قال صلاح عبدالصبور " المسرح لا يُكتب إلا شعرا"، فالشعر من وجهة نظره ضرورة في المسرح، وهو أقدر من النثر على تجسيد الصراع الدرامي، لكن يبدو أن كثيرين لا يشاركونه الرأي فمعظم المسرحيين لدينا ليسوا شعراء، والشعراء لا يميلون لكتابة النصوص المسرحية إلا قليلا، ومن هذا القليل الشاعر المصري أحمد سراج الذي أصدر مؤخرا نصه المسرحي الثامن "لمسة البعث" (دار نهضة مصر) وفيه يستعيد عصر ملوك الطوائف، تحديدا مع دخول ملك إشبيلية المعتمد بن عباد لمدينة قرطبة منهيا حكم بني جهور.
المسرحية لم تعالج شخصية الملك الغازي، رغم امتلاكها لمقومات وعناصر درامية هائلة، فقد حكم إشبيلية وهو في الثلاثين من عمره، أغراه زهو شبابه بأن يوسع من حدود مملكته فسعى إلى حروب مع دويلات الجوار المسلمة، ونجح في ضم غرناطة وقرطبة وغيرهما ليحكم أغلب جنوب الأندلس، ولم يجد غضاضة في الاستقواء على خصومه بالعدو المشترك، فدفع الجزية لألفونس السادس ملك قشتالة، فاستهان به وبغيره من ملوك الطوائف فانتزع طليطلة ثم فكر في غزو مملكة بن عباد الذي لم تنفعه الجزية، فاستنجد بالمرابطين، لتأتي نهايته على يد من استجار به، وليموت أسيرا ذليلا.
كان يمكن لأحمد سراج أن يتخذ من تلك الأحداث موضوعا لمسرحيته، لكن هدفه لم يكن إسقاط تاريخ الفتن على حاضر يشبهه، وكان بوسعه أن يقصرها على تناول علاقة الحب الشهيرة التي جمعت بين الشاعر ابن زيدون والأميرة ولادة بنت المستكفي، لكن ذلك أيضا لم يكن هدفه، لذا اختار لحظة سقوط قرطبة في يد المعتمد، أي لحظة تمام زوال سلطة الأميرة المعشوقة، مع بداية سلطة جديدة للوزير الشاعر العائد إلى قرطبه بعد فراره منها بأربعين سنة، أعتقد أن اتخاذ الكاتب لتلك اللحظة منطلقا لأحداث مسرحيته ينبىء بغرضه من كتابتها متمثلا في إضاءة تلك العلاقة الملتبسة والمتشابكة بين المثقف والسلطة، فابن زيدون كان واحدا من عامة الشعب.
أيام العاشق
يضعنا تعريف الكاتب بشخصيات مسرحيته مباشرة في قلب فكرته، فمثلا عرف ابن زيدون بأنه "شاعر ووزير، في التاسعة والستين، يتحرك ببطءٍ، وينطق كلماته في هدوء مختلط بالحزن كثيرًا". بعده يأتي المعتمد "ملك قُرطبَة وإشبيلية، في الحاديةِ والثَّلاثين". هكذا يضع فتوة السلطة في مواجهة شيخوخة المثقف، ويصف ابن عبدوس غريم ابن زيدون بأنه "في التاسعةِ والستين، كان وزيرًا في قرطبة" أي ينتمي للسلطة البائدة بينما قائد الحرس في الثلاثين. ونلاحظ ابن زيدون وغريمه ابن عبدوس عاشا حياتهما كلها في ظل الطوائف، لذا كانا ضعيفين في مواجهة سلطتها.
والمسرحية تتألف من ستة مشاهد، وهي أيام من عمر العائد إلى قرطبة، تبدأ بيوم "المكر الأول" حيث يبدي ابن عمار وزير المعتمد قلقه من سطوة ابن زيدون، وخادمه "هادي" وهو صديق طفولته يغذي فيه حلم الملك ويغريه بالتآمر على المعتمد، هكذا تكشف المسرحية منذ لحظاتها الأولى عن بذور الفتنة المستترة، فالخادم يغريه بالملك لذا يهون من شأن ابن زيدون "بل تصنعُ شيئًا من وهمٍ / شبحًا/ سجنًا/ وتصدِّق صُنعَ خيالكَ أنت/ وما هو إلا/ وهم/ مسجون/ مطرود".
لكن الوزير يخشى من سطوة ابن زيدون ويصرخ شاكيا "ها هِي قرطبةُ المستباحةُ بي، بتدابيري، لا تذكرُ غير ابن زيدون"، لذا يتمنى موته "لو أقضِي عليهِ بنصفِ حَياتِي"، فيقترح الخادم خطة تريح الوزير ممن يخشى، "فهُنا طرُقُ الموتِ أكثرُ من أن نُحصيها؛ طعنة في الحشودِ .. هنا، رمية في الظلامِ .. هناك".
يجعل الشاعر من قصر ولادة أو قرطبة القلب فضاء لليوم الثالث "يوم يقترب النسيم"، ويبدو عليه أثر الزمن وتبدل الأحوال، حيث "الأثاث قديم، تتوسط القاعة أريكة، أمامها نافورة صغيرة لا تعمل". والخادمة العجوز تشكو "الوِسادَةُ أقوى مِني.. الترابُ بلا آخرٍ.. لا نُزارُ ولا نُذكر".
أما ولادة فلا تزال محتجبة في الطابق العلوى حيث لا يراها أحد. يتبادل الخدم حديثا عن الأميرة وعشق الشاعر وسعي الوشاة، بما يمهد لكيد جديد يتم التدبير له في "يوم المكر الثاني"، ولا يظهر ابن زيدون إلا في اليوم الخامس، عند قصر ولادة، يناجي نفسه "هل دواء يعيدُ شبابا مضى؟.. هل دواء يرد على الغائبِ الوطنَا؟". يعرفه غريمه القديم ابن عبدوس، فيخرج سيفه لكن ابن زيدون يوقفه "ما تزالُ بهيم الطباع.. وما منح العمرُ عقلكَ شيئًا"، ويصف ما مر به "من جمر السجن إلى منفى الروح" ويتهيأ لرحلة يعرف أن فيها هلاكه، لكنه جاء من أجلها "لمسةُ البعثِ أنتِ.. فلا تبخلي بالحياةِ.. على من يحيا لك".
وتأتي المحاكمة "يوم بألف ألف" يستنكر ابن زيدون "بعد سجني أحاكم"، ويذكر القاضي بأصل الداء، يقول "حاكمِ المنصور على خلعٍ لخليفتِنا وخلافتِنا.. رجل يبني مسجدًا من جماجم جيراننا.. كي يخفي عورة حكم مغصوب".
التاريخ والرمز
أثارت تجربة ابن زيدون أسئلة حول كُنه العلاقة بين المثقف والسلطة، فاقتراب الشاعر من سلطة بني جهور في قرطبه أدى إلى توليه الوزارة، ثم إلى عزله منها ودخوله السجن، فلما نجح في الهرب، لجأ إلى خصومهم بإشبيليه، والمفارقة أنه لقى مصرعه بعد عام، بعد سقوط قرطبة، فالملوك هكذا لا أمان لهم، وبحسب النص "إذَا غَضِبوا أو خَافوا ذِئاب".
مسرحية أحمد سراج لا تستدعي التاريخ، وإنما تشير إليه من بعد رامزة إلى تلك العلاقة التي أودت بحياة الشاعر العاشق، بعدما أذاقته مرارات السجن والنفي، وما المحاكمة في المشهد الأخير إلا تجسيد للرمز، حيث المسجون يظل رهن المحاكمة، لأنه أحب ابنة الخلفاء، ويتعدد القضاة يحاكمونه قاض إثر قاض، وتدخل قاضية يظنها المسجون ولادة فيهتف باسمها، وتقول إنها القاضية وتعدد ذنوبه مستعيدة كل ما قيل للتفريق بين العاشقين، يبدو وكأن المحاكمة والتعذيب الذي تراه القاضية تطهيرا، من هذيان ما قبل الموت، وحينما يأتيه صوت ولادة، يملأ الضوء المكان، وتعلو أصوات الطيور المغردة، فيما يدور ابن زيدون في سعادة. ويناديه الصوت أن تعال، ويظلم المسرح دلالة على ذهابه بعد أن طالته لمسة البعث.
"لمسة البعث" تعيد طرح علاقة الشاعر والسلطة | أحمد رجب | MEO
المسرحية لم تعالج شخصية الملك الغازي، رغم امتلاكها لمقومات وعناصر درامية هائلة، فقد حكم إشبيلية وهو في الثلاثين من عمره، أغراه زهو شبابه بأن يوسع من حدود مملكته فسعى إلى حروب مع دويلات الجوار المسلمة، ونجح في ضم غرناطة وقرطبة وغيرهما ليحكم أغلب جنوب الأندلس، ولم يجد غضاضة في الاستقواء على خصومه بالعدو المشترك، فدفع الجزية لألفونس السادس ملك قشتالة، فاستهان به وبغيره من ملوك الطوائف فانتزع طليطلة ثم فكر في غزو مملكة بن عباد الذي لم تنفعه الجزية، فاستنجد بالمرابطين، لتأتي نهايته على يد من استجار به، وليموت أسيرا ذليلا.
كان يمكن لأحمد سراج أن يتخذ من تلك الأحداث موضوعا لمسرحيته، لكن هدفه لم يكن إسقاط تاريخ الفتن على حاضر يشبهه، وكان بوسعه أن يقصرها على تناول علاقة الحب الشهيرة التي جمعت بين الشاعر ابن زيدون والأميرة ولادة بنت المستكفي، لكن ذلك أيضا لم يكن هدفه، لذا اختار لحظة سقوط قرطبة في يد المعتمد، أي لحظة تمام زوال سلطة الأميرة المعشوقة، مع بداية سلطة جديدة للوزير الشاعر العائد إلى قرطبه بعد فراره منها بأربعين سنة، أعتقد أن اتخاذ الكاتب لتلك اللحظة منطلقا لأحداث مسرحيته ينبىء بغرضه من كتابتها متمثلا في إضاءة تلك العلاقة الملتبسة والمتشابكة بين المثقف والسلطة، فابن زيدون كان واحدا من عامة الشعب.
أيام العاشق
يضعنا تعريف الكاتب بشخصيات مسرحيته مباشرة في قلب فكرته، فمثلا عرف ابن زيدون بأنه "شاعر ووزير، في التاسعة والستين، يتحرك ببطءٍ، وينطق كلماته في هدوء مختلط بالحزن كثيرًا". بعده يأتي المعتمد "ملك قُرطبَة وإشبيلية، في الحاديةِ والثَّلاثين". هكذا يضع فتوة السلطة في مواجهة شيخوخة المثقف، ويصف ابن عبدوس غريم ابن زيدون بأنه "في التاسعةِ والستين، كان وزيرًا في قرطبة" أي ينتمي للسلطة البائدة بينما قائد الحرس في الثلاثين. ونلاحظ ابن زيدون وغريمه ابن عبدوس عاشا حياتهما كلها في ظل الطوائف، لذا كانا ضعيفين في مواجهة سلطتها.
والمسرحية تتألف من ستة مشاهد، وهي أيام من عمر العائد إلى قرطبة، تبدأ بيوم "المكر الأول" حيث يبدي ابن عمار وزير المعتمد قلقه من سطوة ابن زيدون، وخادمه "هادي" وهو صديق طفولته يغذي فيه حلم الملك ويغريه بالتآمر على المعتمد، هكذا تكشف المسرحية منذ لحظاتها الأولى عن بذور الفتنة المستترة، فالخادم يغريه بالملك لذا يهون من شأن ابن زيدون "بل تصنعُ شيئًا من وهمٍ / شبحًا/ سجنًا/ وتصدِّق صُنعَ خيالكَ أنت/ وما هو إلا/ وهم/ مسجون/ مطرود".
لكن الوزير يخشى من سطوة ابن زيدون ويصرخ شاكيا "ها هِي قرطبةُ المستباحةُ بي، بتدابيري، لا تذكرُ غير ابن زيدون"، لذا يتمنى موته "لو أقضِي عليهِ بنصفِ حَياتِي"، فيقترح الخادم خطة تريح الوزير ممن يخشى، "فهُنا طرُقُ الموتِ أكثرُ من أن نُحصيها؛ طعنة في الحشودِ .. هنا، رمية في الظلامِ .. هناك".
يجعل الشاعر من قصر ولادة أو قرطبة القلب فضاء لليوم الثالث "يوم يقترب النسيم"، ويبدو عليه أثر الزمن وتبدل الأحوال، حيث "الأثاث قديم، تتوسط القاعة أريكة، أمامها نافورة صغيرة لا تعمل". والخادمة العجوز تشكو "الوِسادَةُ أقوى مِني.. الترابُ بلا آخرٍ.. لا نُزارُ ولا نُذكر".
أما ولادة فلا تزال محتجبة في الطابق العلوى حيث لا يراها أحد. يتبادل الخدم حديثا عن الأميرة وعشق الشاعر وسعي الوشاة، بما يمهد لكيد جديد يتم التدبير له في "يوم المكر الثاني"، ولا يظهر ابن زيدون إلا في اليوم الخامس، عند قصر ولادة، يناجي نفسه "هل دواء يعيدُ شبابا مضى؟.. هل دواء يرد على الغائبِ الوطنَا؟". يعرفه غريمه القديم ابن عبدوس، فيخرج سيفه لكن ابن زيدون يوقفه "ما تزالُ بهيم الطباع.. وما منح العمرُ عقلكَ شيئًا"، ويصف ما مر به "من جمر السجن إلى منفى الروح" ويتهيأ لرحلة يعرف أن فيها هلاكه، لكنه جاء من أجلها "لمسةُ البعثِ أنتِ.. فلا تبخلي بالحياةِ.. على من يحيا لك".
وتأتي المحاكمة "يوم بألف ألف" يستنكر ابن زيدون "بعد سجني أحاكم"، ويذكر القاضي بأصل الداء، يقول "حاكمِ المنصور على خلعٍ لخليفتِنا وخلافتِنا.. رجل يبني مسجدًا من جماجم جيراننا.. كي يخفي عورة حكم مغصوب".
التاريخ والرمز
أثارت تجربة ابن زيدون أسئلة حول كُنه العلاقة بين المثقف والسلطة، فاقتراب الشاعر من سلطة بني جهور في قرطبه أدى إلى توليه الوزارة، ثم إلى عزله منها ودخوله السجن، فلما نجح في الهرب، لجأ إلى خصومهم بإشبيليه، والمفارقة أنه لقى مصرعه بعد عام، بعد سقوط قرطبة، فالملوك هكذا لا أمان لهم، وبحسب النص "إذَا غَضِبوا أو خَافوا ذِئاب".
مسرحية أحمد سراج لا تستدعي التاريخ، وإنما تشير إليه من بعد رامزة إلى تلك العلاقة التي أودت بحياة الشاعر العاشق، بعدما أذاقته مرارات السجن والنفي، وما المحاكمة في المشهد الأخير إلا تجسيد للرمز، حيث المسجون يظل رهن المحاكمة، لأنه أحب ابنة الخلفاء، ويتعدد القضاة يحاكمونه قاض إثر قاض، وتدخل قاضية يظنها المسجون ولادة فيهتف باسمها، وتقول إنها القاضية وتعدد ذنوبه مستعيدة كل ما قيل للتفريق بين العاشقين، يبدو وكأن المحاكمة والتعذيب الذي تراه القاضية تطهيرا، من هذيان ما قبل الموت، وحينما يأتيه صوت ولادة، يملأ الضوء المكان، وتعلو أصوات الطيور المغردة، فيما يدور ابن زيدون في سعادة. ويناديه الصوت أن تعال، ويظلم المسرح دلالة على ذهابه بعد أن طالته لمسة البعث.
"لمسة البعث" تعيد طرح علاقة الشاعر والسلطة من خلال علاقة حب | أحمد رجب | صحيفة العرب
"لمسة البعث" مسرحية شعرية تعيد طرح علاقة المثقف بالسلطة
alarab.news
"لمسة البعث" تعيد طرح علاقة الشاعر والسلطة | أحمد رجب | MEO