عبد الفتاح القرقني - اعتراف بالجميل

Diapositive2.JPG

بعد ستّ سنوات من التقاعد لم أنس أبدا السّيّد محمّد شبوح ذاك المنظّف البشوش، المشرق البسمات الّذي لا يتوانى عن الغيــــرة على مدرســـــة غيزن و الحفاظ على نظافتها و العناية بحديقتها الغنّاء من سقـــي و تسميد
و تقليب تربة و قلع أعشاب طفيلية و زرع نباتات جديدة . في الصّباح الباكر يفتح السّيّد محمّد على بركة الله الأقسام و مكتب المدير لتهوئتها ثمّ يشرع في تنظيف السّاحة الرّحبة متسّلحا بالصّبـــــــر و الإخلاص في العمل. إنّه مصــــرّ و عازم على تنظيفها مستعينا بالمشط و الرّفش و النقّالة و لا يهدا له بال إلاّ إذا كانت أنيقة خالية من كلّ الأوساخ التي تشينها إذ لا أثر فيها لقطع الطّباشير و الورق المتناثر و أعقاب السّجائر و غير ذلك من الملوّثات البلاستيكية .
و عند المساء على السّاعة 5 و 30 دق ، يكنــــس الأقســـــام و يرتّب المقاعد و لا يعود إلى بيته إلاّ و هو واثق من أنّه كان صادقا في عمله ، مخلصا له قد أوفاه حقّه من الوقـــت و العناية .
بدون مدح و إطراء يا سيّدي محمّد أنت محلّ ثقتي و ثقة الجميـــع ، محلّ احترامـــــــــي و احترام الجميع فكلّ تلميذ بالمدرسة يناديك بعبارة ســـــــــي محمّد و يلتجئ إليك كلّما دعت الحاجة إلى ذلك فأنت بمثابة أبيه تحسّ بما يحسّ ، مؤتمن على أسراره و حسن تربيته تساعـده طيّعا و مطيعا لا ترفض له طلبا إلاّ إذا كان مستحيل التّنفيذ.
كم أنت شهم يا سيّدي محمّد ! كم أنت مثاليّ متحــــرّ في وقت إنجاز العمـــــل و طريقة أدائه مُرضيا ضميــــرك و مولاك ! كم أنت طيّب المعاشرة يحبّك الجميع حبّا جمّا ! خدماتك و بصماتك في المدرسة جليّة ، واضحة لا غبار عليها يعرفها القاصي و الدّاني ، الكبير و الصّغير، المدير و أعضاده المعلّمـــــون و المعلّمات . واصل عملك على نفس الوتيرة و بنفس الحماس فالله سيجازيك خيـــــرا و أهالي غيزن سيباركون سعيـــــك المثمـــــر و الدّؤوب . الأطفال سيكونون مثلك نِظَافًا ، محافظين على سلامــــة البيئــــة و المحيط ،مستحضرين في أذهانهم الصّقيلة الحكمة المأثورة : « النّظافة من الإيمان و الوسخ من الشّيطان ».

أتذكّر مليّا أنّني في يوم من الأيّام صحت في وجهك في انفعال شديد حاد بي عن صوابـــي و رشدي لأنّي وجدت قسم الإعلاميّة مقفلا . شكرا على لطفك فأنت واجهت عبوسي ببسمات عفوية و جواب هادئ ، رصين
- « يا سي عبد الفتّاح ، لا تغضـــب و انتظرني وقتا قصيرا فأنا سأفتحها حالاّ بعد الإتيان بمفتاحها من مكتـــب المديـر. و رحمة والديّ كنت أظنّ أنّك لست في حاجة إليها و أنت تعرف قيمـــــة الحواسيب و الأثاث الموجود فيها»
نظرا لضيق الوقت ، اكتفيت بالقول على عجل و أنا مطرق الرّأس ، أفرك يديّ ندما و أسفا على الخطإ الّذي اقترفته في شأنه بسبب تسرّعي
- « اعف عنّي متقبّلا اعتذاري عن طيب خاطر فالمسامح كريم »
- «لا تشغل بالك ، انصرف إلى عملك فأنت في مقام أخي و الله هو الأعلم بذلك»
لا غرابة إن كنت قد أقررت في جرأة نادرة لرفيقي محمّد و من خلاله إلى سائر خلاّني المحترمين أنّنــــــي خطّاء و خير الخطّائين التّوّابون .و من يقول أنه لا يخطئ فأنا أخالفــه الرّأي و لا أصدّق ما يقول اعتقادا منّي أنّه مغال في التستّر على أخطائه و تعظيم ذاته و تعفيف كبريائه . هذا السّلوك الخاطئُ لا ينحت شخصيّة الإنسان و يهذّبها بل يُقوّضها من الأساس و أنا بصريح العبارة لا أنحى هذا المنحى و لا أشجّع على الانتساب إليه أو محاكاته بأيّة حال من الأحوال كلّفني ما كلّفني من التّضحيات و النضال المشروع في سبيل الإصداع بالحقيقة .
إنّما الأعمال بالنّيات و إنّما لكلّ امرئ ما نوى فما أسعى إليه جاهدا دون تكلّف هو أن أكون مسلما فاضلا أعتدّ بالعروبة و بلغة القرآن أعشق التّآخي بكلّ مقوّماته أنبذ الكراهيـــة و العداء شعاري في ذلك قول سيّد الأنام محمّد عليه الصّلاة و السلام : الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى الله عَنْهُ‏»

إنّ الأسرة التربيّة الّتي يعتبرا السّيد محمّد شبوح واحد ا منهـــــــا هي مثال بَيِّنٌ للتماســـــــــــك و التّعاشر و التّعايش السّلمِيّ الآمن بعيدا عن التّجاذب الخسيس و الولاء الأعمى لهذا التّيّار أو ذاك . الأسرة التّربوية عصيّة على كيد الكائدين و خروقات المناورين فهي واحة أمن و سلام يتفيّأ ظلالها المربّون في السرّاء و الضّرّاء متساندين ، متآزرين ، مرتاحي البال لا تشتّتهم رياح الاضطهاد و الغبن و الاستغلال . مهما كان بون الاختلاف مع زملائي في أساليب التّربية و طرق التّواصل مع النشء ما تخاصمنا يوما و ما نفرنا من بعضنا حانقين ، حاقدين مفكّرين في الابتعاد و الجفاء فقلوبنا كانت نقيّة ، طاهرة عامرة بالإيمان و الاستبشار لا مكانة فيــه لمثقال حبّة خردل من الكراهية و الحسد و البغضاء و الفتن و هتك الأعراض .
دامت مدرسة غيزن منارة شامخة ، رائدة يُعلي شأنها الخلق الكريم و تُخَفِّقُ رايتَها نسائم العلم المُنْعِشةُ الّتي تزيل و تزيح عن النفوس الأبيّة دون ارتداد إلى الخلف ظلمات الجهل و دياجير الظّلم و أشبـــــــــــــاح
الذّلّ و المهانــة و الاستكانة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى