كل ليلة تقابله من وراء الستار، يبدآن حديثهما في هدوء مقتضب. وعندئذ تقول، وكأنها تحدث نفسها، يداي ضعفت مؤخراً، أصابعي اضيقت، كما لو كانت مخصصة فقط للتقليب بين الصفحات. ودون أن تنتظر أن يتحدث، أعدت لنفسها كوباً فيه كيس شاي وأوراق كثيرة أيضا، أفرطت في السكر الأبيض دون حساب وخلطته بلحن طارق شجي. بعدها سمعت صوته، يخبرها بقدر من الجدية أنها تصير أجمل من آن لآخر. دائماً عرف أن جسدها يشبه هيئة الملائكة والآن يعرف هذا. صوته ينتهي بطقطقة قبلة. وهي تحاول مجاراته بالكلمات، تقول أنها سمعت في بيت الحاخامة بان في وسط العالم يوجد هناك لقاء بين العوالم، أهل السماء الأرض، الأوائل واللاحقين، ولذلك بدأت تفكر أن بيتهما الصغير هو مركز العالم، ربما يجب أن يقام عليه بيت المقدس الجديد، كي يهدئ قليلاً من الخلافات، تضحك، بيت مقدس صغير ومليء بالنور بدلاً من الظلام الدامس. وهو ربما يضحك، أقسمت أنه يبتسم بثغر ضاحك، ووجهه درب تبانة بين الكواكب، يرمز لها إلى نيته تهدئة قلبها الثائر، ليحمل قليلاً من صدع جوفها.
وهي يومياً كالصاعدة على الجبال، فجأة تتنفس وتتنفس كالمستغرقة بالتفكير حتى الانفجار، تحذر نفسها، تهمس بلا قوة، بلا ضجة، بلا معجزات عظيمة، دون أن تقلب أنظمة الكون، صمت خافت سيحضر الله ليهدئ القلوب ويضع بها ألواح عهد جديدة. لكن وقت الليل يتسرب كالطعم المتسرب من أكياس الشاي التي تنقع في الأكواب ومن ثم تسحب منها. وأحياناً ترى قدميه تتجهان بعيداً عنها فتناديه إلى أين تذهب؟ إلى أين تبتعد، فينظر خلفه ووجهه يكتنفه الظلام. ومن ثم يبقى لديها كل الليل حتى شروق الشمس للأفكار، أحياناً تقرأ المزامير، إلهي إلهي، لماذا تركتني، لماذا هجرتني، وأحياناً تتقيأ قليلاً من وجبات يومها التي لم تكف لسد جوعها، تقول من أين سيأتي المال لشراء وجبات جديدة بدلاً من تلك التي ضاعت. وهكذا حتى الصباح، المزامير لا توقف الزمن، ورائحة المعدة المتقلبة تجعل الوقت قاسياً وعديم الراحة أو الرحمة.
وتهذي لنفسها، تقول في الليلة القادمة سيأتي مجدداً، سيبتسم مجدداً، سيضحك مجدداً، سيقول كم أصبحت جميلة، وحينئذ سيذهب إلى مستقره. ليست واثقة أين يسكن، أهو في السماء؛ أهو بين أنهار فيشون وجيحون وحداقل. لكنها لا توقف قلبها عن التفكير، ففي اليوم الرياح خفيفة والشمس جيدة، وأبناؤها الخمسة يستيقظون من تلقاء أنفسهم، ويعرفون كيف يُعِدون لأنفسهم شاي الصباح وساندويتشات اليوم، ولا تضطر لمساعدة حتى أصغرهم، تجلس كسيدة، رائحة عرق الليل قد غسلت عن جسدها. وعندما يذهبون لا تدعي لهم، تجلس وتخبط بقدميها كالمجانين. تقول ولتدك أركان الأرض لكنها قوية وليست كالرداء البالي الذي يحتاج الى خياطتها، وليست كالدخان المتطاير من المواقد على التلال. تيأس من الجلوس فتنهض نفسها بلا رحمة، تقول النوم لليل وعدم النوم لليل، أما اليوم فيعِد بالنشاط.
تضع قدر ماء على النار، تسأل في بالها ماذا تضع فيه، كيف تطبخ حياتها، وتضع دلو ماء في منتصف الحجرة، تسكب فيه خليط صابون. اليوم ستنظف كل أرجاء البيت، وتُعِد أرزاً بعدة ألوان. لن تتزوج مجدداً، رغم كلام أختها، رغم ما تقوله زوجة الحاخام: من الأفضل للأولاد أن يربيهم أب على التوراة والكد والأعمال الصالحة. عندما يأتي الأولاد ستطعمهم، تضع قليلاً من الفاصوليا على الأرز، وتخرج لتمسح أرضيات البيوت في حي البيوت الواسعة، لتكسب رزقها. لا تضع على جسدها أنواع عطور، ولا تبدل قمصانها، ولا تعرف أتغطي شعرها أم تكون حاسرة، تتصرف تارة هكذا وتارة كذلك، ربما في المساء تطلب فتوى من الحاخامة، في الوقت الحالي تنتقل بين عاداتها. تختلس النظر لثلاجات البيوت التي تنظفها، تفكر فيما ينقصها لكن لا تجرؤ على أخذ شيء، رغم أنه في أحيان كثيرة تراودها الرغبة، فتقول رحمة على الأولاد، لكنها تخاف مما سيقول لها في الليل، ربما لا تعود كالملائكة في نظره مجدداً.
تقول زوجة الحاخام، من الجيد للأولاد أن يكون لهم أب، وهي مازالت صغيرة وقوية، والحمد لله هناك بعض الجمال في جسدها، لكنه يقل كل يوم، لذلك فمن الأفضل أن تقترن بأحد الأرامل قبل فوات الأوان. هي تعرف بعض الأرامل من بيوت صغيرة يرضون بها، لكن ربما سمعت عن أرمل من بيت كبير، حقيقة هو أكبر منها بعشرين سنة ووحيد، لكنه ليس بخيلاً وليس فقيراً، وربما رغب في الزواج منها، ربما نظفت يوماً ما أرضية بيته، ستستمر في التنظيف وتنام في سريره. تحدثت معها بكلمات عتاب، هذا ليس مناسباً للأولاد، وهي كذلك لن تظل شابة بمرور الأيام، فقط آسفة، وماذا سيقول الأقارب والجيران، ففي كل الأحول المرأة بحاجة الى رجل. ولذلك بدأت تفكر، ربما تتزوجه، تستبدل بيتها الصغير بكبير، وتطبخ من أجله أيضاً، وتغسل ملابسه دون أجر وتنظف الأرضية، وأولادها لن ينقصهم الطعام.
بعد أن فكرت طويلاً أثناء غسل الأواني ذات صباح، أخبرت الأولاد عن مسألة الانتقال، وبدأت تعد أمتعتهم في صرر. قرروا أن يقيموا مراسم الزواج في كنيسه في حي البيوت الواسعة، قال إنه سيدعو من أصدقائه، وتدعو هي قليلاً من أقاربها. قبل الانتقال جفاها نومها مجدداً. أحاديث من وراء الستار مجدداً. ولاحظت في صوته شيئاً من الحزن، تساءلت وتفاجئت، فقد كان يشجعها على نفس الأمر منذ شهور كثيرة، ويحثها لتقول نعم لأحد اقتراحات الزواج، فلماذا الحزن الآن عندما تهتم هكذا بأولاده وتفعل ما يطلب. بدأت تجمع الإشارات من حركاته وأحاديثه، ربما طلب أن تتزوج من أحد أبناء عائلته، ربما من أخيه الصغير، وفقاً لفريضة اليبوم. بعدها فكرت أنه ربما يأسف أن أولاده لن يذهبوا إلى صلاة الجماعة في نفس الكنيس ليقرؤوا الصلاة على روحه. جمعت كل الإشارات وتذكرت بأنها لن تسكن مجدداً في وسط العالم، ولن تلتقي العوالم مجدداً، ستبيع بيتها الحقير والمهان في حي البيوت الضيقة، لكن بالذات في هذا المكان حيث لا شيء يبقى من أجله أحد، هناك نقطة الاتقاء. وكشفت في ملامح وجهه بين الكواكب كيف سيُخرِج زوجها الجديد ولداً تلو الآخر من البيت، ليكبرون لدى غرباء ويتعلمون لدى غرباء، وحينها سيطالب بملكية على جسدها حين يطلب ولداً من صلبه، وجسدها سينكمش بين الحمل الجديد والأعمال المنزلية.
خرجت من بيتها لتتزوج، وذرفت دموعاً كثيرة على ملابسها وملابس الأولاد الجديدة، نسيت الحاجة لتجديد الملابس. وقفت أمام الحاخام الغريب عنها وأمام عريسها الهَرِم، قالت نعم عندما سُئلت عن رأيها، وعندما لم تُسأل سكتت. فرح ضيوف الكنيس حقاً، قليل من المعارف وكثير من الغرباء، وعندما وضعت خاتماً جديداً في إصبعها رأت أبناءها فروخاً ضائعين في المكان الجديد عليهم، يبحثون عن عش. دخلت البيت الجديد والفراش الجديد، صمتت عندما صمتت وارتعشت عندما ارتعشت، وتركت الأقمار تمضي. لم تسمع صوتاً عندما طلب منها أن تُخرج الابن الكبير إلى مدرسة داخلية، وهكذا دواليك، حتى آخر الأولاد. وفي بطنها صنعت عشاً لمولود جديد، كانت تعد الشهور المتبقية على ولادته، وتدللت قليلاً عن أعمال التنظيف والطبخ عندما اقترب ميعاده. عندما ظهر بكت مجدداً، ارتاحت عدة أيام ثم أصرت على الذهاب إلى بيتها القديم، قالت إنها نسيت مرهماً ما كانت تدهنه على بطنها بعد الولادة ليخفف عنها آلامها.
عادت إلى البيت ووجدته مفتوحاً، الباب بلا قفل والحوائط مغطاة بخطوط من رطوبة مثل خطوط العنكبوت، ومن غير المعروف إن كان سكانه الجدد يقيمون فيه أم لا. اتجهت نحو المطبخ، وجدت أن الغاز والكهرباء مازالا مشبوكين، فغلت لنفسها ماءاً للشاي. خرجت إلى الشرفة الصغيرة، وقطفت من كل الأوراق الخضراء وألقتها مع الماء لتغلي. وجدت قليلاً من السكر الذي خبأته خلف الدولاب، وصبته كله على الماء الفائر، جلست، كفا يديها وجدتا دفئاً بجوانب الكوب، وانتظرت الظلام. وحينها بدأت تهمس لنفسها، تركتُ وسط العالم كي أحيا في ركنه، فقط لأن الوسط مزدحم بينما الأطراف متسعة، لكن هناك ما من أحد تتحدث معه ليلاً، شهور طويلة بلا حديث حقيقي، بلا كلمات متواترة تُهدأ القلب، وهنا عوالم تلتقي، مبكرة ومتأخرة، وتستطيع أن تدير حديثاً. وتحدثت.
حكت عن كل ما حدث معها في الشهور الطويلة، أكثر من تسعة، كيف أضاعت خمسة أولاد، كم عملت وكم طبخت وكم غسلت. أفكار كثيرة سجنتها في رأسها لوقت طويل جداً وها هي الآن تتحدث دون توقف. تحدثت ولم تنصت. ورويداً رويداً بدأت تتعود مجدداً على بيتها، نفس الحوائط التي تأكلها الرطوبة، أيضاً عندها في البيت الجديد تحيك الرطوبة خطوط عناكب، مجدداً نفس الأرضيات العوجاء، مجدداً نفس البرودة في الليل. والشاي قوي وحلو كما يجب أن يكون. وبدأت تقول لنفسها، غداً سأشتل نباتات توابل جديدة في الشرفة، غداً سأمسح الأرضية، غداً سأشتري قليلا من الخضروات لأصنع بها وجبة، ربما أطبخ حساء أو أرزاً بعدة ألوان. وظلت هناك حتى النوم، بينما في بيتها الجديد أصاب الجنون الزوج الجديد والرضيع الجديد، يبحثون عن المرضعة ولا يجدونها، حتى أخرج الزوج ثدييه ووضع حلمته في فم الرضيع ليرضع حتى هدّأ هذا وصمت.
استيقظت صباحاً في بيتها، فرحة بمحادثة الليل، وقالت بأنها ستجمع حولها الأولاد الذين تفرقوا. أرسلت خطاباً للولد الأول، والولد الثاني أخبرته بمساعدة الولد الأول، والولد الثالث استعانت بقريب للعائلة، والولد الرابع سمع من تلقاء نفسه، والولد الخامس اتضح أنه كان يأتي لينام في البيت ليال كثيرة، فجاء ووجدها ودخل إلى فراشها. تأوهوا جميعاً معاً بسعادة غامرة، وسألوا أمهم عن أخيهم الصغير، ان كان سينضم إليهم. ينامون ويستيقظون، هم يذهبون إلى المدرسة وهي تنظف كل البيوت الواسعة باستثناء بيت زوجها الجديد، وفي الليل تحدث زوجها القديم.
بعد نصف سنة، حينما تألمت حلمات الزوج الجديد وفم الرضيع، ذهبت في الصباح لزيارتهم. وجدتهما في غرفة الاستقبال، ولدان ضائعان، سكتت أمام غضب هذا، واتجهت تهدّئ غضب ذك. ظلت معهما طوال اليوم، نظفت البيت وأعدت طعاماً، وعندما حل الظلام توجهت لتأخذ رضيعها معها إلى بيتها، ألقت في فضاء البيت بأن بإمكانه هو أيضا أن ينضم إليهما. كان وحيداً وضائعاً للغاية حتى قبل الانضمام. اجتمعوا في البيت القديم، زوج وزوجة ورضيع في فراش، وخمسة أبناء في فراش آخر.
في مساء اليوم، عندما ناموا جميعاً باستثنائها عادت لتختلس النظر من وراء الستار. حكت لزوجها الذي تخيلته جالساً على منصة قضاة، عن بداية أيام زواجهما عندما لم تكن تعرف شيئاً عن علاقة الفتاة بالرجل، ولم يكن يعرف شيئاً عن طريق النسر في السماء، وكانا يتخبطان أياما طويلة معاً، ولشهور كاملة بعد أن تزوجا ظلا يحاولان كثيراً دون نجاح. حتى جامعت رجلاً غريباً في أحد البيوت لتتعلم منه أمور الزواج، وعادت إلى زوجها تعرف وتدرك. ابنها البكر ليس منه، والصغير ليس منه، وبينهما أربعة أبناء منه، وهي تطلب غفرانه وعنايته. رأته يطأطئ رأسه وانتظرت حكمه. ظل صامتاً فقالت: لا أريد أن أحاول معك بكلمات غير مباشرة ملتوية، أريد أن تصادق على كلماتي المباشرة. نظر إليها، كما لو كانت من الأرض تأتي عيناه وليس من السماء، وسمعته يهمس لها بهدوء شديد شديد، أنه عرف ذلك في حياته وغفر عنه قبل أن يحدث. أعدت كوب شاي وظلت مستيقظة طوال الليل، دون المزامير، فقط نظرت الى السماء. حينما نهض زوجها الجديد من نومه ليبحث عنها، راح يعد لنفسه كوب شاي ليجلس معها في الخارج.
الموج بيهار بالعربية
وهي يومياً كالصاعدة على الجبال، فجأة تتنفس وتتنفس كالمستغرقة بالتفكير حتى الانفجار، تحذر نفسها، تهمس بلا قوة، بلا ضجة، بلا معجزات عظيمة، دون أن تقلب أنظمة الكون، صمت خافت سيحضر الله ليهدئ القلوب ويضع بها ألواح عهد جديدة. لكن وقت الليل يتسرب كالطعم المتسرب من أكياس الشاي التي تنقع في الأكواب ومن ثم تسحب منها. وأحياناً ترى قدميه تتجهان بعيداً عنها فتناديه إلى أين تذهب؟ إلى أين تبتعد، فينظر خلفه ووجهه يكتنفه الظلام. ومن ثم يبقى لديها كل الليل حتى شروق الشمس للأفكار، أحياناً تقرأ المزامير، إلهي إلهي، لماذا تركتني، لماذا هجرتني، وأحياناً تتقيأ قليلاً من وجبات يومها التي لم تكف لسد جوعها، تقول من أين سيأتي المال لشراء وجبات جديدة بدلاً من تلك التي ضاعت. وهكذا حتى الصباح، المزامير لا توقف الزمن، ورائحة المعدة المتقلبة تجعل الوقت قاسياً وعديم الراحة أو الرحمة.
وتهذي لنفسها، تقول في الليلة القادمة سيأتي مجدداً، سيبتسم مجدداً، سيضحك مجدداً، سيقول كم أصبحت جميلة، وحينئذ سيذهب إلى مستقره. ليست واثقة أين يسكن، أهو في السماء؛ أهو بين أنهار فيشون وجيحون وحداقل. لكنها لا توقف قلبها عن التفكير، ففي اليوم الرياح خفيفة والشمس جيدة، وأبناؤها الخمسة يستيقظون من تلقاء أنفسهم، ويعرفون كيف يُعِدون لأنفسهم شاي الصباح وساندويتشات اليوم، ولا تضطر لمساعدة حتى أصغرهم، تجلس كسيدة، رائحة عرق الليل قد غسلت عن جسدها. وعندما يذهبون لا تدعي لهم، تجلس وتخبط بقدميها كالمجانين. تقول ولتدك أركان الأرض لكنها قوية وليست كالرداء البالي الذي يحتاج الى خياطتها، وليست كالدخان المتطاير من المواقد على التلال. تيأس من الجلوس فتنهض نفسها بلا رحمة، تقول النوم لليل وعدم النوم لليل، أما اليوم فيعِد بالنشاط.
تضع قدر ماء على النار، تسأل في بالها ماذا تضع فيه، كيف تطبخ حياتها، وتضع دلو ماء في منتصف الحجرة، تسكب فيه خليط صابون. اليوم ستنظف كل أرجاء البيت، وتُعِد أرزاً بعدة ألوان. لن تتزوج مجدداً، رغم كلام أختها، رغم ما تقوله زوجة الحاخام: من الأفضل للأولاد أن يربيهم أب على التوراة والكد والأعمال الصالحة. عندما يأتي الأولاد ستطعمهم، تضع قليلاً من الفاصوليا على الأرز، وتخرج لتمسح أرضيات البيوت في حي البيوت الواسعة، لتكسب رزقها. لا تضع على جسدها أنواع عطور، ولا تبدل قمصانها، ولا تعرف أتغطي شعرها أم تكون حاسرة، تتصرف تارة هكذا وتارة كذلك، ربما في المساء تطلب فتوى من الحاخامة، في الوقت الحالي تنتقل بين عاداتها. تختلس النظر لثلاجات البيوت التي تنظفها، تفكر فيما ينقصها لكن لا تجرؤ على أخذ شيء، رغم أنه في أحيان كثيرة تراودها الرغبة، فتقول رحمة على الأولاد، لكنها تخاف مما سيقول لها في الليل، ربما لا تعود كالملائكة في نظره مجدداً.
تقول زوجة الحاخام، من الجيد للأولاد أن يكون لهم أب، وهي مازالت صغيرة وقوية، والحمد لله هناك بعض الجمال في جسدها، لكنه يقل كل يوم، لذلك فمن الأفضل أن تقترن بأحد الأرامل قبل فوات الأوان. هي تعرف بعض الأرامل من بيوت صغيرة يرضون بها، لكن ربما سمعت عن أرمل من بيت كبير، حقيقة هو أكبر منها بعشرين سنة ووحيد، لكنه ليس بخيلاً وليس فقيراً، وربما رغب في الزواج منها، ربما نظفت يوماً ما أرضية بيته، ستستمر في التنظيف وتنام في سريره. تحدثت معها بكلمات عتاب، هذا ليس مناسباً للأولاد، وهي كذلك لن تظل شابة بمرور الأيام، فقط آسفة، وماذا سيقول الأقارب والجيران، ففي كل الأحول المرأة بحاجة الى رجل. ولذلك بدأت تفكر، ربما تتزوجه، تستبدل بيتها الصغير بكبير، وتطبخ من أجله أيضاً، وتغسل ملابسه دون أجر وتنظف الأرضية، وأولادها لن ينقصهم الطعام.
بعد أن فكرت طويلاً أثناء غسل الأواني ذات صباح، أخبرت الأولاد عن مسألة الانتقال، وبدأت تعد أمتعتهم في صرر. قرروا أن يقيموا مراسم الزواج في كنيسه في حي البيوت الواسعة، قال إنه سيدعو من أصدقائه، وتدعو هي قليلاً من أقاربها. قبل الانتقال جفاها نومها مجدداً. أحاديث من وراء الستار مجدداً. ولاحظت في صوته شيئاً من الحزن، تساءلت وتفاجئت، فقد كان يشجعها على نفس الأمر منذ شهور كثيرة، ويحثها لتقول نعم لأحد اقتراحات الزواج، فلماذا الحزن الآن عندما تهتم هكذا بأولاده وتفعل ما يطلب. بدأت تجمع الإشارات من حركاته وأحاديثه، ربما طلب أن تتزوج من أحد أبناء عائلته، ربما من أخيه الصغير، وفقاً لفريضة اليبوم. بعدها فكرت أنه ربما يأسف أن أولاده لن يذهبوا إلى صلاة الجماعة في نفس الكنيس ليقرؤوا الصلاة على روحه. جمعت كل الإشارات وتذكرت بأنها لن تسكن مجدداً في وسط العالم، ولن تلتقي العوالم مجدداً، ستبيع بيتها الحقير والمهان في حي البيوت الضيقة، لكن بالذات في هذا المكان حيث لا شيء يبقى من أجله أحد، هناك نقطة الاتقاء. وكشفت في ملامح وجهه بين الكواكب كيف سيُخرِج زوجها الجديد ولداً تلو الآخر من البيت، ليكبرون لدى غرباء ويتعلمون لدى غرباء، وحينها سيطالب بملكية على جسدها حين يطلب ولداً من صلبه، وجسدها سينكمش بين الحمل الجديد والأعمال المنزلية.
خرجت من بيتها لتتزوج، وذرفت دموعاً كثيرة على ملابسها وملابس الأولاد الجديدة، نسيت الحاجة لتجديد الملابس. وقفت أمام الحاخام الغريب عنها وأمام عريسها الهَرِم، قالت نعم عندما سُئلت عن رأيها، وعندما لم تُسأل سكتت. فرح ضيوف الكنيس حقاً، قليل من المعارف وكثير من الغرباء، وعندما وضعت خاتماً جديداً في إصبعها رأت أبناءها فروخاً ضائعين في المكان الجديد عليهم، يبحثون عن عش. دخلت البيت الجديد والفراش الجديد، صمتت عندما صمتت وارتعشت عندما ارتعشت، وتركت الأقمار تمضي. لم تسمع صوتاً عندما طلب منها أن تُخرج الابن الكبير إلى مدرسة داخلية، وهكذا دواليك، حتى آخر الأولاد. وفي بطنها صنعت عشاً لمولود جديد، كانت تعد الشهور المتبقية على ولادته، وتدللت قليلاً عن أعمال التنظيف والطبخ عندما اقترب ميعاده. عندما ظهر بكت مجدداً، ارتاحت عدة أيام ثم أصرت على الذهاب إلى بيتها القديم، قالت إنها نسيت مرهماً ما كانت تدهنه على بطنها بعد الولادة ليخفف عنها آلامها.
عادت إلى البيت ووجدته مفتوحاً، الباب بلا قفل والحوائط مغطاة بخطوط من رطوبة مثل خطوط العنكبوت، ومن غير المعروف إن كان سكانه الجدد يقيمون فيه أم لا. اتجهت نحو المطبخ، وجدت أن الغاز والكهرباء مازالا مشبوكين، فغلت لنفسها ماءاً للشاي. خرجت إلى الشرفة الصغيرة، وقطفت من كل الأوراق الخضراء وألقتها مع الماء لتغلي. وجدت قليلاً من السكر الذي خبأته خلف الدولاب، وصبته كله على الماء الفائر، جلست، كفا يديها وجدتا دفئاً بجوانب الكوب، وانتظرت الظلام. وحينها بدأت تهمس لنفسها، تركتُ وسط العالم كي أحيا في ركنه، فقط لأن الوسط مزدحم بينما الأطراف متسعة، لكن هناك ما من أحد تتحدث معه ليلاً، شهور طويلة بلا حديث حقيقي، بلا كلمات متواترة تُهدأ القلب، وهنا عوالم تلتقي، مبكرة ومتأخرة، وتستطيع أن تدير حديثاً. وتحدثت.
حكت عن كل ما حدث معها في الشهور الطويلة، أكثر من تسعة، كيف أضاعت خمسة أولاد، كم عملت وكم طبخت وكم غسلت. أفكار كثيرة سجنتها في رأسها لوقت طويل جداً وها هي الآن تتحدث دون توقف. تحدثت ولم تنصت. ورويداً رويداً بدأت تتعود مجدداً على بيتها، نفس الحوائط التي تأكلها الرطوبة، أيضاً عندها في البيت الجديد تحيك الرطوبة خطوط عناكب، مجدداً نفس الأرضيات العوجاء، مجدداً نفس البرودة في الليل. والشاي قوي وحلو كما يجب أن يكون. وبدأت تقول لنفسها، غداً سأشتل نباتات توابل جديدة في الشرفة، غداً سأمسح الأرضية، غداً سأشتري قليلا من الخضروات لأصنع بها وجبة، ربما أطبخ حساء أو أرزاً بعدة ألوان. وظلت هناك حتى النوم، بينما في بيتها الجديد أصاب الجنون الزوج الجديد والرضيع الجديد، يبحثون عن المرضعة ولا يجدونها، حتى أخرج الزوج ثدييه ووضع حلمته في فم الرضيع ليرضع حتى هدّأ هذا وصمت.
استيقظت صباحاً في بيتها، فرحة بمحادثة الليل، وقالت بأنها ستجمع حولها الأولاد الذين تفرقوا. أرسلت خطاباً للولد الأول، والولد الثاني أخبرته بمساعدة الولد الأول، والولد الثالث استعانت بقريب للعائلة، والولد الرابع سمع من تلقاء نفسه، والولد الخامس اتضح أنه كان يأتي لينام في البيت ليال كثيرة، فجاء ووجدها ودخل إلى فراشها. تأوهوا جميعاً معاً بسعادة غامرة، وسألوا أمهم عن أخيهم الصغير، ان كان سينضم إليهم. ينامون ويستيقظون، هم يذهبون إلى المدرسة وهي تنظف كل البيوت الواسعة باستثناء بيت زوجها الجديد، وفي الليل تحدث زوجها القديم.
بعد نصف سنة، حينما تألمت حلمات الزوج الجديد وفم الرضيع، ذهبت في الصباح لزيارتهم. وجدتهما في غرفة الاستقبال، ولدان ضائعان، سكتت أمام غضب هذا، واتجهت تهدّئ غضب ذك. ظلت معهما طوال اليوم، نظفت البيت وأعدت طعاماً، وعندما حل الظلام توجهت لتأخذ رضيعها معها إلى بيتها، ألقت في فضاء البيت بأن بإمكانه هو أيضا أن ينضم إليهما. كان وحيداً وضائعاً للغاية حتى قبل الانضمام. اجتمعوا في البيت القديم، زوج وزوجة ورضيع في فراش، وخمسة أبناء في فراش آخر.
في مساء اليوم، عندما ناموا جميعاً باستثنائها عادت لتختلس النظر من وراء الستار. حكت لزوجها الذي تخيلته جالساً على منصة قضاة، عن بداية أيام زواجهما عندما لم تكن تعرف شيئاً عن علاقة الفتاة بالرجل، ولم يكن يعرف شيئاً عن طريق النسر في السماء، وكانا يتخبطان أياما طويلة معاً، ولشهور كاملة بعد أن تزوجا ظلا يحاولان كثيراً دون نجاح. حتى جامعت رجلاً غريباً في أحد البيوت لتتعلم منه أمور الزواج، وعادت إلى زوجها تعرف وتدرك. ابنها البكر ليس منه، والصغير ليس منه، وبينهما أربعة أبناء منه، وهي تطلب غفرانه وعنايته. رأته يطأطئ رأسه وانتظرت حكمه. ظل صامتاً فقالت: لا أريد أن أحاول معك بكلمات غير مباشرة ملتوية، أريد أن تصادق على كلماتي المباشرة. نظر إليها، كما لو كانت من الأرض تأتي عيناه وليس من السماء، وسمعته يهمس لها بهدوء شديد شديد، أنه عرف ذلك في حياته وغفر عنه قبل أن يحدث. أعدت كوب شاي وظلت مستيقظة طوال الليل، دون المزامير، فقط نظرت الى السماء. حينما نهض زوجها الجديد من نومه ليبحث عنها، راح يعد لنفسه كوب شاي ليجلس معها في الخارج.
الموج بيهار بالعربية