ها قد أغلقت أبواب التراث والثورة، ولم يعد بالإمكان استكشاف أسئلة أخرى للفكر العربي مشفوعة براهنيتها المتيمة للتو. ساعياً صوب تغيير الخوف المتجذر فينا، فحينَ كان السياط يكركب الملايين، لم يكن سوى مُطأطئ الرأس، أمام بياض شعره وعنفوان قلبه.
في خريف 2001، وككل الغريبين عن وسط سعينا إليه مُحملين بظنونٍ وأوهامِ التخرج. وحين ذاك كنا طلاب فلسفة مرميين في غرف وقاعات كلية هندسة العمارة في جامعة حلب. منحنا دقائق للحديث قبل إتمام أولى مُحاضراته. بعيون المترقب الحائر والمنكسر الذي خسر سعيه نحو أحد الفروع الأخرى سألته: "دكتور كيف ندرس المادة" تمنى أن أعيد طرح سؤالي في المحاضرة. قبل الانتهاء بلحظات قال بمعنى ما أتذكره: من خجل أو خاف من طرح سؤاله، ها هنا أقول لكم جميعاً: ستخشون حتى على وطنكم، أنتم طُلاب فلسفة وعلم اقتحموا أسوار الممنوعات واكسروا القيود، وحدها كفيلة بإعادة إنسانيتكم ولا تنسوا، لا سقف لعقولكم.
ككثر غيري، كُنا نستغرب حضور من لا علاقة لهم بدفعتنا، المُحاضرات التي يُلقيها علينا، رُبما بقينا أشهر أو أكثر حتى عرفنا قيمة ما بين أيدينا، وعلى صعوبة ما كُنا نتلقاه، أو هكذا كان يُخيل إلينا. فالحديث عن الدكتاتوريات والاستبداد والحقوق، والخوض في غمار السياسة والفكر الفلسفي المعاصر، الانتقال ما بين نظريات ابن سينا، أو جدلية هيغل والديالكتيك، كانت بالنسبة لعقول البعض منا أو الكثيرين إحدى الغرائب وكفيلة بخلق مشاكل بل معركة داخل جمجمتنا الفتية.
ظل يتحدث عن الحرية والتقدم وعن أسئلة التاريخ والوجود، ساعياً نحو إنجاز المهمات الراهنة القصوى الآن وليس غداً، الآن حصراً، لأن غداً لن يأتي، والشباب يهرمون كما كان يصفهم.
أيها الشباب لا تُعيدوا إنتاج أفكار الأجيال السابقة، ابتكروا خطاباً شبابياً معاصراَ
في 2002 وبعد انتقالنا إلى المبنى الجديد، في أولى محاضراته ظل يُردد لنا ولمن يسبقنا بالسنوات: أيها الشباب لا تُعيدوا إنتاج أفكار الأجيال السابقة، ابتكروا خطاباً شبابياً مُعاصراً. كعادته دوماً بعد الانتهاء من كُل محاضرةً كان يجمع الشباب من حوله، لعله كان يبحث عن فضاء التسامح، أو ساعياً نحو خلق فضاء جديد بعيداً عن لوثة اختراق الأجساد منه إلى الأذهان، كمشروط فعلي لتفعيل خطابه الجديد، مُستلهماً همم الشباب في مقارعة الخطاب المتسلل من أفواه الأيديولوجيين القومجيين أو الإسلامويين الساعين نحو مُصادرة كُل ما يستطيعون حتى الدين نفسه، وبل حتى الماركسيين أنفسهم، شاحذاً همم طلبة قسم الفلسفة في قطع الصلة مع الخطاب الجبان والمنبطح لسياط السلطة المتغول في وجه الشعب، ضاغطا صوب ابتكار خطاب بواقعية جذب المشارب المتنوعة، وهو اللامؤمن بما يُروج حول الانهيارات في الفكرة القومية العربية، إنما مُكرراً حول التفكيك الذي أنتج هذه المعضلة.
ابتسم في وجه طالب كوباني: ترقبوا اللحظة الحاسمة، هي آتية، آتية. لا تستسلموا أنتم أصحاب هذه الأرض الفعليون، التاريخ يقول إنكم أيها الكُرد ما كنتم يومً دخلاء أو طوارئ على هذه الأرض. في جميع محاضراته كانت عبارات لا ثوابت في الفرز ما بين الحاكم والمحكوم، ما بين المُستبد والمستبِد، ما تظنونه باقياً جاثماً على صدوركم، هي ليست لحظات حتى ترونه قدّ خرّ هارباً ساقطاً متحطماً.
في ربيع 2003، كانت الأجواء مشحونة، والتوتر بادياً على الجميع، ولديمومة الشمولية، كان الكُرد في سوريا متهمون بتصرف الكُرد في العراق. كُنا خونة وعملاء وصهاينة في نظر القومجيين والطلبة البعثيين والفلسطينيين المنتسبين للجامعة، منا من ابتعد قليلاً عن المحاضرات، ومنا من آثر الصمت والحضور، ووجد من لم يكترث. دخل علينا أبونا الذي يقولون عنه قد رحل. تحدث عن سقوط بغداد/ أو تحريرها، كما كان يقول: لا فرق. فالتخلص من الاستبداد كان من الخارج، وليس من الداخل، فالداخل ما كان له التخلص أو الاختراق، مُتحدثاً عن هزلية العوالم الثابتة للأبد، إذ لا أبد أمام تغيرات مجرى أحداث التاريخ. طلب من إحدى الفتيات الكُرديات النهوض، مستفسراً: لماذا الخوف؟ تحدث الدكتور تيزيني عن نظرية الداخل والخارج، وكيف أن الخارج يصبح داخلاً، بعد أن يفقد الداخل أية بارقة أمل بالتغيير المنشود، فالدائرة الكبيرة التي تضم الأجناس غير المتطابقة، تصغر رويدا رويداً حتى تصل إلى حد اللا قبول للآخر، تنفجر الدائرة من الخارج، وهكذا يغدوا وكان الداخل والخارج صنوان.
لا زلت أحتفظ بمحاضراته في مادة الفكر العربي الحديث. التغيير في مجرى إحدى المحاضرة في بدايات تحرير العراق كانت عبر الإشارات في البداية ثم الوضوح في الطرح وتوصيف المستهدف. إن لم تتغير القبضة الأمنية وإن لم يتغير الواقع لدينا، فإن سوريا ستكون عراق الثانية، مُطالبا بفتح الدائرة الآن وحصراً الآن، قبل أن يكون فتح الدائرة بيداً خارجية أشبه بالفتح المبين، فالعناد ما كان بجدوى دون حُطام وخراب.
ظل يُردد ثالوثه المُقدس، الحرية والكرامة والكفاية المادية وهي إما أن تتحقق أو أن انفجاراً كبيراً سيصيب الدولة والمجتمع كُله. لعل بر الأمان الذي ما حظي به، دفعه للابتعاد عن عفونة الثورجيين القابضين على روح تطلعات الشباب والحارفين لمسار الرغبة الشعبية بالتغيير والجدِّة. وبقي يُكرر دوماً حول الاستعصاء السوري الرسمي في حل قضايا القوميات والإشكاليات التي تطرأ داخل الوعي السوري بزيف الاعتقاد حول همجية وعنصرية وانفصالية المختلفين مع السؤدد السائد، خاصة وأن الإنجاز الساعي لتحقيقه كان اللاحق المشروط بانجاز السابق، مستنداً إلى استنباط ما يؤجج سعير النار الداخلية للمقموعين والمشردين والجائعين والمحرومين من ترف اللغة والوجود الرسمي ضمن حياض الوجود التاريخي لهم. مؤكداً على أن شرائط عملية التغيير العظمى تنطلق من الإستراتيجية التي تحكم الراهن وما يستلزم النهوض به للحفاظ على سوريا، كاستمرارية التاريخ والتشبث بالوعي الوجودي عبر جدلية العين والمخرز، رابطً بين القضايا الفكرية وحقوق القوميات مع الإجابة حول سؤالي الحرية والتقدم، مستذكراً عبر نصوص التاريخ، الدور التاريخي الدائم للكُرد في سوريا ومستقبلها، مخالفاً لحاضره المنسوف بمفاعيل سلطوية ساعية لفتح شقوق وتوسيعها بين الكُرد والبقية.
تقدم كاتب الأسطر للامتحان في إحدى مواد قسم الفلسفة لخمس دورات متتالية، كان الرسوب حصيلتها كُلها. بعد عودة الطيب التيزيني لفحَ النجاح بوجهه وبمعدل راق، مُجيبا على الاستفسار حول ما جرى والمُدرس السابق: هو ليس فقط لا يقرأ، هو لا يجيد التصحيح، ضاحكاً ومكملاً: وهو من نتائج التصحيحية.
د. طيب تيزيني
في خريف 2001، وككل الغريبين عن وسط سعينا إليه مُحملين بظنونٍ وأوهامِ التخرج. وحين ذاك كنا طلاب فلسفة مرميين في غرف وقاعات كلية هندسة العمارة في جامعة حلب. منحنا دقائق للحديث قبل إتمام أولى مُحاضراته. بعيون المترقب الحائر والمنكسر الذي خسر سعيه نحو أحد الفروع الأخرى سألته: "دكتور كيف ندرس المادة" تمنى أن أعيد طرح سؤالي في المحاضرة. قبل الانتهاء بلحظات قال بمعنى ما أتذكره: من خجل أو خاف من طرح سؤاله، ها هنا أقول لكم جميعاً: ستخشون حتى على وطنكم، أنتم طُلاب فلسفة وعلم اقتحموا أسوار الممنوعات واكسروا القيود، وحدها كفيلة بإعادة إنسانيتكم ولا تنسوا، لا سقف لعقولكم.
ككثر غيري، كُنا نستغرب حضور من لا علاقة لهم بدفعتنا، المُحاضرات التي يُلقيها علينا، رُبما بقينا أشهر أو أكثر حتى عرفنا قيمة ما بين أيدينا، وعلى صعوبة ما كُنا نتلقاه، أو هكذا كان يُخيل إلينا. فالحديث عن الدكتاتوريات والاستبداد والحقوق، والخوض في غمار السياسة والفكر الفلسفي المعاصر، الانتقال ما بين نظريات ابن سينا، أو جدلية هيغل والديالكتيك، كانت بالنسبة لعقول البعض منا أو الكثيرين إحدى الغرائب وكفيلة بخلق مشاكل بل معركة داخل جمجمتنا الفتية.
ظل يتحدث عن الحرية والتقدم وعن أسئلة التاريخ والوجود، ساعياً نحو إنجاز المهمات الراهنة القصوى الآن وليس غداً، الآن حصراً، لأن غداً لن يأتي، والشباب يهرمون كما كان يصفهم.
أيها الشباب لا تُعيدوا إنتاج أفكار الأجيال السابقة، ابتكروا خطاباً شبابياً معاصراَ
في 2002 وبعد انتقالنا إلى المبنى الجديد، في أولى محاضراته ظل يُردد لنا ولمن يسبقنا بالسنوات: أيها الشباب لا تُعيدوا إنتاج أفكار الأجيال السابقة، ابتكروا خطاباً شبابياً مُعاصراً. كعادته دوماً بعد الانتهاء من كُل محاضرةً كان يجمع الشباب من حوله، لعله كان يبحث عن فضاء التسامح، أو ساعياً نحو خلق فضاء جديد بعيداً عن لوثة اختراق الأجساد منه إلى الأذهان، كمشروط فعلي لتفعيل خطابه الجديد، مُستلهماً همم الشباب في مقارعة الخطاب المتسلل من أفواه الأيديولوجيين القومجيين أو الإسلامويين الساعين نحو مُصادرة كُل ما يستطيعون حتى الدين نفسه، وبل حتى الماركسيين أنفسهم، شاحذاً همم طلبة قسم الفلسفة في قطع الصلة مع الخطاب الجبان والمنبطح لسياط السلطة المتغول في وجه الشعب، ضاغطا صوب ابتكار خطاب بواقعية جذب المشارب المتنوعة، وهو اللامؤمن بما يُروج حول الانهيارات في الفكرة القومية العربية، إنما مُكرراً حول التفكيك الذي أنتج هذه المعضلة.
ابتسم في وجه طالب كوباني: ترقبوا اللحظة الحاسمة، هي آتية، آتية. لا تستسلموا أنتم أصحاب هذه الأرض الفعليون، التاريخ يقول إنكم أيها الكُرد ما كنتم يومً دخلاء أو طوارئ على هذه الأرض. في جميع محاضراته كانت عبارات لا ثوابت في الفرز ما بين الحاكم والمحكوم، ما بين المُستبد والمستبِد، ما تظنونه باقياً جاثماً على صدوركم، هي ليست لحظات حتى ترونه قدّ خرّ هارباً ساقطاً متحطماً.
في ربيع 2003، كانت الأجواء مشحونة، والتوتر بادياً على الجميع، ولديمومة الشمولية، كان الكُرد في سوريا متهمون بتصرف الكُرد في العراق. كُنا خونة وعملاء وصهاينة في نظر القومجيين والطلبة البعثيين والفلسطينيين المنتسبين للجامعة، منا من ابتعد قليلاً عن المحاضرات، ومنا من آثر الصمت والحضور، ووجد من لم يكترث. دخل علينا أبونا الذي يقولون عنه قد رحل. تحدث عن سقوط بغداد/ أو تحريرها، كما كان يقول: لا فرق. فالتخلص من الاستبداد كان من الخارج، وليس من الداخل، فالداخل ما كان له التخلص أو الاختراق، مُتحدثاً عن هزلية العوالم الثابتة للأبد، إذ لا أبد أمام تغيرات مجرى أحداث التاريخ. طلب من إحدى الفتيات الكُرديات النهوض، مستفسراً: لماذا الخوف؟ تحدث الدكتور تيزيني عن نظرية الداخل والخارج، وكيف أن الخارج يصبح داخلاً، بعد أن يفقد الداخل أية بارقة أمل بالتغيير المنشود، فالدائرة الكبيرة التي تضم الأجناس غير المتطابقة، تصغر رويدا رويداً حتى تصل إلى حد اللا قبول للآخر، تنفجر الدائرة من الخارج، وهكذا يغدوا وكان الداخل والخارج صنوان.
لا زلت أحتفظ بمحاضراته في مادة الفكر العربي الحديث. التغيير في مجرى إحدى المحاضرة في بدايات تحرير العراق كانت عبر الإشارات في البداية ثم الوضوح في الطرح وتوصيف المستهدف. إن لم تتغير القبضة الأمنية وإن لم يتغير الواقع لدينا، فإن سوريا ستكون عراق الثانية، مُطالبا بفتح الدائرة الآن وحصراً الآن، قبل أن يكون فتح الدائرة بيداً خارجية أشبه بالفتح المبين، فالعناد ما كان بجدوى دون حُطام وخراب.
ظل يُردد ثالوثه المُقدس، الحرية والكرامة والكفاية المادية وهي إما أن تتحقق أو أن انفجاراً كبيراً سيصيب الدولة والمجتمع كُله. لعل بر الأمان الذي ما حظي به، دفعه للابتعاد عن عفونة الثورجيين القابضين على روح تطلعات الشباب والحارفين لمسار الرغبة الشعبية بالتغيير والجدِّة. وبقي يُكرر دوماً حول الاستعصاء السوري الرسمي في حل قضايا القوميات والإشكاليات التي تطرأ داخل الوعي السوري بزيف الاعتقاد حول همجية وعنصرية وانفصالية المختلفين مع السؤدد السائد، خاصة وأن الإنجاز الساعي لتحقيقه كان اللاحق المشروط بانجاز السابق، مستنداً إلى استنباط ما يؤجج سعير النار الداخلية للمقموعين والمشردين والجائعين والمحرومين من ترف اللغة والوجود الرسمي ضمن حياض الوجود التاريخي لهم. مؤكداً على أن شرائط عملية التغيير العظمى تنطلق من الإستراتيجية التي تحكم الراهن وما يستلزم النهوض به للحفاظ على سوريا، كاستمرارية التاريخ والتشبث بالوعي الوجودي عبر جدلية العين والمخرز، رابطً بين القضايا الفكرية وحقوق القوميات مع الإجابة حول سؤالي الحرية والتقدم، مستذكراً عبر نصوص التاريخ، الدور التاريخي الدائم للكُرد في سوريا ومستقبلها، مخالفاً لحاضره المنسوف بمفاعيل سلطوية ساعية لفتح شقوق وتوسيعها بين الكُرد والبقية.
تقدم كاتب الأسطر للامتحان في إحدى مواد قسم الفلسفة لخمس دورات متتالية، كان الرسوب حصيلتها كُلها. بعد عودة الطيب التيزيني لفحَ النجاح بوجهه وبمعدل راق، مُجيبا على الاستفسار حول ما جرى والمُدرس السابق: هو ليس فقط لا يقرأ، هو لا يجيد التصحيح، ضاحكاً ومكملاً: وهو من نتائج التصحيحية.
د. طيب تيزيني