قبل قرون عديدة، في شتاءٍ ما، كانت سنابك جواد أبي الطيّب المتنبّي تخبّ على جبال لبنان المدثّرة بالثلوج قادماً إليها من شمال الشام، مطارداً من جنود الأخشيد قبل أن يفلت منهم ويختار أن يلقي برحله عند أبي علي هارون الأوراجيّ، الذي كان معروفاً بميله للتصوّف، حيث استقبله وأحسن وفادته فمدحه أبو الطيّب بقصيدتين واحدة منهما همزيّته الشهيرة التي تنفرد من بين جميع قصائده برمزيتها الصوفيّة وقوّة سبكها، وسيهمّنا منها هنا هذه الأبيات:
بيني وبين أبي عليّ مثله = شُمُّ الجبال ومثلهنّ رجاءُ
وعِقابُ لبنانٍ، وكيف بقطعها = وهو الشتاءُ، وصيفهنّ شتاءُ
لَبَسَ الثلوجُ بها عليّ مسالكي = فكأنّها ببياضها سوداءُ
ومن بين الشروحات العديدة التي بين يدي سأختار شرح من هو أعرَف بالعمى من غيره وأخبَر. يقول أبو العلاء المعرّي في معرض كلامه عن البيت الأخير: (لبس: أي عمّى وغطّى وأخفى، على الطريق في هذه العقاب [العقاب: جمع عقبة، وهي المرتقى الصعب من الجبال]، فكأنها مع بياضها سوداء؛ حيث أن الطريق خفي فيها وهي بيضاء، كما يخفى في سواد الليل، إذ العادة أن الطريق لا يخفيه إلا سواد الليل، وظلمة الغيم، فمتى خفي بالبياض صار بمنزلة السواد).
نستنتج من هذا الكلام، لو قرأناه قراءة علميّة محضة، أنّ المتنبّي أصيب بما يعرف علميّاً بعمى الثلج Snow blindness، أثناء رحلته التراجيديّة عبر جبال لبنان، فاستوى عنده الضوء والظلام حينما كان يتلمّس خطاه في مفازة الثلج بحثاً عن سبيل للهروب من جيش المطاردين.
عرف العرب عمى الثلج رغم ندرة سقوطه على بلادهم، فيقال لمن تحيّر بصره من الثلج ولم يبصر فيه "قَمِرَ"، وأصل الكلمة تُردّ إلى القمر الذي يعشي أبصار الطيور والظباء في الليل فيسهل صيدها، فيقال "تقمّرها" الصيّاد، أي اختدعها، ومنها جاءت كلمة "القِمار"، لأنهّا مأخوذة من الخداع، خداع البصر على الأغلب.
يحدث عمى الثلج، الذي يُعرف أيضاً بالتهاب القرنيّة، حين تتعرّض العيون غير المحميّة جيّداً للأشعة فوق البنفسجيّة المنعكسة من الشمس على الثلج، أو الرمل بدرجة أقلّ، خصوصاً في المناطق القطبيّة أو المناطق ذات الارتفاعات العالية، كالتي مرّ بها المتنبّي في تجواله بين جبال لبنان، مما يتسبّب باحتقان في العين وحالات ألم حادّة قد تصل إلى عمى مؤقت، يلتبس فيها الليل بالنهار والضوء بالظلام.
أصبتُ بعمى الثلج لأوّل مرة حينما غادرت العراق هارباً عبر جبال كردستان العراقية في بداية الثمانينيات، وكان برفقتي فصيل من مقاتلي البيشمركة الشيوعيين، دليل طريق، مهرِّب، وحمار صغير يتقدّمنا غير آبه للثلج الكثيف الذي يكاد يصل للركبتين، وبين وخز العيون ونخز البرد توقّف الدليل فجأة وتوقّف معه حماره، "لقد تهنا!"، هتف الدليل فجأة، فتململ المهرِّب وتلفّت الرفاق كل إلى جهة، أما أنا فبقيت جامداً في مكاني أفرك عينيّ محاولاً تحديد المكان الذي أنا فيه، وبين احتجاجات الجميع أصرّ الدليل أن نسلّم أقدارنا للحمار الذي أكّد صاحبه أنّه يعرف الطريق غريزيّاً وكل ما علينا هو أن نتعقّبه إذا أردنا الوصول، وفعلاً خبَّ بنا الحمار بدأب من يسير على خريطة، وهكذا وصل الجميع إلى مقاصدهم، المهرّب إلى قريته، الدليل إلى بيته، والمقاتلون إلى مقرّاتهم في بواطن الكهوف، إلاّ أنا، فقد بقيت أتبع حماري الخاص الذي ظلّ يخبّ بي عبر السهول والمرتفعات والجبال والوديان أكثر من ثلاثين عاماً دون أن يعيدني إلى أهلي
من صفحة الشاعر جمال جمعة على الفيسبوك
بيني وبين أبي عليّ مثله = شُمُّ الجبال ومثلهنّ رجاءُ
وعِقابُ لبنانٍ، وكيف بقطعها = وهو الشتاءُ، وصيفهنّ شتاءُ
لَبَسَ الثلوجُ بها عليّ مسالكي = فكأنّها ببياضها سوداءُ
ومن بين الشروحات العديدة التي بين يدي سأختار شرح من هو أعرَف بالعمى من غيره وأخبَر. يقول أبو العلاء المعرّي في معرض كلامه عن البيت الأخير: (لبس: أي عمّى وغطّى وأخفى، على الطريق في هذه العقاب [العقاب: جمع عقبة، وهي المرتقى الصعب من الجبال]، فكأنها مع بياضها سوداء؛ حيث أن الطريق خفي فيها وهي بيضاء، كما يخفى في سواد الليل، إذ العادة أن الطريق لا يخفيه إلا سواد الليل، وظلمة الغيم، فمتى خفي بالبياض صار بمنزلة السواد).
نستنتج من هذا الكلام، لو قرأناه قراءة علميّة محضة، أنّ المتنبّي أصيب بما يعرف علميّاً بعمى الثلج Snow blindness، أثناء رحلته التراجيديّة عبر جبال لبنان، فاستوى عنده الضوء والظلام حينما كان يتلمّس خطاه في مفازة الثلج بحثاً عن سبيل للهروب من جيش المطاردين.
عرف العرب عمى الثلج رغم ندرة سقوطه على بلادهم، فيقال لمن تحيّر بصره من الثلج ولم يبصر فيه "قَمِرَ"، وأصل الكلمة تُردّ إلى القمر الذي يعشي أبصار الطيور والظباء في الليل فيسهل صيدها، فيقال "تقمّرها" الصيّاد، أي اختدعها، ومنها جاءت كلمة "القِمار"، لأنهّا مأخوذة من الخداع، خداع البصر على الأغلب.
يحدث عمى الثلج، الذي يُعرف أيضاً بالتهاب القرنيّة، حين تتعرّض العيون غير المحميّة جيّداً للأشعة فوق البنفسجيّة المنعكسة من الشمس على الثلج، أو الرمل بدرجة أقلّ، خصوصاً في المناطق القطبيّة أو المناطق ذات الارتفاعات العالية، كالتي مرّ بها المتنبّي في تجواله بين جبال لبنان، مما يتسبّب باحتقان في العين وحالات ألم حادّة قد تصل إلى عمى مؤقت، يلتبس فيها الليل بالنهار والضوء بالظلام.
أصبتُ بعمى الثلج لأوّل مرة حينما غادرت العراق هارباً عبر جبال كردستان العراقية في بداية الثمانينيات، وكان برفقتي فصيل من مقاتلي البيشمركة الشيوعيين، دليل طريق، مهرِّب، وحمار صغير يتقدّمنا غير آبه للثلج الكثيف الذي يكاد يصل للركبتين، وبين وخز العيون ونخز البرد توقّف الدليل فجأة وتوقّف معه حماره، "لقد تهنا!"، هتف الدليل فجأة، فتململ المهرِّب وتلفّت الرفاق كل إلى جهة، أما أنا فبقيت جامداً في مكاني أفرك عينيّ محاولاً تحديد المكان الذي أنا فيه، وبين احتجاجات الجميع أصرّ الدليل أن نسلّم أقدارنا للحمار الذي أكّد صاحبه أنّه يعرف الطريق غريزيّاً وكل ما علينا هو أن نتعقّبه إذا أردنا الوصول، وفعلاً خبَّ بنا الحمار بدأب من يسير على خريطة، وهكذا وصل الجميع إلى مقاصدهم، المهرّب إلى قريته، الدليل إلى بيته، والمقاتلون إلى مقرّاتهم في بواطن الكهوف، إلاّ أنا، فقد بقيت أتبع حماري الخاص الذي ظلّ يخبّ بي عبر السهول والمرتفعات والجبال والوديان أكثر من ثلاثين عاماً دون أن يعيدني إلى أهلي
من صفحة الشاعر جمال جمعة على الفيسبوك