عدنان كنفاني - يا لذلك اليوم..

(أخي غسّان.. جراحك المقيمة، ما زالت تنقلنا إلى صباحات عكـا.)


الساعة الواحدة، ظهر يوم السبت 8 تمّوز 1972 خبر مقتضب بثّته إذاعة لندن:
[انفجار سيارة يودي بحياة الأديب غسان كنفاني وسط ظروف غامضة.]
بعد دقائق كنت في سيارة أجرة، منطلقة، تطوي تحت عجلاتها الطريق إلى بيروت.
أتوسل لأول مرة في حياتي أن تقابلني هناك كذبة.! أجمل كذبة يمكن أن يستقبلها إنسان، تقول: إن الخبر برمته ليس له أساس من الصحة.
ولأول مرة في حياتي أيضاً أجتاز حدوداً بين دولتين، بلا جواز سفر، ولا تأشيرة، ولا تصريح، فتحوا أمامي البوابات، وحمّلوني بنظراتهم الطيبة الحزينة، وتصرّفاتهم الجاّدة الصغيرة المخلصة والمرتبكة، أنبل المشاعر طافحة بالأسف والعزاء.
مذياع السيارة يدندن لحناً شعبياً ليس له معنى، أجاهد كي لا أطلب من السائق تبديل المحطة، أدحرج في رأسي كرة ثلجية أريدها أن تكبر وتكبر.
توهمني، فأقبل، أن كل ما يحدث أضغاث أحلام، كذبة سخيفة كبيرة، ليس أكثر.!
يهتّز الدب القماشي الصغير المعّلق على المرآة.. يتراقص وهو يفتح فمه عن ابتسامة طفلية بريئة، لونه أسود أيضاً، ينظر إلي تارة، وإلى الطريق المتعرّج تارة أخرى.
تقابلني نظرات السائق الخاطفة، يطفو صوته الدقيق فوق صوت اللحن الرديء الذي يطلقه المذياع.
- أقل من ساعة ونصل.
ما زال الدب الصغير يحدق في وجهي، ويبتسم.
تزداد حركة السيارات كلما اقتربنا من بيروت، فجأة يصافحنا البحر.
لآول مرة يسكت المذياع، وتتوقف حركة الدب الصغير المبتسم، ولأول مرة أفقد لون البحر الأزرق.
التفت السائق، قال بصوت خفيض وهو ينعطف إلى اليمين:
- "الحازمية."
في اللحظة نفسها رأيت غسّان.!
في ساحة بيت يميس بين الورود والزهور، وعبق الكبّاد والنارنج، يحتل مكاناً أثيراً في حي القنوات بدمشق، تتحدث جدرانه المزخرفة والمعشّقة والملوّنة عن عظمة دمشق وتاريخها.
يجلس على كرسي مرتفع، يحرص "فخري بيك البارودي" أن يحمله إليه بنفسه.
فتى نحيل أشقر، شعره مجعّد، عيناه تشعّان ذكاءً، يمسك بين يديه سنوات عمره التي لم تتجاوز الرابعة عشرة، وكتاباً يقرأ منه.. بين جمهور من الأدباء والفنانين والسياسيين ينصتون باهتمام واستحسان إلى قراءته السليمة المؤثرة التي يضيف إليها صوته الصافي مسحات رائقة تزيدها بهاءً وجمالاً.
نراقبه من فرجة الباب بشغف، تنتهي الجلسة اليومية.. ليعلن "فخري البارودي" كما في كل ليلة:
- إن هذا الفتى سيصير إلى شأن عظيم.
تتوقف السيارة..
ترتجف أطرافي المتحفّزة، أتلهّف لاستقبال مفاجأة الكذبة، أتوسل أن تتدحرج أمامي على مساحة الأفق.
يمسك السائق يدي، يفرد أمام خطواتي المضطربة حزنه المسفوح على حصيرة من شفقة.
يقودني عبر الحطام والدمار.
يصل بي إلى حافّة واد عميق الغور. فيه رجال يلتقطون عن الأغصان قطع لحم صغيرة، يجمعونها في كيس أبيض.
في الزاوية الأخرى رأيت وجه غسّان ونصف صدره، ورأيت شيئاً متفحّماً يشبه الصّبية الجميلة "لميس"..
كان يبتسم، صافحني وهو يبتسم، كأنه تحسّس بأصابعه النحيلة أثر الجرح الطافي على صفحة خدي الأيمن..
رأيت الدب القماشي الصغير، ثابتاً صامتاً حزيناً.
رأيته يبكي.. فبكيت.!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى