أسماء حسين - الكاتب مصنع ذكريات..

الكتابة ليست بمعزل عن رمي الأشياء، فهي تشمل التصريف والفقد، تشمل الدفع بعيدًا عن نفسي إلى كومة من الورق المليء بالكتابة. لم يعد أي من الأشياء ملكًا لي لكنه خرج مني.. هجرني، كل ما تبقي لي وما أمتلكه هو صفحات من الكتابة المهمشة بملاحظات متناثرة. والباقية – ربما – لزمن أطول مني.

كتبت في السنوات الاخيرة مذكرة تحت عنوان “الكواليس الحميمة للكتابة” ملخص داخلها معظم الأفكار التي تتجمع في ذهني والتي خططت لكتابتها بالتفصيل : فكرة تنقية الخبث، الرمي كامل الخصائص، جحيم عالم لا يُرمي فيه شيء، المرء هو ما لا يرميه، هوية الأسرار، التخفف كأسلوب حياة، القمامة كسيرة ذاتية، القناعة في الاستهلاك العاطفي، فكرة المادة، عن البداية من ثانية، عالم الزراعة، الطبخ والكتابة، سيرة حياة النفايات، التحويل للحفظ في الذاكرة الخلفية.

وغيرها من الملاحظات العابرة التي لا أستطيع بعد التفكير بربطها وتنظيمها وكتابتها تفصيلًا. إلى جانب: فكرة الذاكرة، طرد/فلترة الذاكرة، فقدان الذاكرة، صيانة وفقدان ما قد فقد، مالم يمتلكه المرء أبدًا، مالذي امتلكه المرء متأخرًا جدًا، ماذا نحمل معنا من الماضي، ما الذي ليس لنا، العيش دون ماضٍ، (الحيوان) : ربما يحمل الإنسان أكثر منا، العيش من أجل العمل الإبداعي الذي ينتجه المرء للعالم، الكتابة كفقدان طردي للذاكرة واكتساب للوقت، الكتابة تجعلنا نصمد بشكل ما أمام الوقت.

المرء يفقد نفسه هناك، نِعَم لا فائدة منها.

كيف لم أعد هناك.

الكتابة إعادة تدوير للذكريات، الكاتب هو مصنع ذكريات حقيقي متجدد. مصنع مؤقت الإنتاج يريد أن يمدد صلاحية أعماله لتبقى بعد زواله، الكاتب أحيانًا يريد أن يقول: أريد أن أرحل.. وتبقى الكتابة الدالة عليّ في الطريق، كما لو أنني لازلت حيًا وفاعلًا في ذكرياتي.

حيانًا يطل عليّ الوجه الآخر من سؤال لماذا نكتب.. وهو: ما الجدوى من الكتابة؟

.. ولكن هل لا بد أن يكون للكتابة جدوى؟

ذات مرة، سألت صحافية الروائي الأرجنتيني بورخيس لماذا تنشر أعمالك؟ فأجابها: “ننشرها حتى لا نبقى طوال حياتنا نصحح المسودات”!

هكذا هو دور الكتابة، ليس لتضميد جراحنا، أو لرتق ثقوبنا.. بل لتذكيرنا بخساراتنا الحميمة، بجروحنا، بهشاشتنا، بعارنا. من ينشر شيئًا عن ذاته يكون كمن يحترق عاريًا على الملأ بكامل إرادته. أو كمن ينشر خساراته الفادحة على حبل من غسيل. الكتابة وحدها تسمح لنا بالاعتراف بحماقاتنا دون أن يحاسبنا عليها أحد.. والكتابة وحدها تتسع لنا، حين يضيق بنا الآخرون. نحن ننشر ذكرياتنا كما هي دون تعديلات تجميلية للنص إذن.. سوى تلك اللغوية أو النحوية منها.

آن لاموت تقول بأن: “الكتابة تقلل من إحساسنا بالعزلة”. الكتابة تعزز من شعورك أنك لست وحدك بل هناك من يتقاسم معك نفس الأفكار وبعض جوانب روحك. تقصي عنك فكرة الوحدة التامة مع هواجسك، بمشاركة بعضها مع الآخرين وأغلبهم من مجهولي الهوية حول العالم. لكنني بإخضاع الفكرة للتدوير بدورها، أخرج بفكرة جديدة منها، أن الكتابة تمنحك شعورًا استثنائيًا بأن هناك من يتقاسم معك ذكرياتك، حتى دون أن يشارك فيها.

نتبادل حكايات عن التجربة والفقد والخسارة والنجاة والخلق كأننا قد مررنا بها معًا. الذكريات هي ما يجمعنا اذن، هي ما نجيد خلقه من العدم ومنحه عمرًا جديدًا، وهي ما يصنعه الكاتب ليبقى.

الكاتب مصنع ذكريات حي.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى