● من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط
صديقي العزيز ،
قبل أن أتعرف على المعري، قرأتُ المتنبي... ويا لطرَبي وأنا أكتشفه!
كان ذلك في بداية الستينيات، وأنا في ما يسمى اليوم بالإعدادي. كنت أسكن في مدرسة البوعنانية، قرب "بوجلود" بفاس، وأهبط بانتظام إلى خزانة القرويين (وكانت خزانة رائعة: قاعة مطالعة فسيحة، كراسيها كبيرة وعالية، فلم تكن قدماي تصلان الأرض الرخامية الباردة.) هناك كنتُ أنكبُّ على ديوان المتنبي إلى أنْ حفظتُهُ عن ظهر قلب. ثم عثرت فيما بعد على كتاب طه حسين (مع المتنبي). ولك أنْ تتصور الغضب الدرامي الذي شعرتُ به وأنا أرى كاتباً أحبه، هو طه حسين، يحطم شاعرا أعبده، هو المتنبي.
هل تتصور ماذا فعلت؟ لقد ألفتُ "كتاباً " كاملا، في دفتر من مائة صفحة، في الرد على طه حسين! والغريب أني قلدتُ في"كتابي" ذاك أسلوبَ طه حسين نفسه (مستعملاً عبارات مثل :" أما أنا فأزعم" و" أغلب الظن" و"يُجبرُ نفسَه أو تجبره نفسُه" إلخ .)
وكم أتحسر ، ياصديقي، على تلك القرزمة التلميذية التي ضيعتُها فيما ضيعتُ من عمري. فلم أعد أذكر منها اليوم إلا نهايتها القاسية جداً، والمنافية لأخلاقي. فقد أنهيتُ الكتاب بما معناه:
(ورحم الله أبا الطيب الذي يقول:
وإذا خفيتُ على الغبيّ فعاذرٌ
أنْ لا تراني مقلة عمياءُ)
تصور! لابد أني كنتُ في قمة الغضب والغباء حين كتبتُ ما كتبت. لكن هل الغضب عذر؟ وهل الغباء عذر؟ وددتُ بجدع الأنف لو أني لم أقترفْ تلك العبارة.
صحيحٌ أن طه حسين كان متحاملا على المتنبي. وقد أعداني، والتحامُلُ يعدي، فتحاملتُ بدوري، ولو تحمَّلتُ لكان أجملَ بي. وعلى أية حال، فالمتنبي الشخص لم يكن يخلو من العيوب، فقد كان تياها متهورا متكبرا متعجرفا، يرى أن الناسَ كلهم واقفون تحت أخمصيْه. لكنْ ألستَ ترى معي أن لكل عيب إنساني تعليلاً ؟
وتبقى قيمة هذا الشاعر العظيم، في رأيي، أنه لا يُمل ولا يَبلى. وقد قرأتُ قبل قليل بيتَه المشهور :
إذا ما لبستَ الدهر مستمتعا به
تخرقتَ والملبوسُ لم يتخرقِ
فكأني أقرأه لأول مرة. وكلما أعدتُ قراءته ينهض من رماد الذاكرة كالفينيق.
وثمة أبيات كثيرة أشعر كلما عدتُ إليها أني أكتشفها من جديد. ومنها هذان البيتان الذهبيان، من البائية التي يرثي فيها خولة، أخت سيف الدولة:
طوى الجزيرة َحتى جاءني خبرٌ
فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يَدَعْ لي صدقُهُ أملاً
شرقت ُ بالدمع حتى كاد يشرق بي
وياما عذبني هذا الشطر الأخير وأنا أيامئذ مراهق. لكنه كان عذابا ممتعا كعذاب الحب.
******************
● من عبد القادر وساط إلى أحمد بوزفور
--------------------------------------------
مساء الخير، صديقي العزيز.
بالفعل، لم يكن المتنبي الشخص يخلو من العيوب، ولكنّ لكل عيب تعليلاً، كما قلتَ في رسالتك. ولو عدنا إلى الحياة التي عاشها المتنبي لالتمسنا له الكثير من الأعذار، فيما يتصل بتعاليه وعجرفته، وبما حكاه الرواة عن سلوكه الأخرق، المتهور . ذلك أن الحياة لم تبخل عليه بالمتاعب...فقد توفيت أمه وهو طفل صغير وتكفلتْ جدته بتنشئته ...وكان أبوه "عيدان" سقاءً متواضع الحال، في مدينة الكوفة، التي كانت آنئذ مضطربة الأحوال. ويبدو أن جدته كانت على جانب من الصرامة والحزم، وأنها هي التي دفعته دفعا إلى الزواج، وهو في مطلع الشباب.
ومن التجارب المريرة التي عاشها شاعرنا أنه قضى سنة (أو سنتين؟) في السجن، بمدينة حمص، وهو شاب صغير.
ومن المحن الأخرى التي نزلت بهذا الشاعر العظيم وفاة زوجته، في مرحلة النفاس، وهو في الثالثة والثلاثين من العمر، تقريبا... والثابت أنه لم يتزوج بعد ذلك، وأنه أشرف بنفسه على تربية ولده مُحَسّد.
وقد زاد من معاناته، دون شك، ما كان يلمسه لدى أهل زمنه من ذلة ومن خنوع، ومن تملق للأغنياء وذوي النفوذ... ولعل حكايته مع بائع البطيخ، في بغداد، تعطينا فكرة واضحة عن تلك الذلة وعن ذلك الخنوع... فلنتركه يروي هذه الحكاية بنفسه إذْ يقول:
" وردتُ في صباي من الكوفة إلى بغداد، فأخذتُ خمسة دراهم في جيب منديلي، وخرجتُ أمشي في أسواق بغداد، فمررت بصاحب دكان يبيع الفاكهة، فرأيت عنده خمس بطيخات، من البطيخ باكورة، فاستحسنتها ونويت أشتريها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه وقلت:
- بكم تبيع هذه البطاطيخ ؟
فقال بغير اكتراث :
-اذهب، فليس هذا من أكلك.
فتماسكتُ معه، وقلت:
- أيها الرجل، دع ما يغيظ واقصد الثمن.
فقال:
- ثمنها عشرة دراهم.
فلشدة ما جبهني به ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائرا ودفعت له خمسة دراهم فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجار قد خرج من الخان، ذاهبا إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من دكانه ودعا له وقال له:
- يا مولاي، هذا بطيخ باكور، بإجازتك أحمله إلى منزلك.
فقال الشيخ:
- ويحك بكم هذا؟
قال:
- بخمسة دراهم.
فقال له:
- بل بدرهمين.
فباعه البطاطيخ الخمس بدرهمين وحملها إلى داره ودعا له وعاد إلى دكانه مسرورا بما فعل، فقلت له:
- يا هذا، ما رأيتُ أعجب من جهلك، استَمْتَ علي في هذا البطيخ وفعلتَ فعلتك التي فعلت، وكنتُ قد أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم، فبعتَه بدرهمين محمولا.
فقال:
- اسكت، هذا يملك مائة ألف دينار...
هذه إذن قصة ( البطاطيخ)، كما يرويها المتنبي بنفسه، فكيف لا(ينقم) هذا الشاعر على أهل زمنه، يا صديقي، وفيهم الكثيرون من أمثال هذا التاجر الخنوع، وكيف لايقول في ميميته الشهيرة:
واقفاً تحتَ أخْمَصَيْ قَدْر نفسي
واقفاً تحتَ أخْمصَيَّ الأنامُ ؟
صديقي العزيز ،
قبل أن أتعرف على المعري، قرأتُ المتنبي... ويا لطرَبي وأنا أكتشفه!
كان ذلك في بداية الستينيات، وأنا في ما يسمى اليوم بالإعدادي. كنت أسكن في مدرسة البوعنانية، قرب "بوجلود" بفاس، وأهبط بانتظام إلى خزانة القرويين (وكانت خزانة رائعة: قاعة مطالعة فسيحة، كراسيها كبيرة وعالية، فلم تكن قدماي تصلان الأرض الرخامية الباردة.) هناك كنتُ أنكبُّ على ديوان المتنبي إلى أنْ حفظتُهُ عن ظهر قلب. ثم عثرت فيما بعد على كتاب طه حسين (مع المتنبي). ولك أنْ تتصور الغضب الدرامي الذي شعرتُ به وأنا أرى كاتباً أحبه، هو طه حسين، يحطم شاعرا أعبده، هو المتنبي.
هل تتصور ماذا فعلت؟ لقد ألفتُ "كتاباً " كاملا، في دفتر من مائة صفحة، في الرد على طه حسين! والغريب أني قلدتُ في"كتابي" ذاك أسلوبَ طه حسين نفسه (مستعملاً عبارات مثل :" أما أنا فأزعم" و" أغلب الظن" و"يُجبرُ نفسَه أو تجبره نفسُه" إلخ .)
وكم أتحسر ، ياصديقي، على تلك القرزمة التلميذية التي ضيعتُها فيما ضيعتُ من عمري. فلم أعد أذكر منها اليوم إلا نهايتها القاسية جداً، والمنافية لأخلاقي. فقد أنهيتُ الكتاب بما معناه:
(ورحم الله أبا الطيب الذي يقول:
وإذا خفيتُ على الغبيّ فعاذرٌ
أنْ لا تراني مقلة عمياءُ)
تصور! لابد أني كنتُ في قمة الغضب والغباء حين كتبتُ ما كتبت. لكن هل الغضب عذر؟ وهل الغباء عذر؟ وددتُ بجدع الأنف لو أني لم أقترفْ تلك العبارة.
صحيحٌ أن طه حسين كان متحاملا على المتنبي. وقد أعداني، والتحامُلُ يعدي، فتحاملتُ بدوري، ولو تحمَّلتُ لكان أجملَ بي. وعلى أية حال، فالمتنبي الشخص لم يكن يخلو من العيوب، فقد كان تياها متهورا متكبرا متعجرفا، يرى أن الناسَ كلهم واقفون تحت أخمصيْه. لكنْ ألستَ ترى معي أن لكل عيب إنساني تعليلاً ؟
وتبقى قيمة هذا الشاعر العظيم، في رأيي، أنه لا يُمل ولا يَبلى. وقد قرأتُ قبل قليل بيتَه المشهور :
إذا ما لبستَ الدهر مستمتعا به
تخرقتَ والملبوسُ لم يتخرقِ
فكأني أقرأه لأول مرة. وكلما أعدتُ قراءته ينهض من رماد الذاكرة كالفينيق.
وثمة أبيات كثيرة أشعر كلما عدتُ إليها أني أكتشفها من جديد. ومنها هذان البيتان الذهبيان، من البائية التي يرثي فيها خولة، أخت سيف الدولة:
طوى الجزيرة َحتى جاءني خبرٌ
فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يَدَعْ لي صدقُهُ أملاً
شرقت ُ بالدمع حتى كاد يشرق بي
وياما عذبني هذا الشطر الأخير وأنا أيامئذ مراهق. لكنه كان عذابا ممتعا كعذاب الحب.
******************
● من عبد القادر وساط إلى أحمد بوزفور
--------------------------------------------
مساء الخير، صديقي العزيز.
بالفعل، لم يكن المتنبي الشخص يخلو من العيوب، ولكنّ لكل عيب تعليلاً، كما قلتَ في رسالتك. ولو عدنا إلى الحياة التي عاشها المتنبي لالتمسنا له الكثير من الأعذار، فيما يتصل بتعاليه وعجرفته، وبما حكاه الرواة عن سلوكه الأخرق، المتهور . ذلك أن الحياة لم تبخل عليه بالمتاعب...فقد توفيت أمه وهو طفل صغير وتكفلتْ جدته بتنشئته ...وكان أبوه "عيدان" سقاءً متواضع الحال، في مدينة الكوفة، التي كانت آنئذ مضطربة الأحوال. ويبدو أن جدته كانت على جانب من الصرامة والحزم، وأنها هي التي دفعته دفعا إلى الزواج، وهو في مطلع الشباب.
ومن التجارب المريرة التي عاشها شاعرنا أنه قضى سنة (أو سنتين؟) في السجن، بمدينة حمص، وهو شاب صغير.
ومن المحن الأخرى التي نزلت بهذا الشاعر العظيم وفاة زوجته، في مرحلة النفاس، وهو في الثالثة والثلاثين من العمر، تقريبا... والثابت أنه لم يتزوج بعد ذلك، وأنه أشرف بنفسه على تربية ولده مُحَسّد.
وقد زاد من معاناته، دون شك، ما كان يلمسه لدى أهل زمنه من ذلة ومن خنوع، ومن تملق للأغنياء وذوي النفوذ... ولعل حكايته مع بائع البطيخ، في بغداد، تعطينا فكرة واضحة عن تلك الذلة وعن ذلك الخنوع... فلنتركه يروي هذه الحكاية بنفسه إذْ يقول:
" وردتُ في صباي من الكوفة إلى بغداد، فأخذتُ خمسة دراهم في جيب منديلي، وخرجتُ أمشي في أسواق بغداد، فمررت بصاحب دكان يبيع الفاكهة، فرأيت عنده خمس بطيخات، من البطيخ باكورة، فاستحسنتها ونويت أشتريها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه وقلت:
- بكم تبيع هذه البطاطيخ ؟
فقال بغير اكتراث :
-اذهب، فليس هذا من أكلك.
فتماسكتُ معه، وقلت:
- أيها الرجل، دع ما يغيظ واقصد الثمن.
فقال:
- ثمنها عشرة دراهم.
فلشدة ما جبهني به ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائرا ودفعت له خمسة دراهم فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجار قد خرج من الخان، ذاهبا إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من دكانه ودعا له وقال له:
- يا مولاي، هذا بطيخ باكور، بإجازتك أحمله إلى منزلك.
فقال الشيخ:
- ويحك بكم هذا؟
قال:
- بخمسة دراهم.
فقال له:
- بل بدرهمين.
فباعه البطاطيخ الخمس بدرهمين وحملها إلى داره ودعا له وعاد إلى دكانه مسرورا بما فعل، فقلت له:
- يا هذا، ما رأيتُ أعجب من جهلك، استَمْتَ علي في هذا البطيخ وفعلتَ فعلتك التي فعلت، وكنتُ قد أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم، فبعتَه بدرهمين محمولا.
فقال:
- اسكت، هذا يملك مائة ألف دينار...
هذه إذن قصة ( البطاطيخ)، كما يرويها المتنبي بنفسه، فكيف لا(ينقم) هذا الشاعر على أهل زمنه، يا صديقي، وفيهم الكثيرون من أمثال هذا التاجر الخنوع، وكيف لايقول في ميميته الشهيرة:
واقفاً تحتَ أخْمَصَيْ قَدْر نفسي
واقفاً تحتَ أخْمصَيَّ الأنامُ ؟