يعقوب رائد - عَيْشُ الكَلِمةِ..

بالأمْسِ مَرَرْنا بالغَدِ ، رَكِبّْنا جُنْحَ القَصِيدةِ وطِرْنا، قابَلَنا الغَدُ وفَاهُهُ مَليئٌ بالدُخَانِ ، وضَوضَائُه الصّامِتَة تَطْحَنُ العَظَمْ ، فطَفِقْنا نَرْكُلُ الأصْواتَ كَمَا تَرْكُلُ الأُضْحِيةُ آخِرَ أنْفاسِها ، مِنْ جُلُودِنَا يَخْرُجُ الضّوءُ ،وما إنْ يُلَامِسُ الهَواءَ ،حَتّى يَنْقِلبُ الى ريحٍ .
قُلْنا للغَدِ ماذا تُخَبِّئُ فِي جَيْبِ غَيْبِكَ ؟
قالَ الغَدُ مُتَسَتِّراً على خَوْفِهِ لا شَيء ! إنّمَا "كَلِماتٍ" .
فِي البِدْءِ كانَتْ الكَلِمَةُ ثُمَّ إسْتَحالَتْ لاشَيء ، لا شَيء يَتَوالَدُ مِرَارَاً مُخَلِّفاً أطْفَالَ قَمْحٍ بِرُؤوسٍ مُلْتَهِبةٍ ، ظِلٌّ يَأكُلُ نَفْسَهُ ،ورِيْحٌ تَرْكُلُ ظِلَّها هذا ما أُخَبِّئُهُ فِي جَيْبِي وهَذا عَيْشُ الكَلِمَاتِ .
مِنْ جَيْبِهِ أَخْرَجَ الغَدُ "سَأَكْبُرُ" فَأزدَادَ ضَخَامَةً بِقَدْرِنا جَمِيعاً ، ثُمَّ مِنْ عالٍ قَالَ الغَدُ : كُونُوا “ هَرَباً" .
فَصِرْنَا أَخَفَّ مِن السَّرابِ ، نَسْبِقُ أَنْفاسَ الجِيادِ بِخُطْوَةٍ دائِماً .
بَعْدَ فَتْرَةٍ أَحَسَّ الغَدُ بِالمَلَلِ مِن كَثْرَةِ دَوَرانِنا حَوْلَه ، فَقالَ كُونُوا : "مَاءَاً" فَأنْهَمَرْنا على نُهُودِ الصَّبايا كأنهِمَارِ الغَزَالِ على بَعْلِها ، ثُمَّ قَالَ أيْضاً كُونُوا : "مَعْنى ".
فَوَضَعْنا البُنْدقِيةَ في يَدِ الفَرِيسَةِ وثَبَّتْنا قَدَمَيْ الصَّيّادِ بِالأرْضِ ،مُنْتَظِرِينَ إخْتِلاطَ دَمِهِ بِالتُرَابِ ، كَيْ نَأخُذَ بِثَأرِهِ مِنْ القَتَلةِ .
مَدَّ الغَدُ يَدَهُ إلى جَيْبِهِ ،تَارِكاً إيَّانا نُحَمْلِقُ بِتَرَقُّبٍ ، وأَخْرَجَ صُرّةً مِنْ الحَرِيرِ ، سَوْدَاءَ تُشِعُ بِمَا تَحْمِلُهُ مِنَ الضَّياءِ ، وبَعْدَ أنْ أزَالَ عَنْها الغِطَاَء قَالَ : كُونُوا "أَنْتُمْ“ .
اليَدُ التِي كَانَتْ تُرَتِّبُ الوَقْتَ سَقَطَتْ، والعُنُقُ التي تَلْوِي نَفْسَها كَيْ تَسْتَيْقِظَ نَامَتْ ، والهُوةُ التي تُرَمِّمُ نَفْسَها بالجُثَثِ قَذَفَتْهُم جَمِيعَاً .
ذُهُولٌ ذُهُولٌ ذُهُولٌ ،يَضْرِبُ شُظْآنَ الروحِ فَتَرتَعِدُ الأرْكَانُ .
كَيْفَ لَنَا أنْ نَكُونَ أنْفُسَنا ألآنَ وَهُنا ، فَهَلْ يَعْنِي هَذا أنّنا لَمْ نَكُنْ أنْفُسَنا قَبْلاً ؟ وإِنْ صَدَقَ الأدِّعَاءُ وكُنّا غَيْرَ أنْفُسِنَا فَمَنْ كُنّا؟
فِي طَرِيقِنا لِنَكُونَ أنْفُسَنا ؟
إلى تُرَابٍ إنْقَلَبَ البَعْضُ ، كَنَسَهُ آخَرُونَ إسْتَحَالُوا بِدَورِهِمْ مَكَانِس ، البَعْضُ صَارَ هَواءَاً يَحْلُمُ بِالمَشْي ، وآخَرُون صَارُوا طَرِيقَاً يَحْمِلُ ثِقَلَه ، والكَثِيرُ مِمن كَانُوا هُناكَ صَارُوا كُوّةً تُطِلُ على الحَرْبِ ،تَمْلَئُهُم مَنَاظِرُ الأَصَابِعَ والأقْدَامِ المَبْتُورِةِ ، وآخَرِيْنَ صَارُوا عَطَشَاً ،عَطَشٌ لِلْبِئْرُ واليَدِ وَالمِرْآةِ ، أمّا أنَا فَصِرْتُ "كَلِمةً" أُبْحُرُ فِي اللّغَةُ والوَقْتِ ، قَرَأَني الغَدُ فَصَارَ الآن .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى