ثقافة شعبية الحسين أيت باحسين - أسطورة -حمو ؤنامير- الأمازيغية وجدلية البداية والنهاية

تمهيد:
نظرا لضيق الوقت المحدد للمداخلة(1) أثناء انعقاد الدورة، ارتجلت الفكرة العامة جاعلا الهدف ينحصر في إثارة الانتباه إلى أهمية هذه الأسطورة من خلال رواياتها المتعددة و من حيث انتشاريتها المساحية(2) و عمقها الوجداني لدى متناوليها و غناها الدلالي و ضرورة أهمية تحليلها من خلال مقاربات متباينة ومتكاملة في آن واحد، لما يخفى من أهمية و نجاعة مثل هذه المقاربات في دراسة الظاهرة الإنسانية اليوم، و لما يمكن أن يستخلص من فروض جديدة.
فروض تعتمد الدراسات اللسنية(3) و التحليلنفسية(4) و الانتروبولوجية(5) بمختلف تقنياتها التحليلية(6).
كما يمكن أن تفيد هذه الفروض مجال الدراسات النفسية – الاجتماعية و النفسية – التربوية أي المجال السوسيوسيكوكوبيداغوجيا. و تستهدف من جهة أخيرة المساهمة في دراسة هوية الفرد في المجتمع المغربي انطلاقا من علاقة هذا الفرد بواقعه كشرط و ضرورة أساسية لكل تخطيط تربوي و اجتماعي.

مقدمة:
إذا ألقينا نظرة على الملحقين (رقم1) و(رقم2) نلاحظ مدى انتشارية هذه الأسطورة عبر الزمان والمكان كما تدل على ذلك " ميتوغرافية "(7) "حمو ؤنامير".
وسأكتفي هنا بعرض بداية الأسطورة و نهايتها لأن البداية و النهاية في هذه الأسطورة هما اللتان أريد تحليلهما().
تخبرنا أسطورة "حمو "ؤنامير" أن طفلا جميلا جدا، كان وحيد أمه و كان يتردد على الكتاب حيث يلاحظ الفقيه – كلما هم الأول برفع لوحته لاستذكار ما حفظه من القرآن أمام الفقيه – أن يدي "حمو "ؤنامير" موشومتين بالحناء : فيوبخه و يستفسر عمن يخضب يديه بالحناء. فيجيبه "ؤنامير" أنه لا يدري وأنه كلما استيقظ من نومه يجدهما كذلك، فنصحه الفقيه بأن يتظاهر بالنوم ليلا. و حينما يشعر بأحد يمسك يديه فعليه أن يقبض عليه. إنها "تانيرت"(8) هي التي تقوم بذلك عليه أن يطالبها بالزواج به. وذلك ما حصل بالفعل بعد أن اشترطت عليه أن يبني لها بيتا يتكون من سبع حجرات يوصل كل باب منها إلى باب الحجرة الأخرى و تكون أبوابها مصنوعة من حديد و تغلق كلها بمفتاح واحد.
كما اشترطت عليه أن يطلع عليها أهله قبل أن تلد. وهذا ما حاول احترامه بعد أن طلب من أمه أن تهييء له وقت وجبة وجبتان منذ أن تزوج بها. لكن حدث أن سافر من أجل اقتناص و صيد غزال يلبي به لها آخر شهوة، فسعت أمه بإيعاز من نساء القرية و بواسطة الدجاج أو الخادمة(9) إلى الاطلاع على زوجة ابنها "حمو ؤنامير"
و فعلا حصلت على مبتغاها نتج عنه شتم و سب "تانيرت" التي تأثرت تأثيرا كبيرا لذلك الشتم، و السباب ...
و لما عاد "ؤنامير" وجد الحجرات مملوءة ماءا يتدرج علوه شيئا فشيئا بقدر ما يقترب من الحجرة السابعة حيث توجد "تانيرت".
و لما وصل عندها، بدأت تعاتبه على عدم التزامه بالشروط التي اشترطتها عليه، فطلبت منه أن يشق لها في السقف شقة صغيرة تستطيع من خلالها أن تتنفس، نظرا لضيق التنفس الذي تشعر به، وما كاد يفعل – بعد أن قبل أيقوم بشق فتحة ضيقة جدا – حتى تحولت "تانيرت" إلى حمامة. و أثناء محاولته للقبض عليها انفلتت ن يديه تاركة له فيها خاتما. و قرر "حمو ؤنامير" أن يهيم على وجهه و يفارق أهله بحثا عن حل للالتحاق بها في السماء (10).
حين التحق "حمو ؤنامير" بتانيرت في "السماء" اشترطت عليه أن يقوم بما يشاء في قصر زوجها الثاني، بعد أن احتكما هو و زوج "تانيرت" إلى قاض بصدد ابنه الذي ينسبه كل واحد منهما إلى نفسه. و كانت النتيجة أن ثم إثبات نسبته إلى "حمو ؤنامير".
و هكذا أصبح "حمو ؤنامير" أحد أفراد تلك العائلة "السماوية" يحصل على كل ما يفتقر إليه إلا إمكانية أو محاولة مخالفة المنع المتعلق بعدم الاطلاع على ما تحت حجر في القصر.
و حصل أن عزم يوما على الاطلاع على ما تحت الحجر.
و لم يكد يزيح الحجر حتى أبصر من خلال كوة أو ثقب أمه في الأرض تناديه و تستفسر عن غيابه خاصة و أن اليوم عيد الأضحى، و لا من يذبح لها الأضحية (11). فبدأ يناديها، لكنها لا تسمعه، و ألقى إليها بخنجره، لكن هذا الأخير لم يصل. وبعد محاولات كثيرة و متنوعة لتحقيق التواصل بينهما فشل على أثرها كلها، ألقى بنفسه، لكنه تفكك و تمزق بين السماء وبين الأرض و لم تصل إلا قطرة واحدة من دمه ذبحت كبش الأضحية و استعادت بها أمه بصرها(12).
لكن "حمو ؤنامير" تفكك و بين السماء و بين الأرض فلم يبق لامع زوجته وابنه ولم يلتحق "ؤنامير" بالأرض رغم أن كثيرا من الرواة يشيرون إلى آثار أو مناطق تدل على آثار سقوط "حمو ؤنامير" بها(13).
بعد عرض بداية و نهاية هذه الأسطورة أنتقل إلى عرض المقاربات المختلفة التي تناولتها بالتحليل و الدراسة،

o عرض المقاربات السابقة لأسطورة "حمو «ؤنامير»":
أولا: المقاربة ذات قيمة اتنوغرافية:
حسب ما استطعت الاطلاع عليه لحد الآن. هذا النوع من المقاربة يتناول الأسطورة لإعادة إنتاج ما قيل بصدد شخصية وهوية الفرد الأمازيغي في المجتمع المغربي بصفة خاصة و الأمازيغي في منطقة شمال إفريقيا بصفة عامة من خلال النتولوجيا الكولونيالية التي لم تتوفر على المناهج العلمية الضرورية لتناول مثل هذه القضايا من خلال هذا النوع من الإنتاج الثقافي. كما أنها تنطلق في غالب الأحيان من فروض مسبقة ذات صبغة إيديولوجية مرتبطة بوضعية الباحث و المحلل كمتحضر أمامه "بدائي".
إلا أن بعض هذه المقاربات(14) لا تتموضع كلية في إطار هذا المنطق. و إن كانت نتائجها مثيرة للنقاش أكثر من محاولتها للإتيان بعناصر جديدة.
ثانيا: المقاربة ذات قيمة أدبية – نفسية:
هذا النوع من المقاربة يتمثل في أبحاث الإجازة في الآداب العربية أو الفرنسية حسب استطعت الاطلاع عليه(15) أو في بعض المقالات(16) و التي تستهدف تخليلا أكثر جدية و أصالة.
وأهمية هذه المقاربات تكمن في كونها تعتمد المقارنة بين أسطورة حمو ؤنامير وبين غيرها من الأساطير الأخرى سواء الأمازيغية أو اليونانية.
وهذه عملية جد إيجابية. إلا أن هذه المقارنات تنحصر في مستوى الشكل والدال وتتعامل معه على أنه مضمون و مدلول، ومن هنا الوقوع في المزالق المتعلقة بصفة خاصة بالتأويلات المتعلقة بالجانب النفسي لهوية " حمو ؤنامير" فيغذوا هذا الأخير مرة "نار كسيس" اليوناني، ومرة أخرى "أوديب" اليوناني و قد يكون عند آخرين "أوديب" الرويدي رغم ما بين "حمو ؤنامير" و هؤلاء الشخوص الدراميين من تباين درامي، ورغم اختلاف "المعنى" مع كل واحد منهم وإن تشابه "المبنى" كما سيأتي تفصيل ذلك فيما بعد.
ثالثا : المقاربة ذات قيمة تحليلنفسية فرويدية:
هذه الماربة: مثلها مثل المقاربة السابقة، تكمن أهميتها في مقارنة أسطورة" حمو ؤنامير" بأسطورة "أوديب" من وجهة نظر التحليل النفسي الفرويدي.
ولكنها أيضا مثلها مثل المقاربة السابقة، تتوقف عند الشكل والدال وتتعامل معهما على أنهما المضمون والمدلول و لا تحاول أن تتعداهما إلى عملية الفصل بين الدال والمدلول واعتبار الدال كنموذج منطقي لا لأقل ولا أكثر، تتشابه في إطاره، كل أساطير الشعوب و عبر مختلف الأزمنة والثقافات. ثم العمل على بناء المعنى من خلال عملية الوصل بين الدال كأداة منطقية وبين المدلول من خلال عملية الربط بين الفرد والعالم الذي يعيش فيه.
وغياب هذا التصور هو الذي يترتب عليه الإسراع إلى إقرار خلا صات تجعل من " حمو ؤنامير" هوية متأزمة التي تؤرق "أوديب" فرويد رغم تباين ظروف كل واحد منهما.
حتى لو قلبنا فكرة تواجد "القلق في الحضارة"(17) لدى كل واحد منهما فإن فكرة "الثورة ضد الأب"(18) قد لا تنطبق إلا على "أوديب"، وبالتالي فكل هذه المقاربات لأسطورة "حمو ؤنامير" لا تتناول بالتحليل إلا من زاوية ترتبط بمجال آخر تكون الاستنتاجات بصددها جزئية تتحكم فيها و بشكل قبلي ومسبق الخلفيات المرجعية الخارجة عن الأنظمة الرمزية المشكلة لبنية الأسطورة

o المقاربة السيكوسوسيولوجية:

+ حول مسألة المنهج
أفتح هذه المسألة بالسؤال الذي طرحه ليفي – ستراوس: "هل اللغة هي التي تؤثر في الثقافة؟ أو هل الثقافة هي التي تؤثر في اللغة؟"
يجيب ليفي ستراوس مباشرة بعد طرح الشؤال بما يلي:
"نحن لسنا على علم كاف فيما إذا كانت للغة و الثقافة وصفين متوازيين لنشاط أكثر حيوية: أفكر هنا بهذا الضيف الحاضر بيننا، مع أن أحدا لم يفكر بدعوته ‘لى مناقشتنا أ: الفكر البشري "(19).
ولكن قبل أن أودع ليفي – ستراوس – إلى حين آخر – أشير إلى ملاحظته القيمة وهي أن الأسطورة "قول" و"القول" أو قل "اللغة" في نقطة الإقلاع رغم أنها تنمو و بصورة مختلفة وفي اتجاه مختلف شأنها شأن الموسيقى بالنسبة إليها واللغة.
فإن ليفي – ستراوس يؤكد:
"إن الألسنية البنيوية علمتني لأنه بدل التيه بين تعدد الحدود، يتوجب علي شد النظر إلى العلاقات الأبسط و الأكثر معقولية التي توجد بينها"(20).
وبالتالي ف المنهج الأكثر نجاعة لتناول " حمو ؤنامير" كأسطورة هو منهج الألسنية بصفة عامة ومنهجي الأثنولسنية و السوسيولسنية بصفة خاصة.
بالإضافة إلى منهج تحليل المضمون كتقنية.

o المقارنة بين "أوديب" و"ؤنامير":
لكن قبل ذلك لننطلق من المقارنة بين الأسطورتين "أوديب" و"ؤنامير".
حين يخضع ليفي – ستؤاوس أسطورة "أوديب" للتحليل كبنية شبيهة ببنية اللغة أو الموسيقى ينتهي إلى صياغة الرسم الآتي(21):

علاقات عائلية تم تصعيدها (22) علاقات عائلية تم امتهانها(23) في انتماء الفرد إلى الأرض(24) الأرض مصدر الإنسان(25)
"كادموس" يبحث عن أخته أوربا خطفها زيوس السبارطيون يبيدون بعضهم بعضا كادموس يقتل التنين لا يداكوس (والد لايوس) = أعرج
أوديب يقتل والده لايوس
أوديب يتزوج أمه جوكاست انتكليس يقتل أخاه بولينسيوس أوديب يدمر السفنكس لايوس (والد أوديب) "أخرق"
علاقات عائلية استعلائية علاقات عائلية نكوصية كائنات غريبة تم محقها يشتركون في عيب المشية

ماذا يمكن أن نستنتج ن هذا ؟
نستنتج أن ليفي – ستراوس اكتشف آلية عمل الأسطورة التي توفر نوعا من الأداة المنطقية التي تعبر عن وعي الذهنية الأسطورية ببعض التناقضات التي تعمل على المصالحة بينها على سبيل التدرج.
فعلاقة اعمود الرابع بالجدول الثالث شبيهة بعلاقة العمود الأول بمثيله الثاني (26).
فالأسطورة هنا تقدم لنا أداة منطقية أكثر مما تقدم لنا معنى متعينا. و"إذا كانت الأسطورة تحمل معنى ما، فإنه لا يقتصر على معنى العناصر التي تشارك في إنشائها و لمنه يتوقف على الطريقة التي تتألف وفقها هذه العناصر"(27).
هذا فيما يتعلق بأسطورة "أوديب" كنموذج منطقي(28)، كدال أما فيما يتعلق بمدلولها من الناحية الباتولوجبة فتحليلات فرويد، وميلاني كلاين وكذلك ليفي ستراوس من خلال مفهوم (الشامانية) تبين غنى مدلولات "أوديب)، بحسب الظروف الاجتماعية و الثقافية للفرد و للمجتمعات. خاصة و أن ا يهمنا ليس مدلول أسطورة "أوديب"(29) وإنما اعتمادها من أجل البحث فيما إذا كانت أسطورة "ؤنامير" هي بدورها تقدم لنا "نموذجا منطقيا"، مماثلا للنموذج الذي تقدمه أسطورة "أوديب" إذ "يذهب كلود ليفي – ستراوس إلى أنه سواء تعلق الأمر بالميثولوجيا أو بالألسنية أو بالمجتمع، فإن التحليل يواجه في كل الأحوال نفس المطلب ألا وهو "الدلالة" وبالمثل فإن الاجتماع لا يعدو أن يكون أخيرا، غير التماس وتفنن في طلب تقنيات "التواصل": تواصل للخيرات و تواصل للرسائل و تواصل للنساء، لا مشاحة إذن، والحال هذه أن يعقل ستراوس هذه الظواهر، على ما يبدو بينها من تمايز؛ يتوسط مفهوم جامع (...) ونعني به مصطلح "النجاعة الرمزية". ذا ولقد انتهى ليفي – ستراوس. بضرورة هذا المبدأ إلى إدراك العقل بوصفه فعالية لا جوهرا، واستخلاص نتيجة تنفك عنه، مفادها أن الواقع لا يفرض فرضا وأن علاقة الشعوب بأوضاعها ليست علاقة ميكانيكية"(30).
انطلاقا من هذا التصور و بالمقارنة مع النموذج المنطقي الذي تقدمه أسطورة "أوديب" فما هو الرسم الذي تقدمه أسطورة "ؤنامير" حين نحللها كبنية شبيهة بينية اللغة أو الموسيقى ؟
أو بتعبير آخر ما هي الميثمات التي تتكون منها أسطورة "ؤنامير"؟ بعد تحليل مختلف الروايات يتبين أن هناك تيمات ثابتة كدلالات تتقاطع عموديا وأفقيا في إطار متناقضات لا تدرك إلا وفق قوانين بنائها و تكونها.
أو كما يقول كلود ليفي – ستراوس:"النص الأسطوري لا يمكن البتة سامعيه من دلالة معينة. فهو يقرح شبكة رمزية لا تعرف إلا بمقتضى نواميس بنائها و إنشائها. و من شأن هذه الشبكة أن تضيف المعنى، لا للأسطورة ذاتها، وإنما لكل ما عداها ولكل ما سواها، أي لكل التصورات عن العالم و عن المجتمع وعن تاريخه والتي يتراوح أفراد المجموعة في الوعي بها أو الغفلة عنها و التي يتنافر مجموعها ويستعصي على التآلف والوحدة" (31).
فما هي إذن هذه الشبكة الروزية التي تقدمها لنا أسطورة "حمو ؤنامير"؟ كما هو الشأن في "أوديب" يقدم لنا "ؤنامير" أربع تيمات على شكل أربعة أعمدة نكون فيها علاقة العمود الرابع بالعمود الثالث شبيهة بعلاقة العمود الأول بمثيله الثاني ورسم هذه الأعمدة كالتالي:
"ؤنامير" كنموذج منطقي:
العمود الأول:
•حمو ؤنامير وحيد أمه
•أم أونامير تشتم تانيرت وتسبب في مرضها و هزالها
•اتحاد أونامير بأمه عن طريق نقطة دم بعدما استحال التواصل عن طريق القول – النداء المتبادل

العمود الثاني:
•زواج أونامير بالغريبة تانيرت
•حمو ؤنامير يتسبب في عمى أبيه، بل و عمى أمه ()
•حمو ؤنامير يفارق أهله من أجل الالتحاق بالغريبة

العمود الثالث:
•حمو ؤنامير يذبح فرسه من أجل البحث عن زوجته في السماء
•النسر يحمل حمو ؤنامير إلى السماء السابعة
•منع تانيرت حمو ؤنامير من أن يطل من الثقب الموجود تحت الحجر

العمود الرابع:
•عمى الأب الملتزم لركن من أركان حجرة في البيت
•رؤية حمو ؤنامير لأمه في الأرض والنداء المتبادل بينهما
•ارتماؤه من السماء نحو الأرض ووصول قطرة دم منه يستعيد بواسطتها أبوه (وكذلك أمه) بصره

دلالة الميتيم من خلال كل عمود:
العمود الأول: الميثم في هذا العمود يدل على وجود : علاقات عائلية ثم تصعيدها
العمود الثاني: الميثم في هذا العمود يدل على وجود : علاقات عائلية ثم امتهانها
العمود الثالث: الميثم في هذا العمود يدل على وجود : نفي انتماء الفرد إلى الأرض
العمود الرابع: الميثم في هذا العمود يدل على وجود : الأرض مصدر الإنسان

نستنتج من هذا أن ما تقدمه لنا أسطورة "ؤنامير" هو بمثابة أداة منطقية كدلالة، أما مدلولات حدودها فلا يمكن اعتمادها للوقوف على معنى ما معين. ذلك المعنى الذي يمكن الاقتراب منه – ومن منظور لاكاني(32) بقدر ما نستمر في ممارسة تقنية الحفر حسب التعبير الفوكوي(33).
وسأحاول القيام بذلك من خلال ما أسميته "جدلية البداية والنهاية" والذي يستهدف ثلاثة مستويات من "الحفريات":
1 – الحفر الأنثولسني للتسمية.
2 – الحفر الانتروبولوجي للظاهرة القناعية.
3 – الحفر التاريخي للمعنى التاريخي.
أوضح أكثر فأتساءل:
1 – بماذا يمكن أن تساعدنا التحليلات الانثولسنية لمختلف حدود وبنيات التسمية التي أعطيت لأسطورة حمو «ؤنامير». ؟
2 – ما وجه العلاقة البنيوية الموجودة بين أسطورة " حمو ؤنامير" وبين الظواهر الانتروبولوجية القناعية الأخرى مثل ظاهرة القناع لدى الأفارقة وفي المسرح المنحدر بصفة خاصة من اليونان، وظاهرة "هرّما" أو "بييلماون" أو "بوجلود"، و ظاهرة "تيعزّا" و"تاماووشت" و"سقر" وكلها ممارسات تخفي دلالات سيكوسوسيولوجية واجتماعية تاريخية عميقة من السطحية الوقوف عند هذه الرموز بدون محاولة القيام – كما يدعو إلى ذلك ميشيل فوكو – بحفر لا ينبغي أن نيأس من الانفلات المستمر لمدلوله كلما تعلقنا في الحفر كما يحذرنا عن ذلك جاك لاكان...؟
3 – ما هي الأرضية التاريخية التي نبتت على أحداثها البوادر الأولى لأسطورة " حمو ؤنامير" ؟
سوف لن أجيب الآن عن كل هذه التساؤلات رغم صعوبة الفصل بينها واستحالة اجتزائها لأنها تتماسك فيما بينها.
ولهذا سأقتصر على مدلولات جدلية البداية و النهاية على مستوى أولي أي على مستوى الحدث المنطقي بالمعنى الستراوسي للأسطورة فقط: وأوجل تناول الجوانب الأخرى إلى حين آخر.

o جدلية البداية والنهاية:
فيما يتمثل جد البداية في "حمو ؤنامير" ؟
حمو وحيد أمه، يتزوج بغريبته (تانيرت) فتغادره إلى عالم آخر (السماء) ولا تترك له إلا خاتما كرمز على أنها ستلد نتيجة زواجها ... طفلا ذكرا
هذه البداية سرعان ما تتحول إلى نهاية تتمثل في انحلال علاقات القرابة الدموية التي كانت سائدة قبل تدخل "الغريبة" (تانيرت) للفصل بين حمو ؤنامير وبين من تربطه به علاقة القرابة الدموية (34) وبالتالي فبداية الأسطورة تتحول إلى نهاية العلاقات الجماعية القائمة على التماسك الوجداني.
كما أن البداية القائمة على أولوية الجماعة على الفرد، والتي يفترض فيها أن تكون المجموعة متماسكة تتحول إلى نهاية قائمة على الذات المتوحدة تدرك بمقتضاها المجموعة نفسها إدراكا ذريا يحجب ما بينها من وحدة.
إننا منذ بداية الأسطورة أمام نهاية دالة على انحلال وتفكك العلاقات الاجتماعية الجماعية وأمام ظهور الذات المتوحدة تهيمن عليها مهمة إعادة إنتاج علاقات الإنتاج. وذلك لأن البداية التي انطلقت من المبالغة في تقدير قرابة الدم تتحول إلى نهاية هي بقمة بخس هذه القرابة ولأن البداية حيث علاقة الفرد بموطنه الأصلي تتحول إلى نهاية وهي بذل المجهود للتخلص من الموطن الأصلي والآن فيما يتمثل حد النهاية في " حمو ؤنامير" ؟
يلتحق "حمو ؤنامير" بتانيرت (في السماء) بعد أن يتخلص من كل عوائق الموطن الأصلي (الأرض) التي استلزمت منه قطع حبل وريد علاقات القرابة الدموية هذا القطع المتمثل في مفارقة الأم وذبح الفرس واستئصال قطعة لحم من يده إلخ...
واستطاع أن يعوض – مؤقتا – هذه العلاقة بأخرى تحالفية يستعيد في إطارها ما كان يؤرقه (أي الالتحاق بزوجته وإبنه كرمز للعلاقة التحالفية).
لكن هذه العلاقة مشروطة بمنع الاطلاع على ما تحت الحجر (أو طبعا محاولة الاتصال بالأم وبالأرض)، منع ستتم مخالفته فيزاح الحجر وإذا برؤيته الأم في الأرض. وبعد استحالة تحقيق الاتصال عن طريق "القول" (أي النداءات المتبادلة بين حمو وأمه) يرمي حمو بنفسه من الثقب الذي كان تحت الحجر، من السماء السابعة فيتبدد جسمه بين السماء والأرض. لكن نقطة من دمه تصل إلى الأرض فتذبح كبش الأضحية و تستعيد بها أمه بصرها.
هذه النهاية ستتحول إلى بداية تثير التساؤل التالي: "حمو ؤنامير" حل اختياري أم مجرد صدفة؟
وبتعبير آخر هل هناك حل فعلي، وحدث قصدي أم أن الحل لا يعدو أن يكون تأزيما أكثر حدة للمشكل ما دام الحل يغيب الوظيفة الأخيرة للوظائف التي قال بها فلاديمير بروب(35).
ف"حمو ؤنامير" بين "السماء" و"الأرض" ممزق بين "الأم" و"الزوجة" كرموز للتأرجح بين الانتماء لعلاقة القرابة الدموية ولعلاقة القرابة التحالفية.
إن النهاية القائمة على الذات المتوحدة والمدركة للمجموعة إدراكا ذريا يحجب ما بينها من وحدة يتحول إلى بداية البحث عن الذات الجماعية وعلى أولوية الجماعة على الفرد، لكن أولوية الجماعة هذه تتأرجح بين صيغتين يدل عليهما تفكك وتمزق "حمو ؤنامير" بين "السماء" و"الأرض".
بل إن النهاية المتمثلة في بذل مجهود للتخلص من الموطن الأصلي تتحول إلى بداية وهي استحالة النجاح في هذا التخلص مادامت النهاية تعبير عن العودة إلى الموطن الأصلي. فالنهاية في "ؤنامير" تعبير عن محاولة لتحقيق هوية لا فردية فقط بل جماعية تتمثل في الإجابة عن موقف الفرد والجماعة من قانون المنع والمحرم أو العرف بصدد ؤنامير.
لكن هذه النهاية تتحول إلى بداية تؤكد تشكل هوية فردية وجماعية متأزمة بحيث يترك "حمو ؤنامير" وراءه "في السماء" لإبنا وحيدا مع أمه وبذلك يرجعنا إلى نقطة البداية و إن في ظروف مختلفة (مع زوج أمه مثلا) كما أن عودته إلى "الأرض" تنحصر في مستوى الرمز ولا تتعداه إلى الفعل وبالتالي فمشكل الهجرة لازال معلقا ولم يعرف حلا فعليا. وإذن فالنهاية التي تشد أذهاننا وتجعلها تنتظر تحقيق حق التطابق والتماثل تتحول إلى بداية تدعونا إلى أن الحل هو حق الاختلاف.
وهذه هي البداية التي تنتهي إليها النهاية في أسطورة "حمو ؤنامير" وهي المسألة الأساسية التي لا يمكن معها القول بانتماء الأسطورة إلى زمان متعين (الماضي أو الحاضر أو المستقبل) بل جوهرها الاستمرارية: استمرارية حق المطالبة بالاختلاف و استمرارية الأسطورة في القيام بالمطالبة بهذا الحق. إذ أن وظيفة الأسطورة هو كما يؤكد ليفي – ستراوس هو تسقط المعنى والنبش عليه أينما كان و مهما تخفى.
ومن هنا إلحاح الأسطورة في المطالبة بحل مشكلة أخرى أكثر عمقا و"المشكلة هي التالية: أين تنتهي الميثولوجيا ؟ أين يبدأ التاريخ ؟"(36).
لكنني أجدني مضطرا مع هذه البداية الجديدة أن أنهي هذه المداخلة (37).

خلاصة:
انطلاقا من المعلومات المتوفرة لدينا بصدد التحليلات الأنثولسنية للتسمية (حمو ؤنامير – حماد ؤنامير – حمو أكَناو، ...)، والتحليلات الأنتروبولوجية لمختلف الظواهر الطقوسية القناعية (القناع بين أفريقيا و أوربا ؛ بوجلود – بوعزا – تاماووشت – ظاهرة سقر – وأنواع ئنموكَّارن)، وبصدد عملية تقفي انتشارية "حمو ؤنامير" أي الاهتمام بالأسطورة في إطار "المساحة الثقافية" التي تتداول فيها والعمل على ربطها بالظواهر الأنثولسنية والأنتروبولوجية في عملية انتشاريتها والمقارنة بينها وبين مجموعة أخرى من الأساطير والحكايات المتداولة في إطار تلك المساحة الثقافية... انطلاقا من هذا بدأت تتشكل لدينا فروض بصدد الأرضية التاريخية التي نشأت فيها البوادر الأولى لهذه الأسطورة:

الأول: هو تأكيد أقدمية هذه الأسطورة وتتقاطع الأدلة والمعلومات الأولية المتوفرة لدينا مفيدة على أنها تعود إلى أواخر الدولة الموحدية وبداية الدولة المرينية.
وأنها لا تعود – كما يراد لها دائما – إلى أصول يونانية أو شرقية وإن تسربت إليها من تلك الأصول بعض العناصر والحدود، لكن هذه الأخيرة لاتدل إلا على جانب الدال في الأسطورة أما الجانب الدال على المدلول فهو غير ذلك.
الثاني: هو أن المنطقة التي بدأت الأسطورة تنشأ من خلال أحداثها التاريخية تأرجح بين مدينة "حمو موسى" بالجزائر في أواسط القرن الثالث عشر ميلادي. لكن الاحتمال ضعيف حسب ما نتوفر عليه من معلومات، وبين الجنوب الشرقي للمغرب في نفس المرحلة التاريخية حيث كانت مجموعة من القبائل أو قبيلة كبيرة تنعت ب "أيت حمو" تمارس عمليات قطع الطرق التجارية التي كانت تربط بين جنوب المغرب والصحراء وبين شمال المغرب وأوروبا إلى أن استطاع الجيش النظامي آنذاك أن يبيدها ويتوزع من تبقى منهم في ثلاث اتجاهات: نحو الشمال، والشمال الغربي، والشمال الشرقي للمناطق في الجنوب المغربي لازالت كثير من أر تحمل لإسم "أيت حمو" ويشير البعض إلى تلك الأصول لهم من خلال روايات شفوية، خاصة في مناطق الجنوب.
الثالث والأخير: إن هذه الأسطورة عند متداوليها تكتسي قيمة خاصة من بين باقي الحكايات و الأساطير. و يتعاملون معها بنوع من "القداسة".

الملحق رقم 2
رقم رواية سنة الراوي أو النشر العنوان باللغة العربية العنوان باللغة الفرنسية العنوان باللغة الأمازيغية
1 هنتيفة 1918 لاووست حمو ءاكناو
2 تيزنيت 1937 جوستبنار حمو ؤنامير
3 سوس 1968 أحمد أمزال حمو ؤنامير
4 ؟ 1974 سميرة مونير عقدة حمو
5 دمنات 1974 الفطواكي حمو ؤنامير
6 مزوضة (الجبل) 1975 ءيجوي عمر حمو ؤنامير
7 مزوضة (السهل) 1980 واهروش عمر حمو ؤنامير
8 ؟ 1976 فوزية زنيبير عقدة حمو
9 امنتانوت 1978 يسرس شاكر الرمان السفاري
10 سهل سوس 1979 محمد ابزيكا عقدة أحمد ؤنامير
11 تيزنيت 1980 بوجنوي الحسن أحمد ؤنامير
12 كسيمة (سهل سوس) 1980محمد ابزيكا احمد ؤنامير
13 ايداوتنان 1988 ليسيكي عبد الله محند ؤنامير محند ؤنامير
14 طاطا 1988 أيت أوباحو الحسن الكماني محمد حماد ؤنامير
15 تافراوت 1988 عابد الخالدي حماد ؤنامير
16 ءاقا 1988 لكزاز الحسن حمو ؤنامير
17 طاطا 1988 عن طريق أحمد بيجي على آثار ؤنامير

(1) لا يتعدى ربع ساعة لا يكتفي حتى لعرض المادة موضوع التحليل وإن صدر تسامح ببعض دقائق أصبح معها الوقت يناهز خمسة وعشرون دقيقة
(2) أنظر الملحق رقم 1 الخاص بميثوغرافية "حمو ؤنامير" (أعتذر عن عدم التمكن من إدراج خريطة تداول الأسطورة في مختلف مناطق المغرب لأسباب تقنية)
(3) خاصة السوسيولسنية والأنثولوسنية (Sociolinguistique et éthnolinguistique)
(4) الفرويديه وخاصة اللاكانية (Freudisme et Lacanisme)
(5) خاصة الأنتروبولوجيا البنيوية مع كلود ليفي – ستراوس (Anthropologie structurale avec C.Lévi – STRAUSS)
(6) تحليل المضمون: (Analyse de contenu)
(7) نستخدم هذا المصطلح للتعبير عن المساحة الثقافية "للأسطورة والتي اعتمدناها أي المساحة الجغرافية التي تتداول فيها الأسطورة بمختلف رواياتها التي استطعنا الحصول عليها لحد الآن رغم أننا متيقنون من تداوله في مناطق أخرى خارج هذه المساحة ألا لأننا لا نملك بعد روايات تلك المناطق.
(8) "جنية" حسب روايات "ملاك" (وهو مؤنث في اللغة الأمازيغية). إلا أن كلمة "تانيرت" التي تلفظ في روايات أخرى "تانيت" قد تفيد أكثر من خلال تحليل أنثولسني.
(9) الدجاج حسب بعض الروايات، و الخادمة حسب أخرى.
(10) يستطيع حمو ؤنامير بعد عوائق كثيرة ذات طابع تراجيدي أن يلتحق بها.
(11) في بعض الروايات الأب الأعمى وكلما هم على ذبح كبش الأضحية إلا و يخطئ مكان الذبح رغم أن الأم – التي بدورها أصيبت بالعمى نتيجة استمرار بكائها على ابنها الغائب – تأخذ بيده لوضع الخنجر في المكان الملائم فلا يفلحان.
(12) و في بعض الروايات استعاد والداه بصرهما.
(13) إما صخرة لازالت تزار رسم عليها شبح ملقى به، أو أمكنة يقال أن بها سقط "حمو ؤنامير".
(14) أخص بالذكر مقاربة "سميرة مونير" تحت عنوان : "عقدة حمو".
(15) واغتنم الفرصة لأجدد اعترافي بأنني مدين بالشكر لكل الذين لفتوا انتباهي إلى هذه الأبحاث.
(16) أهمها ما نشره الأستاذ محمد ابزيكا في مقال لجريدة "الاتحاد الاشتراكي"، عدد 1488 (24 – 2- 1979) ص ص. 2 و5 وفي أعمال الدورة الأولى لجمعية الجامعة الصيفية من 18 إلى 31 غشت 1980. مطبعة فضالة المحمدية ص. ص. 203 – 224.
(17) أستحضر هنا فكرة وعنوان أحد كتب فرويد المعنون ب "قلق في الحضارة".
(18) أستحضر هنا فكرة وعنوان أحد كتب جيرار مندل، "الثورة ضد الأب"
(19) ك. ليفي – ستراوس: الأنثروبولوجيا البنيوية. ترجمة مصطفى صالح. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1977، ص 93.
(20) أوردة محمد بن أحمودة في كتاب: "الانثروبولوجيا البنيوية أو حق الاختلاف من خلال أبحاث ك. ليفي-ستراوس"
(21) نفس المرجع. ص. 107. (انظر كذلك: الأنثروبولوجيا البنيوية ل "ستراوس" ص 56
(22) Rapports de parenté sur – estimés
(23) Rapports de parenté sous – estimés :
(24) Rapport de non autochtonie :
(25) Rapport d’autochtonie
(26) ك. ليفي-ستراوس: الأنتروبولوجيا البنيوية، سبق ذكره ص 256. أو ابن احمودة: نفس المرجع السابق ص 107.
(27) محمد بن احمودة: المرجع السابق ص 105.
(28) modèle logique
(29) أنظر الملحق رقم 3.
(30) محمد بن احمودة، نفس المرجع ص 40.
(31) نفس المرجع السابق ص 107.
(32) نسبة إلى جاك لاكان: محلل نفسي بنيوي فرنسي.
(33) نسبة إلى ميشيل فوكو: فيلسوف بنيوي فرنسي.
(34) انظر الملحق رقم 4
(35) حسب "فلاديمير بروب" يعتبر الزواج بمثابة الحلقة الأخيرة وتتويجا لنجاح البطل في الحكاية. أما من خلال "حمو ؤنامير": الزواج حدث منذ بداية الأسطورة. بل أن الملفت للنظر هو أن "حمو ؤنامير" ينتقل مباشرة من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرشد و تحمل المسؤولية بدون المرور من مرحلة المراهقة. كما أنه على عكس أوديب عوض أن ينتهي إلى "الفردوس" يقذف حمو بنفسه منه
(36) ك. ليفي – ستراوس: الأسطورة و المعنى: ترجمة صبحي حديدي الدار البيضاء. عيون المقالات، الطبعة الثانية، 1986، ص 35.
(37) لأن هذا المشكل يستوجب تناولا مستقلا، فانطلاقا من المعلومات المتوفرة لدينا بصدده يبدو أن مجال هذه المداخلة يضيق به.



* الحسين أيت باحسين - أسطورة -حمو ؤنامير- الأمازيغية وجدلية البداية والنهاية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى