إمام عبد الفتاح إمام - والنفس حزينة حتى الموت..!١

أغلقت الباب من ورائه، بعد أن ودعته بفتور غير آسف على فراقه ، فقد جاءني في الصباح الباكر وأنا منشرح الصدر أستبشر خيراً بيوم جديد .. وتركني وأنا أحمل قدراً من الهم والغم والكآبة والإحباط تنوء به الجبال .. تركني .. والنفس حزينة حتى الموت ..!١ لقد ظل معي أكثر من ساعتين يحدثني عن مدى كراهيته للثورات ـ كل الثورات ـ التي مرت بنا حديثا ، من ثورة عبد الناصر التي لم تكن في رأيه أكثر من إنقلاب عسكري ، ولم يسمها أصحابها يوماً بثورة بل “بالحركة المباركة ” ولم تكن مباركة قط ، وإنما إنقلاباً ضد المجتمع وقيمه ، فلم نسمع قبلها عن حاكم يقف وسط الملايين من الناس التي إشتراها “بتراب الفلوس ” ليكذب ، فيتحدث عن توزيع الأرباح على العمال ، والمصانع تخسر ، ويتحدث عن الإشتراكية وهو يجمع الماركسيين ليلقي بهم في السجون ، ويبيح لنفسه أن يصف قوته بأنها أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط ، وأن لديه صواريخ القاهر والظافر التي لم يطلق منها واحداً عندما إلتقى الجمعان ..!١ حتى قالت عنه المرأة التي كانت تصاحبه ـ كما عبر عن ذلك أديبنا العظيم نجيب محفوظ في مسرحية “التركة” : أنت مغرور ، تتوهم أنك إله ثم تقع كالرطل ..! ” ـ ولك أن تقرأ ” ثرثرة فوق النيل ” وحديث أديبنا الكبير عن عادة المصريين طوال التاريخ في “عبادة العجل” ! ، تلك هي الثورة التي جاء بها عبد الناصر ونصب نفسه حاكماً فوق البشر! ، فقد وضع نظاماً عسكرياً ودكتاتورياً بشعاً لدرجة أنك لو أتيت بخفير درك من قريتنا لاستطاع أن يحكم في سهولة وييسر ، نظاما يفاخر فيه الرئيس في خطاب عام أنه إعتقل ٦٨ألفا في يوم واحد !! ولهذا لم يجد الرئيس المؤمن ـ الذي قتله إخوانه من المؤمنين ـ أدنى مشكلة في تحويل دفة الحكم من الشرق إلى الغرب ومن النظام الإشتراكي إلى الإنفتاح الرأسمالي ، ومن التحالف مع السوفييت إلى الإرتماء في أحضان الأمريكان ، ومن إلقاء إسرائيل في البحر إلى الصلح معها ، وعقد معاهدة هي الأسوأ في التاريخ، ولا تنسى أنه هو نفسه قام بثورة ١٥ مايو العظيمة التي لم تكن تعني سوى تثبيت ملكه ! ثم جاء بحسني مبارك ممثلا لجيل أكتوبر ـ ولم نكن نعلم عنه شيئا ولم يكن هو نفسه يعلم عن أمجاده شيئآ سوى ” الضربة الجوية الأولى “! وكأنه كان خبيرآً أجنبياً إستوردناه ليقوم بهذه الضربة ولم تكن هذه وظيفته. ولم يسأل نفسه ، ولم يجرؤ أحد على سؤاله : وأين كنتم يوم” الثغرة ” يوم عبرت أسرائيل قناة السويس إلى الضفة الغربية، وراحت تزحف صوب القاهرة حتى لم يعد بينها وبين العاصمة أكثر من مائة كيلومتر لدرجة أن المفاوضات جرت في الكيلو ١٠١ ..!١ وصمت الصديق قليلاً ملتقطاً أنفاسه ليعود نهر الكراهية إلى التدفق .. قال : تلك هي الثورات التي ابتلينا بها ثم تأتي اليوم لتتحدث عن ثورة الشباب : أي ثورة هذه ؟! تلك التي أهت حكم مبارك فجاءت بالإخوان المسلمين !> كالمستجير من الرمضاء بالنار ؟!عندي أن حكم مبارك كان أفضل مرة من هذا الحكم “الديني ” الذي يحمل ما تحمله جبال الأرض من الفساد والكذب ، والغش ، والتضليل ، فضلا عن القتل والسحل ، وخيانة الوطن وبيعه بأبخس الأثمان . حتى قال قائل منهم : ” طظ في مصر ، وأبو مصر ، واللي في مصر ..!!..ده الشارع المصري أهبل..!!” .. كما قال آخر أنه سوف يضرب القادة منا “بالحذاء “! لم نر أسوأ من حكم الإخوان الذين ظنوا أنهم ورثوا مصر وتاريخها المجيد من مجموعة من الأتباع أتوا بهم إلى الحكم فجاءوا هم بالأهل والعشيرة ، في الصحافة وفي التعليم ، وفي الصحة ، وفي القضاء ، وفي الشرطة ولم يقف صلداً سوى الجيش في حين أنهم كانوا يعدَون العدة لتقسيمه وتحويله إلى ميليشات مأجورة تستخدمها جماعة الإخوان الدولية . وأعجب العجب أن يساعدهم الفلسطينيون ليحصلوا على ” سيناء” وطنا قوميا لهم بدلا من ” فلسطين” . سيناء التي حاربنا من أجلها مرتين الأولى في العهد الناصري “العظيم” عندما أضعناها في هزيمة بشعة استشهد فيها مائة وخمسين ألفا من الجنود وخمسة عشر ألفا من الضباط ، ثم حاربنا لكي نستردها وبذلنا الغالي والنفيس من أجلها، وإنتهى الأمر بمعاهدة لم يقرأها سوى السادات لأنه من الكفر الصريح أن يناقش أحد من الرعية “فرعون” المفدى فيما يفعل ، ثم جاء “صبيه” صاحب الضربة الجوية الخالدة التي ظهرت وإختفت في لمح البصر ، وبدأ يضع البلاد والعباد تحت أقدام الأمريكان ومن لف لفهم ، فحكمنا ما يقرب من ثلاثين عاماً وبدأ التنقيب في عهده فتم حفر أكثر من ألف نفق تنقل إلى “الحبيبة ” “غزة” والأحباء من أهل حماس الكرام طعام المصريين وملابسهم ، وبترولهم ، ومواد البناء ..إلخ ، ثم جاء أصحاب اللحى الذين يقسمون أغلظ الأيمان أنهم لم يكونوا يعرفون شيئاً عما تحمله الجماعة من سلاح، وأنهم لم يكونوا ينتمون إليها إلا في أوقات الصلاة على المصطفى وأحفاده فهم كراماً بررة !١ والحق أن كل ما قاله الصديق العزيز حق صراح لا يأتيه الباطل ، فمصر منذ ثورة ١٩٥٢ لم تشهد في تاريخها الطويل مثل هذا الفساد الهائل ، لم نسمع أن النحاس باشا وقف يكذب على الجماهير في خطبه ولا في الميزانية ، ولا في قوة الجيش المصري ، ولا في المشروعات القادمة ، بل سمعنا ضجة في البرلمان لأن الحكومة أرادت أن ترفع ثمن طابع البريد من خمسة مليمات إلى ستة !! ومع ذلك كان الجنيه المصري قوياً إذ كان يساوي خمسة دولارات وربما أكثر ، وكان العامة يسمون الدولار ” بالريال الأمريكاني ” لأنه كان يساوي عشرين قرشاً ..! ولم يتحدث عبد الناصر ولو مرة واحدة عن ميزانية الدولة ولم يجرؤ أحد أن يسأله ، هذا خلاف أموال الأسرة المالكة ، والتأميمات التي لم يأخذ أصحابها مليماً واحداً. ولم يسأل أحد أين ذهبت تلك الأموال ، ولقد قال ذات مرة أديبنا توفيق الحكيم لقد سمعت أ حرب اليمن كلفتنا أربعة ألاف ملايين من الجنيهات وكانت مصر تتألف في ذلك الوقت من أربعة ألاف قرية ولو وزعت هذه الملايين على القرى المصرية فنالت كل قرية مليون جنيه ، لأصبحنا سويسرا الشرق !! ولم يسأل أحد ما الذي حدث ، ولماذا كانت حرب اليمن أصلاً ؟! ذلك لأن الحاكم قد أصبح يتحلى بصفة من صفات الله ” لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ” [ الأنبياء ـ٣٣] ، ولم يضع عبد الناصر ولا زبانيته في أذهانهم أنه إذا أراد بناء إمبراطورية من المحيط إلى الخليج فلابد أن يعتمد على المواطن في الداخل فهو الأساس وليس على المؤامرات الخارجية .. سألت صديق ذات مرة وكان يتولى مرفق المياة : ألا تخجلون !؟ وتساءل بدوره : مم !؟ قلت: من ماسورة شبرا التي تنفجر كل أسبوع مرة على الأقل!؟ فتبسم ضاحكاً وهو يقول: إنهم يضحكون على الناس فليس هناك ماسورة في شبرا أصلاً لكي تنفجر ، وإنما تأكلت من سنين ، وأصبح الماء يسير في التجويف الذي تركته هذه الماسورة التي كانت ؟!١ ماذا يعني ذلك ؟! يعني أنه لم تكن هناك صيانة في الداخل على الإطلاق لكن كل الاهتمامات موجهة إلى الخارج ، إلى المؤامرات والإنقلابات وأمور أخرى لا يعرفها الجيل الحالي !١ وعلى نهجه سار السادات ـ رحمه الله ـ مع تغيير الهتاف : بالروح بالدم نفديك يا سادات مع أنه قتل بين جنوده ولم يفده أحد ولو بطلقة عابرة !١ نحن نعلم هذا البلاء العسكري الذي ختمه مبارك ثلاثين سنة وبغباء شديد أراد أن يورث إبنه متشبها بحافظ الأسد وعلي صالح في اليمن الذي كان يعد ولياً للعهد ليرث التركة ، وكذلك القذافي الذي كان يشهر سيف الإسلام من بعده .. إلخ ونسى أن مصر مختلفة فهي بتاريخها الطويل لا تقبل هذا التوريث ولن يمر بين الناس بسهولة مهما حشد له من قوات وأنفق من أموال !!١ ثم جاءت الجماعة الإرهابية التي أرادت حل مشكلات مصر من الجذور بإلغاء الدولة وتحويلها إلى إمارات صغيرة أهمها إمارة سيناء التي يجلس على عرشها سمو الأمير المفدى ” محمد بديع ” ويعمل شعبه الأبَى رعاة للغنم ، ومن ثم فعلينا تحطيم الأهرامات أو بيعها ، وبيع قناة السويس لأول مشتري ، ولماذا نضيع وقتنا في أمور تافهة بهذا الشكل ونترك أموراً أكثر أهمية كالذكر ، وقراءة القرآن الكريم ، ولقد قال يوما أخ مسلم وعالم جليل : إنني أعرف حلولاً كاملة لكل مشاكل مصر الإقتصادية وهي : لما كان قارون من قوم موسى ،وكان فاحش الثراء ، فقد أخفى كل أمواله وكنوزه من ذهب وفضة ..إلخ في البحيرة التي لاتزال تحمل اسمه في الفيوم ، فلو أننا قمنا بتجفيف البحيرة واستخرجنا ما فيها من كنوز لاستطعنا في سهولة ويسر سداد جميع ديون مصر ، وبناء مستقبل زاهر ننفق فيه بغير جهد ولا عمل ، إذ تكفينا العبادة !!١ وإذا تركنا هذا الهزل ، أيها الصديق ، فإنك عليك أن تنظر إلى المستقبل ببريق من الأمل إذ يكفي أن تقول لنفسك أن التجارب المريرة والأليمة التي مرت بها البلاد منذ ثورة ١٩٥٢ حتى الآن أفادتنا كثيراً في جانب هام جداً وخطير جداً هو الإيمان بالديموقراطية. لقد أصبح رجل الشارع ينادي بحقوقه ، وبالتمسك بالنظام الديموقراطي ويهتف بسقوط حكم العسكر ، وآخر معقل من معاقل الحكم الإستبدادي وهو الحكم الديني فيهتف أيضاً بسقوط حكم المرشد ، أن أهم مكسب ناله شعبنا أن الإخوان لن يعودوا إلى الحكم أبداً فقد سقطت كل أقنعتهم الدينية ، وشاهدنا قياداتهم تحلف بالله كذباً أنهم ليسوا من الإخوان مرة وأنهم لم يعرفوا شيئاً عما كان عندهم من سلاح مرة أخرى ! إن أعظم كسب ربحناه ، هو أن مصر بدأت تولد من جديد وإنزاحت من عليها تلك الغشاوة التي منعتها من الرؤية الصحيحة سنوات طويلة ، وود رجل الشارع أن تعود فصول محو الأمية ليتعلم القراءة حتى يستطيع أن يقرأ بنفسه دستوره فقرة فقرة ..” وهذا هو الصباح الجديد !”١ وبعدها لن تعود النفس حزينة أبداً ..!



أعلى