ذلك أن هذه الأعمال الثلاثة المتنوعة هي الأقرب إلى منطقة اشتغال الخطاب السمعي البصري كما أنها تتمتع بمساحة واسعة من العرض والشهرة على المستويين العربي والعالمي. وفي السياق ذاته يمتلك مخرجو هذه الأعمال مواقف فكرية تتكئ على قراءات ورؤى فلسفية عميقة. كما تقوم هذه الأعمال على معالجات فنية وجمالية متنوعة في توظيف عناصر اللغة الصورية وبقية مهيمنات الشكل الفني الناجح، هذا إضافة إلى توظيف التقنيات الحديثة في تجسيد عوالم "ألف ليلة وليلة" وتقديمها بالشكل الذي يُبهر المتلقين، ويلبّي حاجتهم البصرية في مختلف أرجاء المعمورة.
لقد تحدثنا في متن هذه التغطية عن أفلام بازوليني الثلاثة بما فيها "ألف ليلة وليلة" لكن اللافت للنظر أن بازوليني لم يلجأ إلى في خطابه السردي إلى شخصيات شهريار وشهرزاد وإنما اكتفى بحكاية نور الدين وزمرّد المُقتبسة أصلاً من "حكاية علي شار والجارية زمرّد" والتي تدور حول فتى يبحث عن فتاة لتكون إطارا للحكايات التي ستتوالد عنها.
يعتمد الباحث صالح الصحن في تحليله لهذه الأعمال على أربعة معطيات أساسية وهي أشكال التناول الخمسة التي أشرنا إليها سلفًا "الاستلهام، والإعداد والاقتباس، والاستدعاء، والتضمين، والتحويل". ومستويات المعالجة الفنية التي تنطوي على سبعة محاور رئيسة وهي "البنية السردية، والشخصية، والحكاية الإطار، والتحولات العجائبية والجنس، والأجواء الشرقية، والشكل الفني لعناصر اللغة البصرية". أما المعطى الثالث في التحليل فيبحث عن المقاصد والأهداف الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية لكُتّاب هذه الأفلام ومخرجيها في آنٍ معا. فيما يتجه المعطى الرابع والأخير في عملية التحليل إلى التقاطع في تأويل بعض المضامين والأصول التاريخية للحكايات مع ثقافة الشرق والعرب عند تحويلها إلى منجزات بصرية لافتة للانتباه.
لم تسلم الحكايات من التعديل بما يتلاءم مع رؤية المخرج الغربي، ففي السلسلة المصغرة "الليالي العربية" التي أنجزها المخرج الآيرلندي ستيف بارون بعد أن أحدث تغييرًا جذريًا في أصول الخيانة، وحولها من مجرد خيانة زوجية مع عبد أو خادم إلى "زنا محارم" حيث يقع الأخ في حب زوجة أخيه. كما حوّل شخصية شهريار إلى منجم للهمّ والمكابدة، والإيحاء بأنها تقف على حافة الجنون. ومن التغييرات اللافتة في هذه السلسة أن شهرزاد تذهب إلى الحكواتي المتمرس الذي ينصحها قائلاً: "إن لم يكن جمهوركِ مُهتمًا بكِ، قُضي عليكِ" (ص، 287). وفي الحكاية الإطار يُذكر الحكواتي الذي يعرف سرّ هذه المهنة أهمية الحكايات في حياة خاصة الناس وعامتهم: "يحتاج الناس إلى القصص أكثر من حاجتهم إلى الخبز. تخبرنا القصص، كيف نعيش، ولماذا نعيش؟" (ص، 298).
ما يلفت الانتباه في الفيلم التلفازي "شهرزاد" 1990 الذي أخرجه الفرنسي فيليب دي بروكا أن شهرزاد تخون زوجها الملك فيقرر إعدامها لكن طفلَي الجلاد يسألان والديهما عن الذنب الكبير الذي اقترفته شهرزاد كي تستحق هذه العقوبة القاسية؟ وتكون الإجابة بالحكي الذي يؤجل فعل الإعدام وينقذ شهرزاد في خاتمة المطاف.
لا شك في أن الجهد الذي بذله الدكتور صالح الصحن كبير جدًا وأن عدد المصادر والمراجع التي اعتمدها هي كثيرة بمكان بحيث بلغ عددها 258 مصدرًا، كما أن عدد الأفلام السينمائية والتلفازية والسلسلات المصغرة والطويلة التي شاهدها قد أمدّته برؤية شاملة لموضوع بحثه الذي يستحق الثناء والتقدير، فهو الأول من نوعه في العراق، ولم يسبقه في هذا المضمار السمعي البصري أحد.
ثمة ملاحظة أساسية في بنية الهيكل العام لهذا الكتاب الذي هو في الأساس أطروحة جامعية تقدم بها الباحث لنيل درجة الدكتوراة من كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد. لقد خصص الباحث فصلين كاملين (136) صفحة من القطع الكبير لتتبع ألف ليلة وليلة في السردية العربية وفي الثقافة العالمية قبل أن ينتقل في الفصل الثالث إلى موضوع البحث وهو "ألف ليلة في السينما والتلفزيون". وربما سيكون البحث أكثر موضوعية وتوازنًا لو أنه اختصر الفصلين الأولين بفصل واحد لا يتجاوز الأربعين صفحة في أفضل الأحوال خصوصًا وأن أطروحة الدكتور محسن جاسم الموسوي المعنونة "الوقوع في دائرة السحر" التي قدّمها لجامعة دالهوزي الكندية تغطي دور الليالي العربية في الثقافة العالمية.
جدير ذكره أن الدكتور صالح الصحن من مواليد بغداد 1955، وهو مخرج تلفزيوني عمل في عدد من المحطات التلفزيونية وقد أصدر كتابين حتى الآن وهما "ألف ليلة وليلة في السينما والتلفزيون" و "التذوق السينمائي والتلفزيوني"، وسوف يصدر له قريبا كتاب جديد يحمل عنوان "الشخصية النموذجية في الدراما التلفزيونية". ويعمل حاليا أستاذًا لمادة الإخراج التلفزيوني في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد.


عدنان حسين أحمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى