تشكّل الأسطورة الشعبية و التراثية التاريخية حيّزاً زمانياً و مكانياً مهماً في تاريخ الحضارات الإنسانية المتعاقبة و المتزامنة، و بالتالي في تاريخ الفكر البشري منذ تشكّلاته الأولى حتى الوقت الراهن، فما من شعبٍ من الشعوب أو أمة من الأمم إلاّ و لها أساطيرها و خرافاتها الخاصة بها، و من الملاحظ أنّ ثمة تداخلاً واضحاً بين هذه الأساطير، فالأسطورة الواحدة تنمو و تتشعب لتنتقل من حضارة إلى أخرى عبر مثاقفة فكريّة و حضارية، فعلى سبيل المثال يلاحظ أن أسطورة « تموز و عشتروت » أو أدونيس و عشتار هي بابلية و يونانية و رومانية و فينيقية(1)، و إن اختلفت التسميات الأسطورية للشخصيتين الأسطوريتين « عشتار » و أدونيس، فإنّ قاسماً مشتركاً بين ملامحها و خصائصها و أبعادها الأسطورية، و مدلولات رموزها.
و كذلك أسطورة « شهرزاد و شهريار »، فإنّ لها بعداً اجتماعياً و سياسياً و فكرياً في التاريخ، هذا التاريخ الذي يمتدّ إلى الحضارات الهندية و الفارسية و العربية التي شكّلت ألف ليلة و ليلة(2)، فالأسطورة هي نتاج معرفي جماعي يجسّد وضعاً معرفياً أنثروبولوجياً، بوساطته يمكننا دراسة المكوّنات الثقافية و الفكريّة لدى أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب،
و هي بنية مركبة من تاريخ و فكر و فن و حضارة، و بالتالي فإنّ لها قدرة على الامتداد ماضياً و حاضراً و مستقبلاً، و يمكن اعتبارها مرجعاً ثقافياً متميّزاً تنهل منه الكثير من الدراسات الاجتماعية و الفكرية و التاريخية و الفولكلورية، إنها مكوّن أساسي من مكوّنات الفكر الإنساني، و قد رافقت الإنسان في كفاحه المتواصل مع الطبيعة و تبدلاتها و قسوة الحياة و شظفها، و هي المعادل لخيبات هذا الإنسان، و البؤرة التي يرى منها النور و الفرح
و إشراقات المستقبل. إنها تجسّد حلمَ الإنسان في مستقبل أكثر نقاء، و في علاقات أكثر تكافؤاً و عدالة.
و لم يقتصر تأثير الفكر الأسطوري على الدراسات الأنثروبولوجية و الاجتماعية فحسب، بل تعدّاها إلى أنواع الفنون كافة: الرسم و الموسيقى و النحت و الشعر و الرقص، بالإضافة إلى معظم الأجناس الأدبية التي استفادت منه ـ أي الفكر الأسطوري ـ فالأسطورة في القصة و الرواية و المسرح، و قد أثّرت حديثاً في الأعمال الدرامية التلفزيونية و صناعة السينما، و هي في بنيتها العميقة رؤية شعرية مركّبة تجمع بين التاريخ و الفكر و الفن، و يمكن أن تكون نواةً للأعمال القصصية و الروائية إذا ما طُبقت عليها مفاهيم السرد و القص الحديثة.
و من الملاحظ أن مدى تأثيرها كان شديداً في بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر،
و يكاد يكون معظم الشعراء العرب المعاصرين قد استفادوا منها، و وظّفوها في أعمالهم الإبداعية، إذ قلما نجد شاعراً عربياً معاصراً ـ و بخاصة جيل الرواد ـ إلا و استفاد من الأسطورة رمزياً و إشارياً، و استطاع أن يشكّل منها حالات شعرية رؤيوية، تفاوتت بين الاستخدام الإبداعي، و الاستخدام الوظيفي النصّيّ حسب درجات ثقافتهم و مواهبهم، و كيفية تعاملهم مع الرمز الأسطوري.
ونظراً للامتداد والشمولية التي تأخذها الأسطورة في الآداب العالمية فإنّ تباينا شديداً فرض نفسه في تحديدها كمصطلج ابستيمولوجي من جهة، وعلاقة هذا المصطلح بمصطلحاات أخرى تتناص معه، في مفهومها من جهة أخرى .
وقلما يتفق باحثان حول مفهوم محدد للأسطورة ، فمنهم من يراها خرافة،و منهم من يراها حقيقة ،ومنهم من لايفرق بينها وبين التاريخ، وبينها وبين الخرافة، ومنهم من يراها محض أكاذيب، ومنهم من يرى أنّ لها امتداداً في حقل الواقع. وآخر يرى أنّ الشخصية التاريخية التي كان لها دورهاالإنساني في صنع التاريخ والدفاع عن بني البشر تصبح مع الصيرورة التاريخية رؤية أسطورية وحالة جمالية تفوق حدّ التخييل.
إنّ الاختلاف في تحديد ماهية الأسطورة وبواعها ومكوّناتها أدّى إلى إخضاعها إلى مناهج فكرية عديدة تعاملت معها وفسّرتها ، وقد خضعت هذه المناهج بدورها لنزعات الرؤية الفردية ذات الاتجاهات المتباينة في التطرف والاعتدال ، والعلمية والغيبية .
ولم يقتصر الخلاف على تحديد ماهيتها ، بل شمل الرؤية الإبداعية التي تمّ توظيفها في الخطاب الشعري العربي المعاصر، فيصبح مفهوم الأسطورة عند بعض الشعراء المعاصرين قابلا لمزيد من الابتكار، إذ تنزاح في أحيان كثيرة عن موقعها الرمزي والدلالي لتأخذ دلالات جديدة أخرى يبتكرها الشاعر بعيداً عن دلالاتها المعرفية لدى الأقوام والشعوب.
ما إن نبدأ بقراءة ديوان لشاعر عربي معاصر من جيل الرواد أو من الجيل المعاصر الذي يليه، حتى يطالعنا من الصفحات الأولى سيلٌ من أساطير بابلية و إغريقية و فينيقية
و عربية و غيرها، تنتشر لتغطي فضاءات هذا الديوان أو ذاك، بحيث تبدو هذه الفضاءات مستغلقة نتيجة لتداخل الرموز و غموضها و إبهامها، و توظيفها توظيفاً غائيّاً بقصد المباهاة بمعرفتها، فيأتي هذا التوظيف - في كثير من الأحيان - كمّاً تراكميًاً يُفقد القصيدة قدرتها على الإيحاء العميق الدلالات، و على فهم الموقف الأسطوري فهماً جمالياً و رؤيوياً، و تغدو القصيدة من خلاله استعراضاً معرفياً، و تشكيلة صناعية زخرفية لمجموعة من الأنساق الميثولوجية التي تُفرض على فضاء القصيدة، دون أن تكون قادرة على إبراز الموقف التاريخي و الحضاري و الإنساني الذي يريد الشاعر التأكيد عليه إذ أن هذا الموقف هو الشرط الأساس الذي يجب استنفاره من جرّاء استخدام الأسطورة.
و يحاول بعض الشعراء المعاصرين محاكاة الرواد الأوائل و تقليدهم و استثمار ما وصلوا إليه، دون أن يتعمّقوا في فهم الإرث الثقافي الأسطوري بدلالاته و أبعاده الرمزيّة،
و علاقته بروح و فكر الشعوب التي أنتجته.
إنّ توظيف الأسطورة رؤية فنية ابداعية لايستطيع الشاعر الوصول إليها إلا بعد جهد
و دربة طويلين، فالتعب و الدربة شرطان أساسيان للوصول إلى الجودة و الإبداع، و الموهبة الحقيقية التي تؤكد على استنفار الشرط الإنساني الكامن في أعماق النفس البشرية، هذه الموهبة التي « تكمن في قدرة (الشاعر) على الغوص في الشرط الإنساني الكامن في أعماقه و أعماق من حوله و على استنفار هذا الشرط و على خلق الأداة الفنية و تطويعها لمعاناة الشاعر »(3)
ثمّة أسئلة تطرح نفسها حول استخدام الأسطورة في الشعر،و من هذه الأسئلة: هل استخدام الأساطير تعبير عن رؤية حضارية جديدة يريد الشاعر المعاصر التأكيد عليها ؟ أم هو تعبير عن هزيمة فاجعة تعاني منها الذات العربية، نتيجة استلابها الإنساني داخل مجتمعات يخيّم عليها كابوس السلطة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية، و بالتالي كان استخدامها رفضاً و تمرداً ضد حالات الاستلاب هذه ؟ أم أن هذا الاستخدام تعبير عن رؤية إيديولوجية و سياسية مهمتها إدانة نظام سياسي أو اجتماعي معين يرفضه الشاعر و يبشر بزواله ؟، أم أنّ هذا الاستخدام جزء من مثاقفة حضارية واسعة الامتداد و الشمول مع الشعر الغربي و الثقافات الأجنبية بمختلف تياراتها ؟.
إنّ نزعة شديدة عند الإنسان صوب الأساطير،
و حنيناً إلى الماضي. فالماضي مكوّن رئيس لكثير من بنياتنا الثقافية و الفكرية و الإنسانية،
ولكثيرمن الصور التي يعتمد عليها العقل الباطن عند كل إنسان « اللاشعور »، و كلما حاولنا التخلص من الماضي، فإنه سرعان ما يلاحقنا بكل بنياته و رؤاه، فهل القصيدة العربية المعاصرة نزعة « نوستالجية » تتضافر عدة قيم نفسيّة و روحيّة و جمالية في تأجيجها صوب الماضي ؟ أم أنّ الماضي جزء لا يتجزأ من حياتنا الفكرية و الحضارية و الإنسانية ؟.
إنّ توليد الأسطورة و النظر إليها برؤيا العصر، و تعديل صياغتها، و إحداث بديل عنها هو رؤية فنيّة و جمالية حاول كثير من الشعراء المعاصرين إدخالها إلى بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر، فمثلاً يصبح شهريار أي حاكم مستبد، و يمثّل السندباد توق الإنسان المعاصر للبحث و الكشف و المغامرة، و الخروج عمّا هو سائد و مألوف و رتيب في الحياة العربية المعاصرة.
و إذا كان الخطاب الشعري العربي المعاصر قد وظّف الأسطورة و احتفى بها احتفاء خاصاً، فإنّ الدراسات التي تناولت هذا الخطاب تبدو قليلة نسبياً إذا ما قورنت بغزارة الإنتاج الشعري و غزارة الأساطير التي وُظِفَت فيه. و يعتبر د. أسعد رزوق و د. أنس داود
و د. عزالدين اسماعيل، و د. احمد كمال زكي و د. رجاء عيد ود. عبد الرضا علي ود. ريتا عوض من أوائل الذين اهتموا بدراسة موضوع الأسطورة في القصيدة العربية المعاصرة. و قد حاولت ريتا عوض في كتابها ـ أسطورة الموت و الانبعاث في الشعر العربي الحديث ـ أن تقدّم منهجاً في النقد الأدبي يدرس الأسطورة من حيث هي عنصر بنائي، تقول: « لكني في هذا البحث لن أتناول دراسة الأسطورة بذاتها، بل سأدرسها من حيث هي عنصر بنائي في النقد الأدبي»(4)، و قد تعرضت في كتابها بالنقد للدراسات السابقة التي تناولت الأسطورة، و بخاصة دراستي: أسعد رزوق « الأسطورة في الشعر العربي المعاصر » و« مضمون الأسطورة في الفكر العربي المعاصر » للدكتور خليل أحمد خليل، و اعتبرت أنّ صاحبي الدراستين انطلقا انطلاقة غير موفقة، فالأول انطلق من قصيدة ت. س. اليوت: الأرض الخراب(5). و الثاني انطلق من وجهة نظر ماركسية و اكتفى بإصدار أحكام سريعة تتجنّى على الفكر الأسطوري(6).
أما الباحثة ـ عوض ـ فقد انطلقت من الماضي، و اعتبرت أنّ القصيدة العربية الحديثة هي وليدة اللقاح بين الماضي و الحاضر. تقول: « إن الأصيل من الشعر العربي الحديث يضرب جذوره في التراث (فيتغذى) من تربة الماضي و تتنفس غصونه هواء العصر الحديث، فتأتي ثماره وليدة لقاح بين الماضي و الحاضر.»(7).
ثمة أسئلة تطرح نفسها إزاء مفهوم الباحثة: هل أصالة الشعر العربي الحديث تعني الرجوع إلى الماضي و التشبث بجذوره ؟ و هل النضج وليد اللقاح بين الماضي
و الحاضر..؟. و هل إذا انفصل الشعر الحديث عن الماضي و تفارق معه يفقد أصالته
و حداثته ؟.
إذا كان الشعر العربي المعاصر في بداياته الأولى قد استفاد من الماضي، فإنّ مستقبل هذا الشعر ليس شرطاً أن يتحدد في تزاوجه بين الماضي و الحاضر، و شرط الأصالة
و الإبداع لا يكمن تحديداً في الماضي، بل قد يكون في الحاضر، فكما يوجد في الماضي نصوص إبداعية متميّزة فإنّ مثل هذه النصوص توجد أيضاً في الحاضر، مع العلم أنها تباينت مع الماضي و افترقت عنه.
إنّ قيمة الرموز الأسطورية القديمة حينما تُوظَفُ في القصيدة العربية المعاصرة
« كامنة في لحظة التجربة ذاتها، و ليست راجعة إلى صفة الديمومة التي لهذه الرموز و لا إلى قدمها.»(8). و بالتالي فإنّ القصيدة المعاصرة لا تكتسب أهميتها من الماضي لمجرد أنه ماض، بل من الحاضر و إمكاناته الثقافية و الحضارية المتعددة، هذه الإمكانات التي قد تكون متشكّلة من الماضي، و قد تكون متفارقة و متباينة عنه، و حقلها المعرفي هو الحاضر.
و هنا لا أدعو إلى قطيعة معرفيّة مع الماضي، باعتباره جزءاً لايتجزأ من بنية الحياة العربية المعاصرة على المستوى المعرفي و الرؤيوي، لكنّ الإصرار على حضور الماضي يعني بالتأكيد تحديداً لإمكانات الحاضر و ما تبدعه البشرية على مستوى الفكر و الفن عموماً.
إذا كانت الباحثة ـ ريتا عوض ـ بحديثها السابق حول مفهوم الأصيل من الشعر تريد تبرير استخدام الأسطورة بالرجوع إلى الماضي، فإنّ توظيف الأسطورة ليس عودة إلى الماضي بقدر ما هو تجربة شخصية رؤيوية عميقة تنطلق من معاناة الذات الفاعلة المبدعة لتصبّ في التجارب الإنسانية بعامة في نهاية المطاف، سواء أكانت هذه التجارب قد حدثت في الماضي أم في الحاضر.
و يبقى الإبداع وعياً فردياً و جمعياً يتشكّل بالمثاقفة الحضارية و الفكرية مع مشارب مختلفة، و لا يعني تحديداً أن تكون هذه المشارب هي الماضي، بالرغم من أهمية هذا الماضي
و دوره في تشكيل كثير من الأعمال الإبداعية الجديدة.
و إذا كان الماضي بعلاقاته و مساراته التاريخية الطويلة شكّل الأسطورة و عايشها في مقولاته الفكرية و سلوكه العام، فإنّ اللجوء إلى الأسطورة في الخطاب الشعري المعاصر لا يعني التغذي من تربة الماضي و التنفس من هوائه. إن الشعر الأصيل فناً و إبداعاً و رؤية للعالم هو القادر على تخطي حدود الماضي و مفارقة أطلاله، و التجربة الشعرية الحيّة الفعالة هي التي تقفز بالحاضر قفزة جريئة لتغيّر هذا الحاضر، و تسهم في صنع المستقبل.
و إذا كان بعض الباحثين و النقّاد قد تطرّقوا إلى دراسة الفكر الأسطوري و علاقته بالخطاب الشعري العربي المعاصر، فإنّ الموضوع يشكّل نواةً يمكن أن تتشعب و تنمو في أكثر من اتجاه، و لذا فإنّ البحث في هذا الموضوع لا ينضب و لا يمكن أن ينضب، و هو بحاجة إلى مزيد من الدرس.
إنّ موضوع الأساطير و علاقتها بالآداب بعامة، و الشعر بخاصة، ثرٌّ بدلالاته و أبعاده الفكرية و الجمالية، و يمكن إعداد عشرات الدراسات و البحوث المتباينة في هذا الموضوع،
و التي تكشف بفضل تباينها، و تباين رؤى أصحابها المتشعبة مزيداً من خفايا هذه الأساطير
و علاقتها بالخطاب الشعري العربي المعاصر، و تعمل على إلقاء مزيد من الضوء حول أهداف توظيف هذه الأساطير و طبيعة الموضوعات السياسية و الاجتماعية و التاريخية
و الحضارية التي يتمُ طرحها من خلال استنفار طاقة الرمز الأسطوري إيحائياً و دلالياً.
هوامش و مراجع
(1) ـ د. عبد المعطي شعراوي، أساطير اغريقية " أساطير البشر "، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة
للكتاب،القاهرة، الطبعة الأولى، 1982 م، ص 171-172-173. وكذلك: شارل فيروللو، أساطير بابل
و كنعان، تعريب ماجد خير بك، مطبعة الكاتب العربي، دمشق، 1990 م، ص 105، 108.
(2) ـ د. محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، الطبعة الثالثة، دون
تاريخ،ص 215 - 216.
(3) ـ جلال فاروق الشريف، الشعر العربي الحديث، الأصول الطبقية و التاريخية، دمشق، منشورات اتحاد
الكتاب العرب، الطبعة الأولى، 1976 م، ص 9.
(4) ـ ريتا عوض، أسطورة الموت والإنبعاث في الشعر العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت، الطبعة الأولى، ابريل، 1978 م، ص 8.
(5) ـ نفسه، ص 5.
(6) ـ م س، ص 7.
(7) ـ م س ، ص 13.
(8) ـ د. عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، بيروت، دار العودة،
الطبعة الخامسة، 1988 م، ص 200.
و كذلك أسطورة « شهرزاد و شهريار »، فإنّ لها بعداً اجتماعياً و سياسياً و فكرياً في التاريخ، هذا التاريخ الذي يمتدّ إلى الحضارات الهندية و الفارسية و العربية التي شكّلت ألف ليلة و ليلة(2)، فالأسطورة هي نتاج معرفي جماعي يجسّد وضعاً معرفياً أنثروبولوجياً، بوساطته يمكننا دراسة المكوّنات الثقافية و الفكريّة لدى أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب،
و هي بنية مركبة من تاريخ و فكر و فن و حضارة، و بالتالي فإنّ لها قدرة على الامتداد ماضياً و حاضراً و مستقبلاً، و يمكن اعتبارها مرجعاً ثقافياً متميّزاً تنهل منه الكثير من الدراسات الاجتماعية و الفكرية و التاريخية و الفولكلورية، إنها مكوّن أساسي من مكوّنات الفكر الإنساني، و قد رافقت الإنسان في كفاحه المتواصل مع الطبيعة و تبدلاتها و قسوة الحياة و شظفها، و هي المعادل لخيبات هذا الإنسان، و البؤرة التي يرى منها النور و الفرح
و إشراقات المستقبل. إنها تجسّد حلمَ الإنسان في مستقبل أكثر نقاء، و في علاقات أكثر تكافؤاً و عدالة.
و لم يقتصر تأثير الفكر الأسطوري على الدراسات الأنثروبولوجية و الاجتماعية فحسب، بل تعدّاها إلى أنواع الفنون كافة: الرسم و الموسيقى و النحت و الشعر و الرقص، بالإضافة إلى معظم الأجناس الأدبية التي استفادت منه ـ أي الفكر الأسطوري ـ فالأسطورة في القصة و الرواية و المسرح، و قد أثّرت حديثاً في الأعمال الدرامية التلفزيونية و صناعة السينما، و هي في بنيتها العميقة رؤية شعرية مركّبة تجمع بين التاريخ و الفكر و الفن، و يمكن أن تكون نواةً للأعمال القصصية و الروائية إذا ما طُبقت عليها مفاهيم السرد و القص الحديثة.
و من الملاحظ أن مدى تأثيرها كان شديداً في بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر،
و يكاد يكون معظم الشعراء العرب المعاصرين قد استفادوا منها، و وظّفوها في أعمالهم الإبداعية، إذ قلما نجد شاعراً عربياً معاصراً ـ و بخاصة جيل الرواد ـ إلا و استفاد من الأسطورة رمزياً و إشارياً، و استطاع أن يشكّل منها حالات شعرية رؤيوية، تفاوتت بين الاستخدام الإبداعي، و الاستخدام الوظيفي النصّيّ حسب درجات ثقافتهم و مواهبهم، و كيفية تعاملهم مع الرمز الأسطوري.
ونظراً للامتداد والشمولية التي تأخذها الأسطورة في الآداب العالمية فإنّ تباينا شديداً فرض نفسه في تحديدها كمصطلج ابستيمولوجي من جهة، وعلاقة هذا المصطلح بمصطلحاات أخرى تتناص معه، في مفهومها من جهة أخرى .
وقلما يتفق باحثان حول مفهوم محدد للأسطورة ، فمنهم من يراها خرافة،و منهم من يراها حقيقة ،ومنهم من لايفرق بينها وبين التاريخ، وبينها وبين الخرافة، ومنهم من يراها محض أكاذيب، ومنهم من يرى أنّ لها امتداداً في حقل الواقع. وآخر يرى أنّ الشخصية التاريخية التي كان لها دورهاالإنساني في صنع التاريخ والدفاع عن بني البشر تصبح مع الصيرورة التاريخية رؤية أسطورية وحالة جمالية تفوق حدّ التخييل.
إنّ الاختلاف في تحديد ماهية الأسطورة وبواعها ومكوّناتها أدّى إلى إخضاعها إلى مناهج فكرية عديدة تعاملت معها وفسّرتها ، وقد خضعت هذه المناهج بدورها لنزعات الرؤية الفردية ذات الاتجاهات المتباينة في التطرف والاعتدال ، والعلمية والغيبية .
ولم يقتصر الخلاف على تحديد ماهيتها ، بل شمل الرؤية الإبداعية التي تمّ توظيفها في الخطاب الشعري العربي المعاصر، فيصبح مفهوم الأسطورة عند بعض الشعراء المعاصرين قابلا لمزيد من الابتكار، إذ تنزاح في أحيان كثيرة عن موقعها الرمزي والدلالي لتأخذ دلالات جديدة أخرى يبتكرها الشاعر بعيداً عن دلالاتها المعرفية لدى الأقوام والشعوب.
ما إن نبدأ بقراءة ديوان لشاعر عربي معاصر من جيل الرواد أو من الجيل المعاصر الذي يليه، حتى يطالعنا من الصفحات الأولى سيلٌ من أساطير بابلية و إغريقية و فينيقية
و عربية و غيرها، تنتشر لتغطي فضاءات هذا الديوان أو ذاك، بحيث تبدو هذه الفضاءات مستغلقة نتيجة لتداخل الرموز و غموضها و إبهامها، و توظيفها توظيفاً غائيّاً بقصد المباهاة بمعرفتها، فيأتي هذا التوظيف - في كثير من الأحيان - كمّاً تراكميًاً يُفقد القصيدة قدرتها على الإيحاء العميق الدلالات، و على فهم الموقف الأسطوري فهماً جمالياً و رؤيوياً، و تغدو القصيدة من خلاله استعراضاً معرفياً، و تشكيلة صناعية زخرفية لمجموعة من الأنساق الميثولوجية التي تُفرض على فضاء القصيدة، دون أن تكون قادرة على إبراز الموقف التاريخي و الحضاري و الإنساني الذي يريد الشاعر التأكيد عليه إذ أن هذا الموقف هو الشرط الأساس الذي يجب استنفاره من جرّاء استخدام الأسطورة.
و يحاول بعض الشعراء المعاصرين محاكاة الرواد الأوائل و تقليدهم و استثمار ما وصلوا إليه، دون أن يتعمّقوا في فهم الإرث الثقافي الأسطوري بدلالاته و أبعاده الرمزيّة،
و علاقته بروح و فكر الشعوب التي أنتجته.
إنّ توظيف الأسطورة رؤية فنية ابداعية لايستطيع الشاعر الوصول إليها إلا بعد جهد
و دربة طويلين، فالتعب و الدربة شرطان أساسيان للوصول إلى الجودة و الإبداع، و الموهبة الحقيقية التي تؤكد على استنفار الشرط الإنساني الكامن في أعماق النفس البشرية، هذه الموهبة التي « تكمن في قدرة (الشاعر) على الغوص في الشرط الإنساني الكامن في أعماقه و أعماق من حوله و على استنفار هذا الشرط و على خلق الأداة الفنية و تطويعها لمعاناة الشاعر »(3)
ثمّة أسئلة تطرح نفسها حول استخدام الأسطورة في الشعر،و من هذه الأسئلة: هل استخدام الأساطير تعبير عن رؤية حضارية جديدة يريد الشاعر المعاصر التأكيد عليها ؟ أم هو تعبير عن هزيمة فاجعة تعاني منها الذات العربية، نتيجة استلابها الإنساني داخل مجتمعات يخيّم عليها كابوس السلطة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية، و بالتالي كان استخدامها رفضاً و تمرداً ضد حالات الاستلاب هذه ؟ أم أن هذا الاستخدام تعبير عن رؤية إيديولوجية و سياسية مهمتها إدانة نظام سياسي أو اجتماعي معين يرفضه الشاعر و يبشر بزواله ؟، أم أنّ هذا الاستخدام جزء من مثاقفة حضارية واسعة الامتداد و الشمول مع الشعر الغربي و الثقافات الأجنبية بمختلف تياراتها ؟.
إنّ نزعة شديدة عند الإنسان صوب الأساطير،
و حنيناً إلى الماضي. فالماضي مكوّن رئيس لكثير من بنياتنا الثقافية و الفكرية و الإنسانية،
ولكثيرمن الصور التي يعتمد عليها العقل الباطن عند كل إنسان « اللاشعور »، و كلما حاولنا التخلص من الماضي، فإنه سرعان ما يلاحقنا بكل بنياته و رؤاه، فهل القصيدة العربية المعاصرة نزعة « نوستالجية » تتضافر عدة قيم نفسيّة و روحيّة و جمالية في تأجيجها صوب الماضي ؟ أم أنّ الماضي جزء لا يتجزأ من حياتنا الفكرية و الحضارية و الإنسانية ؟.
إنّ توليد الأسطورة و النظر إليها برؤيا العصر، و تعديل صياغتها، و إحداث بديل عنها هو رؤية فنيّة و جمالية حاول كثير من الشعراء المعاصرين إدخالها إلى بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر، فمثلاً يصبح شهريار أي حاكم مستبد، و يمثّل السندباد توق الإنسان المعاصر للبحث و الكشف و المغامرة، و الخروج عمّا هو سائد و مألوف و رتيب في الحياة العربية المعاصرة.
و إذا كان الخطاب الشعري العربي المعاصر قد وظّف الأسطورة و احتفى بها احتفاء خاصاً، فإنّ الدراسات التي تناولت هذا الخطاب تبدو قليلة نسبياً إذا ما قورنت بغزارة الإنتاج الشعري و غزارة الأساطير التي وُظِفَت فيه. و يعتبر د. أسعد رزوق و د. أنس داود
و د. عزالدين اسماعيل، و د. احمد كمال زكي و د. رجاء عيد ود. عبد الرضا علي ود. ريتا عوض من أوائل الذين اهتموا بدراسة موضوع الأسطورة في القصيدة العربية المعاصرة. و قد حاولت ريتا عوض في كتابها ـ أسطورة الموت و الانبعاث في الشعر العربي الحديث ـ أن تقدّم منهجاً في النقد الأدبي يدرس الأسطورة من حيث هي عنصر بنائي، تقول: « لكني في هذا البحث لن أتناول دراسة الأسطورة بذاتها، بل سأدرسها من حيث هي عنصر بنائي في النقد الأدبي»(4)، و قد تعرضت في كتابها بالنقد للدراسات السابقة التي تناولت الأسطورة، و بخاصة دراستي: أسعد رزوق « الأسطورة في الشعر العربي المعاصر » و« مضمون الأسطورة في الفكر العربي المعاصر » للدكتور خليل أحمد خليل، و اعتبرت أنّ صاحبي الدراستين انطلقا انطلاقة غير موفقة، فالأول انطلق من قصيدة ت. س. اليوت: الأرض الخراب(5). و الثاني انطلق من وجهة نظر ماركسية و اكتفى بإصدار أحكام سريعة تتجنّى على الفكر الأسطوري(6).
أما الباحثة ـ عوض ـ فقد انطلقت من الماضي، و اعتبرت أنّ القصيدة العربية الحديثة هي وليدة اللقاح بين الماضي و الحاضر. تقول: « إن الأصيل من الشعر العربي الحديث يضرب جذوره في التراث (فيتغذى) من تربة الماضي و تتنفس غصونه هواء العصر الحديث، فتأتي ثماره وليدة لقاح بين الماضي و الحاضر.»(7).
ثمة أسئلة تطرح نفسها إزاء مفهوم الباحثة: هل أصالة الشعر العربي الحديث تعني الرجوع إلى الماضي و التشبث بجذوره ؟ و هل النضج وليد اللقاح بين الماضي
و الحاضر..؟. و هل إذا انفصل الشعر الحديث عن الماضي و تفارق معه يفقد أصالته
و حداثته ؟.
إذا كان الشعر العربي المعاصر في بداياته الأولى قد استفاد من الماضي، فإنّ مستقبل هذا الشعر ليس شرطاً أن يتحدد في تزاوجه بين الماضي و الحاضر، و شرط الأصالة
و الإبداع لا يكمن تحديداً في الماضي، بل قد يكون في الحاضر، فكما يوجد في الماضي نصوص إبداعية متميّزة فإنّ مثل هذه النصوص توجد أيضاً في الحاضر، مع العلم أنها تباينت مع الماضي و افترقت عنه.
إنّ قيمة الرموز الأسطورية القديمة حينما تُوظَفُ في القصيدة العربية المعاصرة
« كامنة في لحظة التجربة ذاتها، و ليست راجعة إلى صفة الديمومة التي لهذه الرموز و لا إلى قدمها.»(8). و بالتالي فإنّ القصيدة المعاصرة لا تكتسب أهميتها من الماضي لمجرد أنه ماض، بل من الحاضر و إمكاناته الثقافية و الحضارية المتعددة، هذه الإمكانات التي قد تكون متشكّلة من الماضي، و قد تكون متفارقة و متباينة عنه، و حقلها المعرفي هو الحاضر.
و هنا لا أدعو إلى قطيعة معرفيّة مع الماضي، باعتباره جزءاً لايتجزأ من بنية الحياة العربية المعاصرة على المستوى المعرفي و الرؤيوي، لكنّ الإصرار على حضور الماضي يعني بالتأكيد تحديداً لإمكانات الحاضر و ما تبدعه البشرية على مستوى الفكر و الفن عموماً.
إذا كانت الباحثة ـ ريتا عوض ـ بحديثها السابق حول مفهوم الأصيل من الشعر تريد تبرير استخدام الأسطورة بالرجوع إلى الماضي، فإنّ توظيف الأسطورة ليس عودة إلى الماضي بقدر ما هو تجربة شخصية رؤيوية عميقة تنطلق من معاناة الذات الفاعلة المبدعة لتصبّ في التجارب الإنسانية بعامة في نهاية المطاف، سواء أكانت هذه التجارب قد حدثت في الماضي أم في الحاضر.
و يبقى الإبداع وعياً فردياً و جمعياً يتشكّل بالمثاقفة الحضارية و الفكرية مع مشارب مختلفة، و لا يعني تحديداً أن تكون هذه المشارب هي الماضي، بالرغم من أهمية هذا الماضي
و دوره في تشكيل كثير من الأعمال الإبداعية الجديدة.
و إذا كان الماضي بعلاقاته و مساراته التاريخية الطويلة شكّل الأسطورة و عايشها في مقولاته الفكرية و سلوكه العام، فإنّ اللجوء إلى الأسطورة في الخطاب الشعري المعاصر لا يعني التغذي من تربة الماضي و التنفس من هوائه. إن الشعر الأصيل فناً و إبداعاً و رؤية للعالم هو القادر على تخطي حدود الماضي و مفارقة أطلاله، و التجربة الشعرية الحيّة الفعالة هي التي تقفز بالحاضر قفزة جريئة لتغيّر هذا الحاضر، و تسهم في صنع المستقبل.
و إذا كان بعض الباحثين و النقّاد قد تطرّقوا إلى دراسة الفكر الأسطوري و علاقته بالخطاب الشعري العربي المعاصر، فإنّ الموضوع يشكّل نواةً يمكن أن تتشعب و تنمو في أكثر من اتجاه، و لذا فإنّ البحث في هذا الموضوع لا ينضب و لا يمكن أن ينضب، و هو بحاجة إلى مزيد من الدرس.
إنّ موضوع الأساطير و علاقتها بالآداب بعامة، و الشعر بخاصة، ثرٌّ بدلالاته و أبعاده الفكرية و الجمالية، و يمكن إعداد عشرات الدراسات و البحوث المتباينة في هذا الموضوع،
و التي تكشف بفضل تباينها، و تباين رؤى أصحابها المتشعبة مزيداً من خفايا هذه الأساطير
و علاقتها بالخطاب الشعري العربي المعاصر، و تعمل على إلقاء مزيد من الضوء حول أهداف توظيف هذه الأساطير و طبيعة الموضوعات السياسية و الاجتماعية و التاريخية
و الحضارية التي يتمُ طرحها من خلال استنفار طاقة الرمز الأسطوري إيحائياً و دلالياً.
هوامش و مراجع
(1) ـ د. عبد المعطي شعراوي، أساطير اغريقية " أساطير البشر "، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة
للكتاب،القاهرة، الطبعة الأولى، 1982 م، ص 171-172-173. وكذلك: شارل فيروللو، أساطير بابل
و كنعان، تعريب ماجد خير بك، مطبعة الكاتب العربي، دمشق، 1990 م، ص 105، 108.
(2) ـ د. محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، الطبعة الثالثة، دون
تاريخ،ص 215 - 216.
(3) ـ جلال فاروق الشريف، الشعر العربي الحديث، الأصول الطبقية و التاريخية، دمشق، منشورات اتحاد
الكتاب العرب، الطبعة الأولى، 1976 م، ص 9.
(4) ـ ريتا عوض، أسطورة الموت والإنبعاث في الشعر العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت، الطبعة الأولى، ابريل، 1978 م، ص 8.
(5) ـ نفسه، ص 5.
(6) ـ م س، ص 7.
(7) ـ م س ، ص 13.
(8) ـ د. عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، بيروت، دار العودة،
الطبعة الخامسة، 1988 م، ص 200.