يقول عبد الرحمن منيف علي لسان أحد أبطال روايته "الأشجار واغتيال مرزوق": "التاريخ! ما هو التاريخ؟ أكذوبة كبيرة..القسوة، الفظاظة،الكذب، كلّ شيء منذ أيام نوح حتي هذه اللحظة مبني علي الأكاذيب". يبدو أن تعامل المبدع مع التاريخ سيظل محل جدل كبير طالما أن هناك من لايزال يتعامل مع الأعمال الفنية باعتبارها حوامل للتاريخ، والحقيقة ليست كذلك علي الإطلاق فالتاريخ يقدم الماضي في صورة أكاديمية تناسب المتخصصين، ولكن الفن يستطيع أن يقدم التاريخ في صورة حيوية تجتذب كل شرائح المجتمع، فالمؤرخ، أو الباحث في الدراسات التاريخية، ليس ملزمًا بأن يحكي وإنما دوره أن يفسّر، أما صاحب العمل الفني، فهو أسير فنه، لأنه يحكي وليس عليه أن يفسّر ما يحكيه، كما يستطيع أن يختلق بعض الأحداث الفرعية - التي لا تؤثر في السياق التاريخي الذي اختاره موضوعًا لعمله - لخدمة الأغراض الفنية للعمل، لكن إلي أي حد؟ هذا ما نحاول أن نجيب عنه هنا.
يقول الدكتور محمد عفيفي، رئيس المجلس الأعلي للثقافة:"هناك وجهات نظر في قراءة التاريخ، فالأحداث العريضة والكبيرة لا جدال عليها، ولكن تفسير حوادث التاريخ وقراءتها يختلف من كاتب لآخر، ولكن بشرط عدم تحريف التاريخ وتشويهه، فثورة 1952 مثلا، البعض يقول إنها انقلاب والبعض يري أنها ثورة وآخرون يقولون إنها انقلاب أيده الشعب فأصبح ثورة، ولكن لن ينكر أحد أن هناك عبد الحكيم عامر أو جمال عبد الناصر، وتلك مشكلة الدراما، أن هناك بعض المسلسلات أنكرت بعض الشخصيات وأضافوا أخري وأماتوا آخرين وهم أحياء، حولوا التاريخ إلي مؤامرات وانحازوا لطرف معين، فالمسألة أخذت شكلا عبثيا".
ويستطرد "يجوز للكاتب الدرامي أن يجتهد في التاريخ، ولكن هذا لا يعني الاعتداء علي حوادثه، ويمكن ملء فراغات فيه؛ كشخص لا تتوافر عنه معلومات كافية، فمن خلال فهم الكاتب للتاريخ في ذلك الوقت يحاول نسج رؤية درامية لسد هذا الفراغ، ولكن ما أخشاه حقا أن يأتي وقت يقال إنه لم يكن هناك ثورة 1919 مثلا، مثلما حوّل حسن الإمام ثلاثية نجيب محفوظ إلي تاريخ عوالم بدلا من عمل يختص بالأجيال والعائلات في تاريخ مصر، فهامش حرية الإبداع للجميع واجتهاد المبدع في أحيان كثيرة يكون جيداً، بينما الاعتداء علي التاريخ غير مطلوب، خاصة في مجتمع لا يقرأ كثيرا، ففي الخارج لأنهم يقرأون يدركون أن التاريخ به وجهات نظر واختلافات ولكن في إطار واحد، وأنه ليست هناك كتب موضوعية مائة في المائة، ولكن الأزمة الحقيقية في مصر تكمن في غياب فكرة الرأي والرأي الآخر في تعليمنا".
أخيراً يري عفيفي أن المؤرخ لابد أن يكون أقرب إلي الموضوعية، يعرض وجهات النظر المختلفة سواء للشخصية أو للحدث، وأن يقلل من انحيازاته علي قدر الإمكان، والآن أصبح هناك مناهج ومدارس كثيرة للبحث في التاريخ وتفسيره، فهذا علم لابد للباحث أن يطلع عليه حتي يستطيع كتابة التاريخ، فالمؤرخ لا يجمع معلومات ويرصدها ليكتبها علي هواه، ذلك ليس مؤرخا، المؤرخ الحقيقي ليست مهمته أن يتهم أو يبرئ أحدا، هو فقط يعرض حدثاً من التاريخ ويحاول أن يفسره، يعرض الجوانب السلبية والإيجابية لأي شخصية أو عصر بصورة أقرب إلي الاتزان، أما من ينحاز ويكتب لكي يمجد شخصاً أو حقبة فلا يعد مؤرخا.
عند الروائي والناقد يوسف القعيد رؤية أخري يقول: "كل ما هو حقائق تاريخية لا يمكن للعقل الإنساني أن يعبث بها، ولكن يمكن أن يضيف لها من الخيال ليكون العمل الفني جميل ومقبول، بإضافة شخصيات وإدماجها في العمل، ولكن هناك حوادث في تاريخنا الحديث لا نعلم كيف تمت، كحصار الدبابات الإنجليزية للملك فاروق مثلا يوم 2 أبريل عام 1942، وحريق القاهرة والذي لم نعرف من وراءه حتي الآن، فتفسير تلك الأحداث يعود إلي الكاتب والمبدع، ولنضرب مثلا، رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ والتي تعد من التاريخ، معروف أن رجال الدين كانوا يحاربونها ومثبت وقائع بذلك، فهذه حقيقة تاريخية، في حين إن أحد الكتاب ذكر مؤخرا أن السياسيين أيضا كانوا وراء ذلك وهم من وجهوا رجال الدين لفعل ذلك، في هذه الحالة يعتبر ذلك تفسيرا".
القعيد يري أن المؤرخ لابد أن يكون متخصصاً في المرحلة التي يكتب عنها ويمتلك الأدوات المناسبة لكتابة التاريخ، إلي جانب قدر كبير من الحيادية وعلم كامل بموضوعه، "فمن يكتب مذكرات عن سعد زغلول أو مصطفي النحاس لا يعتبر تاريخاً لأنها رؤية شخصية للأحداث ولكنها تقدم مادة خاماً يمكن استخدامها في دراسة التاريخ ويعتمد عليها المؤرخ".
من جانبه وضع الناقد الدكتور مدحت الجيار بعض الحدود "وجهات النظر تكون في تفسير الأحداث، لأن كل مفسر له خلفيات ثقافية وسياسية مختلفة وبالتالي يكون التفسير مختلفا، أما الحقائق التاريخية فلابد أن تكون سليمة كما حدثت بالفعل، فعلي سبيل المثال لا يمكن أن يكون الملك فؤاد قد مات وهو طفل كما جاء في "سرايا عابدين"، في حين إنه جاء ليحكم مصر فترة طويلة جدا بعد وفاة عباس حلمي الثاني، هنا خطأ تاريخي وليس اجتهاداً من أجل الوصول إلي رأي، فلابد من وجود مراجع تاريخي لكل مسلسل أو كتاب يتعرض لفترة تاريخية محددة سواء في مصر أو في العالم حتي نحمله المسئولية إذا أخطأ في نسبة حادثة لعام أو لتاريخ غير صحيح".
ويستطرد الجيار "ليس من حق الكاتب أن يتدخل في التاريخ أو يجتهد فيه، ولكن من حقه أن يفسر ما حدث تفسيرا خاصا، ولنضرب مثلا، مسلسل صديق العمر، فهو يحتاج إلي ضبط تاريخي لحوادث كثيرة جدا، وفيه تداخلت مسألة وجهات النظر والتفسيرات الخاصة مع الحقائق التاريخية الموجودة، كما يجوز للكاتب تناول الحياة الاجتماعية للشخصية التاريخية التي يعرضها ولكن عليه أن يتوقف عند الأسرار التي تمس الأمن القومي أو العربي، لا يأتي مثلا علي لسان عامر أو عبد الناصر أو غيرهما في العمل أسرار لا تزال في طي الكتمان في العلاقة المصرية السورية أو المصرية اليمنية أو المصرية الليبية حتي الآن".
ويؤكد الجيار أن المؤرخ لابد أن يكون خريجا من أقسام معترف بها في تدريس التاريخ، ولابد أن يكون علي صلة بالتواريخ القومية والعالمية حتي لا يتعرض إلي مآزق أو أخطاء تاريخية بسيطة، وأن يكون علي اطلاع واسع بالأحوال العربية والدولية حتي يستطيع التعرف علي أسباب الظاهرة وكيف بدأت وما هي الدول المشاركة...إلخ.
الكاتب والمؤرخ كمال زاخر يري أن هناك فرقاً بين التأريخ وشهادة للتاريخ، يقول: "في رأيي أن كتابة التاريخ تبدأ بأن يدلي المعاصرون بوجهة نظرهم في الأحداث والتي يكون بها إلي حد كبير رأي شخصي، وفي فترات لاحقة يأتي أشخاص آخرون يبدأون في قراءة تلك الشهادات وعمل عملية مقارنة بينها للوصول في النهاية إلي تصور عن الواقعة التي حدثت، وفي النهاية من يكتب التاريخ هم أفراد وبشر، وبالتالي فهم مرتبطون بموقعهم من الحدث ورؤيتهم، لذلك تعدد المصادر مهم جدا لقراءة الأحداث التاريخية".
ويستكمل "أما عندما يتحول الأمر إلي عمل درامي أو فني تتدخل عدة عوامل أخري، أولها مدي ارتباط هذه الأداة بالحاكم، ففي مرحلة من المراحل عند عمل مسرحية سيدتي الجميلة مثلا، كان هناك انحياز ضد الخديو، فأظهره الكاتب بصورة تتماشي مع هواه، وبالتالي يأتي التناول الفني مرتبطا بتوجه اللحظة، وهذا يحدث أكثر في الدول التي لم تنضج بعد في دائرة الحرية والكتابة المنزهة عن الهوي إلي حد كبير، وللأسف نحن مازلنا نحبو في فكرة الكتابة التاريخية في الإطار الفني، ولكن أتصور أن الأيام كفيلة بضبط هذا المسار، خاصة أن الأجيال الجديدة بطبعها متمردة، إلي جانب وجود التطور التكنولوجي وتنوع المعرفة".
ويوضح زاخر "هناك فرق بين الرؤية والكتابة الوثائقية، فمن حق الكاتب الروائي أن يتدخل ويضيف بعض الرؤي الخاصة به ولكن بما لا يشوه الحقيقة المستقرة، عدم إدخال الهوي الشخصي لإظهار شخص علي غير حقيقته، وهذا يحدث علي مر التاريخ وليس بجديد، ولكن الأعمال تكشف بعضها في النهاية، فهو لا يكتب في غرفة مغلقة وإنما يعرضه علي الناس فيما بعد، وهنا يظهر دور الناقد سواء التاريخي أو السياسي أو الفني وغيره، الواعي والمثقف والموضوعي، عندما ينحرف الكاتب لأسباب في ضميره أو شخصه أو لنوع من القرابة أو المعرفة تستوعبها أو تفهمها، فهي تتطلب منطقاً ثقافياً معين يسمح بأن ننتقد أنفسنا، فنحن نتبع المثل القائل "أدعي علي ابني وأكره من قال آمين"، في النهاية نحن نحتاج ثورة ثقافية وتنويرية".
وبرؤية فنية تقول الناقدة خيرية البشلاوي "علي الأقل هناك وقائع مؤكدة، تختلف حولها وجهات النظر ولكن تظل الأحداث والشخصيات حقيقة لا يمكن إنكارها، فالعبث في التاريخ كما حدث في صديق العمر وسرايا عابدين للوصول إلي وجهات نظر محددة لا يجوز، وحين يتحدث المتخصصون في هذا المجال تحديدا ينبغي أن نحترم كلامهم وننصت، خاصة أنها مرحلة حديثة جدا ولها معاصرون وشهود، فالتاريخ له قداسته لا يمكن تحريفه وتوظيفه لأغراض معينة، وينبغي علي كتاب الدراما عند التطرق للتاريخ أن يسألوا أصحابه، خاصة أن الدراما هي صاحبة التأثير الأكبر علي العقول في ظل كون مادة التاريخ غير محبوبة لدي الكثيرين".
وتستطرد البشلاوي "فيلم ناصر 56 مثلا لم يعترض عليه الناس لأنه فيلم جيد، وتعرض لمرحلة محددة في تاريخ التطور الاجتماعي المصري الحديث لشخصية الزعيم جمال عبد الناصر، وكذلك مسلسل أم كلثوم، فلم يحرفوا شيئا علي حساب شيء، فالإبداع موجود دائما ولكن بشرط ألا يطغي علي الحقيقة".
وعن حدود أخري يتحدث المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقي "التاريخ يبدأ حين تنتهي السياسة، عندما تموت الشخصية السياسية يبدأ بحثها تاريخيا، فلا يمكن كتابة حدث أثناء وقوعه، فالآن لا نستطيع كتابة تاريخ مصر بعد عام 2011، لأن عندها أغلق الملف بتنحي مبارك، فقد طويت صفحة وأصبحت قابلة للدراسة بشرط توافر الوثائق، أما ما بعد ذلك التاريخ مازال ملفه مفتوحا وشخصياته قائمة وفاعلة ولا تستطيع أن تتنبأ بمستقبل الحدث، وإنما يمكن كتابة شهادات تحمل حقائق ووقائع فقط؛ لاستخدامها فيما بعد، والتاريخ مثله كأي صنعة، يجب تعلمها من متخصصين، والمؤرخ لابد أن يمر بمنهج البحث في التاريخ، إما أن يكون خريجا من قسم التاريخ أو يدرس كيفية كتابة التاريخ، فكل علم له منهج، ليكون حريصا في التعامل مع ما يقرأه ويستطيع مطابقة الأحداث مع بعضها".
ويستطرد الدسوقي "هناك خصومة دائما بين الدراما والتاريخ، كل كتاب الدراما لا يعرفون شيئا عن التاريخ ولم يدرسوه، وإذا كانوا يزعمون أنهم قرأوا التاريخ أو درسوه، ففي غير مصادره، هدفهم في النهاية هو عمل إسقاط سياسي علي حقبة تاريخية معينة هم يكرهونها ويريدون تشويهها فيلجأوون إلي التاريخ، ويلعبون فيه بقدرة فائقة ومهارة عالية في فن الحوار واختراع شخصيات لم تكن موجودة وإهمال وقائع لصالح التزييف الذين يقومون به، التاريخ يكتب من حقائق ثابتة وهذا هو معني الكتابة الموضوعية، هناك فرق بين الواقعة والحقيقة وبين الرأي، الرأي الحر، ولكن الذي لا يستند علي حقيقة مؤكدة نوع من التزييف ولا يدخل في باب الحرية، فمن يصنع الدراما أو يكتب التاريخ ليست لديه حرية مع الوقائع، ففي مسلسل مثل "سرايا عابدين"، من قال إن الخديو إسماعيل ولد في السرايا، فمنذ بداية حكمهم وهم يحكمون من القلعة، وبدأ إسماعيل كذلك من القلعة، وانتقل إلي عابدين عام 1873، بينما العمل أحداثه في 1863، هذه ليست حرية رأي".
ويكمل "جمال الغيطاني مثلا عندما كتب الزيني بركات، كانت أحداثه تدور في العصر المملوكي ولكن غايته الرئيسية أو كانت انتقاد وزير الداخلية في وقته ولا يستطيع، فلجأ إلي التاريخ ليفلت من العقاب، وهذا انتحال، مثلها أيضا روايات نجيب محفوظ وغيره، التي كانت تحمل إسقاطات سياسية مختلفة".
وعن المصادر الصحيحة يقول الدسوقي "لدينا دار الوثائق القومية، الأرشيف الحكومي الموجود في أي وزارة، إلي جانب المصادر أو الكتابات التي كتبها أصحابها كشهود عيان؛ مثل عبد الرحمن الجبرتي، فهو كان يوثق حقائق دون تحليل أو تعليق، تلك الحقائق عندما يتم جمعها يبدأ من يكتب في توحيدها وإعادة الحياة إلي الصورة العامة للحدث، وإتاحة الوثائق هي بالفعل مشكلة تواجهها مصر منذ زمن، لكن لا توجد قاعدة لذلك، فهي مسألة تخضع لما تراه كل دولة وحسب كل وثيقة، ولكن كونها مغلقة وغير متاح الاطلاع عليها، ذلك يسمح لكاتب الدراما أن يجمح بخياله ويكتب ما يشاء لإرضاء المنتج أو سلطات معينة". وعن التوازن يقول الناقد الدكتور عبد الناصر حسن "المصدر الأساسي لكتابة التاريخ هي الوثائق، سواء الأرشيف البريطاني أو المصري أو غيره، المدون بها جميع الحقائق والمعاملات، فهي الفيصل في هذا الأمر، ولكن سير العمل في دار الوثائق يكون دائما محفوفاً بالمخاطر، وهناك مخاوف دائما عند إخراج وثيقة من أن يستفيد منها أعداء البلد، لذا لا يصح الاطلاع عليها بدون تصريح من الأمن القومي".
ويستطرد "ولكن هذا لا ينفي أن هناك أمثلة كثيرة لكتاب وأدباء أضافوا للحياة الأدبية وأثروها ولم يكونوا دارسين للتاريخ، فالمؤرخ يجب أن يكون مثقفا ثقافة مركبة، وأن يقرأ الحقبة التاريخية التي يعمل بها وسيقدم من خلالها إنتاجه جيدا، وأن يعرف كل المعلومات الموجودة في ذلك الوقت علي المستوي التاريخي والعلمي والجغرافي والحضاري بشكل عام، وعلي المستوي المعرفي، وأن يكون لديه مصداقية، ليثق الجمهور فيما يكتبه".
وعن الدراما يقول "هناك فرق بين كتابة التاريخ وكتابة الدراما التاريخية، التاريخ يعبر عن حقائق حدثت بالفعل ولها تواريخها المحددة التي ليس بها شك، أما عند استخدامه في الدراما فيكون استلهاماً للحظات بعينها لها حالة فنية يستطيع أن يوظفها المخرج في إطار رؤيته، وهذا أحدث مشكلة في الستينات عندما كانت تطرح مسرحيات يوسف إدريس فكان يعترض علي العروض وأنها ليست ما كتب، ففي هذه الحالة من حق الدرامي أن يقدم رؤية تاريخية فنية، قابلة للتأويل من مخرج لآخر ومن سيناريست لآخر، ولكن عندما يكون اختراق التاريخ بهدف تشويهه لا يصح ذلك، فهذا ليس فنا، الفن لا يزيف التاريخ، كما أن جمال التاريخ بأن نراه في حقيقته لا أن نراه مقبحا أو مجملا، أما هؤلاء فيخدعوننا وغير أمناء علي تقديم العمل الدرامي علي حقيقته، ولابد أن نقف لهم بالمرصاد".
* منقول عن:
يقول الدكتور محمد عفيفي، رئيس المجلس الأعلي للثقافة:"هناك وجهات نظر في قراءة التاريخ، فالأحداث العريضة والكبيرة لا جدال عليها، ولكن تفسير حوادث التاريخ وقراءتها يختلف من كاتب لآخر، ولكن بشرط عدم تحريف التاريخ وتشويهه، فثورة 1952 مثلا، البعض يقول إنها انقلاب والبعض يري أنها ثورة وآخرون يقولون إنها انقلاب أيده الشعب فأصبح ثورة، ولكن لن ينكر أحد أن هناك عبد الحكيم عامر أو جمال عبد الناصر، وتلك مشكلة الدراما، أن هناك بعض المسلسلات أنكرت بعض الشخصيات وأضافوا أخري وأماتوا آخرين وهم أحياء، حولوا التاريخ إلي مؤامرات وانحازوا لطرف معين، فالمسألة أخذت شكلا عبثيا".
ويستطرد "يجوز للكاتب الدرامي أن يجتهد في التاريخ، ولكن هذا لا يعني الاعتداء علي حوادثه، ويمكن ملء فراغات فيه؛ كشخص لا تتوافر عنه معلومات كافية، فمن خلال فهم الكاتب للتاريخ في ذلك الوقت يحاول نسج رؤية درامية لسد هذا الفراغ، ولكن ما أخشاه حقا أن يأتي وقت يقال إنه لم يكن هناك ثورة 1919 مثلا، مثلما حوّل حسن الإمام ثلاثية نجيب محفوظ إلي تاريخ عوالم بدلا من عمل يختص بالأجيال والعائلات في تاريخ مصر، فهامش حرية الإبداع للجميع واجتهاد المبدع في أحيان كثيرة يكون جيداً، بينما الاعتداء علي التاريخ غير مطلوب، خاصة في مجتمع لا يقرأ كثيرا، ففي الخارج لأنهم يقرأون يدركون أن التاريخ به وجهات نظر واختلافات ولكن في إطار واحد، وأنه ليست هناك كتب موضوعية مائة في المائة، ولكن الأزمة الحقيقية في مصر تكمن في غياب فكرة الرأي والرأي الآخر في تعليمنا".
أخيراً يري عفيفي أن المؤرخ لابد أن يكون أقرب إلي الموضوعية، يعرض وجهات النظر المختلفة سواء للشخصية أو للحدث، وأن يقلل من انحيازاته علي قدر الإمكان، والآن أصبح هناك مناهج ومدارس كثيرة للبحث في التاريخ وتفسيره، فهذا علم لابد للباحث أن يطلع عليه حتي يستطيع كتابة التاريخ، فالمؤرخ لا يجمع معلومات ويرصدها ليكتبها علي هواه، ذلك ليس مؤرخا، المؤرخ الحقيقي ليست مهمته أن يتهم أو يبرئ أحدا، هو فقط يعرض حدثاً من التاريخ ويحاول أن يفسره، يعرض الجوانب السلبية والإيجابية لأي شخصية أو عصر بصورة أقرب إلي الاتزان، أما من ينحاز ويكتب لكي يمجد شخصاً أو حقبة فلا يعد مؤرخا.
عند الروائي والناقد يوسف القعيد رؤية أخري يقول: "كل ما هو حقائق تاريخية لا يمكن للعقل الإنساني أن يعبث بها، ولكن يمكن أن يضيف لها من الخيال ليكون العمل الفني جميل ومقبول، بإضافة شخصيات وإدماجها في العمل، ولكن هناك حوادث في تاريخنا الحديث لا نعلم كيف تمت، كحصار الدبابات الإنجليزية للملك فاروق مثلا يوم 2 أبريل عام 1942، وحريق القاهرة والذي لم نعرف من وراءه حتي الآن، فتفسير تلك الأحداث يعود إلي الكاتب والمبدع، ولنضرب مثلا، رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ والتي تعد من التاريخ، معروف أن رجال الدين كانوا يحاربونها ومثبت وقائع بذلك، فهذه حقيقة تاريخية، في حين إن أحد الكتاب ذكر مؤخرا أن السياسيين أيضا كانوا وراء ذلك وهم من وجهوا رجال الدين لفعل ذلك، في هذه الحالة يعتبر ذلك تفسيرا".
القعيد يري أن المؤرخ لابد أن يكون متخصصاً في المرحلة التي يكتب عنها ويمتلك الأدوات المناسبة لكتابة التاريخ، إلي جانب قدر كبير من الحيادية وعلم كامل بموضوعه، "فمن يكتب مذكرات عن سعد زغلول أو مصطفي النحاس لا يعتبر تاريخاً لأنها رؤية شخصية للأحداث ولكنها تقدم مادة خاماً يمكن استخدامها في دراسة التاريخ ويعتمد عليها المؤرخ".
من جانبه وضع الناقد الدكتور مدحت الجيار بعض الحدود "وجهات النظر تكون في تفسير الأحداث، لأن كل مفسر له خلفيات ثقافية وسياسية مختلفة وبالتالي يكون التفسير مختلفا، أما الحقائق التاريخية فلابد أن تكون سليمة كما حدثت بالفعل، فعلي سبيل المثال لا يمكن أن يكون الملك فؤاد قد مات وهو طفل كما جاء في "سرايا عابدين"، في حين إنه جاء ليحكم مصر فترة طويلة جدا بعد وفاة عباس حلمي الثاني، هنا خطأ تاريخي وليس اجتهاداً من أجل الوصول إلي رأي، فلابد من وجود مراجع تاريخي لكل مسلسل أو كتاب يتعرض لفترة تاريخية محددة سواء في مصر أو في العالم حتي نحمله المسئولية إذا أخطأ في نسبة حادثة لعام أو لتاريخ غير صحيح".
ويستطرد الجيار "ليس من حق الكاتب أن يتدخل في التاريخ أو يجتهد فيه، ولكن من حقه أن يفسر ما حدث تفسيرا خاصا، ولنضرب مثلا، مسلسل صديق العمر، فهو يحتاج إلي ضبط تاريخي لحوادث كثيرة جدا، وفيه تداخلت مسألة وجهات النظر والتفسيرات الخاصة مع الحقائق التاريخية الموجودة، كما يجوز للكاتب تناول الحياة الاجتماعية للشخصية التاريخية التي يعرضها ولكن عليه أن يتوقف عند الأسرار التي تمس الأمن القومي أو العربي، لا يأتي مثلا علي لسان عامر أو عبد الناصر أو غيرهما في العمل أسرار لا تزال في طي الكتمان في العلاقة المصرية السورية أو المصرية اليمنية أو المصرية الليبية حتي الآن".
ويؤكد الجيار أن المؤرخ لابد أن يكون خريجا من أقسام معترف بها في تدريس التاريخ، ولابد أن يكون علي صلة بالتواريخ القومية والعالمية حتي لا يتعرض إلي مآزق أو أخطاء تاريخية بسيطة، وأن يكون علي اطلاع واسع بالأحوال العربية والدولية حتي يستطيع التعرف علي أسباب الظاهرة وكيف بدأت وما هي الدول المشاركة...إلخ.
الكاتب والمؤرخ كمال زاخر يري أن هناك فرقاً بين التأريخ وشهادة للتاريخ، يقول: "في رأيي أن كتابة التاريخ تبدأ بأن يدلي المعاصرون بوجهة نظرهم في الأحداث والتي يكون بها إلي حد كبير رأي شخصي، وفي فترات لاحقة يأتي أشخاص آخرون يبدأون في قراءة تلك الشهادات وعمل عملية مقارنة بينها للوصول في النهاية إلي تصور عن الواقعة التي حدثت، وفي النهاية من يكتب التاريخ هم أفراد وبشر، وبالتالي فهم مرتبطون بموقعهم من الحدث ورؤيتهم، لذلك تعدد المصادر مهم جدا لقراءة الأحداث التاريخية".
ويستكمل "أما عندما يتحول الأمر إلي عمل درامي أو فني تتدخل عدة عوامل أخري، أولها مدي ارتباط هذه الأداة بالحاكم، ففي مرحلة من المراحل عند عمل مسرحية سيدتي الجميلة مثلا، كان هناك انحياز ضد الخديو، فأظهره الكاتب بصورة تتماشي مع هواه، وبالتالي يأتي التناول الفني مرتبطا بتوجه اللحظة، وهذا يحدث أكثر في الدول التي لم تنضج بعد في دائرة الحرية والكتابة المنزهة عن الهوي إلي حد كبير، وللأسف نحن مازلنا نحبو في فكرة الكتابة التاريخية في الإطار الفني، ولكن أتصور أن الأيام كفيلة بضبط هذا المسار، خاصة أن الأجيال الجديدة بطبعها متمردة، إلي جانب وجود التطور التكنولوجي وتنوع المعرفة".
ويوضح زاخر "هناك فرق بين الرؤية والكتابة الوثائقية، فمن حق الكاتب الروائي أن يتدخل ويضيف بعض الرؤي الخاصة به ولكن بما لا يشوه الحقيقة المستقرة، عدم إدخال الهوي الشخصي لإظهار شخص علي غير حقيقته، وهذا يحدث علي مر التاريخ وليس بجديد، ولكن الأعمال تكشف بعضها في النهاية، فهو لا يكتب في غرفة مغلقة وإنما يعرضه علي الناس فيما بعد، وهنا يظهر دور الناقد سواء التاريخي أو السياسي أو الفني وغيره، الواعي والمثقف والموضوعي، عندما ينحرف الكاتب لأسباب في ضميره أو شخصه أو لنوع من القرابة أو المعرفة تستوعبها أو تفهمها، فهي تتطلب منطقاً ثقافياً معين يسمح بأن ننتقد أنفسنا، فنحن نتبع المثل القائل "أدعي علي ابني وأكره من قال آمين"، في النهاية نحن نحتاج ثورة ثقافية وتنويرية".
وبرؤية فنية تقول الناقدة خيرية البشلاوي "علي الأقل هناك وقائع مؤكدة، تختلف حولها وجهات النظر ولكن تظل الأحداث والشخصيات حقيقة لا يمكن إنكارها، فالعبث في التاريخ كما حدث في صديق العمر وسرايا عابدين للوصول إلي وجهات نظر محددة لا يجوز، وحين يتحدث المتخصصون في هذا المجال تحديدا ينبغي أن نحترم كلامهم وننصت، خاصة أنها مرحلة حديثة جدا ولها معاصرون وشهود، فالتاريخ له قداسته لا يمكن تحريفه وتوظيفه لأغراض معينة، وينبغي علي كتاب الدراما عند التطرق للتاريخ أن يسألوا أصحابه، خاصة أن الدراما هي صاحبة التأثير الأكبر علي العقول في ظل كون مادة التاريخ غير محبوبة لدي الكثيرين".
وتستطرد البشلاوي "فيلم ناصر 56 مثلا لم يعترض عليه الناس لأنه فيلم جيد، وتعرض لمرحلة محددة في تاريخ التطور الاجتماعي المصري الحديث لشخصية الزعيم جمال عبد الناصر، وكذلك مسلسل أم كلثوم، فلم يحرفوا شيئا علي حساب شيء، فالإبداع موجود دائما ولكن بشرط ألا يطغي علي الحقيقة".
وعن حدود أخري يتحدث المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقي "التاريخ يبدأ حين تنتهي السياسة، عندما تموت الشخصية السياسية يبدأ بحثها تاريخيا، فلا يمكن كتابة حدث أثناء وقوعه، فالآن لا نستطيع كتابة تاريخ مصر بعد عام 2011، لأن عندها أغلق الملف بتنحي مبارك، فقد طويت صفحة وأصبحت قابلة للدراسة بشرط توافر الوثائق، أما ما بعد ذلك التاريخ مازال ملفه مفتوحا وشخصياته قائمة وفاعلة ولا تستطيع أن تتنبأ بمستقبل الحدث، وإنما يمكن كتابة شهادات تحمل حقائق ووقائع فقط؛ لاستخدامها فيما بعد، والتاريخ مثله كأي صنعة، يجب تعلمها من متخصصين، والمؤرخ لابد أن يمر بمنهج البحث في التاريخ، إما أن يكون خريجا من قسم التاريخ أو يدرس كيفية كتابة التاريخ، فكل علم له منهج، ليكون حريصا في التعامل مع ما يقرأه ويستطيع مطابقة الأحداث مع بعضها".
ويستطرد الدسوقي "هناك خصومة دائما بين الدراما والتاريخ، كل كتاب الدراما لا يعرفون شيئا عن التاريخ ولم يدرسوه، وإذا كانوا يزعمون أنهم قرأوا التاريخ أو درسوه، ففي غير مصادره، هدفهم في النهاية هو عمل إسقاط سياسي علي حقبة تاريخية معينة هم يكرهونها ويريدون تشويهها فيلجأوون إلي التاريخ، ويلعبون فيه بقدرة فائقة ومهارة عالية في فن الحوار واختراع شخصيات لم تكن موجودة وإهمال وقائع لصالح التزييف الذين يقومون به، التاريخ يكتب من حقائق ثابتة وهذا هو معني الكتابة الموضوعية، هناك فرق بين الواقعة والحقيقة وبين الرأي، الرأي الحر، ولكن الذي لا يستند علي حقيقة مؤكدة نوع من التزييف ولا يدخل في باب الحرية، فمن يصنع الدراما أو يكتب التاريخ ليست لديه حرية مع الوقائع، ففي مسلسل مثل "سرايا عابدين"، من قال إن الخديو إسماعيل ولد في السرايا، فمنذ بداية حكمهم وهم يحكمون من القلعة، وبدأ إسماعيل كذلك من القلعة، وانتقل إلي عابدين عام 1873، بينما العمل أحداثه في 1863، هذه ليست حرية رأي".
ويكمل "جمال الغيطاني مثلا عندما كتب الزيني بركات، كانت أحداثه تدور في العصر المملوكي ولكن غايته الرئيسية أو كانت انتقاد وزير الداخلية في وقته ولا يستطيع، فلجأ إلي التاريخ ليفلت من العقاب، وهذا انتحال، مثلها أيضا روايات نجيب محفوظ وغيره، التي كانت تحمل إسقاطات سياسية مختلفة".
وعن المصادر الصحيحة يقول الدسوقي "لدينا دار الوثائق القومية، الأرشيف الحكومي الموجود في أي وزارة، إلي جانب المصادر أو الكتابات التي كتبها أصحابها كشهود عيان؛ مثل عبد الرحمن الجبرتي، فهو كان يوثق حقائق دون تحليل أو تعليق، تلك الحقائق عندما يتم جمعها يبدأ من يكتب في توحيدها وإعادة الحياة إلي الصورة العامة للحدث، وإتاحة الوثائق هي بالفعل مشكلة تواجهها مصر منذ زمن، لكن لا توجد قاعدة لذلك، فهي مسألة تخضع لما تراه كل دولة وحسب كل وثيقة، ولكن كونها مغلقة وغير متاح الاطلاع عليها، ذلك يسمح لكاتب الدراما أن يجمح بخياله ويكتب ما يشاء لإرضاء المنتج أو سلطات معينة". وعن التوازن يقول الناقد الدكتور عبد الناصر حسن "المصدر الأساسي لكتابة التاريخ هي الوثائق، سواء الأرشيف البريطاني أو المصري أو غيره، المدون بها جميع الحقائق والمعاملات، فهي الفيصل في هذا الأمر، ولكن سير العمل في دار الوثائق يكون دائما محفوفاً بالمخاطر، وهناك مخاوف دائما عند إخراج وثيقة من أن يستفيد منها أعداء البلد، لذا لا يصح الاطلاع عليها بدون تصريح من الأمن القومي".
ويستطرد "ولكن هذا لا ينفي أن هناك أمثلة كثيرة لكتاب وأدباء أضافوا للحياة الأدبية وأثروها ولم يكونوا دارسين للتاريخ، فالمؤرخ يجب أن يكون مثقفا ثقافة مركبة، وأن يقرأ الحقبة التاريخية التي يعمل بها وسيقدم من خلالها إنتاجه جيدا، وأن يعرف كل المعلومات الموجودة في ذلك الوقت علي المستوي التاريخي والعلمي والجغرافي والحضاري بشكل عام، وعلي المستوي المعرفي، وأن يكون لديه مصداقية، ليثق الجمهور فيما يكتبه".
وعن الدراما يقول "هناك فرق بين كتابة التاريخ وكتابة الدراما التاريخية، التاريخ يعبر عن حقائق حدثت بالفعل ولها تواريخها المحددة التي ليس بها شك، أما عند استخدامه في الدراما فيكون استلهاماً للحظات بعينها لها حالة فنية يستطيع أن يوظفها المخرج في إطار رؤيته، وهذا أحدث مشكلة في الستينات عندما كانت تطرح مسرحيات يوسف إدريس فكان يعترض علي العروض وأنها ليست ما كتب، ففي هذه الحالة من حق الدرامي أن يقدم رؤية تاريخية فنية، قابلة للتأويل من مخرج لآخر ومن سيناريست لآخر، ولكن عندما يكون اختراق التاريخ بهدف تشويهه لا يصح ذلك، فهذا ليس فنا، الفن لا يزيف التاريخ، كما أن جمال التاريخ بأن نراه في حقيقته لا أن نراه مقبحا أو مجملا، أما هؤلاء فيخدعوننا وغير أمناء علي تقديم العمل الدرامي علي حقيقته، ولابد أن نقف لهم بالمرصاد".
* منقول عن: