إهداء :
إلى كل فاقدى البصر.. منذ أقدم العصور.. الذين أناروا طريق المُبصرين .
ــــــــــــــــــ
ألحّتْ زوجتى ، وانضم أولادى إليها ، لإقناعى بإجراء عملية جراحية ، تُعيد إلىّ بصرى . وبينما أرفض حججهم بعقلى ، أضعف أمام توسلاتهم . قالوا إنّ العلم تـقـدّم فاطرد الخوف من فشل العملية. ضحكتُ وقلتُ لهم : أعلم هذا. وأنّ عمليات كثيرة نجحتْ وأعادتْ البصر للمكفوفين. ولكن حتى لو فشلتْ العملية ، فماذا سوف أخسر؟ هل هناك مرحلة اسمها ((مرحلة ما قبل العمى)) لم يتكـدّروا من قولى كما توقعتُ وإنما ضحكوا مثلما ضحكتُ .
000
فقدتُ بصرى فى الرابعة من عمرى . تعوّدتُ العتمة المُضيئة فى عقلى . لماذا تضعنى زوجتى وأولادى فى هذا الامتحان العسير؟ ستون عامًا وأنا أعيش فى فضاء (نورعتمتى) كيف أهجرها أو تهجرنى ؟ كيف أتخلى عن حنوها وقد ملــّـكتنى عمق الإدراك وأهدتنى أفق الخيال؟
فى السادسة من عمرى، كنتُ ألعب بالطين فى القرية. كنتُ أتحسّس البقرة والحمار والقطة بأصابعى ، فأشكلهم بالطين . مدحنى البعض وسخر منى آخرون . قالوا : كيف لأعمى أنْ يُجسّد الحيوانات ؟ وهل الأعمى كالبصير؟
فى سن الثامنة كانت أذناى وحواسى مع صوت الناى الذى يعزفه خالى بعد الغروب . طلبتُ منه أنْ يُعلـّـمنى أنْ أفعل مثله. خالى لم يُعلمنى العزف على الناى فقــط ، وإنما كان يمسك أصابعى ويجعلنى أتحسّس الأشياء . يقول لى هذه شجرة جميز. وهذا برسيم . فى اليوم السابع من تعلمى العزف على الناى ، أخذنى خالى فى حضنه. وقال لى وهو يُـقبـّـل خدى : براوا يـــــا واد ( أى برافو كما كان الفلاحون ينطقونها) دا إنتَ كمان بتغير فى اللحن . عرفتُ فيما بعد أنّ تعبير (بتغيرفى اللحن) الذى قاله خالى، هو بداية شغفى بالموسيقا . وبداية الخصوصية.
كنتُ أختلف مع شيخى الأزهرى ، فيُعنفنى قائلا : لاتــُجادل . المُجادلة كفر والعياذ بالله. وكثيرًا ما كان يقول لى : هل يستوى الأعمى والبصير؟ أفكــّـر فى السؤال الذى ظلّ يُـشاغلنى لعدة سنوات. لم أهتد لإجابة. ولسبب لا أعرفه حتى الآن ، أحببتُ نور العتمة التى أنارتْ طريقى إلى قراءة كتب الفلسفة.
فى السنة النهائية فى الأزهر، ازاداد شغفى بالقراءة المُــتنـوّعة، قتعرّفتُ على بشار بن برد ، وأبى العلاء المعرى ، وفى يوم لا أنساه ارتكبتُ فعلا رآه شيخى جريمة ، إذْ استشهدتُ ببعض الأبيات الشعرية من نظم بشار، انفعل الرجل ولم يستطع أنْ يجلدنى كما كان يفعل معى الشيوخ فى طفولتى ، ولكنه سبّـنى بأمى وأبى وأصلى وفصلى وأخيرًا قال لى : أنت أعمى فى الدنيا وأعمى فى الآخرة . ولسبب لا أعرف جذوره فى نفسى ، أحببتُ عماى وهمتُ عشقــًا بعتمتى المُضيئة. كان هذا شعورى الفطرى فى هذا اليوم ، والذى أخذ ينمو حتى صار إيمانـًا عقلانيًا . فكيف أتخلى عن مملكتى المُعتمة المُضيئة ؟ ولماذا تهزمنى العاطفة دائمًا ، فأستجيب لرغبة زوجتى وأولادى؟
000
بعد حصولى على الشهادة الأزهرية ، رفضتُ الاستمرار فى الأزهر أو الالتحاق بالتعليم الجامعى العام . كانت الموسيقا معشوقتى . قلتُ لنفسى لن يُـنقذ معشوقتى أحد غير خالى . ذهبتُ إليه فى الغيط . أنعشتنى رائحة البرسيم الذى كان خالى يحشه. أخذنى فى حضنه برائحته المُحبّبة. بحتُ له عما فى نفسى ، ورغبتى فى دراسة الموسيقا دراسة علمية. ابتهج وتولى اقناع أبى الذى كان ينتظر اليوم الذى يرى فيه ابنه صاحب عمود فى الأزهر.
ذهب معى خالى للمعهد العالى للموسيقا . قــُـوبل طلبى بالرفض لأننى أزهرى . قال خالى سأدخل مع اللجنة معركة حياة أو موت . طلب منهم الاستماع لعزفى على الناى والعود . بعد قبول أوراقى ترجم لى خالى تعبيرات وجوههم ، المعجونة بالدهشة والبهجة.
قبل نهاية السنة الأولى بمعهد الموسيقا ، نشأتْ بينى وبين أساتذتى علاقة إنسانية ، إذْ كانوا يُـشجّعوننى ويثنون على موهبتى . ونصحونى بدراسة الموسيقا العالمية. عشقتُ كل الآلات . كنتُ أشبه بالعاشق الحائر بين أكثر من معشوقة. فسّر لى أحد الأساتذة حيرتى عندما قال لى أنّ أغلب الآلات الحديثة أصلها من إبداع جدودنا المصريين القدماء . أرتمى مرة فى حضن الهارب ومرة فى حضن العود وثالثة فى حضن الجيتار، وقبل أنْ أنام يحتضن فمى الناى . قسّمتُ يومى بين التدريب والقراءة . قبل تخرجى كنتُ قد قرأتُ قصة حياة أغلب مشاهير الموسيقا العالمية. واشتريتُ كل ما استطعتُ من سيمفونيات كلاسيكية. وصار الاستماع إليها عدة مرات جزءًا من التدريب اليومى . ثم تطور الأمر فتمنيتُ دراسة النوتة الموسيقية.
بعد تخرجى بدرجة الامتياز، ضمنى خالى لحضنه ، فأنعشتنى رائحة الليمون المُلتصقة بجلبابه. فاجأنى بسؤال المصير: ناوى على إيه ؟ شايف المستقبل إزاى ؟ قبل أنْ أرد قال ما كان على لسانى : إلى أوروبا . إلى بلاد النور. ظلّ خالى لعدة سنوات فى عقلى لغزًا جميلا ومُحيرًا : من أوحى لهذا الفلاح الأمى بتلك الاجابة : إلى أوروبا . إلى بلاد النور؟ حتى الآن لا أعرف الإجابة ، ولكننى قلتُ له : خالى .. أنت تعزف على طموحاتى.. وأنا أعزف على حبى لك . رسم خيالى ابتسامته وأنا أحتضن وجنتيه بكفىْ .
ذهب خالى وقابل أساتذتى فى المعهد . طلب منهم أنْ أسافر إلى أوروبا . ردّ أساتذتى بالمُفاجأة غير المتوقعة : قريبك سيذهب إلى ألمانيا فى بعثة على حساب الدولة. رغم فرحتى بالخبر قلتُ : ليتها تكون إلى النمسا . اندهش الأستاذ وقال : ألمانيا موطن بيتهوفن حبيبك . قلت : ولكن النمسا موطن الطفل المعجزة فولفانج أماديوس موتسارت . قهقه الأستاذ وقال : لك هذا .
000
فى النمسا تعرّفتُ على مادلين ، زميلتى فى الكونسفتوار النمساوى . عندما عرفتْ أننى مصرى قالت لى ((أنتَ من مهد الحضارة التى أبدعتْ أول موسيقا فى العالم)) بعد الأسبوع الثانى من أول لقاء ، أخذتنى إلى أسرتها . تردّدتُ فى البداية ، فأمسكتْ كفى وصحبتنى إلى منزل الأسرة . لاحظتُ أنهم يتجنــّـبون الحديث بالنمساوية أمامى ، ويُـفضــّـلون الحديث بالفرنسية التى كنتُ أحاول الحديث بها . فى الزيارة الثالثة ساورنى الشك : هل أنا فى النمسا أم فى قريتى فى جنوب مصر؟ أم مادلين تـُـشجّعنى على تذوق كل الأصناف الطعام . يبدو أنها شعرتْ بخجلى فقالتْ لابنتها ((أكليه يا مادلين)) ومثلما فعلتْ الأم ، فعل الأب وفعل أشقاء مادلين .
خصّصوا لى حجرة بمنزلهم . عندما اعترضتُ قالتْ الأم ((هنا بيانو وعود وفلوت . هنا تقدر تتمرن مع مادلين)) قبل أنْ أرد تجمّع أفراد الأسرة حولى . أقنعونى بالفكرة . كان حنوهم أقوى من خجلى . شجّعتنى مادلين على إجادة اللغة الفرنسية. قرأتْ لى الكثير من الأدب الفرنسى والعالمى المُـترجم إلى الفرنسية. طلبتُ منها مساعدتى فى كتابة النوتة الموسيقية. عرّفتنى بأستاذ نمساوى تطوع لتعليمى . بعد عاميْن كتبتُ أول سيمفونية. احترتُ فى تسميتها ما بين (روح العدالة) أو (ماعت) خلــّـصتنى مادلين من حيرتى . قالت : العنوان الرئيسى (روح العدالة) وتحته (ماعت) وشرحتْ لى وجهة نظرها . عبّرتُ لها عن عجزى على شكرها . احتضنتْ كفى بكفـــيها ، فشعرتُ بنبضها ونبضى يعزفان لحنــًا واحدًا.
بعد تخرجى كان علىّ أنْ أعود إلى مصر. قلتُ لمادلين : كان بودى أنْ أبقى معك إلى آخر لحظة فى حياتى . قالت ما كنتُ أتمناه ولا أتوقعه : ومن قال لك أننى سأتركك . رقص قلبى على معزوفة من الغموض والسحر. كنتُ أحاول فك شفرات كلامها . كانت هى أسرع منى . قالت ((سنتزوج هنا ثم نسافر إلى مصر))
قـلتُ (( لماذا تقضين باقى حياتك معى فى سجن العتمة ؟ ))
قالت (( ولماذا تحرمنى من أنْ أعيش باقى حياتى معك فى النور؟ ))
هذا ما كان منذ أكثر من أربعين عامًا ، واليوم تتكتــّـل مادلين مع الأبناء ضدى ، ليُخرجونى من عتمتى المضيئة إلى عالمهم .
000
بعد إجراء العملية ، ظللتُ لمدة أسبوع أعانى من غزو الضوء لعينىّ . لم أتخلّ عن النظارة السوداء وأنا فى البيت . سواد النظارة مع إغماض عينىّ أتاحا لى الوهم الذى صنعه خيالى : أننى ما زلتُ أعيش فى عتمتى المُضيئة. طلب الأولاد ومادلين أنْ أخلع النظارة ، كنتُ أستجيب لطلبهم على كره منى . وكنتُ أتساءل : لماذا يكون موقفى بهذا القدر من التعنت؟ هل هو وهم ( التكيف ) مع العتمة عبر ستين سنة ؟ كنتُ أرى مادلين والأبناء ، فأقارن بين صورتهم التى رسمها خيالى فى سنوات العتمة ، وصورتهم التى يُجسّدها الواقع . وأتساءل : أية صورة أحب إلى قلبى ؟ صحيح بهرنى وجه مادلين . وصحيح أنّ أصابعى لمستْ بشرتها فى سنوات العتمة. وأنّ كفىّ طوّقا وجهها وحـدّدا ملامحه الصغيرة الدقيقة. وصحيح أننى أراها الآن أجمل من الصورة التى رسمها خيالى ، وبالرغم من ذلك أشعر بالصورتيْن تتصارعان . وأنا بينهما حائر لا أعرف إلى أيهما أنحاز. عند هذه اللحظة ترتد ذاكرتى عشرين عامًا إلى الوراء .
بعد عشرين سنة من زواجى بمادلين ، ذهبنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية لحضور افتتاح سيمفونيتى السابعة ( أوزير وإيست وحور) علمنا أنّ المسرح الوطنى فى ولاية ألاباما على خليج المكسيك ، يعرض مسرحية عن حياة العالمة (هيلين كيلر) تعرّض المؤلف لفصل من حياة هيلين عندما أقنعها صاحب (سيرك) لأداء (نمرة) بمصاحبة مُربيتها ومُعلمتها الآنسة ( آن مانسفيلد سوليفان ) شرح صاحب السيرك فكرته : واحد من الجمهور يسأل هيلين سؤالا. مُعلمتها تـُــترجمه بأصابعها لهيلين التى ترد بأصابعها أيضًا . هذا كل شىء . فلماذا الرفض؟ وافقتْ هيلين ومعلمتها نظرًا لسوء حالتهما المالية. ركــّـز مؤلف المسرحية على الأسئلة المُوجّهة لهيلين، وكشفتْ إجابتها عن عمق فلسفتها للحياة . سألها واحد من الجمهور: إذا كان لكِ أنْ تختارى بين عودة السمع وعودة البصر، فأيهما تختاريـن ؟ ردّتْ بأصابعها : أختار الصديق الوفى قبل السمع والبصر. وسألها آخر: هل صحيح ما يُـشاع عنكِ من أنكِ تـُفضّـلين العتمة على النور؟ فردتْ بأصابعها : أفضل أنْ أبتعد عن الحمقى . دوى المسرح بالتصفيق للممثلة التى أدّتْ دور هيلين . وبعد انتهاء العرض شرحتْ لى مادلين تعبيرات وجه الممثلة لحظة أنْ كانت معلمتها تـُـترجم لها السؤال بحركة الأصابع : توتـّرتْ الوجنتان وارتعشتْ الشفتان . وكأنّ الممثلة هى هيلين وكأنها تتلقى السؤال لأول مرة . وقرأتْ لى مادلين رأى النقاد الذين كتبوا عن العرض المسرحى المُـستمرمنذ عدة سنوات. وأنّ اختيار ولاية ألاباما للعرض مُـتعمد لأنها موطن ميلاد هيلين. وأنّ السينما الأمريكية أنتجتْ فيلما عن قصة حياتها . شرحتْ لى مادلين أنّ المُـعلمة كانتْ تمسك أصابع هيلين وهى طفلة وتقول لها : هذا ماء.. هذه شجرة . فأتذكر خالى وهو يُـمسك أصابعى فى طفولتى ويجعلنى ألمس الأشياء ويُعلمنى أسماءها.
منذ أنْ رأيتُ العرض المسرحى والفيلم وكلمات هيلين تتردّد فى صدرى : أختار الصديق الوفى قبل السمع والبصر. وردها الآخر شديد العمق : أفضل أنْ أبتعد عن الحمقى . وبعد أنْ أصبحتُ من المُبصرين هل أتحمل رؤية زملائى المصريين الذين هاجمونى لأننى أدافع عن حضارة جدودنا ؟ وأنها كانت (كما كتبوا) حضارة (موت وعبودية وكفر) أقرأ هذا الكلام فأعمل بنصيحة هيلين الحكيمة : أنْ أبتعد عن الحمقى . وهذه النصيحة تردنى إلى قولها : أختار الصديق الوفى قبل السمع والبصر. فى هذا اليوم تغلغل إيمانى بالعتمة. وها أنا – بعد ستين سنة من التوحد معها– أتخلى عنها.
000
زارنى بعض أصدقائى الفرنسيين . طلبوا زيارة الآثار المصرية. اقترحتْ مادلين– ووافقتها ابنتنا إيزيس– أنْ نبدأ بزيارة مقبرة أوناس . هبطنا عدة أمتار تحت سطح الأرض. ذكــّـرتنى العتمة بعالمى المفقود . ولكن المشاهد المرسومة على الجدران حبّبتنى فى نعمة البصر. شرحتْ ابنتى إيزيس المشاهد : فلاحون يزرعون ، فلاحون يحرثون ، فلاحون يقودون البقر، سيدة تعجن العجين ، سيدات يخبزن العيش ، عازفون على الناى ، راقصات فى حركات تعبيرية ، السُلم المُـتخيل للصعود إلى السماء . الألوان الزاهية وكأنّ الفنان انتهى من الرسم بالأمس.
فى طريق العودة مررنا على ترعة المريوطية. رأينا الحيوانات الميتة طافية على سطح الماء. يبدو أنّ إيزيس رأتْ تعبيرات الحزن والخجل على وجهى فقالتْ : لا تحزن يا أبى.. وتعوّد على العداء للتحضر.. وهـيّـىء نفسك على رؤية تلوث النيل من الجنوب إلى الشمال . فقالت السيدة (سيمون) هل أنتم فعلا أحفاد المصريين القدماء ؟ قهرتُ غضبى لاستحالة الرد عليها . مشينا فى شوارع المدينة التى ترتفع فيها تلال فضلات البيوت والمصانع. تبخــّـرتْ الفرحة التى عشتها وأنا فى مقبرة أوناس . أحسستُ أنّ ما أراه هو الوجود المُـتحالف مع العدم.
فى البيت طلبتُ من مادلين تليفون الطبيب الذى أعاد لى البصر. استفسرتْ . قلتُ : سأطلب منه أنْ يُعيدنى إلى العتمة.
إلى كل فاقدى البصر.. منذ أقدم العصور.. الذين أناروا طريق المُبصرين .
ــــــــــــــــــ
ألحّتْ زوجتى ، وانضم أولادى إليها ، لإقناعى بإجراء عملية جراحية ، تُعيد إلىّ بصرى . وبينما أرفض حججهم بعقلى ، أضعف أمام توسلاتهم . قالوا إنّ العلم تـقـدّم فاطرد الخوف من فشل العملية. ضحكتُ وقلتُ لهم : أعلم هذا. وأنّ عمليات كثيرة نجحتْ وأعادتْ البصر للمكفوفين. ولكن حتى لو فشلتْ العملية ، فماذا سوف أخسر؟ هل هناك مرحلة اسمها ((مرحلة ما قبل العمى)) لم يتكـدّروا من قولى كما توقعتُ وإنما ضحكوا مثلما ضحكتُ .
000
فقدتُ بصرى فى الرابعة من عمرى . تعوّدتُ العتمة المُضيئة فى عقلى . لماذا تضعنى زوجتى وأولادى فى هذا الامتحان العسير؟ ستون عامًا وأنا أعيش فى فضاء (نورعتمتى) كيف أهجرها أو تهجرنى ؟ كيف أتخلى عن حنوها وقد ملــّـكتنى عمق الإدراك وأهدتنى أفق الخيال؟
فى السادسة من عمرى، كنتُ ألعب بالطين فى القرية. كنتُ أتحسّس البقرة والحمار والقطة بأصابعى ، فأشكلهم بالطين . مدحنى البعض وسخر منى آخرون . قالوا : كيف لأعمى أنْ يُجسّد الحيوانات ؟ وهل الأعمى كالبصير؟
فى سن الثامنة كانت أذناى وحواسى مع صوت الناى الذى يعزفه خالى بعد الغروب . طلبتُ منه أنْ يُعلـّـمنى أنْ أفعل مثله. خالى لم يُعلمنى العزف على الناى فقــط ، وإنما كان يمسك أصابعى ويجعلنى أتحسّس الأشياء . يقول لى هذه شجرة جميز. وهذا برسيم . فى اليوم السابع من تعلمى العزف على الناى ، أخذنى خالى فى حضنه. وقال لى وهو يُـقبـّـل خدى : براوا يـــــا واد ( أى برافو كما كان الفلاحون ينطقونها) دا إنتَ كمان بتغير فى اللحن . عرفتُ فيما بعد أنّ تعبير (بتغيرفى اللحن) الذى قاله خالى، هو بداية شغفى بالموسيقا . وبداية الخصوصية.
كنتُ أختلف مع شيخى الأزهرى ، فيُعنفنى قائلا : لاتــُجادل . المُجادلة كفر والعياذ بالله. وكثيرًا ما كان يقول لى : هل يستوى الأعمى والبصير؟ أفكــّـر فى السؤال الذى ظلّ يُـشاغلنى لعدة سنوات. لم أهتد لإجابة. ولسبب لا أعرفه حتى الآن ، أحببتُ نور العتمة التى أنارتْ طريقى إلى قراءة كتب الفلسفة.
فى السنة النهائية فى الأزهر، ازاداد شغفى بالقراءة المُــتنـوّعة، قتعرّفتُ على بشار بن برد ، وأبى العلاء المعرى ، وفى يوم لا أنساه ارتكبتُ فعلا رآه شيخى جريمة ، إذْ استشهدتُ ببعض الأبيات الشعرية من نظم بشار، انفعل الرجل ولم يستطع أنْ يجلدنى كما كان يفعل معى الشيوخ فى طفولتى ، ولكنه سبّـنى بأمى وأبى وأصلى وفصلى وأخيرًا قال لى : أنت أعمى فى الدنيا وأعمى فى الآخرة . ولسبب لا أعرف جذوره فى نفسى ، أحببتُ عماى وهمتُ عشقــًا بعتمتى المُضيئة. كان هذا شعورى الفطرى فى هذا اليوم ، والذى أخذ ينمو حتى صار إيمانـًا عقلانيًا . فكيف أتخلى عن مملكتى المُعتمة المُضيئة ؟ ولماذا تهزمنى العاطفة دائمًا ، فأستجيب لرغبة زوجتى وأولادى؟
000
بعد حصولى على الشهادة الأزهرية ، رفضتُ الاستمرار فى الأزهر أو الالتحاق بالتعليم الجامعى العام . كانت الموسيقا معشوقتى . قلتُ لنفسى لن يُـنقذ معشوقتى أحد غير خالى . ذهبتُ إليه فى الغيط . أنعشتنى رائحة البرسيم الذى كان خالى يحشه. أخذنى فى حضنه برائحته المُحبّبة. بحتُ له عما فى نفسى ، ورغبتى فى دراسة الموسيقا دراسة علمية. ابتهج وتولى اقناع أبى الذى كان ينتظر اليوم الذى يرى فيه ابنه صاحب عمود فى الأزهر.
ذهب معى خالى للمعهد العالى للموسيقا . قــُـوبل طلبى بالرفض لأننى أزهرى . قال خالى سأدخل مع اللجنة معركة حياة أو موت . طلب منهم الاستماع لعزفى على الناى والعود . بعد قبول أوراقى ترجم لى خالى تعبيرات وجوههم ، المعجونة بالدهشة والبهجة.
قبل نهاية السنة الأولى بمعهد الموسيقا ، نشأتْ بينى وبين أساتذتى علاقة إنسانية ، إذْ كانوا يُـشجّعوننى ويثنون على موهبتى . ونصحونى بدراسة الموسيقا العالمية. عشقتُ كل الآلات . كنتُ أشبه بالعاشق الحائر بين أكثر من معشوقة. فسّر لى أحد الأساتذة حيرتى عندما قال لى أنّ أغلب الآلات الحديثة أصلها من إبداع جدودنا المصريين القدماء . أرتمى مرة فى حضن الهارب ومرة فى حضن العود وثالثة فى حضن الجيتار، وقبل أنْ أنام يحتضن فمى الناى . قسّمتُ يومى بين التدريب والقراءة . قبل تخرجى كنتُ قد قرأتُ قصة حياة أغلب مشاهير الموسيقا العالمية. واشتريتُ كل ما استطعتُ من سيمفونيات كلاسيكية. وصار الاستماع إليها عدة مرات جزءًا من التدريب اليومى . ثم تطور الأمر فتمنيتُ دراسة النوتة الموسيقية.
بعد تخرجى بدرجة الامتياز، ضمنى خالى لحضنه ، فأنعشتنى رائحة الليمون المُلتصقة بجلبابه. فاجأنى بسؤال المصير: ناوى على إيه ؟ شايف المستقبل إزاى ؟ قبل أنْ أرد قال ما كان على لسانى : إلى أوروبا . إلى بلاد النور. ظلّ خالى لعدة سنوات فى عقلى لغزًا جميلا ومُحيرًا : من أوحى لهذا الفلاح الأمى بتلك الاجابة : إلى أوروبا . إلى بلاد النور؟ حتى الآن لا أعرف الإجابة ، ولكننى قلتُ له : خالى .. أنت تعزف على طموحاتى.. وأنا أعزف على حبى لك . رسم خيالى ابتسامته وأنا أحتضن وجنتيه بكفىْ .
ذهب خالى وقابل أساتذتى فى المعهد . طلب منهم أنْ أسافر إلى أوروبا . ردّ أساتذتى بالمُفاجأة غير المتوقعة : قريبك سيذهب إلى ألمانيا فى بعثة على حساب الدولة. رغم فرحتى بالخبر قلتُ : ليتها تكون إلى النمسا . اندهش الأستاذ وقال : ألمانيا موطن بيتهوفن حبيبك . قلت : ولكن النمسا موطن الطفل المعجزة فولفانج أماديوس موتسارت . قهقه الأستاذ وقال : لك هذا .
000
فى النمسا تعرّفتُ على مادلين ، زميلتى فى الكونسفتوار النمساوى . عندما عرفتْ أننى مصرى قالت لى ((أنتَ من مهد الحضارة التى أبدعتْ أول موسيقا فى العالم)) بعد الأسبوع الثانى من أول لقاء ، أخذتنى إلى أسرتها . تردّدتُ فى البداية ، فأمسكتْ كفى وصحبتنى إلى منزل الأسرة . لاحظتُ أنهم يتجنــّـبون الحديث بالنمساوية أمامى ، ويُـفضــّـلون الحديث بالفرنسية التى كنتُ أحاول الحديث بها . فى الزيارة الثالثة ساورنى الشك : هل أنا فى النمسا أم فى قريتى فى جنوب مصر؟ أم مادلين تـُـشجّعنى على تذوق كل الأصناف الطعام . يبدو أنها شعرتْ بخجلى فقالتْ لابنتها ((أكليه يا مادلين)) ومثلما فعلتْ الأم ، فعل الأب وفعل أشقاء مادلين .
خصّصوا لى حجرة بمنزلهم . عندما اعترضتُ قالتْ الأم ((هنا بيانو وعود وفلوت . هنا تقدر تتمرن مع مادلين)) قبل أنْ أرد تجمّع أفراد الأسرة حولى . أقنعونى بالفكرة . كان حنوهم أقوى من خجلى . شجّعتنى مادلين على إجادة اللغة الفرنسية. قرأتْ لى الكثير من الأدب الفرنسى والعالمى المُـترجم إلى الفرنسية. طلبتُ منها مساعدتى فى كتابة النوتة الموسيقية. عرّفتنى بأستاذ نمساوى تطوع لتعليمى . بعد عاميْن كتبتُ أول سيمفونية. احترتُ فى تسميتها ما بين (روح العدالة) أو (ماعت) خلــّـصتنى مادلين من حيرتى . قالت : العنوان الرئيسى (روح العدالة) وتحته (ماعت) وشرحتْ لى وجهة نظرها . عبّرتُ لها عن عجزى على شكرها . احتضنتْ كفى بكفـــيها ، فشعرتُ بنبضها ونبضى يعزفان لحنــًا واحدًا.
بعد تخرجى كان علىّ أنْ أعود إلى مصر. قلتُ لمادلين : كان بودى أنْ أبقى معك إلى آخر لحظة فى حياتى . قالت ما كنتُ أتمناه ولا أتوقعه : ومن قال لك أننى سأتركك . رقص قلبى على معزوفة من الغموض والسحر. كنتُ أحاول فك شفرات كلامها . كانت هى أسرع منى . قالت ((سنتزوج هنا ثم نسافر إلى مصر))
قـلتُ (( لماذا تقضين باقى حياتك معى فى سجن العتمة ؟ ))
قالت (( ولماذا تحرمنى من أنْ أعيش باقى حياتى معك فى النور؟ ))
هذا ما كان منذ أكثر من أربعين عامًا ، واليوم تتكتــّـل مادلين مع الأبناء ضدى ، ليُخرجونى من عتمتى المضيئة إلى عالمهم .
000
بعد إجراء العملية ، ظللتُ لمدة أسبوع أعانى من غزو الضوء لعينىّ . لم أتخلّ عن النظارة السوداء وأنا فى البيت . سواد النظارة مع إغماض عينىّ أتاحا لى الوهم الذى صنعه خيالى : أننى ما زلتُ أعيش فى عتمتى المُضيئة. طلب الأولاد ومادلين أنْ أخلع النظارة ، كنتُ أستجيب لطلبهم على كره منى . وكنتُ أتساءل : لماذا يكون موقفى بهذا القدر من التعنت؟ هل هو وهم ( التكيف ) مع العتمة عبر ستين سنة ؟ كنتُ أرى مادلين والأبناء ، فأقارن بين صورتهم التى رسمها خيالى فى سنوات العتمة ، وصورتهم التى يُجسّدها الواقع . وأتساءل : أية صورة أحب إلى قلبى ؟ صحيح بهرنى وجه مادلين . وصحيح أنّ أصابعى لمستْ بشرتها فى سنوات العتمة. وأنّ كفىّ طوّقا وجهها وحـدّدا ملامحه الصغيرة الدقيقة. وصحيح أننى أراها الآن أجمل من الصورة التى رسمها خيالى ، وبالرغم من ذلك أشعر بالصورتيْن تتصارعان . وأنا بينهما حائر لا أعرف إلى أيهما أنحاز. عند هذه اللحظة ترتد ذاكرتى عشرين عامًا إلى الوراء .
بعد عشرين سنة من زواجى بمادلين ، ذهبنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية لحضور افتتاح سيمفونيتى السابعة ( أوزير وإيست وحور) علمنا أنّ المسرح الوطنى فى ولاية ألاباما على خليج المكسيك ، يعرض مسرحية عن حياة العالمة (هيلين كيلر) تعرّض المؤلف لفصل من حياة هيلين عندما أقنعها صاحب (سيرك) لأداء (نمرة) بمصاحبة مُربيتها ومُعلمتها الآنسة ( آن مانسفيلد سوليفان ) شرح صاحب السيرك فكرته : واحد من الجمهور يسأل هيلين سؤالا. مُعلمتها تـُــترجمه بأصابعها لهيلين التى ترد بأصابعها أيضًا . هذا كل شىء . فلماذا الرفض؟ وافقتْ هيلين ومعلمتها نظرًا لسوء حالتهما المالية. ركــّـز مؤلف المسرحية على الأسئلة المُوجّهة لهيلين، وكشفتْ إجابتها عن عمق فلسفتها للحياة . سألها واحد من الجمهور: إذا كان لكِ أنْ تختارى بين عودة السمع وعودة البصر، فأيهما تختاريـن ؟ ردّتْ بأصابعها : أختار الصديق الوفى قبل السمع والبصر. وسألها آخر: هل صحيح ما يُـشاع عنكِ من أنكِ تـُفضّـلين العتمة على النور؟ فردتْ بأصابعها : أفضل أنْ أبتعد عن الحمقى . دوى المسرح بالتصفيق للممثلة التى أدّتْ دور هيلين . وبعد انتهاء العرض شرحتْ لى مادلين تعبيرات وجه الممثلة لحظة أنْ كانت معلمتها تـُـترجم لها السؤال بحركة الأصابع : توتـّرتْ الوجنتان وارتعشتْ الشفتان . وكأنّ الممثلة هى هيلين وكأنها تتلقى السؤال لأول مرة . وقرأتْ لى مادلين رأى النقاد الذين كتبوا عن العرض المسرحى المُـستمرمنذ عدة سنوات. وأنّ اختيار ولاية ألاباما للعرض مُـتعمد لأنها موطن ميلاد هيلين. وأنّ السينما الأمريكية أنتجتْ فيلما عن قصة حياتها . شرحتْ لى مادلين أنّ المُـعلمة كانتْ تمسك أصابع هيلين وهى طفلة وتقول لها : هذا ماء.. هذه شجرة . فأتذكر خالى وهو يُـمسك أصابعى فى طفولتى ويجعلنى ألمس الأشياء ويُعلمنى أسماءها.
منذ أنْ رأيتُ العرض المسرحى والفيلم وكلمات هيلين تتردّد فى صدرى : أختار الصديق الوفى قبل السمع والبصر. وردها الآخر شديد العمق : أفضل أنْ أبتعد عن الحمقى . وبعد أنْ أصبحتُ من المُبصرين هل أتحمل رؤية زملائى المصريين الذين هاجمونى لأننى أدافع عن حضارة جدودنا ؟ وأنها كانت (كما كتبوا) حضارة (موت وعبودية وكفر) أقرأ هذا الكلام فأعمل بنصيحة هيلين الحكيمة : أنْ أبتعد عن الحمقى . وهذه النصيحة تردنى إلى قولها : أختار الصديق الوفى قبل السمع والبصر. فى هذا اليوم تغلغل إيمانى بالعتمة. وها أنا – بعد ستين سنة من التوحد معها– أتخلى عنها.
000
زارنى بعض أصدقائى الفرنسيين . طلبوا زيارة الآثار المصرية. اقترحتْ مادلين– ووافقتها ابنتنا إيزيس– أنْ نبدأ بزيارة مقبرة أوناس . هبطنا عدة أمتار تحت سطح الأرض. ذكــّـرتنى العتمة بعالمى المفقود . ولكن المشاهد المرسومة على الجدران حبّبتنى فى نعمة البصر. شرحتْ ابنتى إيزيس المشاهد : فلاحون يزرعون ، فلاحون يحرثون ، فلاحون يقودون البقر، سيدة تعجن العجين ، سيدات يخبزن العيش ، عازفون على الناى ، راقصات فى حركات تعبيرية ، السُلم المُـتخيل للصعود إلى السماء . الألوان الزاهية وكأنّ الفنان انتهى من الرسم بالأمس.
فى طريق العودة مررنا على ترعة المريوطية. رأينا الحيوانات الميتة طافية على سطح الماء. يبدو أنّ إيزيس رأتْ تعبيرات الحزن والخجل على وجهى فقالتْ : لا تحزن يا أبى.. وتعوّد على العداء للتحضر.. وهـيّـىء نفسك على رؤية تلوث النيل من الجنوب إلى الشمال . فقالت السيدة (سيمون) هل أنتم فعلا أحفاد المصريين القدماء ؟ قهرتُ غضبى لاستحالة الرد عليها . مشينا فى شوارع المدينة التى ترتفع فيها تلال فضلات البيوت والمصانع. تبخــّـرتْ الفرحة التى عشتها وأنا فى مقبرة أوناس . أحسستُ أنّ ما أراه هو الوجود المُـتحالف مع العدم.
فى البيت طلبتُ من مادلين تليفون الطبيب الذى أعاد لى البصر. استفسرتْ . قلتُ : سأطلب منه أنْ يُعيدنى إلى العتمة.
العودة إلى العتمـــــــــة - المجلة الثقافية الجزائرية
طلعت رضوان إهداء : إلى كل فاقدى البصر.. منذ أقدم العصور.. الذين أناروا طريق المُبصرين . ــــــــــــ
thakafamag.com