الأصل فى الاستبداد أن يكون بشرياً فيذوق إنسان بلسان وفم دنسين دماء أهله ويشردهم. وينتهى به الأمر الى أن يصبح طاغية ويتحول الى ذئب – على حد تعبير أفلاطون! لكن البشر هالهم أن يتحول واحد منهم الى طاغية. فإذا كانت له هذه الطبيعة الغريبة فلابد أن يكون من سلالة أخرى تفوق سلالة البشر فأضفوا عليه طبيعة قدسية إلهية. هكذا إلّه المصريين القدماء فرعون مثلما فعل البابليون مع جلجامش. والشرق عموما بمن فيهم الفرس مع الإسكندر! وعندما ظهرت الديانات السماوية ظهر معها مصطلح خاص لهذه الفكرة الغريبة وهو الثيوقراطية Theocracy فهى كلمة مؤلفة من مقطعين يونانيين Theos أى “اله” و Kratia أى حكم بمعنى الحكم لله أو السلطة لله “أو الحاكمية لله” . الخ وقد صاغه لأول مرة المؤرخ اليهودى يوسيفوس Josephus (100- 37 ق.م ) الذى ولد فى أورشليم ودرس الآداب العبرية واليونانية – وكان يعنى بهذا المصطلح التصور اليهودى للحكومة على نحو ما جاء فى التوراة التى تذهب الى أن القوانين الإلهية هى مصدر الالتزامات السياسية والدينية معاً. فالله عند يوسيفوس “هو الذى يحكم الشعب اليهودى بطريقة مباشرة أحياناً كما حدث عند خروجهم من مصر “عندما ارتحلوا فى طريق البّرية. وكان الرب يسير أمامهم نهارا فى عمود سحاب ليهديهم فى الطريق, وليلاً فى عمود نار ليضيء لهم لكى يمشوا نهاراً وليلاً, لم يبرح عمود السحاب نهاراً وعمود النار ليلاً من أمام الشعب” (خروج 13: 20-21 ) كما يحكم الإله “يهوه” الشعب اليهودى بطريقة غير مباشرة أحيانا أخرى عن طريق الأنبياء – كما كان يحدث مع النبى موسى عندما يطلب منه الرب أن يبلغ بنى إسرائيل أن يفعلوا كذا وكذا (قارن مثلاً الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج). وهكذا تغيرت طبيعة الاستبداد وأصبحت دينية فالسلطة مصدرها الله يختار مَنْ يشاء لممارستها, ومادام الحاكم يستمد سلطته من مصدر علوى فهو يسمو على الطبيعة البشرية وبالتالى تسمو إرادته على إرادة المحكومين إذ إنه هو المنفذ للمشيئة الإلهية. ولقد لعبت هذه الفكرة دوراً كبيراً فى التاريخ, وقامت عليها السلطة فى معظم الحضارات القديمة وأقرَّتها المسيحية فى أول عهدها وإنْ حاربتها فيما بعد ثم استند إليها الملوك فى أوروبا فى القرنين السادس عشر والسابع عشر لتبرير سلطتهم المطلقة واختصاصاتهم غير المقيدة. على أن هذه الفكرة قد تطورت واتخذت ثلاث صور متتابعة هي: فى الأصل كان الحاكم يُعدّ من طبيعة إلهية فهو لم يكن مختاراً من الإله بل كان الله نفسه وقد قامت الحضارات القديمة عموما فى مصر وفارس والهند والصين على أساس هذه النظرية وكان الملوك والأباطرة يُنظر إليهم باعتبارهم آلهة وقد وجدت هذه الفكرة نفسها عند الرومان الذين كانوا يقدسون الإمبراطور ويعدونه إلها وإنْ كان الشرق هو أصلها ومنبعها! تطورت النظرية مع ظهور المسيحية ولم يُعد الحاكم إلها أو من طبيعة إلهية ولكنه يستمد سلطته من الله فالحاكم إنسان يصطفيه الله ويودعه السلطة, وفى هذه الحالة تسمى النظرية “نظرية الحق الإلهى المباشر” لأن الحاكم يستمد سلطته من الله مباشرةً دون تدخل إرادة أخرى فى اختياره ومن ثم فهو يحكم بمقتضى الحق الإلهى المباشر. منذ العصور الوسطى وأثناء الصراع بين الكنيسة والإمبراطور قامت فكرة جديدة مقتضاها أن الله لا يختار الحاكم بطريقة مباشرة وأن السلطة – وإن كانْ مصدرها الله – فان اختيار الشخص الذى يمارسها يكون للشعب. وبعبارة أخرى ظهر الفصل بين السلطة والحاكم الذى يمارسها فالسلطة فى ذاتها من عند الله و لكن الله لا يتدخل مباشرة فى اختيار الحاكم و إن كان من الممكن أن يرشد الأفراد الى الطريق الذى يؤدى بهم الى اختيار حاكم معين. ومن ثم فالله يختار الحاكم بطريقة غير مباشرة. ويكون الحاكم قد تولى السلطة عن طريق الشعب بتوجيه من الإرادة الإلهية أو بمقتضى الحق الإلهى غير المباشر. ( نظرية الحق الإلهى غير المباشر) ولقد حاول بعض المسيحيين إقامة دولة دينية استبدادية على نحو ما فعل الراهب والمصلح الدينى سافونا رولا Savonarola (1452-1498) الذى شن حملة عنيفة ضد الفساد الأخلاقى الذى عرفته الكنيسة فى عصره. وبعد نفى آل مدتشى من فلورنسا وكان قد شملهم بحملته أنشأ فى هذه المدينة جمهورية دينية فنقم عليه الكرسى البابونى واتهمه بالهرطقة فشنق وأحرقت جثته على مرأى من سكان فلورنسا جميعاً. وكذلك حاول جون كالفن (1509- 1564) John Calvin اللاهوتى الفرنسى نشر راية الإصلاح البروتستانتى فى فرنسا ثم فى سويسرا ثم أنشأ حكومة صارمة فى جينيف وتميزت الكالفينية بالاستبداد والتزمت والصرامة. ويقول برتراند رسل إن الذين حاولوا إقامة الدولة المسيحية أرادوا محاكاة الدولة اليهودية ووراثتها. ومن هنا كانت محاولة الملوك إبان العصور الوسطى ارتداء عباءة الدين أو الادعاء بأنهم يستمدون سلطاتهم من الله تبريراً لاستبدادهم! أما فى العالم الإسلامى فقد كان الخليفة الثالث عثمان بن عفان هو أول مَنْ زعم أنه يحكم بتفويض إلهى عندما ثارت عليه الجموع من مختلف أنحاء الدولة الإسلامية: من مصر ومن الكوفة ومن المدينة. الخ بعد أن دب الفساد فى الدولة وطلبوا إليه أن يختار أمراً من ثلاثة إما أن يتنحى أو أن يسلم إليهم أقربائه أو يقتلوه ولكنه رفض العروض الثلاثة وقال عن التنحى عبارته الشهيرة “والله ما كنتُ لأخلع سربالاً سربلنيه الله”(أى لباسا ألبسنيه الله) – وكان ذلك أول إعلان بأن عباءة الخلافة يرتديها الحاكم بتفويض من الله فلا يخلعها بناء على طلب الناس “وكتب إلى معاوية فى الشام وإلى بنى عامر بالبصرة وإلى أهل الكوفة يستنجدهم فى بعث جيش يطرد هؤلاء من المدينة” – وكانت الثورة وتسور الناس الدار وكان منهم محمد بن أبى بكر الذى أمسك بلحيته وهو يقول “على أى دين أنت يا نعثل؟! ” وصاحت عائشة فى الجموع ” أقتلوا نعثلاً, قتل الله نعثلا!” تعنى عثمان] نعثل: الشيخ الأحمق [ وتركته وذهبت إلى مكة! ثم جاء الأمويون الذين أعلنوا أن الخلافة حق من حقوقهم ورثوه عن عثمان كما عبرّ الشعراء عن ذلك: تراث عثمان كانوا الأولياء له سربال ملك عليهم غير مسلوب وأشاع بعضهم فى أهل الشام أنهم استحقوا الخلافة لقرابتهم لرسول الله ثم استقروا على النظرية التى حكموا على أساسها ودعموا بها ملكهم الاستبدادى وهى أن الله اختارهم للخلافة وأتاهم الملك وأنهم يحكمون بإرادته ويتصرفون بمشيئته وأحاطوا خلافتهم بها له من القداسة حتى أصبح معاوية فى نظر أنصاره “خليفة الله على الأرض” وهكذا أصبحت السلطة من الله وليس للناس فيها رأى ولا مشورة وراح الشعراء يرفعون من نغمة التقديس إلى التأليه فلا يجد ابن هانى الأندلسى (938-973 م) بعد ذلك أى حرج فى أن يقول للخليفة الفاطمى المعز لدين الله: ما شئتَ لا ما شاءتْ الأقدارُ فاحكم فأنت الواحد القهارُ وكأنما أنت النبيُ محمد وكأنما أنصارك الأنصار وهكذا نجد أن استعداد الشرقيين لتأليه الحاكم ليس وليد اليوم وإنما هو أمر موغل فى القدم منذ أن كان فرعون هو الإله الذى لا راد لقضائه فهو يعرف كل شيء بما فى ذلك مصلحة الشعب نفسه ثم مروراً بالعصر الوسيط حيث كان الخليفة الذى عينه الله بحكمته ليسوس الناس ويروضهم لما فيه صلاحهم فى الدنيا والآخرة إلى أن اخترعنا فكرة الزعيم الأوحد والمنقذ الأعظم والرئيس المخلّص ومبعوث العناية الإلهية والمعلم والملهم الذى يأمر فيطاع لأنه استعار صفة من صفات الله” لا يُسألُ عما يَفعلُ وهُمْ يُسألونْ ” فأحلنا الاستبداد البشرى – بأيدينا – ليصبح استبداداً دينياً!١