دراسات في التراث ابن حجة الحموي - خزانة الأدب وغاية الأرب

مقدمة الكاتب
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله البديع الرفيع الذي أحسن ابتداء خلقنا بصنعته وأولانا جميل الصنيع فاستهلت الأصوات ببراعة توحيده وهو البصير السميع أدب نبينا محمدا فأحسن تأديبه حتى أرشدنا جزاه الله عنا خيرا إلى سلوك الأدب وأوضح لنا بديعه وغريبه
نحمده حمدا يحسن به التخلص من غزل الشهوة إلى حسن الختام ونشكره شكر من شعر ببديع صفاته فأحسن النظم وأعوذ بالله من قوم لا يشعرون بهذا النظام ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة شاعر بأنه الواحد وأن سيدنا محمدا وعبده ورسوله المبعوث من بيت عربي فصاحته على الأعراب والإعراب أعظم شاهد وعلى آله وأصحابه الذين هم نظام هذا البيت الشريف ودوائر بحره وأنواع بديعة وديباج صدره وسلم تسليما كثيرا
وبعد فهذه البديعية التي نسجتها بمدحه على منوال طرز البردة وكان مولانا المقر الأشرف العالي المولوي القاضوي المخدومي الناصري سيدي محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة جمل الله الوجود بوجوده هو الذي ثقف لي هذه الصعدة وحلب لي ضرعها الحافل لحصول هذه الزبدة
وما ذاك إلا أنه وقف بدمشق المحروسة على قصيدة بديعية للشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله تعالى التزم فيها بتسمية النوع البديعي وورى بها من جنس الغزل ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي تغمده الله تعالى برحمته لأنه ما التزم في بديعيته بحمل هذا العبء الثقيل غير أن الشيخ عز الدين ما أعرب عن بناء بيوت أذن الله أن ترفع ولا طالت يده لإبهام العقادة إلى شيء من إشارات ابن أبي الأصبع وربما رضي في الغالب بتسمية النوع ولم يعرب عن المسمى ونثر شمل الألفاظ والمعاني لشدة ما عقده نظما
( فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال )
فاستخار الله مولانا الناصري المشار إليه ورسم لي بنظم قصيدة أطرز حلتها ببديع هذا الالتزام وأجاري الحلي برقة السحر الحلال الذي ينفث في عقد الأقلام فصرت أشيد البيت فيرسم لي بهدمه
وخراب البيوت في هذا البناء صعب على الناس ويقول بيت الصفي أصفى موردا وأنور اقتباسا
فأسن كل ما حده الفكر وأراجعه ببيت له على المناظرة طاقة فيحكم لي بالسبق وينقلني إلى غيره وقد صار لي فكرة إلى الغايات سباقه
فجاءت بديعية هدمت بها ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال وجاريت الصفي مقيدا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال وسميتها تقديم أبي بكر عالما أنه لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال
وكان المشار إليه عظم الله شأنه هو الذي مشى أمامي وأشار إلى هذا السلوك وأرشد فاقتديت برأيه وهل يقتدي أبو بكر بغير محمد في حسن الابتداء وبراعة الاستهلال


حسن الابتداء عند المتقدمين

( لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم )
اعلم أنه اتفق علماء البديع على أن براعة المطلع عبارة عن طلوع أهلة المعاني واضحة في استهلالها وأن لا يتجافى بجنوب الألفاظ عن مضاجع الرقة وأن يكون التشبيب بنسيبها مرقصا عند السماع وطرق السهولة متكفلة لها بالسلامة من تجشم الحزن ومطلعها مع اجتناب الحشو ليس له تعلق بما بعده
وشرطوا أن يجتهد الناظم في تناسب قسميه بحيث لا يكون شطره الأول أجنبيا من شطره الثاني
وقد سمى ابن المعتز براعة الاستهلال حسن الابتداء وفي هذه التسمية تنبيه على تحسين المطالع وإن أخل الناظم بهذه الشروط لم يأت بشيء من حسن الابتداء وأورد في هذا الباب قول النابغة
( كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب )
قال زكي الدين بن أبي الأصبع لعمري لقد أحسن ابن المعتز الاختيار فإني أظنه نظر بين هذا الابتداء وبين ابتداء امرئ القيس حيث قال
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل )

فرأى ابتداء امرئ القيس على تقدمه وكثرة معانيه متفاوت القسمين جدا لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك وكثرة المعاني وليس في الشطر الثاني شيء من ذلك
وعلى هذا التقدير مطلع النابغة أفضل من جهة ملايمة ألفاظه وتناسب قسميه وإن كان مطلع امرئ القيس أكثر معاني وما عظم ابتداء امرئ القيس في النفوس إلا الاقتصار على سماع صدر البيت فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في شطر بيت وإذا تأمل الناقد البيت بكماله ظهر له تفاوت القسمين
وقال أعني ابن أبي الأصبع إذا وصلت إلى قول البحتري من هذا الباب وصلت إلى غاية لا تدرك وهو قوله
( بودي لو يهوى العذول ويعشق ... ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق )
انتهى كلام زكي الدين بن أبي الأصبع
ولقد أحسن أبو الطيب المتنبي حيث قال
( أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي )
ومثله قوله أي قول حبيب
( حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشيع )
وما ألطف قول أبي تمام في هذا الباب
( لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتقضت الأوطار )
ومثله قول أبي العلاء المعري
( يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر )
وقد خلب القلوب ابن المعتز في تناسب القسمين بقوله
( أخذت من شبابي الأيام ... وتولى الصبا عليه السلام )

وما أحلى ما ناسب ابن هانئ قسمي مطلعه بالاستعارات الفائقة حيث قال
( بسم الصباح لأعين الندماء ... وانشق جيب غلالة الظلماء )
وقال الشريف أبو جعفر البياضي يشير إلى الرفق بالإبل عند السرى وتلطف ما شاء في تناسب القسمين حيث قال
( رفقا بهن فما خلقن حديدا ... أو ما تراها أعظما وجلودا )
وهذه القصيدة طريقها الغريب لم يسلكها غيره فإنه نسجها جميعها على هذا المنوال ومنها
( يفلين ناصية الفلا بمناسم ... وسم الوجا بدمائهن البيدا )
( فكأنهن نثرن درا بالخطا ... ونظمن منه بسيرهن عقودا )
ومما يعذب في الذوق من هذا الباب قول ابن قاضي ميلة
( يزيد الهوى دمعي وقلبي المعنف ... ويحيي جفوني الوجد وهو المكلف )
وقد نبه مشايخ البديع على يقظة الناظم في حسن الابتداء فإنه أول شيء يقرع الأسماع ويتعين على ناظمه النظر في أحوال المخاطبين والممدوحين وتفقد ما يكرهون سماعه ويتطيرون منه ليتجنب ذكره ويختار لأوقات المدح ما يناسبها
وخطاب الملوك في حسن الابتداء هو العمدة في حسن الأدب فقد حكي أن أبا النجم الشاعر دخل على هشام بن عبد الملك في مجلسه فأنشده من نظمه
( صفراء قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول )
وهشام بن عبد الملك أحول فأخرجه وأمر بحبسه
وكذلك اتفق لجرير مع أبيه عبد الملك فإنه دخل عليه وقد مدحه بقصيدة حائية أولها
( أتصحو أم فؤادك غير صاح ... )
فقال له عبد الملك بل فؤادك يا ابن الفاعلة

ومن هذه الجهة بعينها عابوا على أبي الطيب المتنبي خطابه لممدوحه في مطلع قصيدة حيث قال
( كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا )
ومن مستقبحات الابتداء قول البحتري وقد أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي أولها
( لك الويل من ليل تقاصر آخره ... )
فقال بل لك الويل والخزي وأما قصة إسحاق ابن إبراهيم الموصلي في هذا الباب فإني أنفعل وأخجل عند سماعها وما ذاك إلا أنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان فشرع في إنشاء قصيدة نزل بمطلعها إلى الحضيض وكان هو وحكاية الحال في طرفي نقيض وهو
( يا دار غيرك البلا ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك )
فتطير المعتصم من قبح هذا المطلع وأمر بهدم القصر على الفور فنعوذ بالله من آفة الغفلة هذا مع يقظة إسحاق وسير الركبان بحسن محاضرته ومنادمته للخلفاء ولكنه قد يخبو الزناد وقد يكبو الجواد مع أنه قيل إن أحسن ابتداء ابتدأ به مولد قول إسحاق الموصلي حيث قال
( هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل )
فانظر إلى هذا الأديب الحاذق المتيقظ كيف استطردت به خيول السهو إلى أن خاطب المعتصم في قصر رياحين تشييده غضة بخطاب الأطلال البالية وانظر إلى حشمة أبي نواس كيف خاطب الدمن بخطاب تود القصور العالية أن تتحلى بشعاره مع بلوغه في تناسب القسمين الطرف الأقصى حيث قال
( لمن دمن تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم )
وقصة ذي الرمة مع عبد الملك تقارب قصة إسحاق مع المعتصم فإنه دخل عليه يوما فأمره بإنشاد شيء من شعره فأنشد قوله
( ما بال عينك منها الماء ينسكب )
وكان بعين عبد الملك رمش فهي تدمع أبدا فتوهم أنه خاطبه وعرض به فقال له ما سؤالك عن هذا يا ابن الفاعلة
فمقته وأمر بإخراجه


.../...

> حسن الابتداء عند المحدثين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى