في تأويل النص الشعري يجب علينا أن نميز بين التفسير والفهم بحسب ما ذهب إليه وليام دلتاي, (باعتبار أن التفسير هو المنهج العلمي الذي تتميز به المدارس والعلوم الوضعية)*, فالعالم الطبيعي يُفسر مادته, لذا (يشكل الفهم أو التأويل "المنهج العلمي" المناسب لحقل الفكر والعلوم الإنسانية)*, وبهذا يُستدعى من القارئ في منهج التأويل الكشف عن سيرورة النص الشعري وما يطرحه, من أفكار ورؤى, وعلامات نصية, وأنساق مضمرة, أخذين بنظر الاعتبار عدم اللجوء للأحكام القبلية وإسقاطها على النص الشعري، والركون إلى الفهم الحقيقي للنص من أجل الوصول إلى المطابقة بين فهم القارئ و رؤى الشاعر, من خلال سبر غور النص الشعري بقراءة واعية وصولا للمطابقة بين الفهم الحقيقي للنص وما ذهبت إليه رؤيا الشاعر, محققين تصورا كاملا عنه, وما لهذا الالتقاء من ضرورة في إنتاج الدلالة والمطابقة بين قصديّة الشاعر في بثّ معطيات دالة, ليتحقق فهم القارئ للخطاب الموجه للنص, مع قطعية ألّا يغيب عنها تأثير الواقع/ السلطة/ المجتمع/ التأثير الخارجي, بشتى مؤثراته, والنظر بعين الجدة إلى ذات الشاعر/ التأثير الداخلي, اللذين يشكلان السياق الذي بني عليه النص الشعري وكوّن وحدة متسقة من الأنساق، الذي بدوره يرشدنا لوضع مجسات لكشف تأثير هذه المعطيات على الجانب النفسي للشاعر, هذا كلّه سيتم تناوله في مجموعة (نخلة الله )*, للشاعر حسب الشيخ جعفر.
يا أيها النهر الذي يلمع
تسمع نجواي ولا تسمع .
قرّب وقرّب من شفاهي الماء
أغرق صحارى عطشي الحراء
وقل لأطفالك أن يسرعوا
مثقلة أكفهم بالماء ص14
في هذا النص نجد طلب الارتواء حاضرا مع إشارة ضمنية يمكن جسها من تمنع النهر, على الرغم من لمعان النهر المتحقق من الرؤية البصرية, من خلال انقطاع التواصل بينهما عدم السمع/ ولا تسمع, للنجوى مع كونه قادراً على السمع, وتعطيل فعل النهر وما يحمله من علامة الإرواء والفيض/ النهر الذي يلمع / لانعكاس أشعة الشمس عليه, علامة امتلاء النهر, إلا أن الشاعر أراد منه, أن يحقق معنى دلالي / أيديولوجي ( قرّب قرّب من شفاهي الماء), وفي هذا الخطاب الأيديولوجي نجد تفجر المعنى دلاليا), بمثابة التهيؤ للثورة جليا, (أغرق صحارى عطشي الحراء), فالأرض/ صحارى وما قيمة النهر أن لم يردم الهوة ما بين / الحراء والشفاه المتيبسة من العطش, ليأتي النسق الايديولوجي المضمر/ الدعوة للتغيير, (وقل لأطفالك أن يسرعوا), نجد الإذن لإعلان ساعة الصفر/ الثورة/ التغيير بدعوة صريحة وما يشكله تأثير الواقع المعاش/ الفقر/الإقصاء, من دور فاعل في استحضار المعنى الثوري, ( مثقلة أكفهم بالماء), لما فيه من استدعاء الثوار/ الأطفال/ المستقبل, لأجل التغيير, نتيجة طبيعية للخوف الذي استشرى من تصحر حقولهم, هذا خطاب موجه للقرويين أنفسهم قبل غيرهم/ أبناء الوطن, بقرع جرس إنذار التصحر, لممارسة ضغط السلطة بترك ارض الأجداد,/ جرس التفرد بالقرار, وهذا بحد ذاته إجراء يدعو للقلق, وهذا ما قد تحقق فعلا في اغلب قرى وأرياف الوطن/ أنموذجا لتسلط قادم اكبر, ليبرز الباعث الأيديولوجي الذي شكلته السلطة, من خلال رسائلها التي لم تكن مشفرة, بل كانت واضحة الدلالة والمعنى.
وشممت ثوبك في غبار الريح رايه
يا وردة البستان, يا طفلي المدّلل,
لو اضمّك في ضلوعي
وأشد اذيال النهاية, وهي تفلت, بالبداية
وتعود طفلا, تاجك الاشواك تزهر في دموعي . ص21
من معاينة النص بقراءة فاحصة نجد الحنين إلى الطفولة جليا/ ( شممت ثوبك, وردة البستان, تعود طفلا), فهي علامات تمثل رسائل مشحونة بوجدان الشاعر وما علق بذهنه من بيئة الريف, وما يعانيه الآن من وضع نفسي ضاغط, ألجأه الحنين إلى حضن أرض ميلاده, كي يبث شكواه من قسوة الحياة, وعلى الرغم من ذلك نجد النسق الأيديولوجي فاعلا وبقوة هذه المرة متخذا من الجانب العاطفي, منبرا لبث أفكاره و رؤياه , (وتعود طفلا, تاجك الأشواك تزهر في دموعي ), مفردة الطفل وما تمثله من رمزية النقاء بشكله المباشر, وما تضمر هنا من علامة البداية بمضمونها العميق في تشظٍّ للمعنى, إذ تاجها الأشواك, أي أنه يعلن عن ثورة / محصنة أيديولوجيا, تحمل صفة المنعة والحفاظ على المنجز/ التغيير/ ان تحقق, وما يبرر نمو هذا النهج الجديد كون هذه الثورة سُقيت من دموع, وهي علامة المكابدة والصبر والأناة في تحمل الضيم, وإنتاج رؤية فيها تفكر لحياة جديدة, يترتب عليها فهما خاصا لمرحلة جديدة, بشقيها الايديولوجي والنفسي, وهذا واضحا من خلال الأماني التي يطلقها النص ب( لو) /حرف امتناع لوجود , امتناع الضم, لوجود المانع/ السلطة, ( لو اضمّك في ضلوعي), وهنا يبرز خطاب دينامي متعدد الرؤى, متخذا من نير الاغتراب الذى تجلى في النص ببعد آخر حافل بالبوح عن الواقع المأزوم وما يعيشه الفرد من معاناة باذخة الألم, حتى بدا الحنق واضحا في عدم تقبل الواقع والسعي لطي صفحته بما تحمل من مرارة, وأن لم تتحقق, (وأشد اذيال النهاية, وهي تفلت, بالبداية),لتعود الكرةُ ثانية .
عائدا تخفق اطمارك, مهزوما وحيدا
تحتمي بالظل, محموما طريدا
قمر السعف المندى ,
عاد في الكأس التي تشرب طينا . ص67
نجد ملامح الاغتراب جلية في النص الشعري, (عائدا تخفق اطمارك), وهذا الاغتراب كأي اغتراب صاحبه يبدو مهزوما وحيدا, وما لنسق الوحدة المضمر من تعميق دلالة الشعور بالانهزامية, التي من علاماتها البارزة الاحتماء بالظل, وهذا بحد ذاته يشكل علامة إخفاء الأصل وإقصاءه من خلال اللجوء إلى البديل/ النسخة المستعارة/ المزيفة للدور الحقيقي المرجو, وتتعمق دلالة الوهن وصولا إلى تسويق ثقافة الهروب/ الاغتراب كحل سريع للحفاظ على النوع المقاوم, مخافة الوقوع فريسة لحمى السلطة/ محموما طريداً, لقد أضفى نسق الاغتراب جوا من اليأس والقنوط على النسق الأيديولوجي الذي كان فاعلا في فترة الستينات, وأبدله انكسارا, وحتى لا يمكن تتبعه لا يظهر بأفق مفتوح بل الاحتماء من السلطة بسعف ( مندى), فلا يكفي التواري عن الآخر/ السلطة, بل اختيار الزمن المناسب للتخفي والمراوغة لتجنب عيون الوشاة/ السلطة, فيظهر في أوقات محددة وما الندى إلا دليل على وقت السحر, أو على نزول مطر نثيث, وما لهذا الواقع المضغوط من تأثير/نفسي سلبي, على ممارسة الدور الريادي في إيصال الصوت الحر/الشعب للطرف الحاكم, أنَّ الشعور المتصاعد في تكرار الهزيمة بات واضحا في النص, فهو يشي, بعمق المأساة المتكررة/ المعاشة, (عاد في الكأس التي تشرب طينا ), والطين بما يحمل من شوائب المراحل الفائتة والمعاشة, وان تعددت نسخها, لكنها تشتر بعضها البعض.
الشفاه كالورد تذبل
والوهج في العيون.. يخبو مثلما النجوم تأفلُ
وفي الضلوع يزحف الشتاء بالجليد والنواح . ص47
نجد في النص تسابق للذبول والخبو والأفول, مشكلا علامة دالة على الحالة النفسية الحرجة من خلال جملة المعطيات آنفة الذكر, فالوردة/ الإنسان, صارت تنمو في حقل جليدي مبتعدة عن النهر والهواء والتربة/ الأرض, مما أفقدها الهوية/ البريق, فالشفاه التي لا ترتشف من نهر الوطن مصيرها الذبول, و النجوم تخبو كخبو الوهج في العيون في أفول يتركها تعاني مأساة الاحتضار البطيء, ليأتي نسق العزلة جليا كمحصل طبيعي ففي الضلوع زحف للشتاء , لما في هذه العزلة الصقيعية, من علامة تقويض للفعل الأيديولوجي/ السياسي/ الثوري, وفي هذا إشارة نسقية مضمرة تعد الأفول نتيجة متوقعة لمن يعد العدة للهروب وترك الحقل خاليا من غرسه/ الثورة / الجيل القادم, إجراء غير محمود النتائج, مادام النواح زاحفا مع الشتاء في الضلوع, فليس من طباع الثوريين النواح, بل المقاومة والمطاولة في الفعل النضالي, لينتج هنا نسق القنوط التام.
وأنا وحيد مثل جذعك , ظلَّ منك ؟ سوى الرماد
في كوخنا المهجور , والريح الصفيقة في الوهاد
تلهو بأوراقي . أكانت كل اشواقي هباء ؟ ص59
في النص نجد الاغتراب جليا/ أنا وحيد, وازداد ترسخه من خلال الحنين إلى الجذر الضاربة عروقه في الأرض ليتلون بلون سحنتها التي جاءت رمادية, فثيمة الوحدة وما تخلفه من رماد في النفوس/ الإنسان الجذع/ الأوراق, أضحى رمادا بفعل حريق الوحدة,منتجة تشكيلا/خلقا جديدا من رماد من خلال التشبَّة بالجذع, لتأتي معطيات أخرى تزيد من الركون للوحدة ( الكوخ المهجور , الريح الصفيقة ) كلُّها إشارات دلت على خلو الأمكنة من ساكنيها, ليضحى الرماد والهجير والريح, علامات موحية على ذلك, فعلت فعلتها بوجدان الشاعر/ تلهو بأوراقي, ممثلة بأشواقه التي كانت حبيسة صدره الملتهب حنينا وأملا بلقاء الأحبة, ليأتي الخطاب هنا موجها للشاعر نفسه,( أكانت كل اشواقي هباء ؟ ), في مواجهة مباشرة مع النفس, بدت صادمة من خلال الاستفهام عن الأشواق الذي بدا في النص على الرغم من الوعي لكلِّ مجريات لعبة الإغواء التي مارسها الشعور بالوحدة/ الاغتراب الذاتي, وما تقاطع معها ايديولوجيا, لتأتي النتائج مخيبة للآمال كسابقاتها .
شتاء
يا دثاراً كان من برد يغطيني
حننت اليك , قلت : اشاه , والاموات ان جاعوا وان عطشوا
فما من عابر يدري سوى الاشباح والطين . ص71
من خلال قراءة النص نجد نسق الحنين المضمر في مفارقة تشي بنزوح عاطفي نحو المغايرة, فالشاعر هنا يستدعي الشتاء/ الوطن, ليكون دثارا يغطيه من برد الاغتراب, حين استدعى مفردة ( أشاه) هذه اللفظة الشعبية, العراقية بامتياز, فمع كونه استدعى الطبيعة استدعى اللغة / الدارجة شعبيا, وكأنه يستدعي دفء القرية/ الأهل/ الطفولة, بل انُّه ذهب إلى ابعد من ذلك ليوجه الخطاب إلى الموتى معتبرا إياهم العابر الوحيد الذي (يدري) بفلسفة الكون والوجود, وهذا سرٌّ من أسرار البناء ألقيمي للفرد العراقي في تخليده للأموات وعدّهم خارقين للعادة/ القانون الطبيعي للحياة, (فما من عابر يدري سوى الأشباح والطين), أن هذه المعطيات تعتبر مرجعيات موجهة للنسق الأيديولوجي/ الثقافي/ الشعبي, في وقت واحد, غير مكترثين لتلميع البعض للاغتراب بجعله ممارسة لا شعور, وقد لا يشعرون فبقدر تذوق المرَّ كان بمقدورنا ممارسة الفعل الدينامي ضمن منظومة مجتمعية يتحقق فيها الفعل الأيديولوجي والثقافي على الرغم من التضييق و الحراجة التي تمارسها مؤسسة السلطة في تقويض حرية الفرد, فلا طائل للخلاص إلا الثبات على المبدأ/ على ارض الواقع, فلا فصل بين النظرية/ الفكر/ الايديولوجيا, والممارسة / الفعل الثورية/ التغيير, التي يفرضها الواقع المعاش/ داخليا/ الاغتراب, لكي لا تأخذ الأيديولوجيا سمة التنظير الفجّ.
..............................
.
*من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة, عبد الكريم شرفي,منشورات الاختلاف, ص18, ط1, 2007م
*المصدر نفسه ص18
*الأعمال الشعرية الكاملة 1965-1975, حسب الشيخ جعفر, دار الشؤون الثقافية, ط1, 1985
يا أيها النهر الذي يلمع
تسمع نجواي ولا تسمع .
قرّب وقرّب من شفاهي الماء
أغرق صحارى عطشي الحراء
وقل لأطفالك أن يسرعوا
مثقلة أكفهم بالماء ص14
في هذا النص نجد طلب الارتواء حاضرا مع إشارة ضمنية يمكن جسها من تمنع النهر, على الرغم من لمعان النهر المتحقق من الرؤية البصرية, من خلال انقطاع التواصل بينهما عدم السمع/ ولا تسمع, للنجوى مع كونه قادراً على السمع, وتعطيل فعل النهر وما يحمله من علامة الإرواء والفيض/ النهر الذي يلمع / لانعكاس أشعة الشمس عليه, علامة امتلاء النهر, إلا أن الشاعر أراد منه, أن يحقق معنى دلالي / أيديولوجي ( قرّب قرّب من شفاهي الماء), وفي هذا الخطاب الأيديولوجي نجد تفجر المعنى دلاليا), بمثابة التهيؤ للثورة جليا, (أغرق صحارى عطشي الحراء), فالأرض/ صحارى وما قيمة النهر أن لم يردم الهوة ما بين / الحراء والشفاه المتيبسة من العطش, ليأتي النسق الايديولوجي المضمر/ الدعوة للتغيير, (وقل لأطفالك أن يسرعوا), نجد الإذن لإعلان ساعة الصفر/ الثورة/ التغيير بدعوة صريحة وما يشكله تأثير الواقع المعاش/ الفقر/الإقصاء, من دور فاعل في استحضار المعنى الثوري, ( مثقلة أكفهم بالماء), لما فيه من استدعاء الثوار/ الأطفال/ المستقبل, لأجل التغيير, نتيجة طبيعية للخوف الذي استشرى من تصحر حقولهم, هذا خطاب موجه للقرويين أنفسهم قبل غيرهم/ أبناء الوطن, بقرع جرس إنذار التصحر, لممارسة ضغط السلطة بترك ارض الأجداد,/ جرس التفرد بالقرار, وهذا بحد ذاته إجراء يدعو للقلق, وهذا ما قد تحقق فعلا في اغلب قرى وأرياف الوطن/ أنموذجا لتسلط قادم اكبر, ليبرز الباعث الأيديولوجي الذي شكلته السلطة, من خلال رسائلها التي لم تكن مشفرة, بل كانت واضحة الدلالة والمعنى.
وشممت ثوبك في غبار الريح رايه
يا وردة البستان, يا طفلي المدّلل,
لو اضمّك في ضلوعي
وأشد اذيال النهاية, وهي تفلت, بالبداية
وتعود طفلا, تاجك الاشواك تزهر في دموعي . ص21
من معاينة النص بقراءة فاحصة نجد الحنين إلى الطفولة جليا/ ( شممت ثوبك, وردة البستان, تعود طفلا), فهي علامات تمثل رسائل مشحونة بوجدان الشاعر وما علق بذهنه من بيئة الريف, وما يعانيه الآن من وضع نفسي ضاغط, ألجأه الحنين إلى حضن أرض ميلاده, كي يبث شكواه من قسوة الحياة, وعلى الرغم من ذلك نجد النسق الأيديولوجي فاعلا وبقوة هذه المرة متخذا من الجانب العاطفي, منبرا لبث أفكاره و رؤياه , (وتعود طفلا, تاجك الأشواك تزهر في دموعي ), مفردة الطفل وما تمثله من رمزية النقاء بشكله المباشر, وما تضمر هنا من علامة البداية بمضمونها العميق في تشظٍّ للمعنى, إذ تاجها الأشواك, أي أنه يعلن عن ثورة / محصنة أيديولوجيا, تحمل صفة المنعة والحفاظ على المنجز/ التغيير/ ان تحقق, وما يبرر نمو هذا النهج الجديد كون هذه الثورة سُقيت من دموع, وهي علامة المكابدة والصبر والأناة في تحمل الضيم, وإنتاج رؤية فيها تفكر لحياة جديدة, يترتب عليها فهما خاصا لمرحلة جديدة, بشقيها الايديولوجي والنفسي, وهذا واضحا من خلال الأماني التي يطلقها النص ب( لو) /حرف امتناع لوجود , امتناع الضم, لوجود المانع/ السلطة, ( لو اضمّك في ضلوعي), وهنا يبرز خطاب دينامي متعدد الرؤى, متخذا من نير الاغتراب الذى تجلى في النص ببعد آخر حافل بالبوح عن الواقع المأزوم وما يعيشه الفرد من معاناة باذخة الألم, حتى بدا الحنق واضحا في عدم تقبل الواقع والسعي لطي صفحته بما تحمل من مرارة, وأن لم تتحقق, (وأشد اذيال النهاية, وهي تفلت, بالبداية),لتعود الكرةُ ثانية .
عائدا تخفق اطمارك, مهزوما وحيدا
تحتمي بالظل, محموما طريدا
قمر السعف المندى ,
عاد في الكأس التي تشرب طينا . ص67
نجد ملامح الاغتراب جلية في النص الشعري, (عائدا تخفق اطمارك), وهذا الاغتراب كأي اغتراب صاحبه يبدو مهزوما وحيدا, وما لنسق الوحدة المضمر من تعميق دلالة الشعور بالانهزامية, التي من علاماتها البارزة الاحتماء بالظل, وهذا بحد ذاته يشكل علامة إخفاء الأصل وإقصاءه من خلال اللجوء إلى البديل/ النسخة المستعارة/ المزيفة للدور الحقيقي المرجو, وتتعمق دلالة الوهن وصولا إلى تسويق ثقافة الهروب/ الاغتراب كحل سريع للحفاظ على النوع المقاوم, مخافة الوقوع فريسة لحمى السلطة/ محموما طريداً, لقد أضفى نسق الاغتراب جوا من اليأس والقنوط على النسق الأيديولوجي الذي كان فاعلا في فترة الستينات, وأبدله انكسارا, وحتى لا يمكن تتبعه لا يظهر بأفق مفتوح بل الاحتماء من السلطة بسعف ( مندى), فلا يكفي التواري عن الآخر/ السلطة, بل اختيار الزمن المناسب للتخفي والمراوغة لتجنب عيون الوشاة/ السلطة, فيظهر في أوقات محددة وما الندى إلا دليل على وقت السحر, أو على نزول مطر نثيث, وما لهذا الواقع المضغوط من تأثير/نفسي سلبي, على ممارسة الدور الريادي في إيصال الصوت الحر/الشعب للطرف الحاكم, أنَّ الشعور المتصاعد في تكرار الهزيمة بات واضحا في النص, فهو يشي, بعمق المأساة المتكررة/ المعاشة, (عاد في الكأس التي تشرب طينا ), والطين بما يحمل من شوائب المراحل الفائتة والمعاشة, وان تعددت نسخها, لكنها تشتر بعضها البعض.
الشفاه كالورد تذبل
والوهج في العيون.. يخبو مثلما النجوم تأفلُ
وفي الضلوع يزحف الشتاء بالجليد والنواح . ص47
نجد في النص تسابق للذبول والخبو والأفول, مشكلا علامة دالة على الحالة النفسية الحرجة من خلال جملة المعطيات آنفة الذكر, فالوردة/ الإنسان, صارت تنمو في حقل جليدي مبتعدة عن النهر والهواء والتربة/ الأرض, مما أفقدها الهوية/ البريق, فالشفاه التي لا ترتشف من نهر الوطن مصيرها الذبول, و النجوم تخبو كخبو الوهج في العيون في أفول يتركها تعاني مأساة الاحتضار البطيء, ليأتي نسق العزلة جليا كمحصل طبيعي ففي الضلوع زحف للشتاء , لما في هذه العزلة الصقيعية, من علامة تقويض للفعل الأيديولوجي/ السياسي/ الثوري, وفي هذا إشارة نسقية مضمرة تعد الأفول نتيجة متوقعة لمن يعد العدة للهروب وترك الحقل خاليا من غرسه/ الثورة / الجيل القادم, إجراء غير محمود النتائج, مادام النواح زاحفا مع الشتاء في الضلوع, فليس من طباع الثوريين النواح, بل المقاومة والمطاولة في الفعل النضالي, لينتج هنا نسق القنوط التام.
وأنا وحيد مثل جذعك , ظلَّ منك ؟ سوى الرماد
في كوخنا المهجور , والريح الصفيقة في الوهاد
تلهو بأوراقي . أكانت كل اشواقي هباء ؟ ص59
في النص نجد الاغتراب جليا/ أنا وحيد, وازداد ترسخه من خلال الحنين إلى الجذر الضاربة عروقه في الأرض ليتلون بلون سحنتها التي جاءت رمادية, فثيمة الوحدة وما تخلفه من رماد في النفوس/ الإنسان الجذع/ الأوراق, أضحى رمادا بفعل حريق الوحدة,منتجة تشكيلا/خلقا جديدا من رماد من خلال التشبَّة بالجذع, لتأتي معطيات أخرى تزيد من الركون للوحدة ( الكوخ المهجور , الريح الصفيقة ) كلُّها إشارات دلت على خلو الأمكنة من ساكنيها, ليضحى الرماد والهجير والريح, علامات موحية على ذلك, فعلت فعلتها بوجدان الشاعر/ تلهو بأوراقي, ممثلة بأشواقه التي كانت حبيسة صدره الملتهب حنينا وأملا بلقاء الأحبة, ليأتي الخطاب هنا موجها للشاعر نفسه,( أكانت كل اشواقي هباء ؟ ), في مواجهة مباشرة مع النفس, بدت صادمة من خلال الاستفهام عن الأشواق الذي بدا في النص على الرغم من الوعي لكلِّ مجريات لعبة الإغواء التي مارسها الشعور بالوحدة/ الاغتراب الذاتي, وما تقاطع معها ايديولوجيا, لتأتي النتائج مخيبة للآمال كسابقاتها .
شتاء
يا دثاراً كان من برد يغطيني
حننت اليك , قلت : اشاه , والاموات ان جاعوا وان عطشوا
فما من عابر يدري سوى الاشباح والطين . ص71
من خلال قراءة النص نجد نسق الحنين المضمر في مفارقة تشي بنزوح عاطفي نحو المغايرة, فالشاعر هنا يستدعي الشتاء/ الوطن, ليكون دثارا يغطيه من برد الاغتراب, حين استدعى مفردة ( أشاه) هذه اللفظة الشعبية, العراقية بامتياز, فمع كونه استدعى الطبيعة استدعى اللغة / الدارجة شعبيا, وكأنه يستدعي دفء القرية/ الأهل/ الطفولة, بل انُّه ذهب إلى ابعد من ذلك ليوجه الخطاب إلى الموتى معتبرا إياهم العابر الوحيد الذي (يدري) بفلسفة الكون والوجود, وهذا سرٌّ من أسرار البناء ألقيمي للفرد العراقي في تخليده للأموات وعدّهم خارقين للعادة/ القانون الطبيعي للحياة, (فما من عابر يدري سوى الأشباح والطين), أن هذه المعطيات تعتبر مرجعيات موجهة للنسق الأيديولوجي/ الثقافي/ الشعبي, في وقت واحد, غير مكترثين لتلميع البعض للاغتراب بجعله ممارسة لا شعور, وقد لا يشعرون فبقدر تذوق المرَّ كان بمقدورنا ممارسة الفعل الدينامي ضمن منظومة مجتمعية يتحقق فيها الفعل الأيديولوجي والثقافي على الرغم من التضييق و الحراجة التي تمارسها مؤسسة السلطة في تقويض حرية الفرد, فلا طائل للخلاص إلا الثبات على المبدأ/ على ارض الواقع, فلا فصل بين النظرية/ الفكر/ الايديولوجيا, والممارسة / الفعل الثورية/ التغيير, التي يفرضها الواقع المعاش/ داخليا/ الاغتراب, لكي لا تأخذ الأيديولوجيا سمة التنظير الفجّ.
..............................
.
*من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة, عبد الكريم شرفي,منشورات الاختلاف, ص18, ط1, 2007م
*المصدر نفسه ص18
*الأعمال الشعرية الكاملة 1965-1975, حسب الشيخ جعفر, دار الشؤون الثقافية, ط1, 1985