عبد الوهاب الفقيه رمضان - مدخل / ماكرو - فساد

كلما تناول الباحث العربي موضوعا من الموضوعات في مجال العلوم الإنسانية إلا ووجد نفسه محاطا بعراقيل جمة . هذه العراقيل على صنفين . صنف يتعلق بالمعجم اللغوي وكذلك المعجم المصطلحي وصنف يتعلق بمتاهات المقاربات .
ما يتعلق بالمعجم أننا العرب ليس لنا معجم تاريخي ينزل اللفظ حسب الزمن الذي استعمل فيه هذا اللفظ ، وبذلك يتشتت المعنى حسب الثقافة الزمنية لكل عربي باحثا كان أو قارئا ، وهي ثقافات متنوعة متعددة تعدد المحطات الزمنية الكبرى في الثقافة العربية . وأكبر هذه المحطات الزمنية باختزال شديد :
• ما قبل الإسلام . وهي حلقة شديدة الأهمية والإلمام بكل ما يتعلق بها يكاد يكون مفقودا بسبب أن الإسلام يهدم ما قبله . فهدم المسلمون كل ما يتعلق بالثقافة العربية قبل الإسلام . ولم يهتم العرب المسلمون بالتنقيب في تاريخ ما قبل الإسلام بالآليات المعروفة في البحث والتنقيب عن الماضي وكل ما يتعلق به . وكان للمستشرقين دور كبير في تعريف أنفسنا – العرب المسلمين - . أما ما قام به العرب المسلمون من أنشطة في هذا المجال فهي أعمال قل ما تبنتها مؤسسات الدولة ، وإنما بقيت من المجهودات الفردية ، ودوما المجهود الفردي يبقى منقوصا مهما بذل الفرد من جهد واجتهاد . ولعل ما أنتجه المؤرخ الباحث الدكتور جواد علي وكتابه : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام يعد من الدعائم الأساسية لكل من رانت همته الخوض في هذا الموضوع . ولن يتم ذلك إلا أن تنزع الصفة القدسية لما ليس مقدسا . وأن تنزع الصفة الدنسية لكل ما ليس مدنسا .
• الفترة الأولى للإسلام / فترة نزول الوحي . تم في هذه الفترة وضع اللغة العربية التي نجدها إلى اليوم. لهجة / أو لغة قريش واستبعدت كل اللهجات واللغات التي لها صلة بالعربية، منذ هذه الفترة صارت لغة القرآن هي اللغة العربية. وأثناء وضع المعاجم العربية اعتمد واضعوها الشعر الجاهلي كمصدر أساسي في وضع معاجمهم ، وهذا الشعر الجاهلي لم يكن مدونا كتابة بل تم تدوينه في زمن غير زمن القول وتم هذا التدوين عن طريق الرواية .كذلك استعمل هذا الشعر الجاهلي في تقعيد اللغة وفي تفسير بعض ما أشكل من معاني الكلمات وخصوصا مما ورد في القرآن .
• فترة الخلافة الراشدة . وهنا يجد الباحث من العرب المسلمين نفسه أمام إشكال يتعلق بكل لفظ من هذا المركب النعتي . هل يتعامل مع لفظ الخلافة كمادة معجمية ، أم كمادة اصطلاحية ، أم كمادة عقدية . ولكل من الثلاث مقاربة خاصة بها . تتميز هذه الفترة بمخاضات لوضع أسس الدولة لدى العرب المسلمين ، ابتدأت بصراعات أريقت فيها الدماء / فيما سمي حروب الردة ، وهي حروب لم يُنظر إليها على أنها سياسة ، طرف لا يعترف بدولة المركز وطرف يسعى لإقامة دولة تشمل قبائل غير قبيلة قريش ، بل نُظر إليها على أنها مقاومة ضد كل من ارتد عن الإسلام ، لتُخرج الصراعات من مفهوم السياسة إلى مفهوم العقيدة . في هذه الفترة مال جانب الثقافة لما هو عقدي على حساب السياسة . ومن أكبر الأدلة على أن هذه الصراعات لم تكن إلا سياسة عدم انخراط عمر بن الخطاب فيها وهو المؤسس الأول لنظام الخلافة وهو الذي أقر أبا بكر الصديق أول خليفة للمسلمين ، إذ لو كانت الصراعات عقيدةً ما كان لعمر ألا ينخرط فيها . وانتهت فترة الخلافة الراشدة بصراعات بين المسلمين ، أريقت فيها دماء المسلمين بسيوف المسلمين ، وكانت هذه الصراعات سياسة أيضا وليست عقيدة ، فقد تواجه جيشان أحدهما فيه عليٌّ مدينة العلم والآخر فيه عائشة التي يأخذ المسلمون عنها نصف دينهم ، إذ لو كانت عقيدة ما كان هذان الاثنان يتقاتلان . خلال هذه الفترة لم يحظ الشأن الثقافي بما يستحق على حساب الزخم السياسي . وكانت حصيلة الخلافة الراشدة موت ثلاثة خلفاء من أربعة قتلا.
• فترة الدولة الأموية . يزداد الإشكال تعقيدا بالنسبة لهذه الفترة ، لأن النظام اختلف كليا عن سابقه ، لم يعد للخلافة وجود لا معجما ولا اصطلاحا ، لقد أصبح نظام الحكم نظاما ملكيا حسب كل الأعراف السياسية فيما قبل الأمويين وما بعدهم . لكن ، لأن القرآن ذم النظام الملكي على لسان ملكة سبأ في الآية 34 من سورة النمل ، فيجب أن يسمى النظام الملكي خلافة كي لا يفقد الصبغة القدسية التي دعمتها نصوص نسبت إلى السنة تجعل نظام الخلافة شرعية ، كل من أنكرها فقد أنكر ركنا من أركان الإسلام وخرج عن السنة والجماعة فهو إما مرتد أو زنديق يهدر دمه ويحارَب بشتى الطرق.
• الفترة العباسية تمثل هذه الفترة نظاما امبراطوريا . رغم أن النظام الامبراطوري كان له وجود قبل وجود العباسيين وبعده ، فإن لقب الامبراطور ينزع عنه الصفة القدسية ويحرمه من وجوب الطاعة لأن علاقة الرعية بالخليفة تسندها نصوص مقدسة في حين أن لقب امبراطور لقب دنياوي وهذا ما لا يرتضيه الحاكم العباسي لنفسه .
• الفترة العثمانية وهي الفترة التي يتجلى فيها النفاق والشيزوفرينيا في أجلى مظاهرهما . بقدرة قادر يُشطَب شرط الخليفة أن يكون قرشيا حسب شرع أبي بكر وعمر ويصبح جائزا ألا يكون الخليفة قرشيا بل ألا يكون عربيا أصلا ولا حتى من جزيرة العرب بل إن لسانه ليس لسانا عربيا . ورغم إبعاد هذا الشرط صار السلطان العثماني خليفة ، وجمع في بلاطه من يمثل الشريعة الإسلامية من مفت وقاض وروافدهما لجعل الخلافة إسلامية دينية شرعية . تدنت قيمة اللغة العربية بشعرها وآدابها لتحل محلها لغة السلطان / الخليفة فأصاب المسلمين حالة من الركود الثقافي والعلمي. تتزامن نشأة الخلافة العثمانية مع بزوغ فجر العلوم التي نتج عنها هذا الكم المعرفي وهذا الكم من منتوجات العلوم الحديثة التي نشأت عنها التكنولوجيات التي يشهدها العصر لتتوج بهذه الطفرة التي لم يسبق للتاريخ البشري أن عرفها وهو التكنولوجيا المعلوماتية بكل تفرعاتها. لم تنخرط السلطنة / الخلافة العثمانية في هذا النشاط العلمي ولم تنشئ لا جامعات ولا كليات ولا مدارس لتدريس علوم العصر بل انحصر - كعادة المسلمين العرب – مفهوم العلم في اللغة والآداب والتفسير والفقه والحديث. لنجد في تونس المجتمع المدني إبان الصحوة العربية الإسلامية أواخر القرن التاسع عشر بداية القرن العشرين ممثلا في الجمعية الخلدونية، يتكفل بتدريس العلوم العصرية عوضا عن المؤسسة التعليمية الرسمية التي هي جامع الزيتونة . تلفظ الخلافة آخر أنفاسها والعرب المسلمون في أسفل السافلين علما وثقافة وحضارة وصناعة وتكنولوجيا .
• فترة الاستعمار : بدأت اللغة العربية بالقليل الذي بقي لها تفقد بريقها فهي لغة الضعيف في حين أن لغة المستعمر هي لغة القوي . ثم بدأت آلات عصرية لم يساهم العرب في صناعتها بل كان مستهلكا لها مثل السيارة والهاتف والكهرباء وغيرها. وهنا قامت المعركة بين من يريد أن يسمي الأوتوموبيل أوتوموبيلا وبين من يريد أن يسميها سيارة بين من يريد أن يسمي التلفون تلفونا وبين من يريد أن يسميه هاتفا، فلم يرتق المعجم العربي إلى ما يؤهل العرب لدخول عصر العلم والتكنولوجيا، رغم محاولات قام بها متنورون عربا مسلمين سواء بملاءمة بين الدين والعلم وعددهم كبير مثل الكواكبي ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبدة وغيرهم ولعل محمد فريد وجدي أراد السير على منهج الفلاسفة الفرنسيين الذين مهدوا للثورة الفرنسية فألف موسوعته الشهيرة إلى جانب أعماله الأخرى، لكن لم تكن الاستجابة مماثلة للاختلاف الكبير بين المسجد والكنيسة.
• فترة الاستقلال: خلال هذه الفترة كان العجز سمة العرب في أن يديروا شؤونهم بأنفسهم وفي أن تكون لمصالحهم المكانة الرئيس. في هذه الفترة اختلط المعنى في المعجم وفي المصطلح. لم يكن العربي المسلم قادرا على قطع الحبل السري بين ما هو دين وبين ما هو دنيا. لم يقدر العربي المسلم على تنزيل الألفاظ والمصطلحات منزلتها الحقيقية. فنزلوا الماركسية منزلة الشريعة، ونزلوا الشيوعية منزلة الدين، ونزلوا نظرية داروين منزلة العقيدة. وعوض أن تُتناول المواضيع العقلية بآليات عقلية تم تناولها بآليات دينية عقدية. فصار للمسلم العربي عقلان وشخصيتان، عقل وشخصية حين يجلس على مقعد الدراسة في المدرسة والمعهد والكلية وعقل وشخصية حين يجلس على الحصير في المسجد يستمع لخطبة جمعية أو درس يقدمه داعية أو واعظ أو إمام. إضافة لهاتين الشخصيتين وهذين العقلين كان له معجمان لغةً واصطلاحا معجم صالح للمدرسة والمعهد والكلية ومعجم صالح للمسجد والعبادة. هذه الازدواجية في العقل والشخصية والمعجم والمعنى والمصطلح تكبل العربي المسلم عن كل تقدم ومشاركة في مشاغل العصر، صار بين علم ومعرفة حديثة تتطور بسرعة صاروخية وقوة جاذبة للماضي وأقوال السلف الصالح. للملاءمة بينهما وتقليص ما يرزح تحته من عبء هذه الازدواجية وجد حلا تطمئن إليه نفسه وتستريح له روحه وتطمئن إليه عقيدته وهو الإعجاز العلمي في القرآن، والإعجاز العلمي في السنة، وربما يأتي يوم يقال فيه إعجاز علمي لدى الصحابة والأئمة وصلحاء القوم.
هذا في خصوص اللغة. إن اللغة عقل وحضارة ورؤية للذات كما للموضوع .
أما فيما يخص المقاربات فالمسألة تصبح أشد تعقيدا. هل السياسة شأن ديني أم هي شأن دنياوي ؟ اختلط طرح هذه المسألة بمسألة فصل الدين عن الدولة، اختلطت هذه المسألة بمفهوم العلمانية، حتى أصبح لدى العديد من الطروحات أن العلمانية كفر، بما أن الإسلام لا يفصل بين ها هو ديني وما هو دنياوي، والحال أن المسألة كلها مكر وتحيل الغرض الأساسي فيها من يملك مفاتيح بيت مال المسلمين. إن أصل المسألة في فصل الدين عن الدولة منشؤه العلاقة بين الحاكم والكنيسة، السلطة الفعلية بيد من يجب أن تكون. إذ حين هيمنت الكنيسة هيمنة كلية صار الحاكم المسيحي لا يمتلك سلطة سياسية فعلية إلا بمباركة الكنيسة، فالحاكم صار تحت رحمة الكنيسة. قام صراع بين السياسة والكنيسة ليفتك الحاكم سلطته من الكنيسة. وبعد صراعات عديدة ومد وجذب أعطي للكنيسة رقعة في إيطاليا لها سلطاتها الدينية ولكنها لا تتدخل فيما هو شأن سياسي. لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءة فصل الدين عن الدولة بهذا الشكل لدى العرب المسلمين. لأن عبادة المسيحي تستوجب تدخل طرف بين العابد والمعبود، في حين أن الإسلام ألغى كل واسطة بين العابد والمعبود كل مسلم يمكن أن يكون إماما ولو إماما لنفسه وبالنسبة للمكان فإن الأرض كلها مسجد للمسلم. بالتعمق في حقيقة النص الديني فإن السياسة شأن دنياوي وهي حرفة كالحدادة والنجارة والفلاحة ونحوها، السياسة علم من كان عالما فيها أدار الشأن السياسي بمهارة وحرفية ومن لم تكن له دراية بعلم السياسة كان شأنه في الدولة كشأن الطبيب الجاهل للطب في مرضاه. تحمل الجهلة بعلم السياسة أعباء الحكم هو الذي آل إلى تخريب الأوطان وتقسيمها وجعلها في الدرك الأسفل بين سائر الدول الأخرى على جميع المستويات والأصعدة .
نتج عن هذا الفساد، فساد في العقل، فساد في العقيدة، فساد في إدارة الشأن العام فساد في السياسة، فساد في العلم، فساد في الاقتصاد ... من غير النظر لظاهرة الفساد بهذا الطرح لا يمكن تحليل ظاهرة الفساد في العالم العربي الإسلامي الذي تعيشه تلك المجتمعات إلى اليوم .
كل هذا العرض هو عرض للماكرو – فساد وكل فساد في كل مجتمع من المجتمعات العربية الإسلامية ما هو إلا ميكرو- فساد نشأ عن الماكرو – فساد. لا فساد أكبر من حل مشاكل الحاضر بفكر الماضي. السلف مهما كان صالحا فصلاحه صالح لزمانه، وللحاضر خصوصية في مشاكله تستوجب خصوصية لحل هذه المشاكل. لو أن الاختلاف في النظرة والطرح بقي في مستوى المناظرة قد يكون في ذلك ثراء للمشهد، أما أن يتحول هذا الاختلاف إلى تقاتل وسفك الدماء وامتلاك الموقع بالبلطجة آنذاك يتقهقر حال العرب المسلمين من الرداءة إلى رداءة أكبر. يُستبعَد العقل، ويجيش عوام العرب المسلمين بغوغاء العقيدة كما يراها أصحاب المصالح لا كما هي العقيدة العقيدة، فيُهمَل شأن الفردوس الأرضي ليحل محله فردوس الآخرة. يقع غسيل الأدمغة كي يصير الإجرام وقتل الأبرياء تقربا لله ونيل رضاه وفوزا بالجنة ونعيمها والتمتع بالحور العين، يئد الشاب العربي المسلم كل أحلامه وطموحاته في إنشاء جنة الدنيا ويسعى حثيثا إلى جنة الآخرة كما صورها له أصحاب المصالح. فنرى هؤلاء أصحاب المصالح يتمتعون بالأرصدة في كل بنوك الدنيا، يتمتعون بالسارات الفاخرة، يتمتعون بالقصور المنيفة، يسجلون أبناءهم وبناتهم في أرقى جامعات الدنيا وكلياتها، ويرسلون أبناء الفقراء السذج ولو كانوا من حاملي الشهادات العلمية العليا، يرسلونهم إلى الموت وإلى زرع الموت بين المسلمين وغير المسلمين. حين يقدم الساسة في الأمم الحية برامج وشرعية يستمدونها مما قدموا من خير لأوطانهم، يستمد السياسي العربي المسلم لحية وجلبابا وما حفظ من أقوال السلف الصالح، وهذا ما يستمد به شرعية ليحكم. والغاية أولا وأخيرا الحصول على مفاتيح خزائن الدولة. قد يعتبر البعض هذا الرأي إنشاء لا شيء يدعمه في الواقع. إن ما حدث في تونس بعد ثورة 2011 يجعل ما ورد واقعا ملموسا لا إنشاء من نفس مريضة.
وفي مقال خاص سوف يرد ذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى