ان الشعر تعبير فني ابداعي, نتاج خيال خصب, يحرص الشاعر على نقله عن طريق المشافهة أو التدوين, كي تصل أفكاره ورؤاه الى المرسل اليه/ الجمهور, لما للشاعر من دور فاعل داخل منظومته المجتمعية بوصفه صاحب رسالة انسانية, ببعديها القيمي و التنويري, يوظفهما ابداعيا بما لديه من امكانيات, مقرونة بمسؤولية اخلاقية, مقاوما التحديات, بفعل ابداعي, في ردة فعل تجاه هذه التحديات, مهما صرح به النص من انكسار, لما لثيمة الانكسار من فاعلية في ايقاظ من يغط في نوم طويل, وبذا يمكننا تحديد نوعين من الانكسار بحسب الموجبات التي أثرت على سياق النصوص الشعرية في مجموعة (مقال لي أحدٌ هُزمت)1 للشاعر هيثم الزبيدي:
أولاً: الانكسار الايجابي: يأتي هذا الانكسار من خلال مواجهة الشاعر للتحديات بالفعل الادبي, كونه يمثل ضمير مجتمعه, والمعبر الحقيقي عن آماله وطموحاته وما يقاسيه من آلام, وما توالي الحروب وما تتناسل من نكبات, بما تُضفيه على محيطه الاجتماعي من هزات تربك بناه الداخلية, مخلخلة دعامته الرئيسية/ الأفراد, الا مدعاة الى الشعور بالانكسار, لكن مع ذلك يبقى المنجز الابداعي, مثار اهتمام ومحل تقبل طيف واسع من جمهور المتلقين, فما يعانيه الشاعر من انكسار لتفاقم همه المجتمعي, وترجمة هذا الهم الى نص ادبي, لا مجرد كلام او مشاعر ناقمة, في تمييز للفعل الادبي عن الانفعالات النفسية المحضة, كونه يدون الاحاسيس النبيلة.
ثانياً: الانكسار السلبي: وهو الانكسار الذي يأتي على انقاض الانكسار الأول, مما قد يطال الشاعر عبر نافذة مجسه الانساني المرهف, بعدما اتسعت الهوة بينه وبين افراد مجتمعه, من جهة عدم اعارة قضاياهم الكبرى اهتماما, بأن لم يرتقوا الى درجة من الوعي تؤهلهم الى تلقي فعله الابداعي وترجمته الى سلوك اجتماعي ناقم عن كل اساءة لبناه المجتمعية او قيمه العليا, وهو ما خلق فجوة بينهما, كردة فعل من الواقع المعاش, ظنَّنا منهم, الَّا خلاص من المشكلات الكبرى كالحرب, والموت, والفاقة, وهو ما يمكننا اعتباره من موجبات الشعور بالانكسار السلبي, الذي قد يُقَوُّض دور وفاعلية الشاعر بمحيطه الاجتماعي, ليخبو بذلك فعل الرفض والتحريض.
ان الشاعر هيثم الزبيدي في مجموعته الشعرية الموسومة, (ما قال لي أحد هُزمت)2 ومن خلال عتبة المجموعة الرئيسية/ عنوان المجموعة, وعلى اعتبار ان العتبة النصية موجهاً قرائياً, نجد الشاعر ينفي عنه الهزيمة بالقول, ولو تسنى لنا قراءة العنوان قراءة سيميائية, لتجلى لنا العكس, بدلالة ما صرحت به عتبات النصوص الداخلية أو ما لمحت له, ( صلاة الفزع, انكسارات, وطن غريب, أذان الغياب, قرابين, أفول), أو متون النصوص الشعرية قيد الدراسة, وعلى الرغم مما يشي به العنوان من هزيمة وقعت على ارض الواقع, الا أنه يمكننا عدها من محفزات النهوض, لرفض الشاعر الهزيمة وعدم التصديق بها, في تغافل بيِّن عنها لمرارة الاقرار أو التصديق بها, والحرص على ترجمة ما دار او يدور من مآسٍ الى عمل أدبي, تشكل في مجلها علامة استفهام كبرى, تستدعي حضور متلقٍ واعٍ, علَّه يتمكن من الإجابة عمَّا تم طرحه في مجمل المجموعة الشعرية من أسئلة, بوصفها نتاجٌ لفعلٍ حياتي, (( أن الكتابة لا تكون من لا شيء. كما ان الرفض لا يكون الا رفض شيء))3
هذه الديناميكية للفعل ورد الفعل وكيف يمكن للمتلقي قراءته, وهو ما يستدعي هنا تحديدا قارئ يجاري المنتج الابداعي فهما وتأويلا وانتاجا للمعنى, في عملية توجب حضور القارئ الخبير, القارئ الذي يتخلى عن مرجعياته في تماهٍ مع النص, وينطلق الى أفق أوسع يكشف من خلاله المعنى الحقيقي, بما لديه من خبرة فيما يُنتجه النص الشعري من معنى وما يتشظى عنه بفعل التلقي, ففي قبالة فعل الحياة/ النص, هناك ردة فعل/المتلقي, ونتيجة لهذه المواجهة, يمكننا انتاج المعنى عبر تشظياته , لكي تكتمل الصورة بأدق تفاصيلها.
وهذا قد لا يتحقق بفعل كاتب يستحضر نفسه وهمومه الذاتية بل يتحقق بمن يُراعي هموم مجتمعه وما يعانيه, في نأيٍ عن الانا, في تحرير الذات عمَّا قد يعلق بها, ويشيد في داخله الانتماء الانساني, وهذا بالضبط ما ذهب اليه (سارتر), (( ان المرء لا يمكن ان يكون انسانا أو يجعل من نفسه كاتبا الا اذا رسم على الافق خطا يتجاوز به نفسه))4, وليس ما قاله (لوتر يا مون ), ببعيد عن هذا المعنى عندما خاطب الشعراء (( كتابتكم للشعر ليست سببا معقولا لتنفصلوا عن سائر البشر))5, اذن الكاتب ليس له ان ينفصل عن مجتمعه, كونه مرآة عاكسة للواقع المعاش, لذا نجد النص معبر حقيقي لواقع الشاعر, وانسلاخه عن الأنا, هذا ما سيتم تناوله من خلال رصد ثيمتي (الرفض والاغتراب) في ضوء قراءة نقدية معمقة, متخذين من مجموعة (ما قال لي أحد هُزمت)6 للشاعر هيثم الزبيدي أنموذجاً لذلك.
((قفْ ها هنا أيها الوطن الغريبُ
وأنظر الى السعف الجريح
يشوب مفرقه المشيب
اذرف على شرفاتنا
أقمارك الصفراء
تؤنسنا اذا انبجس الغروب
وأنثر صباك على الثرى
قل كيف تجمعه الدروب؟))ص11
ان الاغتراب أقسى ما يتلقاه الانسان عموما والشاعر بشكل خاص, لما يترتب عليه من شعور مضنٍ بالانكسار, ولذلك نجده مفرط في استشعار هموم مجتمعه, وهذا ما يمكن ان يدركه المتلقي في النص الشعري في تعبير عن المشاعر المشحونة أسى وشجى عميقين, تمثلا في النص الآنف عبر جمله الشعرية, (الوطن الغريب, السعف الجريح, المشيب, أقمارك الصفراء), التي جلِّها منتجة لمعنى الشعور العالي للانفصال عن الواقع, وعده واقعا طارئ/ ملفقاً, في تشظى لمعنى الاوطان والنخيل الشامخ اليانع والاقمار المضيئة البيضاء, لتبدو الصورة اكثر قتامة, وأشد سوادا, في رفض الى هكذا مآل.
((هل ضاعت قافلة الجوز
وأناخت قافلة الملح؟
يا ذا الراعي
قل كيف تكون الايام
وما في الكوخ سوى عنقود
من تمر والليل أفاع؟
يا ذا الراعي
قل ماذا اعطي لجياعي؟))ص30
قد لا يبدو الشعور بالفاقة أقل فتكا من الشعور بالاغتراب, ان لم يكن مكملا له, وما موجبات الانكسار الا لإحساس مستديم بواقع متهالك, من خلال ضياع الثروة وفقدان الطمأنينة, وتملك الجوع للمشهد وتنامي الفزع, وما تواتر الانكسارات في جمل النص الشعري, ( هل ضاعت قافلة الجوز, أناخت قافلة الملح, وما في الكوخ سوى عنقود, والليل أفاعٍ؟), هنا الا استدعاء للإجابة عن سؤال ملح جدا, (قل ماذا اعطي لجياعي؟), في انتاج لمعنى القسوة الذي مارسه الراعي, وما اناخة, (قافلة الملح) وضياع (قافلة الجوز), الا لظى منة جوع تنشب في الجسد الهزيل, في انتاج لمعنى البطش والاستكانة لهذا المارد, الذي لا يترك مخبأ للعافية الا ودك حصونه.
((لم أقل أن الحياة حماقة كبرى يوشحها السوادْ
ولم أقل أن المآذن تطرد الغيم البليد
فلا يمرّ على قرانا..
لم أقل ان القصائد نسوتي
والنخل يحمل فوقهُ سقف السماء..)) ص42
قد تتشظى الثيمة الشعرية من الرفض والاغتراب الى الادانة وصولا الى تشظٍ للمعنى, ففي النص الشعري تبدو الادانة للحياة جلية ممثلة في الجملة الشعرية الاولى للنص, (لم أقل أن الحياة حماقة كبرى يوشحها السوادْ) وكذلك في جملته الشعرية الثانية, (ولم أقل أن المآذن تطرد الغيم البليد) في تعميق لهول الشعور المتصاعد بالانكسار, لما عاناه من السواد الذي اعتلى الحياة وطرد الغيم البليد فلم تمر بالقرى التي سقفها النخل, لتنتج معنى الموت وانهيار سقف النخيل الخضراء الزاخر بالحياة قبل زمن القحط, في تشظى لمعنى تكامل انطباق فعل الشعور بالنهاية المبكرة.
((مفتقة يا اذان الغياب
ثياب القوافل
كلّهم قبل يوم الرحيل
استفاقوا على صرخة السيسبان
وكلهم كبَّروا ..ثمَّ راحوا..))ص49
يكشف لنا النص الشعري ما دار (يوم الرحيل), اذ بدا باذان للغياب وثياب للقوافل مفتقة, كونهم (استفاقوا على صرخة السيسبان), اذ لم يبقَ في الديار غير صراخ, يحمل معنى نداء الاستغاثة الأخير, السيسبان الشجرة التي من دون ثمر, وحيدة تتوسط اشباح القرى, في انتاج لمعنى الخلو من ابسط اسباب الديمومة, هكذا بدت القرى خالية الا من التكبير في اشارة لصلاة الموت, لقوله: (وكلهم كبَّروا ..ثمَّ راحوا..), في توثيق لنهاية حياة كانت هنا, وما يتشظى عنها من معنى, بعدما تخلُّوا عن الاشياء جراء محنة الرحيل القسري.
((فكي وثاق طفولتي
كي تعلمي
أني أحبك
واسكبي أرَجَ الربيع على دمي
ولتعلمي..
أن الرصاصات التي كانت تودّ النوم في قلبي أنا
لم تفطم..)) ص53
ان رفض القيود فطرة نشأ عليها البشر, كونهم تواقين للحرية, وما دلالة فك وثاق الطفولة, الا دليل لرفض القيود المفروضة على البراءة, على اعتبار انها عتبة الانطلاق الى رحاب أسمى وأنقى حيث الحب وانسكاب اريج الربيع على دمه, مادامت الرصاصات التي في دمه لم تفطم, في عودة باذخة للبراءة, ورفض لعبة الاستمرار بالاغتيال, وما يتشظى عنه من تربص للنقاء, بتنامي فكرة حضور شبح الموت الحاضر الغائب.
((ما قال لي أحد كبرت
سمعتها في هدأةِ الجدران
في رفض الشوارع مشيتي
في خطوتي
ثقلتْ على الجسر الذي أدمى جماجم أخوتي
في الليل بعثرت السماء سكونه فوق الدروب)) ص89
في الجملة الشعرية الاولى للنص ,( ما قال لي أحد كبرت) تتنامى ثيمة الاغتراب, وتتناسل الى متوالية انكسارات ذاتية كما في, (سمعتها في هدأةِ الجدران, في رفض الشوارع مشيتي), وما أن نستغرق أكثر في تلقي النص, تتجلى لنا مأساة انسانية وفواجع كبرى, وما ثقل الخطوة على الجسر الذي أدمى جماجم الاخوة, الا انتقال سريع الى هم مجتمعي انساني, كونه, (في الليل بعثرت السماء سكونه فوق الدروب), وما يتشظى عنه من معنى الامعان بالإهمال والتمزق والشتات, الذي طال الفئات العمرية للبشر كافة, مع التنبه الى كل مفصل من مفاصل الحياة والى كل ذرة من ذرات الكون التي تواصلت معها ظنَّاً منها انها تجد مبتغاها من الانصات أو الاستماع لها لكن من دون جدوى.
_____________________
1-ما قال لي أحدٌ هُزمت, هيثم الزبيدي, عُمان, دار فضاءات للنشر والتوزيع- المركز الرئيسي,ط1, 2013م
2- ما قال لي أحدٌ هُزمت: المصدر نفسه
3-شجر الغابة الحجري, طراد الكبيسي, منشورات وزارة الاعلام في الجهورية العراقية, 1975, ط1ص24
4-المصدر نفسه: طراد الكبيسي ص30
5-بول ايلوار, بقلم لويس باروث وجان مارسيناك, ترجمة فؤاد حداد, دار المكشوف للنشر, ص186
6- ما قال لي أحدٌ هُزمت: المصدر نفسه
أولاً: الانكسار الايجابي: يأتي هذا الانكسار من خلال مواجهة الشاعر للتحديات بالفعل الادبي, كونه يمثل ضمير مجتمعه, والمعبر الحقيقي عن آماله وطموحاته وما يقاسيه من آلام, وما توالي الحروب وما تتناسل من نكبات, بما تُضفيه على محيطه الاجتماعي من هزات تربك بناه الداخلية, مخلخلة دعامته الرئيسية/ الأفراد, الا مدعاة الى الشعور بالانكسار, لكن مع ذلك يبقى المنجز الابداعي, مثار اهتمام ومحل تقبل طيف واسع من جمهور المتلقين, فما يعانيه الشاعر من انكسار لتفاقم همه المجتمعي, وترجمة هذا الهم الى نص ادبي, لا مجرد كلام او مشاعر ناقمة, في تمييز للفعل الادبي عن الانفعالات النفسية المحضة, كونه يدون الاحاسيس النبيلة.
ثانياً: الانكسار السلبي: وهو الانكسار الذي يأتي على انقاض الانكسار الأول, مما قد يطال الشاعر عبر نافذة مجسه الانساني المرهف, بعدما اتسعت الهوة بينه وبين افراد مجتمعه, من جهة عدم اعارة قضاياهم الكبرى اهتماما, بأن لم يرتقوا الى درجة من الوعي تؤهلهم الى تلقي فعله الابداعي وترجمته الى سلوك اجتماعي ناقم عن كل اساءة لبناه المجتمعية او قيمه العليا, وهو ما خلق فجوة بينهما, كردة فعل من الواقع المعاش, ظنَّنا منهم, الَّا خلاص من المشكلات الكبرى كالحرب, والموت, والفاقة, وهو ما يمكننا اعتباره من موجبات الشعور بالانكسار السلبي, الذي قد يُقَوُّض دور وفاعلية الشاعر بمحيطه الاجتماعي, ليخبو بذلك فعل الرفض والتحريض.
ان الشاعر هيثم الزبيدي في مجموعته الشعرية الموسومة, (ما قال لي أحد هُزمت)2 ومن خلال عتبة المجموعة الرئيسية/ عنوان المجموعة, وعلى اعتبار ان العتبة النصية موجهاً قرائياً, نجد الشاعر ينفي عنه الهزيمة بالقول, ولو تسنى لنا قراءة العنوان قراءة سيميائية, لتجلى لنا العكس, بدلالة ما صرحت به عتبات النصوص الداخلية أو ما لمحت له, ( صلاة الفزع, انكسارات, وطن غريب, أذان الغياب, قرابين, أفول), أو متون النصوص الشعرية قيد الدراسة, وعلى الرغم مما يشي به العنوان من هزيمة وقعت على ارض الواقع, الا أنه يمكننا عدها من محفزات النهوض, لرفض الشاعر الهزيمة وعدم التصديق بها, في تغافل بيِّن عنها لمرارة الاقرار أو التصديق بها, والحرص على ترجمة ما دار او يدور من مآسٍ الى عمل أدبي, تشكل في مجلها علامة استفهام كبرى, تستدعي حضور متلقٍ واعٍ, علَّه يتمكن من الإجابة عمَّا تم طرحه في مجمل المجموعة الشعرية من أسئلة, بوصفها نتاجٌ لفعلٍ حياتي, (( أن الكتابة لا تكون من لا شيء. كما ان الرفض لا يكون الا رفض شيء))3
هذه الديناميكية للفعل ورد الفعل وكيف يمكن للمتلقي قراءته, وهو ما يستدعي هنا تحديدا قارئ يجاري المنتج الابداعي فهما وتأويلا وانتاجا للمعنى, في عملية توجب حضور القارئ الخبير, القارئ الذي يتخلى عن مرجعياته في تماهٍ مع النص, وينطلق الى أفق أوسع يكشف من خلاله المعنى الحقيقي, بما لديه من خبرة فيما يُنتجه النص الشعري من معنى وما يتشظى عنه بفعل التلقي, ففي قبالة فعل الحياة/ النص, هناك ردة فعل/المتلقي, ونتيجة لهذه المواجهة, يمكننا انتاج المعنى عبر تشظياته , لكي تكتمل الصورة بأدق تفاصيلها.
وهذا قد لا يتحقق بفعل كاتب يستحضر نفسه وهمومه الذاتية بل يتحقق بمن يُراعي هموم مجتمعه وما يعانيه, في نأيٍ عن الانا, في تحرير الذات عمَّا قد يعلق بها, ويشيد في داخله الانتماء الانساني, وهذا بالضبط ما ذهب اليه (سارتر), (( ان المرء لا يمكن ان يكون انسانا أو يجعل من نفسه كاتبا الا اذا رسم على الافق خطا يتجاوز به نفسه))4, وليس ما قاله (لوتر يا مون ), ببعيد عن هذا المعنى عندما خاطب الشعراء (( كتابتكم للشعر ليست سببا معقولا لتنفصلوا عن سائر البشر))5, اذن الكاتب ليس له ان ينفصل عن مجتمعه, كونه مرآة عاكسة للواقع المعاش, لذا نجد النص معبر حقيقي لواقع الشاعر, وانسلاخه عن الأنا, هذا ما سيتم تناوله من خلال رصد ثيمتي (الرفض والاغتراب) في ضوء قراءة نقدية معمقة, متخذين من مجموعة (ما قال لي أحد هُزمت)6 للشاعر هيثم الزبيدي أنموذجاً لذلك.
((قفْ ها هنا أيها الوطن الغريبُ
وأنظر الى السعف الجريح
يشوب مفرقه المشيب
اذرف على شرفاتنا
أقمارك الصفراء
تؤنسنا اذا انبجس الغروب
وأنثر صباك على الثرى
قل كيف تجمعه الدروب؟))ص11
ان الاغتراب أقسى ما يتلقاه الانسان عموما والشاعر بشكل خاص, لما يترتب عليه من شعور مضنٍ بالانكسار, ولذلك نجده مفرط في استشعار هموم مجتمعه, وهذا ما يمكن ان يدركه المتلقي في النص الشعري في تعبير عن المشاعر المشحونة أسى وشجى عميقين, تمثلا في النص الآنف عبر جمله الشعرية, (الوطن الغريب, السعف الجريح, المشيب, أقمارك الصفراء), التي جلِّها منتجة لمعنى الشعور العالي للانفصال عن الواقع, وعده واقعا طارئ/ ملفقاً, في تشظى لمعنى الاوطان والنخيل الشامخ اليانع والاقمار المضيئة البيضاء, لتبدو الصورة اكثر قتامة, وأشد سوادا, في رفض الى هكذا مآل.
((هل ضاعت قافلة الجوز
وأناخت قافلة الملح؟
يا ذا الراعي
قل كيف تكون الايام
وما في الكوخ سوى عنقود
من تمر والليل أفاع؟
يا ذا الراعي
قل ماذا اعطي لجياعي؟))ص30
قد لا يبدو الشعور بالفاقة أقل فتكا من الشعور بالاغتراب, ان لم يكن مكملا له, وما موجبات الانكسار الا لإحساس مستديم بواقع متهالك, من خلال ضياع الثروة وفقدان الطمأنينة, وتملك الجوع للمشهد وتنامي الفزع, وما تواتر الانكسارات في جمل النص الشعري, ( هل ضاعت قافلة الجوز, أناخت قافلة الملح, وما في الكوخ سوى عنقود, والليل أفاعٍ؟), هنا الا استدعاء للإجابة عن سؤال ملح جدا, (قل ماذا اعطي لجياعي؟), في انتاج لمعنى القسوة الذي مارسه الراعي, وما اناخة, (قافلة الملح) وضياع (قافلة الجوز), الا لظى منة جوع تنشب في الجسد الهزيل, في انتاج لمعنى البطش والاستكانة لهذا المارد, الذي لا يترك مخبأ للعافية الا ودك حصونه.
((لم أقل أن الحياة حماقة كبرى يوشحها السوادْ
ولم أقل أن المآذن تطرد الغيم البليد
فلا يمرّ على قرانا..
لم أقل ان القصائد نسوتي
والنخل يحمل فوقهُ سقف السماء..)) ص42
قد تتشظى الثيمة الشعرية من الرفض والاغتراب الى الادانة وصولا الى تشظٍ للمعنى, ففي النص الشعري تبدو الادانة للحياة جلية ممثلة في الجملة الشعرية الاولى للنص, (لم أقل أن الحياة حماقة كبرى يوشحها السوادْ) وكذلك في جملته الشعرية الثانية, (ولم أقل أن المآذن تطرد الغيم البليد) في تعميق لهول الشعور المتصاعد بالانكسار, لما عاناه من السواد الذي اعتلى الحياة وطرد الغيم البليد فلم تمر بالقرى التي سقفها النخل, لتنتج معنى الموت وانهيار سقف النخيل الخضراء الزاخر بالحياة قبل زمن القحط, في تشظى لمعنى تكامل انطباق فعل الشعور بالنهاية المبكرة.
((مفتقة يا اذان الغياب
ثياب القوافل
كلّهم قبل يوم الرحيل
استفاقوا على صرخة السيسبان
وكلهم كبَّروا ..ثمَّ راحوا..))ص49
يكشف لنا النص الشعري ما دار (يوم الرحيل), اذ بدا باذان للغياب وثياب للقوافل مفتقة, كونهم (استفاقوا على صرخة السيسبان), اذ لم يبقَ في الديار غير صراخ, يحمل معنى نداء الاستغاثة الأخير, السيسبان الشجرة التي من دون ثمر, وحيدة تتوسط اشباح القرى, في انتاج لمعنى الخلو من ابسط اسباب الديمومة, هكذا بدت القرى خالية الا من التكبير في اشارة لصلاة الموت, لقوله: (وكلهم كبَّروا ..ثمَّ راحوا..), في توثيق لنهاية حياة كانت هنا, وما يتشظى عنها من معنى, بعدما تخلُّوا عن الاشياء جراء محنة الرحيل القسري.
((فكي وثاق طفولتي
كي تعلمي
أني أحبك
واسكبي أرَجَ الربيع على دمي
ولتعلمي..
أن الرصاصات التي كانت تودّ النوم في قلبي أنا
لم تفطم..)) ص53
ان رفض القيود فطرة نشأ عليها البشر, كونهم تواقين للحرية, وما دلالة فك وثاق الطفولة, الا دليل لرفض القيود المفروضة على البراءة, على اعتبار انها عتبة الانطلاق الى رحاب أسمى وأنقى حيث الحب وانسكاب اريج الربيع على دمه, مادامت الرصاصات التي في دمه لم تفطم, في عودة باذخة للبراءة, ورفض لعبة الاستمرار بالاغتيال, وما يتشظى عنه من تربص للنقاء, بتنامي فكرة حضور شبح الموت الحاضر الغائب.
((ما قال لي أحد كبرت
سمعتها في هدأةِ الجدران
في رفض الشوارع مشيتي
في خطوتي
ثقلتْ على الجسر الذي أدمى جماجم أخوتي
في الليل بعثرت السماء سكونه فوق الدروب)) ص89
في الجملة الشعرية الاولى للنص ,( ما قال لي أحد كبرت) تتنامى ثيمة الاغتراب, وتتناسل الى متوالية انكسارات ذاتية كما في, (سمعتها في هدأةِ الجدران, في رفض الشوارع مشيتي), وما أن نستغرق أكثر في تلقي النص, تتجلى لنا مأساة انسانية وفواجع كبرى, وما ثقل الخطوة على الجسر الذي أدمى جماجم الاخوة, الا انتقال سريع الى هم مجتمعي انساني, كونه, (في الليل بعثرت السماء سكونه فوق الدروب), وما يتشظى عنه من معنى الامعان بالإهمال والتمزق والشتات, الذي طال الفئات العمرية للبشر كافة, مع التنبه الى كل مفصل من مفاصل الحياة والى كل ذرة من ذرات الكون التي تواصلت معها ظنَّاً منها انها تجد مبتغاها من الانصات أو الاستماع لها لكن من دون جدوى.
_____________________
1-ما قال لي أحدٌ هُزمت, هيثم الزبيدي, عُمان, دار فضاءات للنشر والتوزيع- المركز الرئيسي,ط1, 2013م
2- ما قال لي أحدٌ هُزمت: المصدر نفسه
3-شجر الغابة الحجري, طراد الكبيسي, منشورات وزارة الاعلام في الجهورية العراقية, 1975, ط1ص24
4-المصدر نفسه: طراد الكبيسي ص30
5-بول ايلوار, بقلم لويس باروث وجان مارسيناك, ترجمة فؤاد حداد, دار المكشوف للنشر, ص186
6- ما قال لي أحدٌ هُزمت: المصدر نفسه