1
تعدّ رواية (الرهينة) للروائي اليمني زيد مطيع دماج، من أهم الروايات اليمنية التي رصدت لمختلف العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية في فترة نظام حكم الأئمة، أي قبل قيام الحكم الجمهوري بصنعاء، وهي من أجرأ الروايات اليمنية الحديثة والمعاصرة في التركيز على فضاء الجسد والجنس، والقصور، وإيديولوجيا الطبقة الإمامية البائدة. إنها تؤسس لفن روائي يمني، يخرق المحرمات، وفق سخرية حادة مرّة من جميع الأعراف والتقاليد والقيم البطريركية المؤسسة على نظام معرفي سلطوي، أحادي الرؤية في تطلعاته ومفاهيمه وقيمه، وتفيد من فن السيرة الذاتية، ولغة المذكرات، والمونولوجات الداخلية الحالمة، وفن الاسترجاع والاستذكار، ولغة الحلم والتخيل، والقطع السينمائي، وتضع الواقع السياسي -المعيش- إبان فترة
الإمامة- بتناقضاته، وجهله وبطشه، خلفية وحقلاً مرجعياً، بحيث يشكّل هذا الحقل لحمة للعمل الروائي، وبنياته الجمالية والفنية. إنها تقدّم مجتمعاً واقعياً، لكنه من خلال البنية الفنية يبدو للقارئ مجتمعاً غرائبياً أسطورياً. لكنّ القارئ المتتبع لتاريخ اليمن، والذي عاصر الحكم الإمامي سيجد أنَّ هذا الواقع الغرائبي الأسطوري، ما هو إلاّ واقع كان حقيقة حيّة سائدة، عاشه الروائي زيد مطيع دماج، وصوّره بفنية جمالية تنهل في بنيتها العميقة من معطيات المدرسة الواقعية في الأدب، وبنياتها وتوجهاتها المعرفية، هو الواقع اليمني في عهد الأئمة الذين حكموا اليمن، وفرضوا
عليه عزلة، ومنعوا تطوّره الحضاري، فكرياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً، ومن خلال هذا الواقع يبدو فضاء المدينة باهتاً وضيقاً ومخنوقاً، وعموماً فإنّ
كثيراً من الأعمال الأدبية، سواء أكانت رواية أم قصة أم نصوصاً شعرية، تعاملت مع فضاء المدينة بمزيد من الرفض، والسوداوية باعتباره فضاء
للاستلاب والعلاقات الاستهلاكية، فضاء للحد من الحرية، ولمزيد من انسحاق الروح تحت وطأة الفقر والجوع والمرض، وتحكّم طبقة معينة بباقي الطبقات الأخرى، فضاء لنظام مؤسساتي "لا يعنى بالبشر كأفراد ومواطنين بل يتعامل معهم كأجساد بشرية، ومخلوقات ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ وما قبل السياسة.
ففي الوقت الذي ازدادت قوى السيطرة والحكم للدولة عما كانت عليه قبل خمسين سنة أصبح من المحتم أن يقلّ الاحترام لحرية الفرد لأنّ القضية السياسية الأساسية في الوقت الحاضر لا تُعنى بالحريات البشرية... ونحن جميعاً كمخلوقات، عبيد على حد سواء وذلك بسبب حاجاتنا الطبيعية"(1).
إنّ فضاء المدينة عند الروائي زيد مطيع دماج، غاصّ بالعبيد والمضطهدين - بفتح الطاء، فضاء لا يوجد فيه غير طبيب إيطالي واحد وسيارة واحدة،
ومذياع واحد في قصر يضم مئات الأشخاص معظمهم من العبيد والخدم، ولأنّ البطل "الرهينة" كان من أسرة معارضة لنظام الإمام، فطبيعي أن يُبرز السرد الروائي إيديولوجية معارضة لإيديولوجيا السلطة الحاكمة.
وفي هذه الدراسة سأركّز على الفضاء الذي كان سجناً لبطل الرواية، الذي يسميه الروائي بـ "الرهينة"، وهو اسم الرواية أيضاً، وهذا الفضاء هو قصر النائب، الذي يُقتاد إليه الرهينة ليُسجن فيه، انتقاماً من أسرته المعارضة لنظام الإمام.
ومن خلال هذا الفضاء "قصر النائب"، يمكننا تلمسّ أوجه فضاءات مدينة صنعاء- إبان حكم الإمام- بعلاقاتها كافة، ففضاء قصر النائب هو المدينة المصغّرة، التي تعكس مدينة كبيرة، تتشكل واضحة في قيمها، وعلاقاتها، وحرمانها، وفقرائها، وأغنيائها البطرين وطبقاتها السياسية والاجتماعية داخل القصر.
يرى فورستر أنّ سبعة أوجه أو زوايا يمكن أن تشكّل فنياً أركان الجنس الروائي والقصص، وهي:
1-الحكاية.
2-الشخصيات
3-الحبكة الروائية
4-الإغراق في الخيال.
5- الشفافية*.
6-الإطار. النموذج والإيقاع**(2).
وهذه الأوجه لا تتحقق عملياً في الجنس الروائي، إلاّ داخل حيّز مكاني، تصطلح الدراسات النقدية الغربية الجديدة على تسميته بالفضاء الروائي(3)، ولقد عرف هذا الفضاء في الدراسات النقدية القديمة بالمكان.
إنّ للفضاء الروائي دوراً مهماً في تشكيل العمل الروائي، فهو البنية الأساسية من بنياته الفنية، ولا يمكن تصوّر أحداث روائية إلا بوجود مكان
تنمو فيه الأحداث وتتشعب، فكل المكّونات الحكائية في العمل الروائي تتشكل داخل الفضاء الذي تتم به عمليات التخيُل والاستذكار والحلم، فلا يمكننا أن
نتخيل شخصية روائية تفكر وتتفاعل مع أخرى، وتراقب وتحلل الأوضاع الإيديولوجية والاجتماعية إلاّ داخل مكان. ومن خلال المكان يمكن أن تفهم
حركة الشخوص الروائية، ورؤاها، فـ "بيت الإنسان امتداد له، فإذا وصفت البيت فقد وصفت الإنسان"(4)، والمكان في الرواية هو فضاء جمالي مهمته تجسيد رؤى الكاتب وشخصياته، ومن خلال بنية المكان يمكن الاعتماد على خطاب التعرية والإدانة لكل مواصفات الأوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية، ومن هنا يمكن الاعتماد على المكان لفهم الحدث الروائي، ولفهم علاقات الشخوص فيما بينها، وحتى يمكن فهم المكان تُدرس بنيته في الشكل الروائي، ونموه وتعدده، وكذلك مجمل الصور التي يظهر فيها هذا المكان.
يتعدد الفضاء المكاني في رواية الرهينة، فهو إحالات سريعة إلى الريف، مسقط رأس الرهينة، وتارة إلى المدينة وأخرى إلى قلعة الرهائن، وقصر ولي العهد سيف الإسلام-، إلاّ أنَّ أهم فضاء في الرواية هو فضاء قصر النائب الذي يتفرع بدوره إلى فضاءات فرعية أخرى: جناح الشريفة حفصة، غرفة الدويدار،
وصديقه الرهينة، غرفة البورزان -ضارب النفير-، ملحقات الجنود والحرس، اسطبلات الخيول، غرفة "مقيل النائب"، ودهاليز وممرات وسلالم، كان لها دورأساسي في التركيز على العلاقات الجنسية غير الشرعية في القصر.
وفضاء قصر النائب في رواية الرهينة هو المكان المحوري في الرواية، إنه يستوعب، على الرغم من انغلاقه‘ لوحات اجتماعية متشابكة ومعقّدة، وإذا كان السارد لا يفصح عنها بطريقة مباشرة، فإن الوصف والسرد يبرزانها بين فترة وأخرى، وهي حاضرة في هذا الفضاء المركزي بطريقة غير مباشرة، ونتيجة لتعدد هذه الفضاءات وتشعبها وإحالاتها السياسية والاجتماعية في فضاء القصر، فإننا
سنقتصر على دراسة فضاء العتبة في القصر، وتحديداً فضاء النافذة، وبخاصة
في غرفة الدويدار وصديقه الرهينة(5)، لما لهذا الفضاء من أهمية باعتبار
دلالته السيميائية، وقدرته على أن يشكل فضاء للحرية والتوق، فالفضاء
المكاني ببنيته وشكله، وأثاثه، ومكوّنات ديكوره يحيل بشكل أو بآخر إلى
كثير من الأبعاد الرمزية للشخصيات التي تتحرك وتتفاعل في هذا المكان.
إنّ لفضاء العتبة (النافذة) دوراً مهماً في حياة البطل (الرهينة(، ولقد
استطاع الروائي زيد مطيع دماج بمهارة أن يحدد مهمات هذا الفضاء ودوره
على المستوى النفسي والتأملي والإنساني، فمن خلال هذا الفضاء كان الرهينة
يتأمل مدينته المفجوعة، و يراقبها: "نهضت من نومي الساهد... كالمضروب...
جميع مفاصل جسمي منهكة.. فتحت النافذة الصغيرة أرى شبه سحابة وباء
صفراء تخيم على المدينة"(6)، ومن خلال هذا الفضاء كان يحلم، ويراقب أضواء النجوم
الخافتة، ويشكّل الشريفة (حفصة) -أخت سجّانه النائب- لوحة جمالية عبر حب
عميق ملأ كيانه: "قمت إلى النافذة.. شبه النافذة لأتأمل النجوم وبصيصاً من
ضوئها... صورتها ما زالت أمامي... بصوتها الرخو والمبحوح الذي ملأ
مسامعي... تخيلتها بابتسامتهاالمتساءلة عني"(7) .
وقد كانت النافذة فضاء للتوق الجسدي، وتحققه مع المرأة، للتحرر من
طاقات الجسد المستنفرة داخل فضاء الأسر، فمن فضاء النافذة كان البطل
الرهينة يشكّل جسد الشريفة حفصة على شكل إيحاءات ودلالات جنسية:
"ما زال قدّها الفارع يتماثل أمام مخيلتي وهي تتلوى كأفعى سلسة الملمس..
وربما كغانية من الحور العين.. لا أدري كيف علقت في كل حواسي وكياني
ومشاعري هذه (حفصة).. نعم الشريفة حفصة.."(8)
لقد شكّل فضاء النافذة في الرواية فسحة جمالية، فمن خلاله عبّر البطل
)الرهينة) عن استبطاناته الذاتية العميقة صوب الشخصية النسائية (حفصة).
وقد أذكى هذا الفضاء جذوة الحلم والتخيّل عنده، باعتباره مساحة ضوء
جميلة تبرز مفاتن حفصة، و "يُمَكّن الحلم من رهافة قصوى، في المشاعر
الأخلاقية، بل الميتافيزيقية أحياناً، ويسندها، ويمسك بها، ويكشف عنها
كشفاً، كما يكشف عن أدق معاني العلاقات الإنسانية، عن الاختلافات المرهفة
وعن معرفة متمدّنة أعلى ما يكون التمدن، وباختصار، يكشف عن منطق واع مترابط بدقة غريبة، لا يبلغها إلاّ عمل شديد اليقظة"(9).
إن خصائص الفضاء المشبعة بالإيحاءات الجنسية قادرة على النفاذ إلى أعماق
الشخصية، عن طريق الحلم والتخيل، وهذا الفضاء يتفاعل مع الشخصية بدوره،
ويحدد بعض طموحاتها، وإذا كانت الشخصية هي التي تشكّل المكان وفضاءاته،
وعلاقاته، فإن ملامح هذه الشخصية تتقاطع كثيراً مع ملامح المكان الروائي،
على المستوى الابستيمولوجي والنفسي، فتارة يبدو الفضاء أليفاً قريباً من
النفس البشرية، وتارة يبدو قاتماً وفاجعاً، وفضاء النافذة مليء بالحضور
البشري الأليف لدى (الرهينة)، طالما هو قادر على إبراز جماليات جسد
الشريفة (حفصة)، المتنكر باللذة الطاغية: "كانت الشريفة متكئة على حافة
النافذة في رأس المنظرة وقد برز شعرها الأجعد من خلال ثنايا منديل
برتقالي اللون، وتراءى جسدها الأبيض من خلال ثوبها الشفاف الحريري..
وكانت متكئة بإحدى يديها على النافذة، وقد مدّتها إلى الأمام، أمّا الأخرى
فكانت على خدها وهي سابحة بنظرها وفكرها نحو الساحة.. تأملت يدها..
كانت مزينة بأساور من الذهب ومزركشة بالحناء والخضاب الأسود المتعرج على
أنامل كالشمع الأحمر الممزوج باللبن الصافي.. استدارت كنمرة مسترخية
الملمس وقد أصلحت من ثوبها على ركبتيها وغطّت ساقيها... لمحت نظرتها
نحوي مستفسرة بهاتين العينين الواسعتين المكحلتين بجاذبية متوهجة...
اقتربت منا فجأة وقد امتشق قوامها كأنها شمعة ملونة تذيب كل نشوات
اللذة الطاغية"(10).
وأحياناً يكون فضاء النافذة ببنيته الداخلية، مـــــــــــــــــن
حيث علاقته بالشخصية التي تراقب منه، فضاء رمزياً وجمالياً وأيديولوجياً،
يساعدنا على فهم بنية الشخصية التي تسكنه في وعيها وطموحها ورؤيتها
للحياة والعالم، "فالمكان لا يظهر إلاّ من خلال وجهة نظر شخصية تعيش فيه أو
تخترقه وليس لديه استقلال إزاء الشخص الذي يندرج فيه، على مستوى السرد‘
فإنّ المنظور الذي تتخذه الشخصية هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي
ويرسم طوبوغرافيته، ويجعله يحقق دلالته الخاصة وتماسكه الأيديولوجي"(11).
لقد كان البطل (الرهينة) على تنافر مع فضاء مدينته، باعتباره فضاء
معتماً يعربد فيه القمع وأخطبوط السلطة، فصار يلجأ إلى النافذة آملاً أن
يرى وميضاً، يستشرف آفاق الحرية والنور: "جلست ثم زحفت نحو النافذة
الصغيرة عسى أن أرى أي شيء يومض من فوق جبلي الشامخ البعيد. كان الظلام
دامساً. لا بصيص من نور سوى أضواء النجوم البعيدة"(12).
إنّ الفضاء الروائي بامتداده، وبإيحاءاته البنيوية يُعتبر من أهم مكّونات
التخيل الرؤيوي في الخطاب الروائي، فمن خلاله تتشكل المكّونات الحكائية
الأخرى كالسرد والحوار والأحداث، وتتحدد مواقف الشخصية الفكرية
والإيديولوجية، ولقد طوّع الكاتب فضاء العتبة "النافذة" ليدين سلوك
السلطة الإمامية، في استعبادها لمواطنيها وتحويلهم إلى خدم: "كان صاحبي
يقوم بفرك رجلي النائب المبطوح أمام النافذة المطلة على ساحة قصره
وملحقاته.. كما هي عادة النواب والأمراء والسيوف.. سيوف الإسلام الذين لم
أعرف أحداً منهم حتى الآن"(13).
لقد اتخذ البطل "الرهينة" من فضاء النافذة فسحة للاســـــــــــــــتذكاروالتداعي،
والحنين إلى الحرية والمرأة، والتوق إلى جسد الشريفة وصوتها عبر فضاء
لفظي Espace verbal قوامه لغة رومانسية شفيفة: "كم يغمرني الحنين كلما
تكوّرت بجانب النافذة الصغيرة المنفية في غرفة صاحبي... وقد تهدل يمامة،
أو يزقزق عصفور ليذكرني بأنه الملجأ والملاذ البارد الحنون... إيه...
شريفتي الحبيبة ذات الصوت المبحوح... منذ فترة لم يطرق أذني ذلك الرنين
الصادر منك. كم هو رائع. في بلادي التي حكيت لك عنها العجاب،
استضعفوني... واعتدوا عليّ... ومسخوني رهينة... ودويدارا في بلاطك.. لكأن
صوتك الرنان ينزلق في رفق.. يحوّل الصدى إلى موسيقى ذات إيقاع حالم(14).
إنَّ فضاء العتبة يشكّل حداً فاصلاً بين خارج القصر وداخله، ومن فضاء النافذة
كان يهرب الرهينة من الداخل بعلاقاته الاستلابية على المستوى النفسي،
والاستهلاكية على المستوى الجسدي، وهذا الفضاء عنصر وظيفي يستخدمه السارد
ليحقق للبطل الرهينة توازناً نفسياً، وهو منفذ للهروب من استلاب
القصر: "عدت إلى غرفة صاحبي ذات ليلة متأخرة.. ارتميت بجوار النافذة
الصغيرة، ينهشني الغمّ والكدر والضيق: الضيق الحقيقي من الحياة"(15).
_____
الهوامش والمراجع
في الجزء الثاني من هذه الدراسة.
تعدّ رواية (الرهينة) للروائي اليمني زيد مطيع دماج، من أهم الروايات اليمنية التي رصدت لمختلف العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية في فترة نظام حكم الأئمة، أي قبل قيام الحكم الجمهوري بصنعاء، وهي من أجرأ الروايات اليمنية الحديثة والمعاصرة في التركيز على فضاء الجسد والجنس، والقصور، وإيديولوجيا الطبقة الإمامية البائدة. إنها تؤسس لفن روائي يمني، يخرق المحرمات، وفق سخرية حادة مرّة من جميع الأعراف والتقاليد والقيم البطريركية المؤسسة على نظام معرفي سلطوي، أحادي الرؤية في تطلعاته ومفاهيمه وقيمه، وتفيد من فن السيرة الذاتية، ولغة المذكرات، والمونولوجات الداخلية الحالمة، وفن الاسترجاع والاستذكار، ولغة الحلم والتخيل، والقطع السينمائي، وتضع الواقع السياسي -المعيش- إبان فترة الإمامة- بتناقضاته، وجهله وبطشه، خلفية وحقلاً مرجعياً، بحيث يشكّل هذا الحقل لحمة للعمل الروائي، وبنياته الجمالية والفنية. إنها تقدّم مجتمعاً واقعياً، لكنه من خلال البنية الفنية يبدو للقارئ مجتمعاً غرائبياً أسطورياً. لكنّ القارئ المتتبع لتاريخ اليمن، والذي عاصر الحكم الإمامي سيجد أنَّ هذا الواقع الغرائبي الأسطوري، ما هو إلاّ واقع كان حقيقة حيّة سائدة، عاشه الروائي زيد مطيع دماج، وصوّره بفنية جمالية تنهل في بنيتها العميقة من معطيات المدرسة الواقعية في الأدب، وبنياتها وتوجهاتها المعرفية، هو الواقع اليمني في عهد الأئمة الذين حكموا اليمن، وفرضوا عليه عزلة، ومنعوا تطوّره الحضاري، فكرياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً، ومن خلال هذا الواقع يبدو فضاء المدينة باهتاً وضيقاً ومخنوقاً، وعموماً فإنّ كثيراً من الأعمال الأدبية، سواء أكانت رواية أم قصة أم نصوصاً شعرية، تعاملت مع فضاء المدينة بمزيد من الرفض، والسوداوية باعتباره فضاء للاستلاب والعلاقات الاستهلاكية، فضاء للحد من الحرية، ولمزيد من انسحاق الروح تحت وطأة الفقر والجوع والمرض، وتحكّم طبقة معينة بباقي الطبقات الأخرى، فضاء لنظام مؤسساتي "لا يعنى بالبشر كأفراد ومواطنين بل يتعامل معهم كأجساد بشرية، ومخلوقات ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ وما قبل السياسة. ففي الوقت الذي ازدادت قوى السيطرة والحكم للدولة عما كانت عليه قبل خمسين سنة أصبح من المحتم أن يقلّ الاحترام لحرية الفرد لأنّ القضية السياسية الأساسية في الوقت الحاضر لا تُعنى بالحريات البشرية... ونحن جميعاً كمخلوقات، عبيد على حد سواء وذلك بسبب حاجاتنا الطبيعية"(1). إنّ فضاء المدينة عند الروائي زيد مطيع دماج، غاصّ بالعبيد والمضطهدين - بفتح الطاء، فضاء لا يوجد فيه غير طبيب إيطالي واحد وسيارة واحدة، ومذياع واحد في قصر يضم مئات الأشخاص معظمهم من العبيد والخدم، ولأنّ البطل "الرهينة" كان من أسرة معارضة لنظام الإمام، فطبيعي أن يُبرز السرد الروائي إيديولوجية معارضة لإيديولوجيا السلطة الحاكمة. وفي هذه الدراسة سأركّز على الفضاء الذي كان سجناً لبطل الرواية، الذي يسميه الروائي بـ "الرهينة"، وهو اسم الرواية أيضاً، وهذا الفضاء هو قصر النائب، الذي يُقتاد إليه الرهينة ليُسجن فيه، انتقاماً من أسرته المعارضة لنظام الإمام. ومن خلال هذا الفضاء "قصر النائب"، يمكننا تلمسّ أوجه فضاءات مدينة صنعاء- إبان حكم الإمام- بعلاقاتها كافة، ففضاء قصر النائب هو المدينة المصغّرة، التي تعكس مدينة كبيرة، تتشكل واضحة في قيمها، وعلاقاتها، وحرمانها، وفقرائها، وأغنيائها البطرين وطبقاتها السياسية والاجتماعية داخل القصر. يرى فورستر أنّ سبعة أوجه أو زوايا يمكن أن تشكّل فنياً أركان الجنس الروائي والقصص، وهي: 1-الحكاية. 2-الشخصيات 3-الحبكة الروائية. 4-الإغراق في الخيال. 5- الشفافية*. 6-الإطار. النموذج والإيقاع**(2). وهذه الأوجه لا تتحقق عملياً في الجنس الروائي، إلاّ داخل حيّز مكاني، تصطلح الدراسات النقدية الغربية الجديدة على تسميته بالفضاء الروائي(3)، ولقد عرف هذا الفضاء في الدراسات النقدية القديمة بالمكان. إنّ للفضاء الروائي دوراً مهماً في تشكيل العمل الروائي، فهو البنية الأساسية من بنياته الفنية، ولا يمكن تصوّر أحداث روائية إلا بوجود مكان تنمو فيه الأحداث وتتشعب، فكل المكّونات الحكائية في العمل الروائي تتشكل داخل الفضاء الذي تتم به عمليات التخيُل والاستذكار والحلم، فلا يمكننا أن نتخيل شخصية روائية تفكر وتتفاعل مع أخرى، وتراقب وتحلل الأوضاع الإيديولوجية والاجتماعية إلاّ داخل مكان. ومن خلال المكان يمكن أن تفهم حركة الشخوص الروائية، ورؤاها، فـ "بيت الإنسان امتداد له، فإذا وصفت البيت فقد وصفت الإنسان"(4)، والمكان في الرواية هو فضاء جمالي مهمته تجسيد رؤى الكاتب وشخصياته، ومن خلال بنية المكان يمكن الاعتماد على خطاب التعرية والإدانة لكل مواصفات الأوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية، ومن هنا يمكن الاعتماد على المكان لفهم الحدث الروائي، ولفهم علاقات الشخوص فيما بينها، وحتى يمكن فهم المكان تُدرس بنيته في الشكل الروائي، ونموه وتعدده، وكذلك مجمل الصور التي يظهر فيها هذا المكان. يتعدد الفضاء المكاني في رواية الرهينة، فهو إحالات سريعة إلى الريف، مسقط رأس الرهينة، وتارة إلى المدينة وأخرى إلى قلعة الرهائن، وقصر ولي العهد سيف الإسلام-، إلاّ أنَّ أهم فضاء في الرواية هو فضاء قصر النائب الذي يتفرع بدوره إلى فضاءات فرعية أخرى: جناح الشريفة حفصة، غرفة الدويدار، وصديقه الرهينة، غرفة البورزان -ضارب النفير-، ملحقات الجنود والحرس، اسطبلات الخيول، غرفة "مقيل النائب"، ودهاليز وممرات وسلالم، كان لها دورأساسي في التركيز على العلاقات الجنسية غير الشرعية في القصر. وفضاء قصر النائب في رواية الرهينة هو المكان المحوري في الرواية، إنه يستوعب، على الرغم من انغلاقه‘ لوحات اجتماعية متشابكة ومعقّدة، وإذا كان السارد لا يفصح عنها بطريقة مباشرة، فإن الوصف والسرد يبرزانها بين فترة وأخرى، وهي حاضرة في هذا الفضاء المركزي بطريقة غير مباشرة، ونتيجة لتعدد هذه الفضاءات وتشعبها وإحالاتها السياسية والاجتماعية في فضاء القصر، فإننا سنقتصر على دراسة فضاء العتبة في القصر، وتحديداً فضاء النافذة، وبخاصة في غرفة الدويدار وصديقه الرهينة(5)، لما لهذا الفضاء من أهمية باعتبار دلالته السيميائية، وقدرته على أن يشكل فضاء للحرية والتوق، فالفضاء المكاني ببنيته وشكله، وأثاثه، ومكوّنات ديكوره يحيل بشكل أو بآخر إلى كثير من الأبعاد الرمزية للشخصيات التي تتحرك وتتفاعل في هذا المكان. إنّ لفضاء العتبة (النافذة) دوراً مهماً في حياة البطل (الرهينة(، ولقد استطاع الروائي زيد مطيع دماج بمهارة أن يحدد مهمات هذا الفضاء ودوره على المستوى النفسي والتأملي والإنساني، فمن خلال هذا الفضاء كان الرهينة يتأمل مدينته المفجوعة، و يراقبها: "نهضت من نومي الساهد... كالمضروب... جميع مفاصل جسمي منهكة.. فتحت النافذة الصغيرة أرى شبه سحابة وباء صفراء تخيم على المدينة"(6)، ومن خلال هذا الفضاء كان يحلم، ويراقب أضواء النجوم الخافتة، ويشكّل الشريفة (حفصة) -أخت سجّانه النائب- لوحة جمالية عبر حب عميق ملأ كيانه: "قمت إلى النافذة.. شبه النافذة لأتأمل النجوم وبصيصاً من ضوئها... صورتها ما زالت أمامي... بصوتها الرخو والمبحوح الذي ملأ مسامعي... تخيلتها بابتسامتهاالمتساءلة عني"(7) . وقد كانت النافذة فضاء للتوق الجسدي، وتحققه مع المرأة، للتحرر من طاقات الجسد المستنفرة داخل فضاء الأسر، فمن فضاء النافذة كان البطل الرهينة يشكّل جسد الشريفة حفصة على شكل إيحاءات ودلالات جنسية: "ما زال قدّها الفارع يتماثل أمام مخيلتي وهي تتلوى كأفعى سلسة الملمس.. وربما كغانية من الحور العين.. لا أدري كيف علقت في كل حواسي وكياني ومشاعري هذه (حفصة).. نعم الشريفة حفصة.."(8) لقد شكّل فضاء النافذة في الرواية فسحة جمالية، فمن خلاله عبّر البطل )الرهينة) عن استبطاناته الذاتية العميقة صوب الشخصية النسائية (حفصة). وقد أذكى هذا الفضاء جذوة الحلم والتخيّل عنده، باعتباره مساحة ضوء جميلة تبرز مفاتن حفصة، و "يُمَكّن الحلم من رهافة قصوى، في المشاعر الأخلاقية، بل الميتافيزيقية أحياناً، ويسندها، ويمسك بها، ويكشف عنها كشفاً، كما يكشف عن أدق معاني العلاقات الإنسانية، عن الاختلافات المرهفة وعن معرفة متمدّنة أعلى ما يكون التمدن، وباختصار، يكشف عن منطق واع مترابط بدقة غريبة، لا يبلغها إلاّ عمل شديد اليقظة"(9). إن خصائص الفضاء المشبعة بالإيحاءات الجنسية قادرة على النفاذ إلى أعماق الشخصية، عن طريق الحلم والتخيل، وهذا الفضاء يتفاعل مع الشخصية بدوره، ويحدد بعض طموحاتها، وإذا كانت الشخصية هي التي تشكّل المكان وفضاءاته، وعلاقاته، فإن ملامح هذه الشخصية تتقاطع كثيراً مع ملامح المكان الروائي، على المستوى الابستيمولوجي والنفسي، فتارة يبدو الفضاء أليفاً قريباً من النفس البشرية، وتارة يبدو قاتماً وفاجعاً، وفضاء النافذة مليء بالحضور البشري الأليف لدى (الرهينة)، طالما هو قادر على إبراز جماليات جسد الشريفة (حفصة)، المتنكر باللذة الطاغية: "كانت الشريفة متكئة على حافة النافذة في رأس المنظرة وقد برز شعرها الأجعد من خلال ثنايا منديل برتقالي اللون، وتراءى جسدها الأبيض من خلال ثوبها الشفاف الحريري.. وكانت متكئة بإحدى يديها على النافذة، وقد مدّتها إلى الأمام، أمّا الأخرى فكانت على خدها وهي سابحة بنظرها وفكرها نحو الساحة.. تأملت يدها.. كانت مزينة بأساور من الذهب ومزركشة بالحناء والخضاب الأسود المتعرج على أنامل كالشمع الأحمر الممزوج باللبن الصافي.. استدارت كنمرة مسترخية الملمس وقد أصلحت من ثوبها على ركبتيها وغطّت ساقيها... لمحت نظرتها نحوي مستفسرة بهاتين العينين الواسعتين المكحلتين بجاذبية متوهجة... اقتربت منا فجأة وقد امتشق قوامها كأنها شمعة ملونة تذيب كل نشوات اللذة الطاغية"(10). وأحياناً يكون فضاء النافذة ببنيته الداخلية، مـــــــــــــــــن حيث علاقته بالشخصية التي تراقب منه، فضاء رمزياً وجمالياً وأيديولوجياً، يساعدنا على فهم بنية الشخصية التي تسكنه في وعيها وطموحها ورؤيتها للحياة والعالم، "فالمكان لا يظهر إلاّ من خلال وجهة نظر شخصية تعيش فيه أو تخترقه وليس لديه استقلال إزاء الشخص الذي يندرج فيه، على مستوى السرد‘ فإنّ المنظور الذي تتخذه الشخصية هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي ويرسم طوبوغرافيته، ويجعله يحقق دلالته الخاصة وتماسكه الأيديولوجي"(11). لقد كان البطل (الرهينة) على تنافر مع فضاء مدينته، باعتباره فضاء معتماً يعربد فيه القمع وأخطبوط السلطة، فصار يلجأ إلى النافذة آملاً أن يرى وميضاً، يستشرف آفاق الحرية والنور: "جلست ثم زحفت نحو النافذة الصغيرة عسى أن أرى أي شيء يومض من فوق جبلي الشامخ البعيد. كان الظلام دامساً. لا بصيص من نور سوى أضواء النجوم البعيدة"(12). إنّ الفضاء الروائي بامتداده، وبإيحاءاته البنيوية يُعتبر من أهم مكّونات التخيل الرؤيوي في الخطاب الروائي، فمن خلاله تتشكل المكّونات الحكائية الأخرى كالسرد والحوار والأحداث، وتتحدد مواقف الشخصية الفكرية والإيديولوجية، ولقد طوّع الكاتب فضاء العتبة "النافذة" ليدين سلوك السلطة الإمامية، في استعبادها لمواطنيها وتحويلهم إلى خدم: "كان صاحبي يقوم بفرك رجلي النائب المبطوح أمام النافذة المطلة على ساحة قصره وملحقاته.. كما هي عادة النواب والأمراء والسيوف.. سيوف الإسلام الذين لم أعرف أحداً منهم حتى الآن"(13). لقد اتخذ البطل "الرهينة" من فضاء النافذة فسحة للاســـــــــــــــتذكاروالتداعي، والحنين إلى الحرية والمرأة، والتوق إلى جسد الشريفة وصوتها عبر فضاء لفظي Espace verbal قوامه لغة رومانسية شفيفة: "كم يغمرني الحنين كلما تكوّرت بجانب النافذة الصغيرة المنفية في غرفة صاحبي... وقد تهدل يمامة، أو يزقزق عصفور ليذكرني بأنه الملجأ والملاذ البارد الحنون... إيه... شريفتي الحبيبة ذات الصوت المبحوح... منذ فترة لم يطرق أذني ذلك الرنين الصادر منك. كم هو رائع. في بلادي التي حكيت لك عنها العجاب، استضعفوني... واعتدوا عليّ... ومسخوني رهينة... ودويدارا في بلاطك.. لكأن صوتك الرنان ينزلق في رفق.. يحوّل الصدى إلى موسيقى ذات إيقاع حالم(14). إنَّ فضاء العتبة يشكّل حداً فاصلاً بين خارج القصر وداخله، ومن فضاء النافذة كان يهرب الرهينة من الداخل بعلاقاته الاستلابية على المستوى النفسي، والاستهلاكية على المستوى الجسدي، وهذا الفضاء عنصر وظيفي يستخدمه السارد ليحقق للبطل الرهينة توازناً نفسياً، وهو منفذ للهروب من استلاب القصر: "عدت إلى غرفة صاحبي ذات ليلة متأخرة.. ارتميت بجوار النافذة الصغيرة، ينهشني الغمّ والكدر والضيق: الضيق الحقيقي من الحياة"(15).
د. محمد عبد الرحمن يونس
تعدّ رواية (الرهينة) للروائي اليمني زيد مطيع دماج، من أهم الروايات اليمنية التي رصدت لمختلف العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية في فترة نظام حكم الأئمة، أي قبل قيام الحكم الجمهوري بصنعاء، وهي من أجرأ الروايات اليمنية الحديثة والمعاصرة في التركيز على فضاء الجسد والجنس، والقصور، وإيديولوجيا الطبقة الإمامية البائدة. إنها تؤسس لفن روائي يمني، يخرق المحرمات، وفق سخرية حادة مرّة من جميع الأعراف والتقاليد والقيم البطريركية المؤسسة على نظام معرفي سلطوي، أحادي الرؤية في تطلعاته ومفاهيمه وقيمه، وتفيد من فن السيرة الذاتية، ولغة المذكرات، والمونولوجات الداخلية الحالمة، وفن الاسترجاع والاستذكار، ولغة الحلم والتخيل، والقطع السينمائي، وتضع الواقع السياسي -المعيش- إبان فترة
الإمامة- بتناقضاته، وجهله وبطشه، خلفية وحقلاً مرجعياً، بحيث يشكّل هذا الحقل لحمة للعمل الروائي، وبنياته الجمالية والفنية. إنها تقدّم مجتمعاً واقعياً، لكنه من خلال البنية الفنية يبدو للقارئ مجتمعاً غرائبياً أسطورياً. لكنّ القارئ المتتبع لتاريخ اليمن، والذي عاصر الحكم الإمامي سيجد أنَّ هذا الواقع الغرائبي الأسطوري، ما هو إلاّ واقع كان حقيقة حيّة سائدة، عاشه الروائي زيد مطيع دماج، وصوّره بفنية جمالية تنهل في بنيتها العميقة من معطيات المدرسة الواقعية في الأدب، وبنياتها وتوجهاتها المعرفية، هو الواقع اليمني في عهد الأئمة الذين حكموا اليمن، وفرضوا
عليه عزلة، ومنعوا تطوّره الحضاري، فكرياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً، ومن خلال هذا الواقع يبدو فضاء المدينة باهتاً وضيقاً ومخنوقاً، وعموماً فإنّ
كثيراً من الأعمال الأدبية، سواء أكانت رواية أم قصة أم نصوصاً شعرية، تعاملت مع فضاء المدينة بمزيد من الرفض، والسوداوية باعتباره فضاء
للاستلاب والعلاقات الاستهلاكية، فضاء للحد من الحرية، ولمزيد من انسحاق الروح تحت وطأة الفقر والجوع والمرض، وتحكّم طبقة معينة بباقي الطبقات الأخرى، فضاء لنظام مؤسساتي "لا يعنى بالبشر كأفراد ومواطنين بل يتعامل معهم كأجساد بشرية، ومخلوقات ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ وما قبل السياسة.
ففي الوقت الذي ازدادت قوى السيطرة والحكم للدولة عما كانت عليه قبل خمسين سنة أصبح من المحتم أن يقلّ الاحترام لحرية الفرد لأنّ القضية السياسية الأساسية في الوقت الحاضر لا تُعنى بالحريات البشرية... ونحن جميعاً كمخلوقات، عبيد على حد سواء وذلك بسبب حاجاتنا الطبيعية"(1).
إنّ فضاء المدينة عند الروائي زيد مطيع دماج، غاصّ بالعبيد والمضطهدين - بفتح الطاء، فضاء لا يوجد فيه غير طبيب إيطالي واحد وسيارة واحدة،
ومذياع واحد في قصر يضم مئات الأشخاص معظمهم من العبيد والخدم، ولأنّ البطل "الرهينة" كان من أسرة معارضة لنظام الإمام، فطبيعي أن يُبرز السرد الروائي إيديولوجية معارضة لإيديولوجيا السلطة الحاكمة.
وفي هذه الدراسة سأركّز على الفضاء الذي كان سجناً لبطل الرواية، الذي يسميه الروائي بـ "الرهينة"، وهو اسم الرواية أيضاً، وهذا الفضاء هو قصر النائب، الذي يُقتاد إليه الرهينة ليُسجن فيه، انتقاماً من أسرته المعارضة لنظام الإمام.
ومن خلال هذا الفضاء "قصر النائب"، يمكننا تلمسّ أوجه فضاءات مدينة صنعاء- إبان حكم الإمام- بعلاقاتها كافة، ففضاء قصر النائب هو المدينة المصغّرة، التي تعكس مدينة كبيرة، تتشكل واضحة في قيمها، وعلاقاتها، وحرمانها، وفقرائها، وأغنيائها البطرين وطبقاتها السياسية والاجتماعية داخل القصر.
يرى فورستر أنّ سبعة أوجه أو زوايا يمكن أن تشكّل فنياً أركان الجنس الروائي والقصص، وهي:
1-الحكاية.
2-الشخصيات
3-الحبكة الروائية
4-الإغراق في الخيال.
5- الشفافية*.
6-الإطار. النموذج والإيقاع**(2).
وهذه الأوجه لا تتحقق عملياً في الجنس الروائي، إلاّ داخل حيّز مكاني، تصطلح الدراسات النقدية الغربية الجديدة على تسميته بالفضاء الروائي(3)، ولقد عرف هذا الفضاء في الدراسات النقدية القديمة بالمكان.
إنّ للفضاء الروائي دوراً مهماً في تشكيل العمل الروائي، فهو البنية الأساسية من بنياته الفنية، ولا يمكن تصوّر أحداث روائية إلا بوجود مكان
تنمو فيه الأحداث وتتشعب، فكل المكّونات الحكائية في العمل الروائي تتشكل داخل الفضاء الذي تتم به عمليات التخيُل والاستذكار والحلم، فلا يمكننا أن
نتخيل شخصية روائية تفكر وتتفاعل مع أخرى، وتراقب وتحلل الأوضاع الإيديولوجية والاجتماعية إلاّ داخل مكان. ومن خلال المكان يمكن أن تفهم
حركة الشخوص الروائية، ورؤاها، فـ "بيت الإنسان امتداد له، فإذا وصفت البيت فقد وصفت الإنسان"(4)، والمكان في الرواية هو فضاء جمالي مهمته تجسيد رؤى الكاتب وشخصياته، ومن خلال بنية المكان يمكن الاعتماد على خطاب التعرية والإدانة لكل مواصفات الأوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية، ومن هنا يمكن الاعتماد على المكان لفهم الحدث الروائي، ولفهم علاقات الشخوص فيما بينها، وحتى يمكن فهم المكان تُدرس بنيته في الشكل الروائي، ونموه وتعدده، وكذلك مجمل الصور التي يظهر فيها هذا المكان.
يتعدد الفضاء المكاني في رواية الرهينة، فهو إحالات سريعة إلى الريف، مسقط رأس الرهينة، وتارة إلى المدينة وأخرى إلى قلعة الرهائن، وقصر ولي العهد سيف الإسلام-، إلاّ أنَّ أهم فضاء في الرواية هو فضاء قصر النائب الذي يتفرع بدوره إلى فضاءات فرعية أخرى: جناح الشريفة حفصة، غرفة الدويدار،
وصديقه الرهينة، غرفة البورزان -ضارب النفير-، ملحقات الجنود والحرس، اسطبلات الخيول، غرفة "مقيل النائب"، ودهاليز وممرات وسلالم، كان لها دورأساسي في التركيز على العلاقات الجنسية غير الشرعية في القصر.
وفضاء قصر النائب في رواية الرهينة هو المكان المحوري في الرواية، إنه يستوعب، على الرغم من انغلاقه‘ لوحات اجتماعية متشابكة ومعقّدة، وإذا كان السارد لا يفصح عنها بطريقة مباشرة، فإن الوصف والسرد يبرزانها بين فترة وأخرى، وهي حاضرة في هذا الفضاء المركزي بطريقة غير مباشرة، ونتيجة لتعدد هذه الفضاءات وتشعبها وإحالاتها السياسية والاجتماعية في فضاء القصر، فإننا
سنقتصر على دراسة فضاء العتبة في القصر، وتحديداً فضاء النافذة، وبخاصة
في غرفة الدويدار وصديقه الرهينة(5)، لما لهذا الفضاء من أهمية باعتبار
دلالته السيميائية، وقدرته على أن يشكل فضاء للحرية والتوق، فالفضاء
المكاني ببنيته وشكله، وأثاثه، ومكوّنات ديكوره يحيل بشكل أو بآخر إلى
كثير من الأبعاد الرمزية للشخصيات التي تتحرك وتتفاعل في هذا المكان.
إنّ لفضاء العتبة (النافذة) دوراً مهماً في حياة البطل (الرهينة(، ولقد
استطاع الروائي زيد مطيع دماج بمهارة أن يحدد مهمات هذا الفضاء ودوره
على المستوى النفسي والتأملي والإنساني، فمن خلال هذا الفضاء كان الرهينة
يتأمل مدينته المفجوعة، و يراقبها: "نهضت من نومي الساهد... كالمضروب...
جميع مفاصل جسمي منهكة.. فتحت النافذة الصغيرة أرى شبه سحابة وباء
صفراء تخيم على المدينة"(6)، ومن خلال هذا الفضاء كان يحلم، ويراقب أضواء النجوم
الخافتة، ويشكّل الشريفة (حفصة) -أخت سجّانه النائب- لوحة جمالية عبر حب
عميق ملأ كيانه: "قمت إلى النافذة.. شبه النافذة لأتأمل النجوم وبصيصاً من
ضوئها... صورتها ما زالت أمامي... بصوتها الرخو والمبحوح الذي ملأ
مسامعي... تخيلتها بابتسامتهاالمتساءلة عني"(7) .
وقد كانت النافذة فضاء للتوق الجسدي، وتحققه مع المرأة، للتحرر من
طاقات الجسد المستنفرة داخل فضاء الأسر، فمن فضاء النافذة كان البطل
الرهينة يشكّل جسد الشريفة حفصة على شكل إيحاءات ودلالات جنسية:
"ما زال قدّها الفارع يتماثل أمام مخيلتي وهي تتلوى كأفعى سلسة الملمس..
وربما كغانية من الحور العين.. لا أدري كيف علقت في كل حواسي وكياني
ومشاعري هذه (حفصة).. نعم الشريفة حفصة.."(8)
لقد شكّل فضاء النافذة في الرواية فسحة جمالية، فمن خلاله عبّر البطل
)الرهينة) عن استبطاناته الذاتية العميقة صوب الشخصية النسائية (حفصة).
وقد أذكى هذا الفضاء جذوة الحلم والتخيّل عنده، باعتباره مساحة ضوء
جميلة تبرز مفاتن حفصة، و "يُمَكّن الحلم من رهافة قصوى، في المشاعر
الأخلاقية، بل الميتافيزيقية أحياناً، ويسندها، ويمسك بها، ويكشف عنها
كشفاً، كما يكشف عن أدق معاني العلاقات الإنسانية، عن الاختلافات المرهفة
وعن معرفة متمدّنة أعلى ما يكون التمدن، وباختصار، يكشف عن منطق واع مترابط بدقة غريبة، لا يبلغها إلاّ عمل شديد اليقظة"(9).
إن خصائص الفضاء المشبعة بالإيحاءات الجنسية قادرة على النفاذ إلى أعماق
الشخصية، عن طريق الحلم والتخيل، وهذا الفضاء يتفاعل مع الشخصية بدوره،
ويحدد بعض طموحاتها، وإذا كانت الشخصية هي التي تشكّل المكان وفضاءاته،
وعلاقاته، فإن ملامح هذه الشخصية تتقاطع كثيراً مع ملامح المكان الروائي،
على المستوى الابستيمولوجي والنفسي، فتارة يبدو الفضاء أليفاً قريباً من
النفس البشرية، وتارة يبدو قاتماً وفاجعاً، وفضاء النافذة مليء بالحضور
البشري الأليف لدى (الرهينة)، طالما هو قادر على إبراز جماليات جسد
الشريفة (حفصة)، المتنكر باللذة الطاغية: "كانت الشريفة متكئة على حافة
النافذة في رأس المنظرة وقد برز شعرها الأجعد من خلال ثنايا منديل
برتقالي اللون، وتراءى جسدها الأبيض من خلال ثوبها الشفاف الحريري..
وكانت متكئة بإحدى يديها على النافذة، وقد مدّتها إلى الأمام، أمّا الأخرى
فكانت على خدها وهي سابحة بنظرها وفكرها نحو الساحة.. تأملت يدها..
كانت مزينة بأساور من الذهب ومزركشة بالحناء والخضاب الأسود المتعرج على
أنامل كالشمع الأحمر الممزوج باللبن الصافي.. استدارت كنمرة مسترخية
الملمس وقد أصلحت من ثوبها على ركبتيها وغطّت ساقيها... لمحت نظرتها
نحوي مستفسرة بهاتين العينين الواسعتين المكحلتين بجاذبية متوهجة...
اقتربت منا فجأة وقد امتشق قوامها كأنها شمعة ملونة تذيب كل نشوات
اللذة الطاغية"(10).
وأحياناً يكون فضاء النافذة ببنيته الداخلية، مـــــــــــــــــن
حيث علاقته بالشخصية التي تراقب منه، فضاء رمزياً وجمالياً وأيديولوجياً،
يساعدنا على فهم بنية الشخصية التي تسكنه في وعيها وطموحها ورؤيتها
للحياة والعالم، "فالمكان لا يظهر إلاّ من خلال وجهة نظر شخصية تعيش فيه أو
تخترقه وليس لديه استقلال إزاء الشخص الذي يندرج فيه، على مستوى السرد‘
فإنّ المنظور الذي تتخذه الشخصية هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي
ويرسم طوبوغرافيته، ويجعله يحقق دلالته الخاصة وتماسكه الأيديولوجي"(11).
لقد كان البطل (الرهينة) على تنافر مع فضاء مدينته، باعتباره فضاء
معتماً يعربد فيه القمع وأخطبوط السلطة، فصار يلجأ إلى النافذة آملاً أن
يرى وميضاً، يستشرف آفاق الحرية والنور: "جلست ثم زحفت نحو النافذة
الصغيرة عسى أن أرى أي شيء يومض من فوق جبلي الشامخ البعيد. كان الظلام
دامساً. لا بصيص من نور سوى أضواء النجوم البعيدة"(12).
إنّ الفضاء الروائي بامتداده، وبإيحاءاته البنيوية يُعتبر من أهم مكّونات
التخيل الرؤيوي في الخطاب الروائي، فمن خلاله تتشكل المكّونات الحكائية
الأخرى كالسرد والحوار والأحداث، وتتحدد مواقف الشخصية الفكرية
والإيديولوجية، ولقد طوّع الكاتب فضاء العتبة "النافذة" ليدين سلوك
السلطة الإمامية، في استعبادها لمواطنيها وتحويلهم إلى خدم: "كان صاحبي
يقوم بفرك رجلي النائب المبطوح أمام النافذة المطلة على ساحة قصره
وملحقاته.. كما هي عادة النواب والأمراء والسيوف.. سيوف الإسلام الذين لم
أعرف أحداً منهم حتى الآن"(13).
لقد اتخذ البطل "الرهينة" من فضاء النافذة فسحة للاســـــــــــــــتذكاروالتداعي،
والحنين إلى الحرية والمرأة، والتوق إلى جسد الشريفة وصوتها عبر فضاء
لفظي Espace verbal قوامه لغة رومانسية شفيفة: "كم يغمرني الحنين كلما
تكوّرت بجانب النافذة الصغيرة المنفية في غرفة صاحبي... وقد تهدل يمامة،
أو يزقزق عصفور ليذكرني بأنه الملجأ والملاذ البارد الحنون... إيه...
شريفتي الحبيبة ذات الصوت المبحوح... منذ فترة لم يطرق أذني ذلك الرنين
الصادر منك. كم هو رائع. في بلادي التي حكيت لك عنها العجاب،
استضعفوني... واعتدوا عليّ... ومسخوني رهينة... ودويدارا في بلاطك.. لكأن
صوتك الرنان ينزلق في رفق.. يحوّل الصدى إلى موسيقى ذات إيقاع حالم(14).
إنَّ فضاء العتبة يشكّل حداً فاصلاً بين خارج القصر وداخله، ومن فضاء النافذة
كان يهرب الرهينة من الداخل بعلاقاته الاستلابية على المستوى النفسي،
والاستهلاكية على المستوى الجسدي، وهذا الفضاء عنصر وظيفي يستخدمه السارد
ليحقق للبطل الرهينة توازناً نفسياً، وهو منفذ للهروب من استلاب
القصر: "عدت إلى غرفة صاحبي ذات ليلة متأخرة.. ارتميت بجوار النافذة
الصغيرة، ينهشني الغمّ والكدر والضيق: الضيق الحقيقي من الحياة"(15).
_____
الهوامش والمراجع
في الجزء الثاني من هذه الدراسة.
تعدّ رواية (الرهينة) للروائي اليمني زيد مطيع دماج، من أهم الروايات اليمنية التي رصدت لمختلف العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية في فترة نظام حكم الأئمة، أي قبل قيام الحكم الجمهوري بصنعاء، وهي من أجرأ الروايات اليمنية الحديثة والمعاصرة في التركيز على فضاء الجسد والجنس، والقصور، وإيديولوجيا الطبقة الإمامية البائدة. إنها تؤسس لفن روائي يمني، يخرق المحرمات، وفق سخرية حادة مرّة من جميع الأعراف والتقاليد والقيم البطريركية المؤسسة على نظام معرفي سلطوي، أحادي الرؤية في تطلعاته ومفاهيمه وقيمه، وتفيد من فن السيرة الذاتية، ولغة المذكرات، والمونولوجات الداخلية الحالمة، وفن الاسترجاع والاستذكار، ولغة الحلم والتخيل، والقطع السينمائي، وتضع الواقع السياسي -المعيش- إبان فترة الإمامة- بتناقضاته، وجهله وبطشه، خلفية وحقلاً مرجعياً، بحيث يشكّل هذا الحقل لحمة للعمل الروائي، وبنياته الجمالية والفنية. إنها تقدّم مجتمعاً واقعياً، لكنه من خلال البنية الفنية يبدو للقارئ مجتمعاً غرائبياً أسطورياً. لكنّ القارئ المتتبع لتاريخ اليمن، والذي عاصر الحكم الإمامي سيجد أنَّ هذا الواقع الغرائبي الأسطوري، ما هو إلاّ واقع كان حقيقة حيّة سائدة، عاشه الروائي زيد مطيع دماج، وصوّره بفنية جمالية تنهل في بنيتها العميقة من معطيات المدرسة الواقعية في الأدب، وبنياتها وتوجهاتها المعرفية، هو الواقع اليمني في عهد الأئمة الذين حكموا اليمن، وفرضوا عليه عزلة، ومنعوا تطوّره الحضاري، فكرياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً، ومن خلال هذا الواقع يبدو فضاء المدينة باهتاً وضيقاً ومخنوقاً، وعموماً فإنّ كثيراً من الأعمال الأدبية، سواء أكانت رواية أم قصة أم نصوصاً شعرية، تعاملت مع فضاء المدينة بمزيد من الرفض، والسوداوية باعتباره فضاء للاستلاب والعلاقات الاستهلاكية، فضاء للحد من الحرية، ولمزيد من انسحاق الروح تحت وطأة الفقر والجوع والمرض، وتحكّم طبقة معينة بباقي الطبقات الأخرى، فضاء لنظام مؤسساتي "لا يعنى بالبشر كأفراد ومواطنين بل يتعامل معهم كأجساد بشرية، ومخلوقات ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ وما قبل السياسة. ففي الوقت الذي ازدادت قوى السيطرة والحكم للدولة عما كانت عليه قبل خمسين سنة أصبح من المحتم أن يقلّ الاحترام لحرية الفرد لأنّ القضية السياسية الأساسية في الوقت الحاضر لا تُعنى بالحريات البشرية... ونحن جميعاً كمخلوقات، عبيد على حد سواء وذلك بسبب حاجاتنا الطبيعية"(1). إنّ فضاء المدينة عند الروائي زيد مطيع دماج، غاصّ بالعبيد والمضطهدين - بفتح الطاء، فضاء لا يوجد فيه غير طبيب إيطالي واحد وسيارة واحدة، ومذياع واحد في قصر يضم مئات الأشخاص معظمهم من العبيد والخدم، ولأنّ البطل "الرهينة" كان من أسرة معارضة لنظام الإمام، فطبيعي أن يُبرز السرد الروائي إيديولوجية معارضة لإيديولوجيا السلطة الحاكمة. وفي هذه الدراسة سأركّز على الفضاء الذي كان سجناً لبطل الرواية، الذي يسميه الروائي بـ "الرهينة"، وهو اسم الرواية أيضاً، وهذا الفضاء هو قصر النائب، الذي يُقتاد إليه الرهينة ليُسجن فيه، انتقاماً من أسرته المعارضة لنظام الإمام. ومن خلال هذا الفضاء "قصر النائب"، يمكننا تلمسّ أوجه فضاءات مدينة صنعاء- إبان حكم الإمام- بعلاقاتها كافة، ففضاء قصر النائب هو المدينة المصغّرة، التي تعكس مدينة كبيرة، تتشكل واضحة في قيمها، وعلاقاتها، وحرمانها، وفقرائها، وأغنيائها البطرين وطبقاتها السياسية والاجتماعية داخل القصر. يرى فورستر أنّ سبعة أوجه أو زوايا يمكن أن تشكّل فنياً أركان الجنس الروائي والقصص، وهي: 1-الحكاية. 2-الشخصيات 3-الحبكة الروائية. 4-الإغراق في الخيال. 5- الشفافية*. 6-الإطار. النموذج والإيقاع**(2). وهذه الأوجه لا تتحقق عملياً في الجنس الروائي، إلاّ داخل حيّز مكاني، تصطلح الدراسات النقدية الغربية الجديدة على تسميته بالفضاء الروائي(3)، ولقد عرف هذا الفضاء في الدراسات النقدية القديمة بالمكان. إنّ للفضاء الروائي دوراً مهماً في تشكيل العمل الروائي، فهو البنية الأساسية من بنياته الفنية، ولا يمكن تصوّر أحداث روائية إلا بوجود مكان تنمو فيه الأحداث وتتشعب، فكل المكّونات الحكائية في العمل الروائي تتشكل داخل الفضاء الذي تتم به عمليات التخيُل والاستذكار والحلم، فلا يمكننا أن نتخيل شخصية روائية تفكر وتتفاعل مع أخرى، وتراقب وتحلل الأوضاع الإيديولوجية والاجتماعية إلاّ داخل مكان. ومن خلال المكان يمكن أن تفهم حركة الشخوص الروائية، ورؤاها، فـ "بيت الإنسان امتداد له، فإذا وصفت البيت فقد وصفت الإنسان"(4)، والمكان في الرواية هو فضاء جمالي مهمته تجسيد رؤى الكاتب وشخصياته، ومن خلال بنية المكان يمكن الاعتماد على خطاب التعرية والإدانة لكل مواصفات الأوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية، ومن هنا يمكن الاعتماد على المكان لفهم الحدث الروائي، ولفهم علاقات الشخوص فيما بينها، وحتى يمكن فهم المكان تُدرس بنيته في الشكل الروائي، ونموه وتعدده، وكذلك مجمل الصور التي يظهر فيها هذا المكان. يتعدد الفضاء المكاني في رواية الرهينة، فهو إحالات سريعة إلى الريف، مسقط رأس الرهينة، وتارة إلى المدينة وأخرى إلى قلعة الرهائن، وقصر ولي العهد سيف الإسلام-، إلاّ أنَّ أهم فضاء في الرواية هو فضاء قصر النائب الذي يتفرع بدوره إلى فضاءات فرعية أخرى: جناح الشريفة حفصة، غرفة الدويدار، وصديقه الرهينة، غرفة البورزان -ضارب النفير-، ملحقات الجنود والحرس، اسطبلات الخيول، غرفة "مقيل النائب"، ودهاليز وممرات وسلالم، كان لها دورأساسي في التركيز على العلاقات الجنسية غير الشرعية في القصر. وفضاء قصر النائب في رواية الرهينة هو المكان المحوري في الرواية، إنه يستوعب، على الرغم من انغلاقه‘ لوحات اجتماعية متشابكة ومعقّدة، وإذا كان السارد لا يفصح عنها بطريقة مباشرة، فإن الوصف والسرد يبرزانها بين فترة وأخرى، وهي حاضرة في هذا الفضاء المركزي بطريقة غير مباشرة، ونتيجة لتعدد هذه الفضاءات وتشعبها وإحالاتها السياسية والاجتماعية في فضاء القصر، فإننا سنقتصر على دراسة فضاء العتبة في القصر، وتحديداً فضاء النافذة، وبخاصة في غرفة الدويدار وصديقه الرهينة(5)، لما لهذا الفضاء من أهمية باعتبار دلالته السيميائية، وقدرته على أن يشكل فضاء للحرية والتوق، فالفضاء المكاني ببنيته وشكله، وأثاثه، ومكوّنات ديكوره يحيل بشكل أو بآخر إلى كثير من الأبعاد الرمزية للشخصيات التي تتحرك وتتفاعل في هذا المكان. إنّ لفضاء العتبة (النافذة) دوراً مهماً في حياة البطل (الرهينة(، ولقد استطاع الروائي زيد مطيع دماج بمهارة أن يحدد مهمات هذا الفضاء ودوره على المستوى النفسي والتأملي والإنساني، فمن خلال هذا الفضاء كان الرهينة يتأمل مدينته المفجوعة، و يراقبها: "نهضت من نومي الساهد... كالمضروب... جميع مفاصل جسمي منهكة.. فتحت النافذة الصغيرة أرى شبه سحابة وباء صفراء تخيم على المدينة"(6)، ومن خلال هذا الفضاء كان يحلم، ويراقب أضواء النجوم الخافتة، ويشكّل الشريفة (حفصة) -أخت سجّانه النائب- لوحة جمالية عبر حب عميق ملأ كيانه: "قمت إلى النافذة.. شبه النافذة لأتأمل النجوم وبصيصاً من ضوئها... صورتها ما زالت أمامي... بصوتها الرخو والمبحوح الذي ملأ مسامعي... تخيلتها بابتسامتهاالمتساءلة عني"(7) . وقد كانت النافذة فضاء للتوق الجسدي، وتحققه مع المرأة، للتحرر من طاقات الجسد المستنفرة داخل فضاء الأسر، فمن فضاء النافذة كان البطل الرهينة يشكّل جسد الشريفة حفصة على شكل إيحاءات ودلالات جنسية: "ما زال قدّها الفارع يتماثل أمام مخيلتي وهي تتلوى كأفعى سلسة الملمس.. وربما كغانية من الحور العين.. لا أدري كيف علقت في كل حواسي وكياني ومشاعري هذه (حفصة).. نعم الشريفة حفصة.."(8) لقد شكّل فضاء النافذة في الرواية فسحة جمالية، فمن خلاله عبّر البطل )الرهينة) عن استبطاناته الذاتية العميقة صوب الشخصية النسائية (حفصة). وقد أذكى هذا الفضاء جذوة الحلم والتخيّل عنده، باعتباره مساحة ضوء جميلة تبرز مفاتن حفصة، و "يُمَكّن الحلم من رهافة قصوى، في المشاعر الأخلاقية، بل الميتافيزيقية أحياناً، ويسندها، ويمسك بها، ويكشف عنها كشفاً، كما يكشف عن أدق معاني العلاقات الإنسانية، عن الاختلافات المرهفة وعن معرفة متمدّنة أعلى ما يكون التمدن، وباختصار، يكشف عن منطق واع مترابط بدقة غريبة، لا يبلغها إلاّ عمل شديد اليقظة"(9). إن خصائص الفضاء المشبعة بالإيحاءات الجنسية قادرة على النفاذ إلى أعماق الشخصية، عن طريق الحلم والتخيل، وهذا الفضاء يتفاعل مع الشخصية بدوره، ويحدد بعض طموحاتها، وإذا كانت الشخصية هي التي تشكّل المكان وفضاءاته، وعلاقاته، فإن ملامح هذه الشخصية تتقاطع كثيراً مع ملامح المكان الروائي، على المستوى الابستيمولوجي والنفسي، فتارة يبدو الفضاء أليفاً قريباً من النفس البشرية، وتارة يبدو قاتماً وفاجعاً، وفضاء النافذة مليء بالحضور البشري الأليف لدى (الرهينة)، طالما هو قادر على إبراز جماليات جسد الشريفة (حفصة)، المتنكر باللذة الطاغية: "كانت الشريفة متكئة على حافة النافذة في رأس المنظرة وقد برز شعرها الأجعد من خلال ثنايا منديل برتقالي اللون، وتراءى جسدها الأبيض من خلال ثوبها الشفاف الحريري.. وكانت متكئة بإحدى يديها على النافذة، وقد مدّتها إلى الأمام، أمّا الأخرى فكانت على خدها وهي سابحة بنظرها وفكرها نحو الساحة.. تأملت يدها.. كانت مزينة بأساور من الذهب ومزركشة بالحناء والخضاب الأسود المتعرج على أنامل كالشمع الأحمر الممزوج باللبن الصافي.. استدارت كنمرة مسترخية الملمس وقد أصلحت من ثوبها على ركبتيها وغطّت ساقيها... لمحت نظرتها نحوي مستفسرة بهاتين العينين الواسعتين المكحلتين بجاذبية متوهجة... اقتربت منا فجأة وقد امتشق قوامها كأنها شمعة ملونة تذيب كل نشوات اللذة الطاغية"(10). وأحياناً يكون فضاء النافذة ببنيته الداخلية، مـــــــــــــــــن حيث علاقته بالشخصية التي تراقب منه، فضاء رمزياً وجمالياً وأيديولوجياً، يساعدنا على فهم بنية الشخصية التي تسكنه في وعيها وطموحها ورؤيتها للحياة والعالم، "فالمكان لا يظهر إلاّ من خلال وجهة نظر شخصية تعيش فيه أو تخترقه وليس لديه استقلال إزاء الشخص الذي يندرج فيه، على مستوى السرد‘ فإنّ المنظور الذي تتخذه الشخصية هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي ويرسم طوبوغرافيته، ويجعله يحقق دلالته الخاصة وتماسكه الأيديولوجي"(11). لقد كان البطل (الرهينة) على تنافر مع فضاء مدينته، باعتباره فضاء معتماً يعربد فيه القمع وأخطبوط السلطة، فصار يلجأ إلى النافذة آملاً أن يرى وميضاً، يستشرف آفاق الحرية والنور: "جلست ثم زحفت نحو النافذة الصغيرة عسى أن أرى أي شيء يومض من فوق جبلي الشامخ البعيد. كان الظلام دامساً. لا بصيص من نور سوى أضواء النجوم البعيدة"(12). إنّ الفضاء الروائي بامتداده، وبإيحاءاته البنيوية يُعتبر من أهم مكّونات التخيل الرؤيوي في الخطاب الروائي، فمن خلاله تتشكل المكّونات الحكائية الأخرى كالسرد والحوار والأحداث، وتتحدد مواقف الشخصية الفكرية والإيديولوجية، ولقد طوّع الكاتب فضاء العتبة "النافذة" ليدين سلوك السلطة الإمامية، في استعبادها لمواطنيها وتحويلهم إلى خدم: "كان صاحبي يقوم بفرك رجلي النائب المبطوح أمام النافذة المطلة على ساحة قصره وملحقاته.. كما هي عادة النواب والأمراء والسيوف.. سيوف الإسلام الذين لم أعرف أحداً منهم حتى الآن"(13). لقد اتخذ البطل "الرهينة" من فضاء النافذة فسحة للاســـــــــــــــتذكاروالتداعي، والحنين إلى الحرية والمرأة، والتوق إلى جسد الشريفة وصوتها عبر فضاء لفظي Espace verbal قوامه لغة رومانسية شفيفة: "كم يغمرني الحنين كلما تكوّرت بجانب النافذة الصغيرة المنفية في غرفة صاحبي... وقد تهدل يمامة، أو يزقزق عصفور ليذكرني بأنه الملجأ والملاذ البارد الحنون... إيه... شريفتي الحبيبة ذات الصوت المبحوح... منذ فترة لم يطرق أذني ذلك الرنين الصادر منك. كم هو رائع. في بلادي التي حكيت لك عنها العجاب، استضعفوني... واعتدوا عليّ... ومسخوني رهينة... ودويدارا في بلاطك.. لكأن صوتك الرنان ينزلق في رفق.. يحوّل الصدى إلى موسيقى ذات إيقاع حالم(14). إنَّ فضاء العتبة يشكّل حداً فاصلاً بين خارج القصر وداخله، ومن فضاء النافذة كان يهرب الرهينة من الداخل بعلاقاته الاستلابية على المستوى النفسي، والاستهلاكية على المستوى الجسدي، وهذا الفضاء عنصر وظيفي يستخدمه السارد ليحقق للبطل الرهينة توازناً نفسياً، وهو منفذ للهروب من استلاب القصر: "عدت إلى غرفة صاحبي ذات ليلة متأخرة.. ارتميت بجوار النافذة الصغيرة، ينهشني الغمّ والكدر والضيق: الضيق الحقيقي من الحياة"(15).
د. محمد عبد الرحمن يونس